حوار بين زعيمين عربيين في غرفة مغلقة!

  • التقى زعيمان عربيان في غرفة مُغلقة بواحد من قصور أحدهما. لم يكن هناك حرس أو خدم أو حشم أو مدير مكتب يطرق الباب ليعكر صفو جلسة تاريخية بعيدة عن البروتوكولات والأقنعة.
    لم يصدق الزعيم الأول أن ضيفه الذي لم يشرب الخمرَ قط وافق على احتساء عدة كؤوس بطلب من مضيفه الكريم.
    وبعد الكأس السابع دار بينهما حوار تخيل قلمُنا طرفاً منه، فَخَطَّ التالي ...

    الزعيم الأول: كيف حال رعيتك يا طويل العمر؟
    الزعيم الثاني: الحمد لله فالسنوات تمر، وأبناء شعبي لا يزالون مطيعين أكثر من طاعة قطيع الخراف لعصا راعيها، ومع مرور الزمن تتعتق العبودية تماما كالخمر الذي في كأسك.

    الزعيم الأول: كأنك تصف الوضع لدي أيضا، وإن كنت أغضب بين الحين والآخر عندما يتناهى إلى سمعي صوت نشاز من مشاغب انخرط لتوه في جماعة حقوق الإنسان، وظن أنه يستطيع اقناع بعض أبناء شعبي بهذا الهراء، لكن بعد وقت قصير تتولى أجهزة أمني وكلاب قصري مهمة تعليمه قواعد الذل.
    الزعيم الثاني: هذا يعني، يا طويل العمر، أنك تحتاج لبناء سجون ومعتقلات جديدة، أليس كذلك؟

    الزعيم الأول: في الواقع فما لدينا يكفي لوضع ثلث السكان خلف قضبانها، وهناك زنزانات تحت الأرض لا يعرف مكانها إنس أو جان، لكنني فعلا أفكر جديا في اعطاء الأوامر ببناء مزيد من المعتقلات فلا أدري ماذا يخبيء لي زمن غدر من قبل بزملاء لنا ظن كل منهم أن رعاياه لا يتنفسون إلا بعد استئذانه، فحدث انقلاب من أقرب المقربين، وخرج الرعاع يلعنون الزعيم السابق ويهتفون باسم سيد القصر الجديد.
    الزعيم الثاني: ألم توشي تحركات بعض كبار قادة الجيش بأن تمردا قد يقوده متهور يمكن أن يحقق حلمه في البيان رقم واحد؟

    الزعيم الأول: إن لدينا جيشا لا يتدخل في السياسة، وقادة يتبادلون مواقعهم كما يبدل الثري ربطة عنقه، ورتبا كبيرة لا يسمح لها أن تجتمع دون معرفتي، وعيونا ترصد تحركاتهم، وأجهزة تراقب التطور الفكري والسلوكي والثقافي والعسكري لكل منهم، وأرشيفا لعائلاتهم وأقاربهم
    الزعيم الثاني: ربما تكون أفكارنا متطابقة في هذا الشأن، لكنني أصطحب معي وزير الدفاع، وإذا غادرت أرض الوطن جعلته يودعني، ثم ينتظرني في المطار لدى عودتي، وهو يتوجس خيفة طوال الوقت خشية أن أستبدل به نائبه أو رئيس الأركان.

    الزعيم الأول: لقد تابعت نشاطات حرمكم المصون، كأنها رئيسة الدولة، وهي لا تقل نشاطا وحيوية عن زوجتي .. سيدة القصر الأولى.
    الزعيم الثاني: إن أسرتنا تجري في عروقها دماء نقية وشريفة، لهذا ينبغي أن نُشعر في كل وقت رعيتَنا أن هناك فارقا كبيرا بيننا وبينهم، وأننا منطقة محرمة عليها، وأن الأفكار المشاكسة التي يتعلمها البعض عن المساواة والحقوق والكرامة والديمقراطية يسحقها أقدم أحذيتي. لقد أبلغني وزير المالية أن ديوان المحاسبة طرح عليه، على استحياء وبصوت خفيض، سؤالا عن الميزانية المفترضة لحرم زعيم الدولة، فلقنت الوزير درسا لن ينساه، فنحن نحاسِب ولا نحاسَب، وإذا أرادت سيدةُ القصر الأولى أن تنفق ميزانية إحدى الوزارات بمفردها فلا راد لكلمتها.

    الزعيم الأول: بل العكس لأنني أردت أن اتركه وبعضا من أنصاره يتدرب فيهم جبناءُ السلطة الرابعة وَصْلات الردح والشتائم، وهؤلاء الصحفيون والكتاب والمثقفون ينبغي أن أترك لهم بعض ساحات المعارك ليثبوا ولاءهم لحكمي، وينشروا أكاذيب ما أنزل الله بها من سلطان وربما ينتهي الأمر بالمعارضين إلى حادث سيارة، أو سقوط من الطابق التاسع أو أزمة قلبية مفاجئة أو فضيحة أخلاقية تنتهي إلى عدة أعوام تأديب وسجن في واحد من معتقلاتي التي يزيد عددها على عدد معاهد البحث العلمي أو المستشفيات أو دور المسنين.
    الزعيم الثاني : لا يستوعب عقلي لبرهة خاطفة فكرة أن يتولى الحكمَ شخصٌ آخر ليس من صلبي، ولا هو نتاج حلم واحد من ملايين الحيوانات المنوية التي طالما تخيل كلٌ منها وهي تجري لاهثة ناحية البويضة أنه سيكون في يوم من الأيام سيد القصر والبلد والرعية، يأمر فيُطاع، وينهى فتخضع له الأعناق !

    الزعيم الأول: كيف كان ردُّ فعلك لدى قراءتك تقرير منظمة العفو الدولية؟
    الزعيم الثاني: إن أقل من واحد في الألف من رعيتي يطلع على التقرير، وهو ينتهي غالبا إلى أرشيف مكدس بآلاف الملفات، لكن ممثلي البعثات الدبلوماسية في الخارج يصدرون بيانات احتجاج على عدم دقة التقرير، ويتلقون من وزارة الخارجية نصائح وتوجيهات عن الحملة المضادة لتشويه سمعة نظام حكمي، وينتهي الأمر باحتضار التقرير تماما كما يحدث مع اللجان التي تنبثق عن مؤتمرات فاشلة وهي لجان لحفظ ماء الوجه.

    الزعيم الأول: لقد استوردنا، يا طويل العمر، كميات هائلة من أدوات التعذيب تبدأ بأجهزة النفخ، والهراوات المطاطية الكهربية، وحبوب الهلوسة، وكبسولات للتخدير، وأشياء كثيرة تصلح لتجديد طرق اجبار المشاغبين على الاعتراف حتى عن تهم ثابتة على غيرهم
    الزعيم الثاني: الحقيقة أنني أعطيت توجيهاتي لضباط التحقيق في أن يبدعوا بأنفسهم، وأن يكتفوا بالصناعة المحلية لأدوات التعذيب، ثم إن لدينا الاغتصاب، والتهديد باعتقال الأهل، والتصفية الجسدية، والوقوف ساعات تحت شمس حارقة، والدفن في الرمال، وقلع الأظافر، واستخدام الملح بكميات كبيرة فوق الجروح الناتجة عن التعذيب.

    الزعيم الأول: هل تصلك كل التقارير المفصلة عما يجري في السجون والمعتقلات؟
    الزعيم الثاني: أقرأها كثيرا، وأنتشي بتفاصيلها، وأترك الضباط الساديين والمخبرين والمرشدين وحراس السجون يتولون مهمة اذلال رعيتي، لكنني أصارحك بأنني، بناء على نصائح بعض المستشارين المحنكين في أمور تلميع الزعماء أقوم أحيانا باستقبال أطفال معاقين أو زيارة مستشفى أو ارسال فنان تعشقه الجماهير إلى الخارج للعلاج، أو أطلب استعجال منحة أو الافراج المبكر عن بعض المعتقلين.
    الزعيم الأول: أظن أنني لا أبالغ في هذه الأمور لئلا يعتقد المواطنون أن لهم حقوقا لدينا يدافعون عنها، أما الافراج عن المعتقلين فهو في عيد الجلوس فقط
    الزعيم الثاني: كيف يتعامل طويل العمر مع المعارضة في الخارج؟

    الزعيم الأول: إنني لا أدخر وسعا في حشر التعاون مع الاسرائيليين لدى الحديث عن المناهضين لنظام حكمي، لكن بعضهم يملك وسائل إعلامية في الخارج ويستطيع أن يثبت أننا نحن الذين نتعاون خفية مع تل أبيب، وأتلقى بين الفينة والأخرى تقارير سرية من الموساد عن طريق وسطاء تحذرني فيها أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية من محاولات انقلاب أو مشاغبة أو اغتيال.
    الزعيم الثاني: لكن من يقرأ صحفكم ويستمع إلى خطبكم يذهب به الظن إلى أنكم الأكثر تشددا وعنادا وعداء للدولة العبرية، بل إن المناخ العام في بلدكم يبدو كأنه حالة حرب ساكنة أو سلام داخل فوهة مدفع في وضع الاستعداد!
    الزعيم الأول: تغييب وتخدير الشعوب فن برع فيه الزعماء العرب، ولا تنس، يا طويل العمر، أن نصف سكان عالمنا العربي أميون، وأن نصف المتعلمين أنصاف أميين، فلا غرابة في سهولة العمل على تخدير الرقيق ولدى كل واحد منا طرقه ووسائله الخاصة لجعل هؤلاء الرعاع يسيرون على ركبهم كأنهم جِمْالٌ مرهقة بركت ( الجمل يبرك أي ينزل على ركبه كأنه سيجلس أو ينام) في وسط الصحراء.
    الزعيم الثاني: ما هي آخر أخبار أسرتكم الشريفة فقد بلغني أن واحدا من الأقربين قد حصل على درجة علمية لا يعادله فيها حاصلو جوائز نوبل على الرغم من أنه لا يكتب جملة واحدة سليمة إلا بشق الأنفس؟

    الزعيم الأول: إنني أعترف لك، يا طويل العمر، بأنك كنت أكثر مني براعة وحسن تصرف لدى تعاملك مع الجماعات الدينية في بلدك، ومع ذلك فجموع الشعب تظن أنك سليل الأشراف، ومن نسب طاهر يمتد مئات الأعوام، وتحافظ على الفروض الدينية وتطيع تعاليم السماء.
    الزعيم الثاني: لأن الدين لا يحتاج منا إلا إلى مظاهر خادعة، كالصلاة مع حشود واظهار الخشوع، وافتتاح أماكن للعبادة بين الحين والآخر، والاهتمام ببعض الجمعيات الخيرية، وترك المتشددين والمتصلبين والمتزمتين يشغلون الرعية بصغائر الأمور.
    ولكن عندما أشم رائحة خروج الدين عن مساره المخدر والمغيب، وتوجهه ناحية حقوق الانسان والدفاع عن الكرامة والظن بأن عناية السماء تقف مع المظلومين في السجون والمعتقلات، فهنا لا حدود لشراستي، وأنا على استعداد لادخال نصف رعيتي خلف أبواب متسخة في سجون مظلمة كئيبة تحت الأرض لا يقوم بزيارتها إلا اثنان فقط: السجان وملك الموت.

    الزعيم الأول: في الواقع الوضع يختلف قليلا في بلدي لأن رجال الدين يقومون بالمهمة أفضل من أجهزة الاستخبارات، وهم قادرون على اقناع عبيدي بأن طاعة ولي الأمر كطاعة الله، ولذلك فأنا أمنح من سلطتي الكثير لرجال الدين وهم يُكَفّرون أي شخص، ويتفحصون الكتب، ويبحثون في صدور الرعية عن زاوية قصيرة في القلب لم تشلها مغيبات الدين، بل إنهم يكونون أحيانا أكثر شراسة من أجهزة الأمن عندما يتعلق الأمر بإخماد فتنة وطنية أو تمرد ضد السلطة فيوزعون على المشاغبين اتهامات يستخرجون مفرداتها من صــُلب الدين، وهنا يصبح ضرب الأعناق أكثر سهولة من تفريق تظاهرة في شارع مكدس بالغوغاء في قلب العاصمة.
    الزعيم الثاني: لقد قرأت ميزانية العام الجديد في بلدك ولم تكن بها أية اشارة إلى مخصصات القصر والأسرة والنفقات الخاصة بالزعيم والأمن، فلماذا لم تفعل مثلي وتتجنب صداع الرأس من المشاغبين، فأنا أضع ميزانية وهمية للقصر وأنفق أضعافها مئات المرات؟

    الزعيم الأول: إن جل أبناء رعيتي لا تمر أعينهم على الأرقام، ولا يعرفون حجم البطالة، ويجهلون محرمات عليهم كثيرة وكلها تتعلق بالسلطة وبأسرتي الشريفة، ولا يعرف وزير مالية أو مدير البنك المركزي أو رئيس الجهاز المصرفي للمحاسبات أنه تم وضعها كلها بمعرفة القصر.
    الزعيم الثاني: هل تظن ، يا طويل العمر، أن كشفا لحسابك الوطني قد تفتحه جهة تأتي من بعدك، ثم تتدحرج كرة الثلج عن الفساد لتصبح جبلا من الجليد لا يستطيع أحد أن يبرره في العهد القادم؟

    الزعيم الأول: كأنك تقيم معي في القصر وتصف أحوال رعيتي، ولا تستثني منهم أحدا، إلا من رحم الله، فكبارهم من المثقفين والأكاديميين والوزراء والمحافظين ورجال الأعمال والمفكرين يصبحون في أشد لحظات الرضا لدى انحناء الهامة، وتقوص الظهر، واظهار الطاعة العمياء، وأنا رغم سعادتي ببدء يومي بقراءة مانشيتات النفاق والتزلف والتقرب العفن الرقيقي الذي يُسَبّْح بحمدي، فإنني أصارحك بأن القرف والغثيان والاشمئزاز من الكبار يصيبني بحالة هستيرية لا ينفع معها إلا مزيد من اذلالهم، أما الصغار وهم الغالبية العظمى من الرعية فيكفيها لقمة العيش، وبعض مباهج الحياة، وأن يعود كل منهم إلى أهله مساء دون أن يتورم قفاه من كف أحد رجال حمايتي المبعثرين في كل مكان.
    الزعيم الثاني: أما أنا فيحيرني أمر آخر، فرغم كل ما قدمته لسيد البيت الأبيض، سرا وجهرا، فإن الولايات المتحدة لا ترضى عني، وخدماتي لأجهزة استخباراتها لو كان هناك عدل تجعلني في مقدمة جنودها المجهولين.

    الزعيم الأول: المهم، يا طويل العمر، أن تظل الشعوب العربية في حالة خوف دائم، وأن نمنع تماما أفكار التمرد فنحن في حقيقة الأمر أوهن من بيت العنكبوت، وأضعف من حشرة، ونظام أي منا يمكن أن تطيح به نسمة رقيقة في مساء أحد أيام الربيع، وشعوبنا لا تعرف طرق الثورة والتمرد والحرية والكرامة، ولو تمكن أحدهم من اقناع أفراد الشعب بالعصيان المدني فسنهرب من فوق سطح القصر كما فعل نيكولاي تشاوشيسكو أو نتقزم ونصغر كما كان الوضع مع محمد رضا بهلوي صاحب عرش الطاووس.وهنا ظهر في الأفق شعاع صباح جديد، وودع المضيفُ ضَيّفَه بحفاوة، وامتصت الجدرانُ حديثهما، ونشرت صحف الصباح في الدولتين مانشيتات عريضة عن المحادثات الهامة بين الزعيمين لخدمة الشعبين الشقيقين.

 
أعلى