تهافت نظرية ضلعي الحب..بنظرية مثلث الحب(1)

يزعم، أو بالأحرى، يجزم الشاعر نزار قباني أنه ليست ثمّة منطقة وسطى في الحب.. وذلك عندما خيّر محبوبته بين خيارين لا ثالث لهما، وطلب منها أن تختار: اختاري الحب.. أو اللاحب. لكن العالِم والباحث في علم النفس، الأمريكي "روبرت ستيرنبيرغ" فنّد مزاعم الشاعر قباني، وذلك عندما أثبت أن هناك ستَّ مناطق توجد بين الحب.. وبين اللاحب، أي أن هناك ثماني درجات للحب، تتفاوت وتتباين حسب طبيعة ونوع العلاقة، وحسب نوع الجنس البشري الذي يشكل تلك العلاقة، وحسب تغير الظروف والمشاعر أيضاً، وذلك من خلال نظريته العلمية التي صاغها ببراعة ودقة وجدارة وامتياز، ألا وهي نظريه مثلث الحب " Triangular theory of love "

كنت على ثقة ويقين حتى وقت قريب أن الأمريكيين يبزّوننا ويتفوقون علينا في كثير من مناحي الحياة، مثل الطب والهندسة والاتصالات والاقتصاد والزراعة والصناعة وغيرها من المناحي.. لكن ما لم أكن أتوقعه البتّة هو أن يتفوقوا علينا في الحب أيضاً!! حتى الحب الذي تداولناه شعراً ونثراً.. وألّفنا فيه المؤلفات والدواوين لما يربو على قرن ونصف قرن من الزمان.. جاء الأمريكيون وتفوقوا علينا في مضماره!! الحب الذي سكبنا بسببه العَبَرات الثخينة.. الحب الذي أهدرنا في سبيله أوقاتنا.. فها هو امرؤ القيس يدعو صاحبيه لمواساته وذرف الدموع معه، والوقوف معه ساعة كاملة عند ديار محبوبته: يا صاحبيَّ قفا النواعجَ ساعة .. نبكي الديارَ كما بكى ابن حمام.. أو ربما قال: عُوجا على الطلل المحيل لعلنا.. نبكي الديار كما بكى ابن خذام. وهو هنا- أي امرؤ القيس- يتأسى بإبن خذام في الوقوف والبكاء على أطلال محبوبته. وها هو النابغة الجعدي يحذو حذو امرؤ القيس، فيدعو صاحبيه أيضاً ذات الدعوة، لبذل الوقت والبكاء على الأطلال: خلِيليَّ عُوْجا ساعةً وتهَجَرا.. ونُوحَا على ما أحدْثَ الدهر أو ذرا. الحب الذي ضحّينا في سبيله بصحتنا.. وضحينا في سبيله بكبريائنا ووقارنا.. الحب الذي ضحينا في سبيله برجاحة عقولنا.. بل ضحينا في سبيله بعقولنا ذاتها. الحب الذي ضحينا في سبيله بأغلى ما نملك.. بذلنا أرواحنا رخيصة في سبيله. برغم كل تلك التضحيات الجِسام.. وبرغم كل تلك التجارب الثرّة والغزيرة في الحب، من خلال تداولنا وبذلنا للحب لقرن ونصف قرن من الزمان، منذ حقبة العصر الجاهلي، مروراً بحقبة العصر الأموي والعباسي، وانتهاءً بحقبة العصر الحديث، حقبة الشاعر نزار قباني، لم نكتشف غير منطقتين فقط للحب(اختاري الحب.. أو اللا حب)، والمدهش أن إحداهما فارغة (اللا حب)!! أي أننا في نهاية المطاف لم نستطع أن نفسّر الماء، بعد كل هذا الجهد، وكل هذه التضحيات المريرة، إلا بالماء!! لم نستطع أن نشخّص ونحدد ماهيّة الحب - الذي تداولناه ردحاً من الزمان، وبذلنا في سبيله الغالي والنفيس- بصورة واضحة ودقيقة وعلمية، بينما جاء عالِم أمريكي واحد، ومن خلال نظرية واحدة صاغها عام 1986، ثم طورها خلال العامين 87 و88 ، قدم لنا من خلالها هذه النظرية المدهشة. ثلاث سنوات فقط كانت كفيلة بأن تحدد ماهيّة الحب بشتى أشكاله وصنوفه! وبالتالي كانت كفيلة أيضاً بأن تثبت بطلان وتهافت نظرية الشاعر نزار قباني، والتي يمكن أن نطلق عليها نظرية "ضلعي الحب"، قياساً بنظرية "مثلث الحب".

من المعلوم والشائع أن نتائج أبحاث العلوم الانسانية (العلوم الانسانية مثل الاقتصاد والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والعلوم السياسية وغيرها) تكون فضفاضة ومطاطة وغير دقيقة، بينما نتائج العلوم التطبيقية( العلوم التطبيقية مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء وغيرها) تكون دقيقة ومحددة. لكن العالم والباحث "ستيرنبيرغ" الذي صاغ نظرية "مثلث الحب" قلَبَ هذه القاعدة رأساً على عقب، وأثبت أن العلوم الانسانية أيضاً يمكن أن تكون دقيقة النتائج بدرجة ونسبة كبيرة!! وهذا أمر مدهش، يكشف عن مدى جمال هذه النظرية، وفائدتها للبشر في علاقاتهم الاجتماعية والانسانية مع بعضهم البعض.

ومن جمال وروعة نظرية "مثلث الحب" أيضاً، هو أنها تصلح لأن تكون مقياساً دقيقاً لكل علاقات الحب بمسمياتها المختلفة (علاقة الحب بين الخطيب وخطيبته، بين الزوج وزوجته، بين الصديق وصديقه، بين الصديقة وصديقتها، بين الأخ وأخيه)، ويمكن أن يستخدمها أي شخص – بكل سهولة - ليعرف ويقرر مدى مصداقية الطرف الآخر الذي يزعم ويدعي أنه يكنّ له الحب. وبحسب "نظرية مثلث الحب" فإن الحب الكامل، وهو أعلى مراتب ومناطق الحب، يجب أن تتوفر وتكتمل فيه ثلاثة عناصر: العنصر الأول من المثلث هو: الحميمية، والعنصر الثاني هو: العشق، والعنصر الثالث هو: الالتزام. نضرب مثالاً على استخدام هذه النظرية كمقياس لمعرفة مصداقية الطرف الأول في ادعائه وزعمه الحب للطرف الآخر. إذا رأى شابٌ فتاةً جميلة في مناسبة مثلاً لأول مرة، وذهب إليها وقال لها: أنا أحببتك من أول نظرة، وأريد أن أتزوجك. فعلى هذه الشابة أن تنهي هذا الحوار مباشرة وتقول له: أنت إما كاذب، أو ساذج وسطحي وجاهل.. ويبدو أنك لم تسمع بنظرية مثلث الحب. ليس ثمة ما يسمى بالحب من أول نظرة.. فالحب الكامل يجب أن تتوفر فيه ثلاثة شروط، وما تزعمه أنت الآن تحقق فيه شرط واحد فقط هو شرط العشق، مع غياب شرطين أساسيين، وهما الحميمية، والالتزام. مثال آخر: إذا أراد شاب أن يتقدم لخطبة فتاة يعرفها وتعرفه (بسبب قرابة أو جوار أو زمالة، لكنها علاقة سطحية، لأنه لم تكن هناك علاقة وتعامل بينهما)، وفاتحها في الموضوع، وقال لها أنه يحبها، وأنه يتمنى أن يتزوجها، وأنه يعدُها بأنهما (سيعيشان في تبات ونبات.. ويخلفان صبياناً وبنات) وأنه يلتزم بأن يعيش معها مدى الحياة، ويلتزم بأن يسكنها في بيت منفصل، ويلتزم بأن ينفق عليها إنفاق من لا يخشى الفقر. فعلى هذه الفتاة أن تقول لهذا الشاب بسرعة وسهولة(مستخدمةً نظرية مثلث الحب في التحليل والقياس): معليش.. أنا آسفة.. لأنك كذبت علي من أول وهلة.. ومن يكذب مرة.. يكذب مراراً. كذبت علي لأنك قلت إنك تحبني.. وما صرّحت به ليس حباً.. فبحسب نظرية مثلث الحب، وبناء على كلامك، هناك شرطان يمكن أن يتحققا: شرط العشق، وشرط الالتزام (الاستقرار والوفاء والنفقة والسكن)، لكن ثمة شرط ثالث لم يتحقق في العلاقة، ألا وهو شرط الحميمية (تبادل المشاعر، وبث الهموم، والبوح بالمشاكل، والإلفة،...) ويجب أن تقول له في نهاية المطاف: أنت مرفوض(طبعاً هذا من الناحية النظرية فقط، لكن من الناحية العملية لا أظنها ستفعل، لأن عريس "لقطة" مثل هذا لا يمكن أن يُرفَض. ولو كانت هذه البنت هي أختك الصغرى وقلت لها هذا الرأي، وطلبت منها أن ترفضه، ستقول لك: بلا مثلث حب، بلا مثلث برمودا.. حأتزوجه يعني حأتزوجه، حتى لو اتحقق شرط الإلتزام بس.. حأتزوجه). مثال آخر: إذا كانت هناك علاقة صداقة متينة بين صديقين امتدت لسنين.. وقام أحد هذين الصديقين الحميمين بخطبة فتاة ولم يستشر صديقه الحميم، ولم يخبره لاحقاً، ولم يدعُه إلى الزواج أيضاً، هنا – والحال هذه- تكون هذه العلاقة قد فقدت عنصراً أساسياً من عناصر الحب الرفاقي. فالحب الرفاقي له شرطان: الحميمية، والالتزام، وهنا تحقق الإلتزام وغابت الحميمية، وبالتالي تكون هذه العلاقة قد أُفرغت من محتواها ومضمونها، وفقدت صفة الحب الرفاقي. وهنا يمكن لهذا الشخص المهجور أن يأخذ بنصيحة الإمام الشافعي، ولا حرج عليه أمام صديقه الهاجر، والتي تقول: إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفا.. فدعه ولا تكثر عليه التأسفا. أو يمكن أن يعمل بنصيحة أحلام مستغانمي التي تقول: من تنازل عنكم دقيقة، تنازلوا عنه إلى الأبد.. فالذي يقبل بدقيقة يقبل بأكثر.

في الجزء الثاني من هذا الموضوع سنسرد لكم أمثلة على التضحيات الجسام التي قدمناها في الحب، منذ العصر الجاهلي، حتى العصر الحديث، ثم خسرنا المعركة بجدارة في نهاية المطاف. وسننشر لكم نظرية مثلث الحب بكل تفاصيلها، وكل أضلاعها، وكل زواياها أيضاً.. فهي جديرة حقاً بأن تفرد لها هذه المساحة الشاسعة.. تسعدني متابعتكم.

الكاتب الصحفي/ انور عبد المتعال
 
أعلى