الشيخ الليبرالي: علي عبدالرزاق

وقار

عضو فعال
الشيخ الليبرالي: علي عبدالرزاق

بعد ان اطاح اتاتورك بدولة الخلافة العثمانية(الرجل المريض) فزع شيوخ الازهر من هذه الخطوة لانها المرة الاولى التي يجد فيها المسلمون انفسهم منذ عهد الرسول بلا خليفة حتى ولو كان اسميا.
ولم يكن اتاتورك ليقفز من فراغ, بل انه قد استند الى كتابات المثقفين المستنيرين من امثال رفاعة الطهطاوي, والكواكبي ومحمد عبده واليازجي والبستاني ولطفي السيد وشبلي شميل وفرح انطون.

وبعد اربع ايام من قرار اتاتورك بالغاء الخلافة العثمانية إجتمع بعض علماء الازهر وأصدروا بيانا اعلنوا فيه بطلان ماقام به الكماليون.
ونشر الشيخ على عبدالرزاق مقالا يكشف فيه أوراق اللعبة وان الحماس للخلافة ليس دفاعا عن الدين انما مساندة لمطامع الملك فؤاد في تولي الخلافة كبديل عن الخلافة العثمانية..
وثارت معركة حامية حول الخلافة البديلة..أسفرت عن العديد من الكتب ..أشهرها أربعة .. كتابان متحمسان للخلافة ..الأول لمحمد رشيد رضا بعنوان الخلافة او الامامة العظمى, والثاني لمصطفى صبري بعنوان النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والامة.
أما الكتابات المعارضان للخلافة فالأول للشيخ علي عبدالرزاق بعنوان الاسلام وأصول الحكم, والثاني :الخلافة وسلطة الامة لمؤلف تركي مجهول.

وأحدث كتاب الشيخ علي عبدالرزاق دويا غطى أثره على الجميع,ربما لأن مؤلفه أزهري ومن أسرة عريقة وربما لأن الازهر جابهه بضجة ومحاكمة وعزل.

وتساءل الشيخ علي عبدالرزاق بكتابه.. هل اخلافة أصل من أصول الدين؟.. وهل يصلح الاسلام او غيره من الاديان نظاما للحكم في العصر الحديث؟
ويحاول الشيخ الليبرالي الاجابة بطريقة تختلف تماما عن سابقيه, ففي حديثه عن فصل الدين عن الدولة يقترب الى حد كبير من احمد لطفي السيد وقاسم أمين وغيرهما, ولكنه تميز عنهم جميعا بأنه ازهري ومتعمق في دراسة الفقه, أي أنه من أهل الاختصاص.
وهو فوق أزهريته المتعمقة, درس في الجامعة المصرية وتخصص في الادب العربي والفلسفة,ثم سافر الى انجلترا ليدرس في اكسفورد مستهدفا تخصص الاقتصاد والعلوم السياسية.

أصدر الشيخ علي عبدالرزاق مع مجموعة من العناصر الدينية الليبرالية مجلة"السفور" لتدعو للتحرر في فهم الدين والحياة.
وتنادى الشبان الليبراليين الى تأسيس حزب جديد هو الحزب الديمقراطي وكان الاجتماع التاسيسي في بيت آل عبدالرزاق, وأصدروا فيه برنامجا أسموه قانون الحزب, وجاء في مادته الثالثة عشرة.. أهداف يسعى الحزب لتحقيقها منها:
- تفويض الشعب سلطته الى هيئة نيابية تُـنتخب لتمثيله تمثيلا صحيحا,ويكون من اختصاصها التشريع وفرض الضرائب ومحاسبة الحكومة المسؤولة امامها عن اعمالها.

- توحيد التشريع في حدود مصر,وتعميم تطبيقه على من يسكن البلاد(وهو مطلب هام يقضي باخضاع الاجانب للتشريع المصري ووضع تشريع مدني يكفل حقوق المسلمين والمسيحيين معاً)

- الاعتراف بحق كل شعب في حكم نفسه.

- ترقية الطبقات العاملة أدبيا وماديا وإعانة من لايستطيع العمل.

ونعود الى الكتاب الذي أثار كل هذا الضجيج...
فالحكم والحكومة والقضاء والادارة ومراكز الدولة هي جميعا"خطط دنيوية صرفة, لاشأن للدين بها, فهو لم يعرفها ولم ينكرها ولا أمر بها ولا نهى عنها, وانما تركها لنا لنرجع فيها الى احكام العقل وتجارب الامم وقواعد السياسة"
ويقول.. إن القرآن والسنة لم يرد فيهما أي ذكر لفكرة الخلافة كنظام سياسي ملزم للمسلمين أما كل ماجرى في أحاديث النبي من ذكر للامامة والخلافة والبيعة.. فهو لايدل على شئ أكثر مما دل عليه المسيح حينما ذكر بعض الاحكام الشرعية عن حكم قيصر.
ويتحدث الشيخ علي عبدالرزاق عن الخلاف حول الخلافة, وعن شهوة الحكم التي تسلطت على الكثيرين حتى جعلت الخلافة لاتقوم الا على القهر والظلم ,"واذا كان في الحياة الدنيا شئ يدفع المرء الى الاستبداد والظلم ويسهل عليه العدوان والبغي فذلك هو مقام الخليفة... وقد رأيت أنه اشهى ما تتعلق به النفوس, وأهم ماتغار عليه, واذا اجتمع الحب البالغ والغيرة الشديدة وأمدتها القوة المبالغة فلاشئ ينتج الا التعسف ولا حكم الا السيف".
ذلك أن شعائر الله تعالى ومظاهر دينه الكريم لاتتوقف على ذلك النوع من الحكومة الذي يسميه الفقهاء خلافة وأولئك الذين يسميهم الناس خلفا...فليس من حاجة الى تلك الخلافة لأمور ديننا, ولا لأمور دنيانا, ولو شئنا لقلنا أكثر من ذلك, فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الاسلام والمسلمين وينبوع شر وفساد.

ويفرق الشيخ علي عبدالرزاق بين ولاية الرسول وولاية الحاكم بقوله: ولاية الرسول على قومه ولاية روحية منئؤها ايمان القلب وخضوعه خضوعا صادقا تاما يتبعه خضوع الجسم, وولاية الحاكم ولاية مادية تعتمد على اخضاع الجسم من غير ان يكون لها بالقلب إتصال.

ثم يتساءل الشيخ علي عبدالرزاق.. هل كان الرسول رسولا ملكاً.. أم رسولا فقط؟؟؟
ويجيب"إن القرآن صريح في أن محمدا لم يكن إلا رسولا قد خلت من قبله الرسل, ثم إن القرآن بعد ذلك صريح في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن من عمله شئ غير ابلاغ رسالة الله تعالى الى الناس, وانه لم يكلف شيئا غير ذلك البلاغ, وليس عليه أن يأخذ الناسبما جاءهم به ولا أن يحملهم عليه".

ويمضي شيخنا الجليل موضحاً بعد ذلك كيف ان الرسول لم يعين من بعده خليفة وكيف ان كل الذين تزعموا المسلمين من بعده ومن بينهم الخلفاء الراشدون كانت زعامتهم مدنية او سياسية وليست دينية, وكيف ان ابي بكر هو الذي أطلق على نفسه لقب خليفة, وأن بيعته كانت ثمرة اتفاق سياسي,ومن ثم فغن حكمه كان حكما مدنيا واجتهاده كان اجتهادا دنيويا لاعلاقة له بفكرة الدولة الدينية.

وهكذا يتبين لنا أن كتاب الاسلام واصول الحكم يمثل موقفا راديكاليا أبعد من ان يكون بحثا عن نصوص دينية تحرم الكهنوت والاستبداد, كما فعل من سبقوه.
كام انه اعمق وابعد من التوفيق بين نصوص الشريعه ومبادئ الحضارة الغربية, بل هو اول دراسة للحقيقة الدينية وارتباطها بشريعة السلطة السياسية, كما انه اول نقد يظهر التضامن التاريخي بين الفكر الثيولوجي والبنى السياسية والسلطوية التي استخدمت الاديان من أجل بناء الامبارطوريات.

وربما كان هذا السطر الاخير هو السبب في كل هذه الضجة التي لاحقت الكتاب وصاحبه ولم تزل.

وجاءت المساندة لعلي عبدالرزاق من أمير الشعراء أحمد شوقي:
مضت الخلافة والامام فهل مضى
ماكان بين الله والعبادِ
والله مانسى الشهادة حاضرٌ
في المسلمين ولاتردد بادي
والصوم باق والصلاة مقامة
والحج ينشط في عناق الحادي.

وحورب الشيخ علي عبدالرزاق من الكثيرين
وجاءت المدفعية الثقيلة من هيئة كبار العلماء بالازهر واستدعت الشيخ الجليل وحاكمته باعتبار انه حاصل على شهادة العالمية من الازهر وقاضي شرعي,
فمثل الشيخ امام المحكمة وحاول بكل طاقته ان يدافع عن نفسه .. لكن دون جدوى, وبعد ساعتين من الجدل .. أصدرت المحكمة حكمها التالي:
اجتمعت هيئة كبار العلماء في 12 اغسطس 1925 وقررت نزع شهادة العالمية من الشيخ علي عبدالرزاق ومحو إسمه من سجلات الجامع الازهر وطرده من كل وظيفة لعدم أهليته للقيام بأية وظيفة دينية أو غير دينية.

وعقب صدور هذا الحكم الظالم أسرع شيخ الازهر ليزف البشرى الى الملك, فأبرق "شاكرا له غيرته على الدين من عبث العابثين وإلحاد الملحدين وحفظ كرامة العلم والعلماء" !!!!
وأرسل شيخ الازهر القرار الى عبدالعزيز فهمي باشا وزير العدل لتوقيعه والتصديق عليه, ولكن وزير العدل رفض واتخذ موقفا شجاعا.. وكتب"
إستحضرت هذا الكتاب وقرأته مرة وأخرى فلم أجد فيه ادنى فكرة يؤاخذ عليها مؤلفه بل على العكس وجدته يشيد بالاسلام ونبي الاسلام ويقدس النبي تقديسا تاما ويشير الى ان النبوة هي وحي من عند الله والوحي لا خلافة فيه.... وثقل على ذمتي ان أنفذ هذا الحكم الذي هو ذاته باطل لصدوره من هيئة غير مختصة بالقضاء, وهي جريمة الخطأ في الرأي من عالم مسلم يشيد بالاسلام,وكل مافي الامر ان يتهمونه, ويتأولون في أقواله, ويولدون منها تهماً ما أنزل الله بها من سلطان"
وغضب الملك من رد وزيره فانهى الامر باستقالة عبدالعزيز فهمي وتضامن معه ثلاثة من الوزراء.

دار الزمن عدة دورات.. وفي عام 1947 كانت ثمة رغبة ملكية سامية في الرضاء عن الشيخ علي عبدالرزاق.. فاجتمعت هيئة كبار العلماء ومعها اعضاء المجلس الاعلى للازهر واصدروا قرارا باعادة شهادة العالمية للشيخ علي وعودته الى زمرة العلماء من جديد, لكن المشايخ المجتمعين وجدوا انفسهم في مأزق يعوق تنفيذهم لهذا القرار, فاللائحة تحتم ان يكون إلغاء القرار السابق بأغلبية ثلثي موقعيه, وكان أكثر من وقعوا قرار العزل عام 1925 قد انتقلوا الى رحمة الله.. ولم يبق سوى التحايل.. فتقدم المجتمعون بإلتماس الى الملك يقولون فيه :إ المجتمعين من اعضاء جماعة كبار العلماء واعضاء مجلس الازهر الاعلى وشيوخ الكليات يلتمسون من جلالة الملك أن يتفضل فيضيف مكرمة الى مكارمه الحميدة فيعفو عن الأثر المترتب على الحكم الذي أصدرته جماعة كبار العلماء من أكثر من عشرين عاما بحق الشيخ علي عبدالرزاق.

واستجاب الملك لهذا الالتماس.. بل وأصدر مرسوما مليكا بتعيين الشيخ علي عبدالرزاق وزيرا للاوقاف.

وهكذا ثأر شيخنا الجليل لنفسه ولكتابه...
ولكن في كلا الحالين.. كان الازهر ورجاله ضحايا خضوعهم الذليل للملك, مرة لاسترضاء للملك فؤاد.. والمرة الاخرى لارضاء الملك ايضا.

وقد ثارت شائعة مغرضة عن الشيخ علي عبدالرزاق أنه قد ندم على كتابه فور هذه المعركة وقرر عدم نشره مرة اخرى وعدم الخوض في ابحاث من هذا القبيل.
ولكن الواقع يؤكد غير ذلك.. فقد أدلى الشيخ الجليل بحديث لجريدة انجليزية تصدر في مصر.. شدد فيها بصراحة على موقفه وإصراره على موقفه.. ,و ليس هذا وحسب.. فبعد سنوات يفاجئنا الشيخ علي بمقال ليبرالي عاصف يعلق فيه على كتاب السفور والحجاب للآنسة نظيرة زين الدين.. يقول فيه: .. إني لأحسب مصر قد تجاوزت بحمدالله طور البحث النظري في مسألة السفور والحجاب الى طور العمل والتنفيذ, فلست تجد بين المصريين الا المخالفين منهم من يتساءل عن السفور: هل هو من الدين ام لا؟ ومن العقل أم لا؟.. بل تجدهم وحتى الرجعيين منهم يؤمنون أن السفور دين عقل ودين, وضرورة لامناص عنها لحياة المدنية الحضارة,
ثم يوجه تحية حارة لمؤلفة الكتاب بقوله: هي شابة فتية من بنات الشرق تنهض بالدعوة الى ماتعتقده صوابا, وإن خالفَت في ذلك رأي الشيوخ.
فالذي ينقصنا هو الشجاعة في الرأي وقول الحق من غير تردد ولارياء.
هكذا بقي شيخنا الجليل .. مصلحاً وليس مفسداً.. شجاعا وليس جبانا .. ليبراليا وليس رجعيا.

-
" موضوع منقول من مكتبة الشبكة الليبرالية الكويتية للزميلة Rouza "
 
أعلى