حوار بين الحياة .. والموت!

حوار بين الحياة .. والموت!

في حادثةٍ غريبةٍ من نوعها لا تتكرر في تاريخِ الخليقةِ إلا مرةً واحدةً، التقىَ الموتُ والحياةُ علىَ غير مَوعدٍ. لـَـمْ يتصافحا، ولـَمْ يتعانقا، لكنَّ الفضولَ دفعهما إلىَ حوارٍ التقطناه عن قُرْبٍ منهما!
الموت: مالـَـكِ تسيرين مُختالة كأنَّ الروحَ باقيةٌ إلىَ يوم الحَشْر؟ كلما رأيتكِ، شاهدتُ الغرورَ مُجَسَّداً، ولمحتُ ريشَ طاووسٍ ينتفضُ من بين جنبيك، وسمعتُ صوتاً به ثقة وثقل وثقال، فذهب الظنُ بي أنْ لا نهاية بعد مغادرة المهد، كأنَّ اللحدَ لا وجود له!


الحياة: أنتَ مرة أخرى! تتجهم للناس كلما ابتسموا لي، وتتوعدهم كلما بدتْ نواجزُهم من الضحك والسعادة، وتأتيهم بغتة بعد كل مأمن يزيدهم حُلماً علىَ حُلمٍ.
تحصد أحياناً في احتفالات بهيجة شعوبا وقبائل، وتستمتع بالأعاصير، وتتلذذ بالكوارث، وترقص طربا للأوبئة!
أتذكر أنكَ تحالفت مع موج البحر وطلبت الإسراع في ابتلاع الباخرة تيتانيك، فكان البحر والظلام والجليد والرعب يزينون في عينيك صرخات المئات وهم يغرقون، فبدا يومَ عيدٍ لكَ ولدودِ الأرض و.. أسماك البحر.
الموت: أنتِ الباطلُ وأنا الحق. أنتِ الخداعُ وأنا الواقع. أنتِ تؤلمين وأنا أخفف تلك الآلامَ أو أزيلها. أنت القسوةُ عليهم وأنا أحتضنهم في باطن الأرض أو حوادث الطائرات أو القطارات أو الطرق أو الحروب أو الزلازل.
أنتِ لا تعبأين بالمرض ولو صرخ مريض لنصف حياته، فأنت ستطيلينها ليزداد عذابُه، وأنا أنهيها في غمضة عين أو.. أقل!
في لحظات اليأس التي يمر بها بنو البشر يستغيثون بي لكي أحصدهم، ويحلمون بيوم قدومي لتخليصهم من مُرّ العيش وشظفها، وصعوبة التحَمُّل، ثم يشاهدونكِ تضحكين وتسخرين وتتوعدينهم بطول العُمر.
في ردهات المستشفيات وفوق أسِّرَتــِـها يتمنى كثيرون زيارة خاطفة مني، وأنت تتمسكين بمرضى لا شفاء لهم منه، وبمن بُترت أعضاء في أجسادهم أو أصابهم الشلل أو الربو أو الزهايمر أو السرطان حتى أن أطباء كثيرين اعتادوا على أصوات المتوجعين فأصبحوا من أنصار " الموت الرحيم" وانضم إليهم أقرباء وأحباب المريض.

الحياة: أنا أتبع سُنـَّـة الخلق، أي الروح في الجسد، والنبض في القلب، والدم في الشريان، والحواس في أماكنها، ولست مسؤولة عما يصيبها من سقم وخلل وضعف ومرض.
بدوني ما وجدت لك عملا، ثم إنك تمثل العقوبة القصوى على الإنسان.
أنت تأتي متخفيا، وتختلس النظرة، وتقبض الروح عندما يكون الأمل بارقاً، والحبيب ينتظر حبيبه، وأحضان الأطفال دافئة لاستقبال الذي غيـَّـبته أنتَ عنهم.
أنت تمد أذرعك المخيفة في كل الكائنات، حتى الحيوانات الأليفة في عمق الغابة تخشاك لأنك تأتيها في مخالب حيوانات مفترسة، فيغدر ضبع بعصفور صغير، ويلحق ذئب بسنجاب جميل فيمزقه بأنيابه قبل أن يلتهمه، ويزحف تمساح وفي دقائق معدودة تكون معدته قد أتخمت من ضحايا ظنوا النهر آمنا لهم.
أنا الذكريات الجميلة التي تمسحها أنت، وانا عبق الزهور، وزقزقة العصافير، ولهو الأطفال وهم يتصايحون فتضحك معهم الدنيا.
وأنا الرسالات السماوية التي تتنزل على الأنبياء ليشكر الناس رب العباد على نعمته إياهم بي، وأن الكتب المقدسة تملأ الدنيا حكمة وأملا وبشائر.
الموت: فلسفتكِ لا تساوي عندي حبة رمل منسيّة على الشاطيء، والكتب المقدسة أيضا تأمرني أن أبذل جهدي لخصوم أنبيائها، والرسالات السماوية كلها استعانت بي للتخلص من غير المؤمنين بها، وعندما أعمل أوفر تايم لقبض الروح يكون الدين غالبا بالقرب مني، فالحروب الإسلامية والمسيحية واليهودية والبوذية وغيرها ظلت على مدى التاريخ تعطيني الفرصة للعمل دون توقف.
إيمانك بعدالة السماء لا يقل عن إيماني بها، وقناعاتك بأن الحياة هي الحب لا تصمد أمام يقيني بأنني، الموت، أمثل الحب سواء حضرت أم كان غيابي حاضرا.

الحياة: أراك تتوهم أنك صاحب رسالة، وأنك لو زرت الملايين في صورة طاعون فأنت بابا نويل توزع هدايا على الجميع، وأنك تفلسف نزع الناس من صدور أحبابهم كأنها رسالة عشق لظلمة القبر.
لولاي لما كان لهذا الحديث بيننا أن يرى النور، فأنت تمشي في الأرض كأنك مصّاص دماء، وأنا أمشي الهوينا فأتغزل في الكائنات الحية الجميلة والقبيحة على حد سواء.
عندما يفترس الإنسان أخاه يستعين بك، فإذا لم يستطع، رفع يديه إلى السماء لكي ترسلك فورا في صورة مرض أو حادث أو سكتة دماغية أو قلبية.
الموت: هذه خزعبلات الأحياء، وخرافات من لم تهرب الروح منهم بعد، لأنني الحقيقة الوحيدة التي يحاول المرء الهروب منها فلا يجد مفرا من الارتماء في أحضاني يوما ما!
تكذبون على الأحياء برسم صورة مشوهة عني، حتى المقابر الجميلة والهادئة والمسكونة بأمواتٍ لا يؤذون البشر تحاولون تنفير الناس منها، رغم أن الأحياء هم الفزع الأكبر، وهم الذي يستدعونني كلما كره بعضهم بعضا. لو لم يكن حُب الطغاة لكِ جامحا ما حصدتُ أنا أرواح الشباب والجنود والمعارضين. أنتم تستدعونني ليلا ونهاراً في نزاعاتكم الحمقاء، ثم تلومونني على جَدّي في العمل، واستجابتي لطلباتكم الـمُلـِحَّة في أن أكون ضيفا عليكم ثم تزعمون بأنني ضيف غير مرغوب فيه.
لم يدر بذهني قط أنْ أتسبب في قبور جماعية، ولكن الحياة التي مـُـنِحتْ لكم هدية رفضتموها في القصور، وبنيتم بيوت الضيافة، سجونا ومعتقلات وأماكن فقر وسموما في المياه والأرض الزراعية. أنا الموت، أشرف من الحياة، ولا أخجل من عملي، ولكن ينبغي أن تخجلي أنتِ من الفوقية المتغطرسة التي تجعلك تظنين الموت قبيحا والحياة بهيجة.

الحياة: قل ما تشاء، لكنني سأظل أنا مركز الكون، وتمنيات كل من حصدت أنتَ أحبابَهم أن يعودوا مرة أخرى ليعيشوا بين ظهرانيهم خالدين في الأرض ثم الخلود الأخروي.

محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج
 
أعلى