ازمة الائتمان الامريكية تهدد الاقتصاد العالمي

تشهد الاسواق العالمية حالة من التوتر والاضطراب، بسبب تفاعلات ازمة الائتمان في سوق الرهن العقاري الثانوي الامريكي. اندلعت الازمة على خلفية عجز اعداد متزايدة من المقترضين الامريكيين عن سداد قروض الاسكان، التي مُنحت لهم برهونات وضمانات غير كافية. قاد هذا الوضع لخسارة 25 الفا منهم لمنازلهم، وافلاس بعض شركات القروض العقارية والبنوك وصناديق التحوط وتراجع المؤشرات في بورصات عديدة في انحاء مختلفة من العالم.

كنتيجة مباشرة للازمة اعلن احد البنوك الامريكية عن افلاسه، كما اعلن بنك "بي. ان. بي. باريبا"، من اكبر البنوك الفرنسية وثاني اهم بنك في السوق الاوروبية، عن تجميد استثمارات بنحو 2.3 مليار دولار. ردا على ذلك لجأت البنوك المركزية العالمية، في خطوة استثنائية، الى ضخ سيولة كبيرة للاسواق بهدف احتواء الازمة، وتهدئة المخاوف من النقص في السيولة والحد من ارتفاع اضافي في تكلفة الائتمان.

في اطار مساعي الانقاذ، ضخ البنك المركزي الاوروبي نحو 150 مليار دولار فيما ضخّ البنك المركزي الامريكي 35 مليار دولار والياباني 9 مليار دولار والاسترالي 4 مليارات دولار والمركزي النرويجي 7,8 مليارات دولار. كما بحث البنك المركزي الالماني خطة لانقاذ بنك أي. كي. بي. الذي تضرر هو الآخر بازمة الائتمان العقاري.

وقد راقب العالم بقلق كبير تدخل البنوك بهذا الشكل، مما كشف عن حدة الازمة واتساعها على نطاق عالمي. وضمن تفاعلات الازمة، تراجعت مؤشرات الاسهم في بورصات العالم المختلفة، من الولايات المتحدة والبرازيل حتى استراليا مرورا باوروبا واليابان.


اقتصاد الكازينو

لقد كشفت هذه الازمة شيئا جديدا عن طبيعة الاقتصاد الرأسمالي، الامريكي تحديدا، وهو السعي لجني الارباح الهائلة والسريعة من خلال المجازفة، ليس على اساس انتاج حقيقي. بعد الازمة المالية الكبيرة التي تجلت في انهيار مؤشر التكنولوجيا المتطورة "ناسداك" عام 2000، على خلفية التلاعب في سجل حسابات الشركات وتوقعات وهمية بالنسبة لقدرة الانترنت على إحداث نمو اقتصادي غير محدود، فقد وجد رأس المال مجالا آخر لزيادة ارباحه، هو مجال الائتمان والقروض. غير ان الفارق بين المجالين نوعي وخطير. ففي حين اعتمد مجال الانترنت على منتجات حقيقية ووعد بثورة اقتصادية، يعتمد مجال الائتمان على المقامرة في اسواق المال تماما كما يحدث في الكازينو.

هذا الكازينو عبارة عن مؤسسات مالية نخبوية تُعرف باسم "صناديق التحوط" (Hedge Funds)، وهي ليست مفتوحة لعامة الشعب، بل للاثرياء فقط. كل صندوق يمكن ان يستوعب 500 مستثمر كاقصى حد، يدفع كل منهم رسوم اشتراك بقيمة مليون دولار كادنى حد. ويصل اجر مدير الصندوق الى 1-2% من قيمة الاصول (assets) و20% من الارباح. والاهم ان صندوق التحوط غير مسجل، ولا يخضع للرقابة مثل صناديق الاستثمار العادية.

السيولة النقدية الهائلة والمكسب السريع، قادا لانتشار ظاهرة صناديق التحوط في انحاء العالم، حتى باتت توصف بانها مالكة الكون، اذ تسيطر على ثلث مداولات الاسهم، وبحوزتها أصول بقيمة 2 تريليون دولار (تريليون يساوي الف مليار). في عام 2006 وصلت اجور بعض مدراء صناديق التحوط الرئيسية الى مليار دولار.

تعمل هذه الصناديق على اساس الاقتراض من مؤسسات مالية كالبنوك باسعار فائدة منخفضة، ثم تستثمر هذه الاموال مقابل فوائد مرتفعة وتربح من الفرقية بين القيمتين، وهو ما يسمى "الرفع المالي". حول هذه الطريقة وتأثيرها على عولمة الازمة، يكتب الخبير الاقتصادي كينيث روجوف في موقع "الاقتصادية" الالكتروني (13/9):

"ان صناديق التحوط اقترضت مئات مليارات الدولارات باسعار فائدة منخفضة للغاية من اليابان، ثم استثمرت ارباحها في بلدان مثل البرازيل وتركيا، حيث اسعار الفائدة مرتفعة. وطالما ظل الين ضعيفا فان هذه الاستراتيجية الاستثمارية ستظل تعمل وكأنها ماكينة نقود. ولكن اذا ما ارتفع سعر الين بصورة حادة، كما قد يحدث بسهولة نظرا للفائض الهائل لدى اليابان في حسابها الجاري، فلسوف تتحمل بعض صناديق التحوط خسائر مالية فادحة وتنهار التجارة المحملة على الين بصورة عنيفة".


رهان على الخسائر!

استثمرت صناديق التحوط بما صار يعرف ب"الادوات المالية" التي تدرّ ارباحا خيالية. فما هي هذه الادوات وما علاقتها بازمة الائتمان العقاري التي تهدد العالم؟ يُقصد بالادوات المالية ما يسمى ب"مشتقات الائتمان"، وهي عملية تحويل القروض المختلفة، مثل قرض الرهن العقاري وغيره، الى سندات يمكن تداولها في الاسواق المالية.

احدى هذه "الادوات المالية" كان التداول بسندات معتمدة على القروض الممنوحة في سوق القروض العقارية الثانوية (subprime). خلافا لسوق القروض الرئيسية، تقوم شركات القروض في السوق الثانوية بمنح قروض إسكان (ماشكانتا) مسهَّلة لزبائن لا يتمتعون بتاريخ ائتماني جيد، بمعنى انهم يحصلون على قروض دون دفع أي سلفة ودون اثباتات موثّقة حول احجام وقيم اجورهم وممتلكاتهم. المهم تشجيعهم على الاقتراض لجباية ارباح من الفوائد. ووصلت قيمة سندات هذه السوق منذ عام 2000 الى 1,8 تريليون دولار.

وقد قام صندوقا التحوط التابعان لشركة "بير-ستيرنز"، البنك الاستثماري النيويوركي، بجمع مئات ملايين الدولارات من مستثمرين اثرياء، واقترضا اضعاف المبلغ من البنوك الكبيرة في وول ستريت، وبدآ التداول بسندات سوق القروض العقارية الثانوية، حتى اعلنا افلاسهما.

ولم تتوقف المجازفة عند حد الاستثمار في سندات قروض أُعطيت بلا ضمانات، بل حدث ما هو اخطر. احد "المشتقات الائتمانية" الاخرى، التي من شأنها ان تفسر حجم خطورة المقامرة التي دخلت فيها صناديق التحوط، هو الرهان حتى على انقباض سوق الائتمان، وعلى تراجع قيمة الاوراق المالية المدعومة باصول والمعروفة باسم "التزامات الدين المضمونة"، ومن ضمنها القروض السكنية في السوق الثانوية.

وقد نشرت "الاقتصادية" ان احد مدراء صناديق التحوط راهن على خسارة مؤشر اي. بي. اكس. للسندات القائمة على قروض الرهن العقاري في السوق الثانوية، واستطاع تحقيق الربح حين انهارت اسعار السندات المذكورة. كيف حقق ذلك؟ يشير المصدر ان هذا المدير اشترى عقود تأمين لحماية 30 سندا ضد احتمال العجز عن سداد القروض، ودفع فعليا 0.6% من قيمة السندات في السنة. يزيد المصدر انه "في حال تم استرجاع القروض يكون قد خسر مبلغ التأمين الذي دفعه فقط، وقيمته 0.6% في السنة، اما العائد المحتمل اذا عجزت المؤسسات عن تسديد قيمة جميع السندات فسيكون 100%. وهو يتوقع الآن على خلفية ازمة الائتمان ان يربح بنسبة 100% على نحو 20 سندا". وتشير قصة هذا المدير الى ان هناك من يربح 100% على استثماراته، بينما لا توفر البنوك العادية للمستثمر العادي فائدة اكثر من 4%.


ارباح على حساب الشعب الفقير

تأمل الاساس الذي انبنى عليه هذا الهرم، والذي احتل ثلث التجارة العالمية، يثير الدهشة والاستغراب. فكما اسلفنا، جاءت المتاجرة والأرباح استنادا على قروض مُنحت لاشخاص لا معاش جدي لهم ولا ممتلكات. في الوضع الطبيعي يتوجه الذين يريدون شراء بيت ويتمتعون بدخل ثابت، الى احد بنوك الاسكان العادية في سوق القروض العقارية المضمونة، ومقابل رهونات من الدرجة الاولى يحصلون على اسعار فائدة اقل. ولكن بدعم من الادارة الامريكية والبنوك الكبرى تم تشجيع الناس على تملك البيوت، رغم عدم حيازتهم ضمانات لسداد الدين.

جاء هذا على خلفية قيام البنك الفيدرالي الامريكي بخفض نسبة الفائدة، لتشجيع الاستثمار واعادة النمو للاقتصاد الامريكي الذي تضعضع نتيجة انهيار البورصة " عام 2000 وأحداث 11 سبتمبر 2001. وكانت البورصة الامريكية في تلك الفترة قد انخفضت الى ادنى مستوياتها، بسبب ابتعاد الجمهور عن الاستثمار في الاسهم، بعد ان فقدوا مدخراتهم في صناديق التقاعد المستثمرة في البورصة، نتيجة خداع واختلاس وتلاعب مدراء الشركات واشهرها "انرون". بعد هذه الفضيحة، لجأ البنك الفيدرالي لخفض نسبة الفائدة، وخلق امام رأس المال مجالا جديدا لاستثماراته وهو سوق العقارات.

القروض الرخيصة (بسبب الفائدة المنخفضة) لم تُوجَّه لتشجيع الاستثمار في الصناعة، بل في مجال له طابع المجازفة ومعرّض لقانون العرض والطلب. فبسبب القروض المخفضة زاد الطلب على العقارات، حتى ارتفعت اسعارها في مناطق مثل نيويورك وكاليفورنيا الى ارقام قياسية، حيث يصل ايجار شقة صغيرة مساحتها 50 مترا مربعا الى 12.000 دولار شهريا! فقاعة العقارات تشبه فقاعة اسهم الانترنت التي شهدناها قبل عقد من الزمن والتي انفجرت عام 2000. اما في اطراف ومركز الولايات المتحدة الفقير، فقد نمت شركات الرهن العقاري الثانوي، والتي دفعت بالجمهور للاقتراض دون حاجة لدفع أي مبلغ مقدمًّا.

احدى اهم شركات الرهن العقاري الثانوي هي "كانتري وايد" التي منحت قروضا بقيمة 500 مليار دولار، وتشغّل 62 الف موظف، وتمتلك 900 مكتب واصولا بقيمة 200 مليار دولار. منحت هذه الشركة 240 الف قرض على مدار ال12 شهرا الاخيرة. ومصدر اضافي لدخل الشركة كان من جباية اقساط القروض من المقترضين لصالح شركات استثمارية اخرى. وقد وصل عدد هذه القروض الى 8.2 مليون قرض، وبلغت قيمتها 1.4 تريليون دولار. على ضوء هذا النشاط الكثيف حققت الشركة ارباحا بقيمة 660 مليون دولار في عام 2006 وحده. من هنا يمكننا ان نفهم لماذا اشترت صناديق التحوط سندات مدعومة من هذه الشركة.

نسبة الفائدة التي كان على المقترض الالتزام بها لم تكن ثابتة، فعندما زاد البنك الفيدرالي الامريكي نسبة الفائدة ارتفع بالتالي المبلغ الشهري الذي كان على المقترض ان يدفعه. واذا اخذنا بعين الاعتبار ان المقترضين كانوا بمعظمهم من الطبقة العاملة الفقيرة، والتي تواجه تقلّبا في وضع البطالة، يمكن تفسير السبب في التخلف عن دفع الاقساط الشهرية. وجر هذا فرض غرامات كبيرة عليهم، اعاقتهم عن الدفع اطلاقا. وقامت الشركات باسترداد العقارات من الناس الذين بقوا دون سقف يحميهم. وكانت النتيجة هبوطا تلقائيا في اسعار العقارات، وبالتالي وصول الكثير من شركات الرهن العقاري الثانوي للافلاس.


منطق رأسمالي مريض

في حين قاد انهيار بورصة الاسهم في مجال التكنولوجيا المتطورة عام 2000، الى موجة استياء وعدم ثقة الجمهور بهذه الشركات، فان الأزمة الراهنة في سوق الائتمان تؤدي الى انعدام الثقة بين البنوك نفسها. لا احد من البنوك يستعجل لإقراض البنك الآخر، لأنه لا يعرف ما وضعه المالي الحقيقي، علما ان بنوكا مهمة عديدة شاركت بدرجات مختلفة في الاستثمار في سوق الرهن العقاري الثانوي من خلال صناديق التحوط الخاصة بها، والتي كما اسلفنا لا تخضع لاية رقابة ولا يمكن معرفة القيمة الحقيقية لاستثماراتها، خاصة على ضوء الازمة.

المنطق وراء رفض الادارة الامريكية فرض الرقابة على صناديق التحوط التي احتلت البورصة وباتت تهدد السوق العالمية، هو ان المبالغ التي ضخّتها هذه الصناديق للبورصة سمحت بانتعاشها. ولكن الحقيقة ان هذه الصناديق بدأت تلعب وتقامر بالائتمان نفسه الذي يشكّل ركنا اساسيا في الاقتصاد الامريكي، وحولت الرهان على الديون بكل اشكالها الى مصدر اساسي للربح.

ولم يأت هذا الرهان من فراغ، بل من الواقع الامريكي الغريب الذي يرى في الائتمان محرّكا اساسيا للنمو الاقتصادي. العائلة الامريكية مضطرة للاقتراض باستمرار لرفع مستوى معيشتها، ويتم تشجيعها طول الوقت على الاستهلاك. خلال الازمة الاخيرة مثلا، رهنت عائلات بيوتها بعد ان ارتفعت قيمتها بسبب الفقاعة، لدى شركات الرهن العقاري، وحصلت بالمقابل على مبالغ تسمح لها بدفع رسوم تعليم ابنائها في الجامعة، شراء سيارة جديدة، شراء ادوات منزلية مثل الشاشات التلفزيونية الحديثة. الطبقة الوسطى الامريكية مديونة لشركات الائتمان المختلفة التي تفرعت في شتى المجالات من العلاج الصحي، التعليم العالي، السيارات، المشاريع الاقتصادية الصغيرة وحتى حاجات الاستهلاك اليومي.

من وراء هذه السياسة يقف اصحاب رؤوس الاموال، كالكواسر تحوم في الجو وتراهن تارة لصالح شركات الائتمان، وتارة اخرى تراهن على عجزها عن جباية استحقاقاتها. مرة تغري المواطن الامريكي باستثمار توفيراته في البورصة، كما كان الحال في التسعينات، وعندما فقد كل ما يمتلكه، تدفعه لأخذ قرض دون ضمانات على ان يدفع مقابله فوائد عالية. في المرة الاولى سرق رأس المال من المواطن كل ماله، وفي المرة الثانية يُقرضه من ماله المسروق، ويجبي منه فائدة عالية، حتى يعجز عن السداد فيصادر منه بيته. في كلتا الحالتين يستفيد رأس المال الذي يعيش من المقامرة على حساب الانسان البسيط.

الازمة الراهنة ليست سوى امتداد طبيعي للازمة التي سبقتها، فالنظام الرأسمالي لم يخرج من محنته بل لا يزال يغرق فيها. انها ازمة اخلاقية، اجتماعية وسياسية في آن واحد. ان من يسيطر على العالم اقتصاديا لا يرى فائدة في الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي الذي يخلق ثروة حقيقية ويمنح العامل اساسا ماديا للحياة. ان الاستثمار الحقيقي يستوجب احترام حقوق العامل وتوفير اجر محترم له، وهذا لا يضمن للاثرياء ارباح 100 في المائة كما يريدون. ان هذا النظام يمتص دماء البشرية، يسلب من العامل توفيراته الضئيلة التي يمكن ان تضمن له مستقبله، ثم يأخذ منه بيته، مكان عمله وكرامته. هذه امريكا اليوم، وهذا شكل الرأسمالية العالمية، ولهذا السبب فهي تقضي يوما بعد يوم على اسباب وجودها.


منقول ,,,
 
أعلى