المشهد الرابع ( هل يمكن أن تؤثر الصدامات على تماسك المصريين ؟ ١ )
لكي أجيب على هذا السؤال لابد وأن أمهد لما رأيته بعيني في أرض مصر , كنت أخاف في السنوات الثلاثة الأخيرة على وجه الخصوص من تماسك الشعب المصري , وكنت أخاف على بلادي والتي هي عقل الأمة العربية والإسلامية من إنفساخ التماسك بينهم , وكان هذا رأي الكثير من الناس هنا أيضا أي تغير المنهج الفكري لدى الشباب وإنغماسهم في أمور تجعلهم بعيدون عن فهم قصة الوطن وأهميته لدينه وأمنه وإستقراره , وأمسوا يتعاملون مع مسألة الوطن على أساس أنه شيء ليس له قيمة , فالجميع إلا من رحم الله يسب ويشتم في بلاده ويتناول هذا الهجوم في كل شيء : التعليم والصحة والكرامة وغير ذلك.
ولكن الذي أذهلني حقيقة هو ما رأيته في أرض مصر , فما أن بدأت الشائعات بخروج المسجلين خطر على الناس , واستغلالهم لخروج الشرطة من الطرقات والشوارع , دبت في الناس حالة من حالات النظام السريع , فنزل الناس جميعا من البيوت والعمارات والفلل والقصور , والتحم الجميع في صورة جميلة للغاية جدا , فنزل الجميع وأقاموا اللجان الشعبية في الطرقات الجميع بلا إستثناء , فوقف الغني بجانب الفقير والمالك والحارس كلهم في الطرقات , يحمون الناس ويطمأنون الخائفين في البيوت ويحمون الممتلكات , وقد سعدت بهذه الروح الكبيرة التي دبت في الناس , وعلمت أنه ليس فقط حاجز الخوف الذي تم كسره وإنما أيضا حاجز بغض الوطن والذي انقلب إلى حب ومسئولية عظيمة , وتغيرت أخلاق الناس بطريقة كبيرة جدا وملحوظة.
قبل هذه الأحداث بأيام كنت أشتكي من الإنحدار في أخلاق الناس لاسيما في مجال المرور مثلا , فلا أحد يصبر على الآخر وليس هناك من إنسان إلا ويسرع ليلحق قبل الآخر , المهم كنت أشتكي من هذا الذي أراه في أخلاق الناس ولكن الأمر تغير تماما بعد يوم الجمعة , ارتسمت الإبتسامة على وجوه الناس , ورجعوا إلى أخلاقهم القديمة , فهذا يفسح لذاك والآخر يساعد هذا , فإذا وقفت في المحلات ساعدك الناس على وضع أشياءك في الأكياس , ونزل الشباب إلى الشوارع لكنسها وتسيير المرور بها , في الحقيقة كان الأمر شبيه بصدمة أرجعت الناس إلى أصلهم وفصلهم وما يجب أن يكونوا عليه.
كانت هذه هي أفضل منحة من هذه المحنة التي تمر بها الأمة المصرية , فقد رجع الناس أحبابا وإخوانا , ورأيت جيراني الذين لم أراهم من سنين طويلة وجلسنا في الطريق الذي نقطعه سريعا ونحن نمر بالسيارات فإذا بها أصبحت مجالسنا التي نجلس فيها قبل بدء حذر التجول إلى الصباح , نهتم بمن يمر ونفتش السيارات ونساعد الناس التي انقطعت بهم السبل في الوصول إلى منازلهم لاسيما في الأيام الأولى , فكانت ملحمة وطنية شعبية , تناولنا فيها كل الأمور والموضوعات بغير سقف للكلام , وشعر البسطاء بالحرية الكاملة في الحديث عن كل شيء من أول إنسان إلى آخره , وفتح الجميع ما يمسك به وما كان يكتمه , وتناقشت العقول وانتقلت الأفكار وعرف الجيران بعضهم البعض
...
...