وطن في خطر

Adviser

عضو جديد
وطن في خطر

أبعاد الحدث وجدوى الحديث (1)


في مسيرة الدول، كما في حياة الأفراد، أحداثٌ تشكل منعطفات مفصلية يكون لها آثار بعيدة المدى في كيانها وتاريخها، وانعكاسات مباشرة وغير مباشرة على اتجاهاتها وتحولاتها. وعند مثل هذه الأحداث يجب أن تعود الدولة إلى ركائزها، فتعتصم بدستورها وتشريعاتها، وتهتدي بقيمها وعقيدتها، فلا يدفعها الحماس إلى البحث عن مخارج خلفية، ولا يجرها شيء من اليأس للنكوص إلى الوراء. فالوعي للتغيرات مسألة وجود ومصير في هذه الأحوال. والوعي للمتغيرات عملية معقدة مركبة تتضمن معرفة الذات بلا أوهام، ومعرفة العام بعمق ونفاذ، ومعرفة القوى المختلفة الأخرى بلا استهتار أو انبهار.

ونكاد نجزم حين نزعم أن ما مرت به الكويت خلال الشهرين الأخيرين، من واقعة الخالدية إلى موقعة الصليبيخات، وما نجم عنهما من تداعيات، يمثل أحد هذه المنعطفات المفصلية بالغة الخطر، عميقة الأثر. ليس لأن مواطنين قد ضربوا بلا رحمة مواطناً مثلهم، وهذا أمر مستنكر ومدان. وليس لأن قوات الأمن قد اعتدت عمداً وبلا هوادة على مواطنين ونواب، وهذا أمر أدعى لاستنكار أشد، وأولى بإدانة أقوى، بل لأن 'الحدث' بكل مراحله ومجرياته، وبكل أسبابه وتداعياته، وربما بأطرافه وتناقضاته كافة، إنما يمثل مشهداً مرعباً لما وصل إليه الاحتقان السياسي في الكويت، وإنما يأتي بمنزلة نذير صارخ لخطورة الاستمرار في نهج الهروب من التغيير والرهبة من القرار.

خلال الشهرين الأخيرين وقفنا وقفة الشاهد الراصد، فتحنا صفحات 'الجريدة' لكل الآراء بلا استثناء، وجاهدنا النفس لكي لا تنساق وراء إغراء الكتابة وأضوائها، لأننا نعرف تماماً أنه لا مجال للحكمة في فورة الغضب، ولا صدى للصوت الهادئ في لجة الصخب، ولا سبيل لموقف متزن عندما يكون الانتقام هو الغاية وهو السبب. واليوم إذ يؤذن غبار المعركة بالانقشاع مؤقتاً على الأغلب وإذ تفتح قاعة عبدالله السالم أبوابها لجلسة باتت نتائجها بحكم المعلنة وستبقى تداعياتها بمنزلة الأحجية أصبح من الصعب والظلم تفسير موقفنا على أنه اصطفاف مع طرف أو التفاف على طرف، وأصبح بإمكاننا أن نحاول تحليل المشهد السياسي الكويتي بفكر لا تؤثر في موضوعيته حساسية الحكومة أو حسابات النواب وبقلم لا تنال من حريته إعلانات الموالاة ولا ندوات المعارضة، وذلك بعد أن نقدم لهذا التحليل بتوضيح منطلقات ثلاثة:

أولاً: مع إقرارنا، دون تحفظ، بأن الحكومة الحالية قد أثبتت مهارة عالية في ارتكاب الأخطاء، فإن من الإنصاف القول إن المشهد السياسي والاجتماعي الحالي في البلاد لا يمكن اعتباره نتيجة هذه الأخطاء فحسب، كما لا يمكن أن نضع مسؤوليته على حكومة أو حكومات سمو الشيخ ناصر المحمد وحدها ولا على نواب الفصل التشريعي الحالي فقط، ذلك أن 'أزمة الحكم والديمقراطية والتنمية' في الكويت، بكل ما ترتب عليها من نتائج سلبية تعليمياً وصحياً واجتماعياً واقتصادياً ورياضياً وإعلامياً، ليست وليدة ضعف الحكومة وجموح مجلس الأمة خلال السنوات الأخيرة فحسب، بل هي حصيلة تراكم مستمر لسياسات خاطئة، وإجراءات متناقضة، وردود فعل متوترة. وهو تراكم تصاعدت سرعته بعد الغزو الغاشم، وتعقدت مخارجه خلال السنوات الأخيرة. وإذا كانت حكومات سمو الشيخ ناصر المحمد لم تستطع أن تستفيد من تجارب الحكومات السابقة للارتقاء بأسلوب تشكيل الحكومات، ولإلغاء دور المجاملة والمحاصصة، فإن النواب المخضرمين لم ينجحوا، للأسف الشديد، في أن ينتقلوا من مقاعد النيابة إلى مقاعد الزعامات ذات المصداقية الوطنية، واستمروا أطرافاً في الخلافات وشركاء في الأخطاء، بدل أن يصبحوا قدوة ومرجعية.

ثانياً: يجب أن نذكر دائماً أن الحديث عن الموالاة والمعارضة في الحالة الكويتية هو حديث مجازي إلى حد بعيد، ويتناول مفهوماً خاصاً بعيداً كل البعد عن مفهوم هذين التعبيرين في الديمقراطيات العريقة والصحيحة. فلا الموالاة عندنا تعني أكثرية حكومية ثابتة، ولا المعارضة عندنا تعني تياراً منسجم المنطلقات والمواقف، بل إن كلا التعبيرين يضم نواباً ذوي توجهات متباعدة وربما متناقضة، وكلا التعبيرين يزداد أو ينقص عدد النواب المنضوين تحت عباءته تبعاً للظروف والأطروحات والمصالح. بل إن المعارضة بتجليها الأخير تحت لافتة 'إلا الدستور' هي من نوع 'تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى' فهي تضم ثلاثة أطياف سياسية يتعذر على أي منها تحقيق شعاراته المعلنة إلا على حساب الشريكين المرحليين. فهي أطياف متناقضة في كل شيء، بما في ذلك فهمها للدستور، ومفهومها للديمقراطية.

ثالثاً: عند منعطف مفصلي كالذي تمر به الكويت اليوم، يجب أن تتقدم الغاية على الوسيلة، وأن تكون الأولوية للاستراتيجي على حساب المرحلي، فلا يضيع الهدف في زحمة البحث عن الطرق، ولا ينحرف بنا الطريق من كثرة النظر إلى الوراء. وفي الوقت ذاته، لا بد أن تكون النظرة للمشكلات نظرة تحليلية شمولية، ولا بد أن يكون تناول الأزمة تناولاً غير مرحلي وغير مجتزأ، فلا تشغلنا التفاصيل عن الجوهر، ولا ننصرف إلى أعراض المرض بدل أن نعالج العلة.

تقول الأسطورة اليونانية، إن الآلهة غضبت من جرأة سيزيف فحكمت عليه بأن يحمل صخرة كبيرة إلى قمة الجبل. وكان سيزيف كلما اقترب من القمة، تسقط الصخرة عن كتفيه عائدة إلى السفح، ليتبعها سيزيف ويحملها ويحملها من جديد. وهكذا يتكرر الصعود ويتكرر السقوط، في جهد بلا طائل، وعذاب بلا نهاية.

والعديد من مفكري الخليج يعتقد أن الكويت محكومة بوضعية سيزيفية جزاء تمردها، قبل خمسين عاماً، على بيئتها تحت شعارات الديمقراطية والمشاركة الشعبية. فهي، منذ ذلك الحين، تحمل آمالها على كتفيها وتحاول أن ترتقي الجبل، وقبل أن تصل إلى غايتها، تتهاوى الآمال عائدة إلى السفح... وتتكرر، بلا نتيجة، محاولات الصعود، لتتكرر، بمأساوية، مرات السقوط، فيغدو التاريخ عبثاً وتكراراً، بدل أن يكون تراكماً وازدهاراً.

ويكاد الكاتب السعودي خالد الدخيل أن يتفق مع هذا الرأي حين يجد في تصريح الشيخ جابر المبارك الصباح 'يجب ألا نسكت ونحن نرى وطننا يحترق'، دليلاً على أن 'تجربة الكويت السياسية والثقافية لنصف قرن مهددة برياح الطائفية والقبلية. وهذا يعني أن التجربة تعاني من أخطاء وثغرات كبيرة في التعليم، وفي الثقافة السياسية، وفي الممارسة الانتخابية، وفي مسيرة التنمية'.

من هذا كله، يمكننا التأكيد على أن خطورة 'حالة فقدان التوازن' التي عاشتها الكويت خلال الشهرين الماضيين لا تنطلق من أحداثها المدانة المستنكرة، ولا من اصطفافاتها الهشة المستنفرة، بل تنبثق من دلالاتها الصارخة على عمق أزمة الحكم والديمقراطية والتنمية في الكويت.

الجريدة


0109111501224l5xy73041.jpg


زمة الحكم والديمقراطية والتنمية (2)


في الافتتاحية - الدراسة 'وطن في خطر'، وقفنا أمس أمام أزمة الحكم والديمقراطية والتنمية في الكويت، ووعدنا بمحاولة متواضعة لتحليل أسباب هذه الأزمة وتداعياتها. وأملنا أن تساهم النقاط التالية في تحقيق ذلك:

1 - رغم مرور قرابة نصف قرن على التجربة الديمقراطية الكويتية، لم ينجح الكويتيون حتى الآن في ترسيخ توافق صادق على مفهوم واضح للديمقراطية التي يريدون. ولهذا نلاحظ أن الحكم ومجلس الأمة يعلنان، لاعتبارات متناقضة، تمسكَهما بالدستور، وأن الطرفين، ولاعتبارات متناقضة أيضاً، يتهيبان السعي إلى تطويره نحو 'المزيد من ضمانات الحرية والمساواة'. ولعل أخطر إفرازات الضبابية الشديدة التي تكتنف مفهوم الديمقراطية الكويتية، وجود تيارات تختزل الديمقراطية بالعملية الانتخابية لاختيار أهل الحل والعقد، وترى أن كل ما عداها يجب أن يخضع لمفاهيمها في الحياة العامة والحياة الخاصة، وفي الثقافة والإعلام والاقتصاد والمجتمع المدني. وهي تيارات ترفض، بالتالي، 'قبولَ الآخر بتسامح وتفهم وتعاون' باعتباره ركناً أساسياً من أركان الديمقراطية، لا يقل أهمية عن شروط الحرية، والعدل، والمساواة، وسيادة القانون، والفصل بين السلطات، والنظام الانتخابي السليم، والمجتمع المدني المتحرر من وصاية الحكومة. ويقول علي فهد الزميع في هذا الصدد: 'كل التيارات السياسية والفكرية الرئيسية في الكويت، بلا استثناء، تشترك في مشكلة تغليب المصلحة السياسية على المصلحة الوطنية... وكل هذه التيارات يؤمن بنظرية الفسطاطين، إما معه وإما ضده... ومسيرة الإصلاح السياسي تتطلب أن تتخلى هذه التيارات عن ثقافة تغليب مصالحها السياسية على المصلحة الوطنية، وأن يقبل الجميع بالحوار الموضوعي'.

2 - يعتبر خلدون النقيب أن 'القبيلة السياسية شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي، تعمل فيه تسمية القرابة على تقوية الولاءات الوشائجية كأداة فاعلة في تحفيز الأفراد والجماعات وتعبئتهم. كما يتم عبر البنية القبلية دعم القدرة على توجيه السلطة وعلى اجتذاب المكافآت والمنافع'. ومن جهة أخرى، يرى خالد الدخيل أن 'الطائفية مكون أيديولوجي راسخ في الثقافة الدينية للمجتمعات العربية والإسلامية، ومن ثم فهي تنتظر العامل المحفز الذي يحرك مكامنها، سواء كان هذا العامل داخلياً أو خارجياً أو تضافراً بين الاثنين'.
في عالمنا العربي الإسلامي إذن، ومنه الكويت، تعتبر القبلية والطائفية من أهم المكونات الأيديولوجية الراسخة لمجتمعاتنا، تكمنان حيناً وتظهران حيناً، تضعفان أو تقويان، ولكنهما تبقيان فاعلتين مؤثرتين بدرجة أو بأخرى.

إن هاتين الظاهرتين القويتين في الكويت جديرتان ببحث عميق، ليس بهدف التخطيط لإلغائهما أو الاصطدام معهما، بل بغرض التعامل معهما كحقيقتين واقعيتين، والسعي إلى إيجاد البيئة الوطنية القائمة على الحرية والمساواة وسيادة القانون، والتي يمكن في إطارها توظيفهما في خدمة الوطن، وفي دعم ركائز الدولة، والدفع في تنفيذ الإصلاح السياسي. ولعل هذا ما قصد إليه سعدالله ونوس حين قال: 'إن الديمقراطية والتعددية والحرية تحتاج إلى مران تاريخي طويل، وإلى ممارسة يومية، حتى تتحول جزءاً عضوياً من تكويننا الفكري والمجتمعي'. وفي ذات الصدد والاتجاه، يذكرنا جان جاك روسو مراراً في عقده الاجتماعي بأن 'تغيراً كمياً معيناً في حجم الدولة أو عدد سكانها من شأنه أن يؤدي إلى تغيير نوعي في نظام هذه الدولة وفي طابع سلطتها السياسية'. وفي اعتقادنا، أن الكويت شهدت منذ استقلالها حتى الآن تطوراً كبيراً في حجمها السكاني وفي عدد مواطنيها، واكبه تطور بذات القوة والتأثير في بنيتها الاقتصادية والاجتماعية، دون أن تشهد تغييرات تنظيمية وفكرية وسياسية تستوعب هذه التطورات.

3 - من أول شروط الديمقراطية نجاح العملية التنموية إنتاجاً وتوزيعاً، وتعليماً وصحة. ومن المؤسف فعلاً أنه رغم كل محاولات التخطيط، ورغم كل الإيرادات النفطية، ورغم ارتفاع معدل دخل المواطن إلى مستويات الدخل في الدول الأكثر تقدماً، فإن التنمية، بمضامينها الاجتماعية والاقتصادية على حد سواء، لم تحقق نجاحات تحتسب لمصلحة النظام الديمقراطي. فما زال اعتمادنا على ثروة ناضبة يزداد عمقاً، وما زال هيكل السكان والعمالة يزداد خللاً، وما زالت الكويت في مراتب متأخرة من حيث التنافسية الدولية، والبيئة الاستثمارية، والكفاءة البيروقراطية، ومن حيث التقدم العلمي والتعليم العالي، والخدمات الصحية علماً بأنها صاحبة أحد أعلى المعدلات العالمية في الإنفاق على الصحة والتعليم. وبسبب هذا الإخفاق التنموي، ترسخت مفاهيم الدولة الرعوية وتضخمت مطالبها وامتيازاتها حتى استأثرت بثلاثة أرباع الإنفاق العام الجاري. وفي دولة رعوية يعتمد مواطنوها على 'رعاية الدولة من المهد إلى اللحد' دون أن يكون لهم مساهمة حقيقية في إيراداتها، يصعب علينا أن نتكلم بجدية ومسؤولية عن الديمقراطية والحقوق السياسية، لأن مثل هذه الحقوق يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحجم مكافئ من الالتزامات الوطنية. أما في الكويت، فإن مطالبة المواطنين بحقوقهم السياسية وبتعزيز المسيرة الديمقراطية تسير بخط متواز مع احتدام الصراع على اقتسام الثروة الوطنية، وعلى توزيع المال العام من خلال المزايا والمنح وتضخم تكاليف الدولة الرعوية.

4 - من المعروف أن الحكومة ليست بريئة من تهمة 'إفساد الديمقراطية' إن صح التعبير، فدورها بهذه العملية يبدو واضحاً في محاولاتها المستمرة تشريعياً وتنظيمياً للتأثير في تشكيل مجلس الأمة، كما يبدو واضحاً من خلال توجيه الإعلام، ومن خلال المساهمة في تدخل المال السياسي، أو غض النظر عن هذا التدخل. غير أن هذه الحقيقة يجب أنْ لا تنسينا أنّ نواب الأمة، وللأسف الشديد، يلعبون دوراً مساوياً وموازياً في هذا الاتجاه، ويتجلى هذا الدور بصورة رئيسية بما يدعيه النواب لأنفسهم، داخل قاعة عبدالله السالم وخارجها، من مكانة متميزة، ومن سلطة شاملة، ومن احتكار للحق واستئثار بالحقيقة. وأغلب نواب الخدمات كما يقال عنهم وسطاء لمن لا حق له، وشفعاء لمن خالف القانون، وفي سباق دائم مع السلطة في ميدان المجاملة على حساب الوطن، وعلى حساب هيبة القانون وسيادته. وقد تسارعت عملية إفساد الديمقراطية مؤخراً، بسبب انحدار الخطاب النيابي إلى مستويات معيبة.

إن ألد أعداء الديمقراطية الكويتية اليوم هم الديمقراطيون الفاسدون، لأنهم يهزون شرعية المقعد النيابي، ويحولون دور مجلس الأمة من التشريع إلى إضفاء الشرعية، ومن الرقابة على الحكومة إلى ترقب الوصول إلى حقائبها أو شيكاتها. وإفساد الديمقراطية، حسب رأي إسماعيل الشطي، 'أشد خطراً من فرض نظام شمولي، فالأنظمة الشمولية لا تحتاج إلى عناء في تعبئة الرأي العام ضدها، ولكن إفساد الديمقراطية من شأنه زعزعة ثقة الناس وإيمانهم بجدواها'.

5 - لعل من أهم أسباب غياب ثقافة سيادة القانون وضعف هيبة السلطة في الكويت ما اصطلح على الإشارة إليه 'بترتيب بيت الحكم'، فضلاً عن دخول العديد من أبناء الأسرة في سباقات فيما بينهم، وفي مزايدات بينهم وبين التيارات السياسية المختلفة لكسب ود المجموعات الشعبية المختلفة، وهي سباقات لا تنسجم أدواتها وغاياتها مع أعمدة الديمقراطية الثلاثة: العدل والمساواة ومصلحة الوطن. ويعبر علي الزميع عن هذا الرأي بالقول 'إن خلافات أجنحة الأسرة الحاكمة ألقت بظلالها، وأصبحت من أكبر العقبات أمام تفعيل اتخاذ القرار في مؤسسة الحكم'. وهذا ما أكده عبدالله بشارة أيضاً بمقال جاء فيه: 'ولم تأت هذه السيريالية السخيفة إلى المشهد الكويتي فجأة وإنما هيأت لها بيئة لم يعد فيها احترام للسلطة، وليس فيها هيبة للقانون، ولا معنى فيها لمقام المؤسسات... وعندما تتآكل سطوة القانون، تتسلل الرخاوة إلى هيكلة الدولة، وعندها تنهج السلطة سياسة المجاملات وتتجمل بالمظاهر لكسب جميع أطياف المجتمع وضمان دعمها ومؤازرتها'.


الجريدة


0109111501224l5xy73041.jpg


تحرير السياسة والتحرر منها (3)


يفترض بهذه الافتتاحية ثلاثية الحلقات، أن تنتهي في حلقتها الأخيرة هذه إلى طرح أولي، على الأقل، لملامح مشروع إصلاحي، يُخرج الكويت من أزمتها السياسية المتطاولة والمتصاعدة، غير أننا لن نفعل ذلك.

لن نفعل ذلك، لأننا، بكل بساطة، لسنا من الغرور بحيث نعتقد أن في مقدورنا أن نتصدى لمثل هذه المهمة.

ولن نفعل ذلك، لأننا، بكل صراحة، لسنا من الشجاعة بحيث نقدم على مغامرة كهذه، لا نملك من أدواتها إلا عدم اليقين.

غير أنَّ إقرارنا بالعجز عن طرح مخرج من الأزمة، لا يمنعنا من عرض مجموعة من الشروط التي نعتقد أنه لا مخرج للكويت من أزمة الحكم والديمقراطية والتنمية إلا في إطارها ومن خلالها.

أول هذه الشروط وأهمها في اعتقادنا، هو 'ترتيب بيت الحكم'؛ فالدستور الكويتي ينص على أن 'الكويت إمارة وراثية في ذرية المغفور له مبارك الصباح'، كما ينص على أن يتولى الأمير السلطة التشريعية مع مجلس الأمة، والسلطة التنفيذية مع مجلس الوزراء والوزراء، وأن تتولى المحاكم السلطة القضائية باسم الامير. والشعب الكويتي متمسك بخياره التاريخي هذا نصاً وروحاً، والكويتيون مجمعون على أن ولاية آل الصباح لا تستند إلى الشرعية الدستورية فحسب، بل تستند أيضاً وأولاً إلى الشرعية الشعبية الوطنية إن صح التعبير. ولن نجد تأكيداً لهذه الحقيقة أوجز وأبلغ مما استهل به عبدالعزيز حمد الصقر خطابه في مؤتمر جدة، وفي أصعب ظروف الاحتلال وأقساها، حين قال: 'إن مبايعة الكويتيين لآل الصباح لم تكن يوماً موضع جدل لتؤكد، ولا مجال نقض لتجدد، ولا ارتبطت بموعد لتمدد، بل هي بدأت محبة واتساقاً، واستمرت تعاوناً واتفاقاً، ثم تكرست دستوراً وميثاقاً...'.
وهذا الترابط العضوي الوثيق بين الكيان السياسي الكويتي والأسرة الحاكمة، يجعل من 'ترتيب بيت الحكم' المسؤولية الوطنية الأهم والمصلحة الكويتية الأعلى، التي لا يمكن أن يختص بها إلا حضرة صاحب السمو الأمير، ولا يمكن أن ينهض بها إلا بيت الحكم ذاته. وكل مشروع إصلاحي يهدف إلى الخروج بالكويت من أزمتها السياسية لا يمكن أن يكون له أدنى نصيب من النجاح، ما لم يتم في ظل ترتيب بيت الحكم ورسم تراتبيّته، بما يحقق تكاتف أسرته ووحدة توجهاتها ورؤاها. وبغير توفر هذا الشرط يتعذر صون هيبة الحكم، وفرض سيادة القانون، وتحقيق فصل السلطات دون أن تبغي إحداها على غيرها، أو تتنازل إحداها عن مساحة من اختصاصها.

والشرط الثاني لخروج الكويت من أزمتها السياسية هو نشر وفرض ثقافة سيادة القانون؛ وتحقيق هذا الشرط يبدأ مع مرحلة بناء القانون لضمان عدالته وتوازنه، ووضوحه وشفافيته، وأبعاده التنموية وانعكاساته. وبعد صياغة القانون وإقراره، يأتي الحسم في الأخذ به، والحزم في تنفيذه، وتضييق أبواب الاستثناء والاستنساب إلى أبعد حدٍ ممكن، فلا يكون التشريع ليناً مع البعض صارماً مع غيرهم؛ حتى يشعر الجميع أنهم مواطنون سواسية أمام القانون، في وطن عادل، وفي ظل حكم صالح.

إن سيادة القانون لا تتعارض مع مفاهيم دولة الرفاه، بل تدعمها، ولا تتناقض مع الحريات العامة والخاصة، بل تحميها. وأخطر ما يمزق النسيج الاجتماعي لأية دولة هو شعور المواطنين بالغربة في بلادهم، ومعاناتهم من التمييز الظالم أمام أجهزتهم القضائية. ومن هنا، تأتي سيادة القانون كشرط أساسي للنجاح في توظيف الروح القبلية مكوناً فاعلاً في الوحدة الوطنية، وللنجاح في توطين المعتقد الطائفي ليكون عنصر إثراء ثقافي وحضاري، بدل أن يكون مثار ارتياب في الولاء الوطني. فضلاً عن أن سيادة القانون تعتبر المدخل الأرحب للارتقاء بأداء مجلس الأمة، ووقف السباق المحموم على مجاملة المواطنين بكل أشكاله وتكاليفه.

أما الشرط الثالث؛ لخروج الكويت من الأزمة السياسية المتكررة، فهو ما يمكن الاصطلاح على تسميته تحرير السياسة والتحرر منها؛ وفي هذا الاتجاه يرى عبدالله العروي في كتابه 'ديوان السياسة'، أن اختصاص البرلمان هو تشخيص المصلحة العامة، وتوكيل الحكومة بتحديد طرق تحقيق هذه المصلحة، ثم مراقبتها ومحاسبتها على أدائها. أما قضايا التقوى، والفلسفة، والعلم والفن، والرياضة والذوق، فهي خارج اختصاص البرلمان. ويشرح العروي فكرته هذه فيقول إن الدول الديمقراطية فعلاً تمارس السياسة كثيراً وتتكلم فيها قليلاً. أما في بلادنا، فالحاصل هو العكس. وتدخّل السياسة في كل مجال هو، بالضبط، ما يجعلها عقيمة في بلادنا، حيث تحمل السياسة كل القضايا على أكتافها، فتسقط تحت ثقل حملها، ويسقط معها كل شيء. أما في الدول الديمقراطية، فإن نطاق السياسة ينحصر في اختصاصاتها، فيرتقي أداؤها وتعلو قيمتها. فالديمقراطية الصحيحة، إذن، تقتضي تحرير السياسة من كل المجالات التي لا تناسبها، كما تقتضي استقلال كل هذه المجالات عن السياسة، وبذلك يتم التألق والنبوغ في هذه وفي تلك.

وإذا كان العروي قد أورد التقوى والعلم والفن والرياضة والذوق... كأمثلة على المجالات التي يجب أن تستقل عن السياسة، كما يجب أن تتحلل السياسة من أعبائها، فإننا في الكويت نستطيع أن نضيف إلى ذلك مئات الأمثلة الأخرى، بدءاً من ضوابط الحفلات وانتهاء بلحى العسكريين.

الشرط الرابع الذي نرى فيه ضرورة لخروج الكويت من أزمتها السياسية هو ضرورة قراءة التحولات الاجتماعية والديمقراطية والاقتصادية والتقنية قراءة صحيحة، والعمل على إحداث التغييرات المناسبة والكفيلة باستيعابها وتوجيهها نحو خدمة التنمية وتعزيز الوحدة الوطنية. فالتغيير هو الضمانة الحقيقية للاستقرار. والتاريخ السياسي حافل بنماذج الدول التي سادت ثم بادت لأنها أخفقت في قراءة التحولات واستقراء التطورات، وبالتالي، تأخرت في إحداث التغييرات اللازمة بأسلوب هادئ وتدريجي، إلى أن فرضت هذه التغييرات نفسها بطريقة خاطئة مدمرة. ولا نعرف لماذا يلح علينا في هذا المقام قول محمد جابر الأنصاري: 'لا بد من الحذر من القوى التي تثير غريزة الشارع وتنال دعمه بتأثير الغيبيات أو المحرمات أو الظلم والهزائم... فهي إذا وصلت للسلطة تقضي على الديمقراطية تماماً. كما لا نعرف لماذا يلح علينا التذكير بما قاله مؤرخون أوروبيون كثيرون، في حقبتين مختلفتين، عندما فسروا هزيمة الرايخ الألماني وتفكك الاتحاد السوفياتي، بأن كلاً منهما كان نبتة في غير أرضها. وكم نخشى، إذا لم تطور الكويت ديمقراطيتها 'نحو مزيد من ضمانات الحرية والمساواة'، أن يقول المؤرخون الخليجيون يوماً إن الديمقراطية الكويتية كانت نبتة في غير بيئتها'.
وأخيراً،

لن نلتزم الأسلوب التقليدي في خاتمة مثل هذه المقالات؛

لن نتغنى بأمجاد الماضي على صدقها. لن نستلهم أرواح الرواد على طهرها.

لن نستنهض العادات العريقة والتقاليد الأصيلة على أهميتها.

لن نلقي بوزر خطايانا على أكتاف قوى خفية لا تريد بنا خيراً.

ولن نبرر أخطاءنا بالأفكار المستوردة التي أورثتنا شراً.

لن نجامل ولن نتجمل.

ما عاد الحزن يكفي... ما عاد الكلام يجدي.
إن وطني في خطر... إن وطني في خطر.


 

عبيرالعطفي

عضو جديد
ربك كريم والله خير الحافظين .... هذا طابع الامة بهذا الزمن
بارك الله فيك على هذا الطرح الطيب واتمنى من الجميع يشعر ما تود توصيله
شكرررررا .... .:إستحسان:
 

Adviser

عضو جديد
ربك كريم والله خير الحافظين .... هذا طابع الامة بهذا الزمن
بارك الله فيك على هذا الطرح الطيب واتمنى من الجميع يشعر ما تود توصيله
شكرررررا .... .:إستحسان:

الله كريم
وكل الشكر لكِ اختي الكريمة
 
أعلى