سمو الشيخ نواف الأحمد .. وطن في رجل!

 نواف الأحمد.jpg
سمو الشيخ نواف الأحمد .. وطن في رجل!

سبعة وثلاثون عاما هي عمر علاقتي بالكويت منذ الزيارة الأولى في 1982، وثلاثة عقود تقريبا هي عمر معرفتي بسمو الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح.
أكبر خسارة هي ان تختصر ردحا طويلا من الزمن في بضع كلمات، وتُسقط من الذاكرة ما يكفي لأن تحشره بصعوبة بين دفتي كتاب، فالذاكرة والنسيان يتصارعان على من لديه القدرة على التأثير الأكبر.


رجل دولة يستطيع ان يحمل صفات تبدو كأنها مستحيلة لأي مراقب، لكن الشخصية المركبة من صفات إنسانية لا حصر لها يمكن ان تعيد تركيب المشاعر والأحاسيس والقدرات والأوصاف، فتراه في بعضها، وفي كلها، وفي توأمتها.
فهو يجمع مثلا الحياء مع الهيبة، والتواضع مع القوة، والكرم مع الالتزام الأخلاقي بالانفاق.
أول لقاء كان في وزارة الدفاع عام 1988 وهنا يمكن ان يتجسد الحديث الشريف بأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، ومنذ ذلك الحين وأنا أرصد الجوانب الانسانية للشيخ نواف الأحمد، وكلما بدا لي جانب أعقبته جوانب أخرى كأن نبع الانسانية الذي يمده لا ينضب ولا يجف.
كان يحلم بكويت قوية على الرغم من صغرها، لا تعتمد على أي قوة اخرى الا في حدود ما لا طاقة للوطن الصغير به، وكان يرى عبقرية التسلح في سويسرا نموذجاً مناسباً لديرته، فالتجنيد إلزامي، وكل الناس تخضع له لمدة أسبوعين في كل عام حتى لو كان المجند وزيرا أو شيخاً، فيصبح مستعدا، جسديا ومعنويا وتدريبا على السلاح، قادرا على الدفاع عن وطنه، قطعا بعد فترة التجنيد التي تساوي بين الجميع لمدة عام كامل.


ثم جاء الغزو العراقي الآثم، وتفاجأ أشاوس طاغية بغداد بأن وزير الدفاع في الكويت كان فارسا من الطراز الأول، وكان آخر من ترك موقعه قبل دقائق معدودة من اقتحام جيش هولاكو البعثي لمكان وجوده وتَحصُّنه.
في الحرس الوطني كان عسكريا رائعاً بكل المقاييس، ولم يكن يأمر بشراء أسلحة ترهق الميزانية، فكان يختار الأفضل والأنسب سعراً، وكان قريبا من الأفراد والجنود الصغار، وتولـّى تطوير الحرس الوطني، وأرسل بعثات للخارج، واهتم بحاجات جنوده وأفراد عائلاتهم.
في وزارة الداخلية كان مهموماً بالأمن الوطني، وبدأ بحل مشاكل رجال الأمن المادية والصحية والعائلية.
أشعر أنني أستطيع بعد تلك السنوات الطويلة ان استشرف موقفاً أو رد فعل من منطلق الرصد الانساني، وعندما انتقل الشيخ سعود ناصر الصباح الى الرفيق الأعلى، وكنتُ في أوسلو، فبحثتُ عن صور جنازة الراحل الكبير، تغمده الله بواسع رحمته، وقلت لنفسي: لا شك ان دموع سمو الشيخ نواف الأحمد لن تستطيع أن تقاوم مشهد الوداع النهائي.
وفعلا بعد فترة شاهدت سموه، أطال الله في عمره، يبكي أمام نعش سيأخذ واحداً من أشجع وأجرأ وأفضل من حملوا حقائب وزارية وقبلها سفيرا و.. وفارساً للتحرير.


في جعبتي الكثير.. والكثير لأقص على القراء الكرام بعض ما خفي من الجوانب الانسانية عن رجل الدولة، والانسان، والوطني، والأب المثالي، وعاشق البحر والصيد والنغم والطهو والقراءة والمتابعة، حتى ان كثيرين لا يعرفون ان سموه يهتم بكل كلمة قبل إلقائها في لقاء أو حفل أو مناسبة وطنية
بعض الرجال يتركون لديك انطباعاً يتثبت من أول لحظة فلا تعرف له سبباً.
سحر خاص في الشخصية أو نظرات العينين أو الاستقبال أو الوداع أو الحوار أو قوة الحديث أو عبقرية الإنصات أو كل هذه الأشياء مجتمعة و.. متفرقة!
ثمان سنوات من الحرب الإيرانية/العراقية جعلت وزير الدفاع الكويتي آنئذ يُداخله اليقين بأن حُلمه في كويت صغيرة وقوية مسألة وقت فقط إلا إذا قطع ثعبانٌ هذا الحُلم إلى نصفين.
وأثبتت الأيام أن حدس سمو الشيخ نواف الأحمد كان استشرافاً في العمق، لكن الحالة الإقليمية لم تكن تسمح للتنبوءات بالخروج علناً، فالعالم العربي برمته كان سيرفض أي شكوك في طاغية بغداد صانع أوهام البوابة الشرقية والقائد المهيب للشعوب العربية الباحثة عن خيالات في عقل مهووس.


كان سمو الشيخ نواف الأحمد يعرف أن الاعتداء على موكب الأمير، رحمه الله، في عام 1985 مُقدّمة قبل أَوَانها لابتلاع دولة يقوم الديكتاتور البعثي باختبار مدىَ قوة أو هشاشة الكويت، ولم ينتظرمهيبهم ليرى النتيجة وتكاتف الشعب والتفافه حول آل الصباح الكرام إبان حادث الإعتداء، وكما حدث في مؤتمر جدة خلال شهر أكتوبر 1990.
كان إنطباعي عن سمو الشيخ نواف الأحمد، والذي أثبتت ثلاثون عاماً تقريبا بعدها أنها تفاصيل مسبقة لرسم شخصية ستلعب لاحقا في تاريخ الديرة دوراً تتناقله أجيال ولن يسقط هذا الدور على الهوامش أو يقترب من السطح.
تحاول أن تقبض على مفاصل الشخصية لعلك تعرف مركز القيادة: الثقة بالنفس، الفكر الهاديء، الوعي الجيد بالتاريخ، الذكاء العاطفي، الصراحة العارمة، اختيار اللغة..
كلها وغيرها قدَّمها سمو الشيخ نواف الأحمد في أقل من ساعة، فمكتب وزير الدفاع تتدفق فيه العواطف بحساب لا يتعارض أو يتعاكس مع فكر الحسم، ففي كل منصب تولاه كانت هناك كلمة السر التي تفتح خزائنها للقبضة الشديدة غير المؤلمة ( وزارة الداخلية )، وللعاطفة ( وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل)، ولصلابة العسكرية ( وزارة الدفاع )، وللتنظيم المدني والعسكري الشعبي ( الحرس الوطني )، ثم جاءت ولاية العهد لتصبح الأولوية لثقة صاحب السمو الأمير، الذي قدَّم سمو الشيخ نواف الأحمد لمجلس الأمة فلم يتخلف واحد فقط عن اعتبار الاختيار حالة عبقرية للرجل الثاني.
من يجلس إلى الشيخ نواف الأحمد ويكون محظوظاً بخروج الحديث عن المألوف، فيسمع آراء سموه في كل شأن اجتماعي وسياسي وخليجي وعربي وإسلامي يخرج برؤية لا تقل عن المتعة في الإنصات لسموه.


يتحدث عن الديمقراطية في البيت فلا يفصل بين الدور الأبوي الموجه، والمساحة المخصصة للحرية. يراقب ويحسم إذا استدعى الأمر ذلك، مثل تناول الطعام العائلي شريطة إبعاد كل أجهزة التشويش على سلام الأسرة، أي المحمول.
سحر الشخصية يمتد إلى مسافات لا حواجز فيها، ولو سألت وافداً قضى سنوات في الكويت فرؤيته لسمو الشيخ نواف الأحمد لا تختلف عن رؤية المواطن الكويتي.
لا يتبرم أو يمتعض أو يتأسف على برد أو حَرٍّ أو قيظ أو عاصفة ترابية أو أمطارغزيرة ، فكلها تصب في الجانب الجمالي لمعشوقته الكبرى .. الكويت.
يكاد يعود قبل أن يسافر، ولو كان سموه يقرض الشعر لكتب أجمل القصائد عن الكويت، فسموه يرى صحراءَها جنة فيحاء، ومساحتها أكبر من الدنيا، وشعبها امتداداً للعائلة.
إذا غضب على صديق، رسم الحد الأقصى للغضب، وإذا ثار على عدوٍ عرف الحد الأدنى للثورة.


يعرف، سموه، أين يضع سرَه وثقته، فإذا صادق شخصاً أعطاه جرعات متفاوتة الصغر، فإذا مضت سنوات ولم يخلّ الصديق بحرف واحد أسر إليه به، فلا يتأخر عن المعلومة ولكن أيضا بقدر.
ثلاثون عاماً شهدتُ فيها وعشت أجمل علاقة فكرية وأخوية، تخللها غضب واحد لو كان سموه شخصاً آخر لانقطع حبل المودة. بعد عامين وكنت في الحافلة التي تقلني إلى مراكش المغربية عائداً من حفل عرس ابنتي، تلقيت مكالمة هاتفية من الكويت تدعوني لزيارة بلدي الثاني ، وكانت المكالمة كأنها بلسمٌ لحادث اختفتْ آثاره، تماما كما كانت أجمل مكالمة وأكثرها تأثيراً عندما جاءني صوت سموه هاتفياً يقول لي فيها بأن سموه يعرف أنني سأكون الأكثر سعادة بتوليه ولاية العهد .
سمو الشيخ نواف الأحمد وطن في رجل؛ وليس فقط رجلا في وطن!


محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النروجيين
أوسلو النرويج

Taeralshmal@gmail.com
 
أعلى