مورس ورفاقه في ضيافة بن هديـــب ...!!

885004351.jpg



مورس ورفاقه في مضارب قبيلة السبعة الوائلية



اسم الكتاب : البحث عن الحصان العربي (مأموريّة إلى الشرق) .

تاريخ الرحلة : 1323هـ / 1905م .


ترجمه من الإسبانية وعلّق عليه : د. عبدالله بن ابراهيم العمير.
الناشر : دارة الملك عبدالعزيز، الرياض، 1428هـ.




لشراء الكتاب الكترونيا

http://www.arabicbookshop.net/main/CatalogueFilter.asp?auth=Di Muros, Athbitya&sort=6&type=AUTHOR










 ​
[FONT=Arial (Arabic)][FONT=Arial (Arabic)][FONT=Arial (Arabic)]
[/FONT]​
[/FONT]​
[/FONT]
bin-hudaeb.jpg


[FONT=Arial (Arabic)][FONT=Arial (Arabic)][FONT=Arial (Arabic)]يقص مورس في رحلته زيارته لقبيلة السبعة بقيادة الشيخ فرحان[/FONT][/FONT][/FONT]
[FONT=Arial (Arabic)][FONT=Arial (Arabic)][FONT=Arial (Arabic)]
بن هديب وابنه برجس بن هديب ، وفرحان أعطي لقب

فرحان باشا من قبل الدولة العثمانية . وابنه برجس تخرج كضابط
[/FONT]
[/FONT]
[/FONT] [FONT=Arial (Arabic)][FONT=Arial (Arabic)][FONT=Arial (Arabic)]
من اسطمبول ويتقن 7 لغات




الرحالة هو : ل. اثبيتيا دي مورس، ضابط في الجيش الإسباني، أرسل من ضمن وفد إلى بلاد الشام، من قبل حكومة إسبانيا؛ لجلب الحصان العربي الأصيل؛ لتحسين السلالات الموجودة عندهم هناك.



سأكتب ماذكره عن قبيلة السبعه فقط ، اما باقي الكتاب

فيمكن شراءه الكترونيا او من المكتبة وتكملة الباقي







عشيـرة السبعة


إلى أن قال : في هذه المهمة أمضينا وقتاً طويلاً يتراوح بين ثماني ساعات وتسع، حتى أعمل فينا الحر عمله في الحادية عشرة صباحاً، عندها وصلنا إلى مضارب السبعة الواقعة في منخفض ضيق من الأرض - وإن كان ممتداً في طوله - ويسمى خطأ بالوادي وهو المعروف بمنخفض العويسية Ahuayes، وهو واد لا أودُّ حتى مجرد تذكّر اسمه.

ويضيف في نفس السياق : في ذلك المنخفض أقامت أسر هذه القبيلة العظيمة ما يقرب من أربعة آلاف خيمة (بيت)، شاغلة مساحة تصل إلى مد البصر في هذه المضارب الكثيرة السكان. وحين أصبحنا داخل هذه المنطقة تابعت قافلتنا مسيرتها في طابور عبر الدروب التي تكونت بين تلك الخيام التي نسجت من وبر الجمل وشعر الماعز القاتم دون أن نلحظ أي استغراب أو فضول من جانب السكان لحظة مرورنا بهم.

لا الرجال ولا النساء، ولا حتى الأطفال الذين مررنا بهم في طريقنا أبدوا أدنى اهتمام بوجودنا، متابعين طريقهم أو عملهم دونما اكتراث بنا. لا شئ من تلك النظرات العدوانية ولا الاستطلاعية؛ إن تعبيرات وجوههم كانت أشبه بتلك التي تبدو عليهم حين يمر بهم أحد جيرانهم.

استمر بنا المسير عبر دروب تلك المضارب ذات الخيام القاتمة السوداء ما يقرب من ثلاثة أرباع الساعة حتى وصلنا إلى خيمة كبير القوم التي كانت منصوبة في أحد أطراف المخيم.

كان شيخ القبيلة عجوزاً في الخامسة والستين من عمره، يسير بصعوبة، ومع ذلك، فإنه خرج في لطف لاستقبالنا بمجرد أن وطئت أقدامنا التراب وأخذ خوسيه يقدمنا إليه، فصافحنا مباشرة، فسلّم على القائد، ثم عليّ وعلى ضابط الإدارة العسكرية والطبيب البيطري، وذلك على غرار ما يمكن أن يفعله الحاجب الأكبر لبلاط ملكي عظيم.

بعد ذلك جلسنا على يمين الشيخ تحت ظل خيمته المفروشة بالسجاد والوسائد، في الوقت الذي بدأ رجال القبيلة يتوافدون علينا متجهين إلى زعيمهم للسلام عليه بإعزاز وإكبار قبل أن يفترشوا الأرض، في حين أخذ عبدٌ أسود يمعن الدق بطرقة تنم عن مهارة فائقة بيد المهراس (النجر) الذي يطحن فيه القهوة التي سيقدمها لنا. ولقد ذكر لنا خوسيه أن هذه الدقات تطلق على شرف كبار الزوار من الضيوف. ولأنني سبق أن تكلمت مراراً عن هذه القهوة بشيء من الازدراء والجفاء، فلنشاهد كيف يعدها ويقدمها هؤلاء البدو لضيوفهم.

فعلى مقربة من الخيمة وأمام ناظرينا أخذ العبد حفنة من حبوب البن التي ما إن وضعها في محماس من الحديد، حتى بدأت تنبعث منها رائحة ذكية، لولا أن الدخان المنتن الصادر من ذلك الوقود الوحيد في الصحراء يعمل على تعكير تلك الرائحة. ففي هذه الصحراء يصبح بعر الجمل الأكثر صلابة من روث الجواد، البديل الوحيد للخشب أو الفحم اللذين يغيبان عن الساحة تماماً.

وما إن تنتهي عملية حمس البن حتى يُنقل إلى المهراس (النجر) حيث يُظهر هنا العبد مهاراته في إطلاق دقات يد المهراس (النجر) ذات الإيقاع الموسيقي المتعدد، وذلك حسب الدرجة التي يتمتع بها الزوار من الضيوف.

وبعد ذلك يوضع البن في مرجل نحاسي (دلّة) فيه ماء يغلي، ويترك على هذه الحالة مدة عشر دقائق، ثم يقدم بعدها للحاضرين. ولا يضاف السكر إلى القهوة إطلاقاً، بل يوضع بدلاً منه قليل من حبات بذرة مُرّة ولاذعة يسمونها الهيل، أو قليل من الزعفران وذلك لجعل مذاقها أكثر قبولاً. ومما يلحظ أن هذا المشروب المرّ يعجب الأتراك والعرب على حدٍ سواء، وفي الوقت نفسه فإنهم يجهلون الشاي ويحتقرونه، وفي المقابل فإن المغاربة الذين يطلق عليهم الكثير خطأ العرب( ) يشربون الشاي بشكل كبير.

ولقد تناولنا أربعة فناجين أو خمسة كانت نصيبنا خلال تلك الدورات الكثيرة التي مرّ بها العبد بيننا حتى يفرغ محتوى الدلّة. وتجدر الإشارة إلى أن أول من كانت تقدم له القهوة هو رئيس الخيمة وذلك حتى يبرهن للجميع أنها لا تحتوي على السم.

وعلى مدى هذا الاستقبال الطويل الذي يحضره كل أشراف القبيلة دارت محادثات أعربوا فيها عن سعادتهم باستقبالنا، وعن حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلمه، وعن أن السلام الإلهي يكون مع الملائكة، ونحو ذلك. وعلى أية حال فقد دار الحديث عن الكثير من الأمور عدا ما جئنا نبحث عنه. ومترجمنا حاذق يعرف جيداً هذه العادات، ولن يقبل أي شيء في الدنيا مقابل كسر هذا النظام العرفي


.


يتبع





[/FONT]
[/FONT]
[/FONT]
 
هؤلاء الناس الذين يبدو عليهم عدم التحضر لا يعدمون تفاصيل المجاملة. فحين أدرك زعيم القبيلة أن القوم ينصبون خيامنا في مكان ناءٍ أصدر أوامره على الفور بأن تزال خيام البدو التي كانت تحيط بخيمته كي تنصب خيامنا بجواره، ولم يسمح لنا بالخروج من خيمته إلا بعد أن قدموا لنا الطعام.




هذا الوقت الطويل أمضيته أسجل انطباعاتي في دفتر الذكريات. الأمر الذي جعلهم يعتقدون - وفقا لما قاله خوسيه - أن زيارتنا كانت تهدف إلى الكتابة عن عاداتهم، وهو أمر لا يروقهم. وهكذا فليس أمامي من حيلة إلا أن أحفظ دفتري وأنتظر.

ها هو ذا الطعام جاهز يا سادة.




أحضر أربعة من البدو صينيتين نحاسيتين كبيرتين يمسكون بكلتيهما من مقابضهما، وتبدو الاثنتان غير عميقتين، ولكن قطرهما يصل إلى المتر. فوق كل واحدة من الصينيتين وضعت كمية من الأرز المطبوخ وخروف مشوي قطع إلى أوصال صغيرة. زعيم القبيلة وابنه – ولي عهده – واثنان أو ثلاثة من علية القبيلة جلسوا معنا متحلقين حول إحدى الصينيتين. كما كانت الصينية الأخرى تلوح لنا وسط ندمائها.




ليس هناك من خوف على المائدة من الحركة، لأنه لا أحد ينتظر أن تقوم زلازل. بعد ذلك ألقى الرئيس العجوز نظرة على الحضور كي يتأكد من أن الجميع كانوا في أماكنهم، فمد يده اليمنى وتناول بها قبضة من الأرز الدسم فكبسها، وأخذ يحركها حتى أصبحت على هيئة كرة ثم رفعها إلى فمه وابتلعها كاملة كما لو كان ديكا رومياً. وبعده شرع بقية البدو يقلدونه فيما يفعل، ويواصلون ابتلاع الكريات بسهولة وسرعة مذهلتين. كان خادمنا أراكيل (Arakil) قد تنبه أن يحضر لنا معه بعض الملاعق، فأخذنا نتناول بها الأرز المطبوخ بالماء المبتل بمرق الخروف. أما قطع اللحم المشوية التي تخرج مدسوسة في الأرز فكان لها طعم طيّب ويمكن أكلها، ولكن الأمر المنفِّر هو أن يعمد البدو إلى إخراج العظم نصف المقروض من أفواههم ثم يلقون به مرة أخرى فوق الصينية حيث تختلط هذه العظام المنهوشة بالبقية التي لم تمس بعد.




بقايا هذه الوليمة سوف تكون بمثابة المائدة الثانية التي تقدم للنساء والأطفال والخدم من أهل علية القوم الذين سيجدونها مأدبة شهية.

وما إن تنتهي الوليمة حتى يحضر أحد العبيد جفنة، وصابوناً، ومنشفة وقدراً فيه ماء يصبه على أيدي الضيوف، فيغسلونها جميعاً بكل عناية ودقة، هذا بالإضافة إلى غسل الفم والأسنان التي يهتمون بها أيما اهتمام.



بعض الحاضرين من البدو تبدو على ملامحهم العظمة والوجاهة. كما تبدو فيها وفي شخصيتهم الخطوط الصحيحة للسلالة القوقازية النبيلة التي هي أصل الأوربيين المنتمين إلى هذا العرق. وهؤلاء يبدون طوال القامة، وجهاء، يمشون مشية هادئة، ولكنها سهلة، أساريرهم تحرقها الشمس، ولكن جلودهم صافية، لا تجعدات فيها. لحاهم الحريرية السوداء أو الكستنائية، وأنوفهم الحادة، وشفاههم الرقيقة، وعيونهم السوداء أو المائلة إلى الخضرة، كلها تكمل المجموع الظريف لهؤلاء البدو الرحل الذين يفدون في تواضع وأدب إلى الزيارة دون أن يكون هناك مجال يظهرون فيه ما بهم من غرائز لخيانة همجية هم على استعداد لها في كل لحظة. هنا نحن أولاء نتعرفهم تباعاً بناء على أعمالهم حتى نُكوِّن انطباعاً يكاد يكاد يكون قريباً من تحديدنا لذكائهم وأخلاقياتهم .



ذاك المساء أعاد الزيارة إلينا زعيم القبيلة فرحان باشا، يصحبه ابنه الأكبر الذي سوف يخلفه في قيادة القبيلة. هذا الوريث الذي كان في السادسة والعشرين من عمره، وذا قامة قصيرة، وبنية جسمانية ضعيفة، سبق أن أمضى وقتاً في القسطنطينية بدعوة من السلطان الذي أجزل له العطاء والمكافأة، وخلع عليه اسم قائد الجيوش السلطانية، كما خلع على أبيه لقب الباشا، وهي منح شرفية عادة ما كان يمنحها السلطان عبدالحميد لرؤساء قبائل البدو حتى يجعلهم مؤيدين له، ويدخل عليهم السعادة والغبطة.



حينما دلف الشاب الوريث إلينا وعرف منصبي نادي مترجمنا حتى يخبرني بأننا زملاء له، فقد كان هو الآخر يشغل منصب القائد. وهنا قبلت مرحباً بهذا الأمر من قبل هذا الزميل غير المعصوم، مُذكّراً إياي بأنه لا يصدر بين الأصدقاء أي نوع من المضايقة حتى ولو في الجحيم، وتعمدت أن أظهر مزيداً من الاهتمام به فجلست إلى جواره.



وشيئاً فشيئاً توافد علينا علية القوم، فجلسوا القرفصاء حول الميدان الذي تكوّن منه مخيمنا، ثم بدأ عرض أفراس هؤلاء الحضور بنظام وهدوء.



لا أدري كم كان عدد الجياد التي عايناهان لقد كانت كثيرة، ومعظمها رديء بكل صراحة، ولكن بعضها كان يستحق أن يفحص بدقة وعناية أكثر. ولكنهم بلا شك لحظوا أن اللجنة لم تظهر ذلك الاهتمام الذي ينشدونهن فانصرفوا بالجياد مباشرة بمجرد أن أنتهينا من مشاهدتها.



وهكذا انتهى العرض عند غروب الشمس، وحينما تمكنت من الاستمتاع برؤية ذلك المنظر العظيم الذي رسمته الطبيعة في عمق أفق الصحراء.



إن أذواد الجمال الكثيرة، والقَدْر الغفير من قطعان الأغنام والماعز قد بدأت تعود إلى المخيم من مراعيها البعيدة، تلفها سحابة من الغبار، وتلونها أشعة الشمس الملونة عند غروبها. وشيئاً فشيئاً بدأ الضجيج يتزايد جرّاء حركة كل هذه القطعان، فجعلنا نميز الأصوات الموزعة والملحنة التي كان الرعاة يحدون مواشيهم. كما كنا نلحظ ظلال الإبل التي كانت ترتسم بالآلاف في صفاء الشفق الغائب؛ وفي ذلك الوقت كان الرعاة يطلقون بين الحين والآخر طلقات نارية وهمية كي يُفزعوا الضباع وبنات آوى التي تختبيء بين المواشي.




تلك الموجة الحية التي تتقدم عبر بحر من الرمال كانت مهمة في تأمل تلك اللوحة الجميلة التي رسمها ظلام الليل. وحين بدأت أسرح بأفكاري، لا أدري شيئاً عن الزمان أو المكان الذي كنت فيه آنذاك، ظننت للحظة أنني حلَّقتُ في الأزمنة السحيقة ليعقوب، وانتهى بي الأمر إلى التمتمة ببعض الأدعية.
لقد قرأت ذات مرة لكاتب فرنسي على اطلاع على هذه المواقع قوله: إن الذي لا يضع أملاً في العناية الإلهية عليه أن يمضي ليلة في الصحراء.



عندما وصلت قطعان من آلاف الإبل وأسراب لا تحصى من الماعز والخراف إلى المخيم توزعت كقطعة أرض لمجلس البلدية، هنا وهناك حول خيام أصحابها بحيث تستقبلها النساء أو الأولاد الذين يداعبونها ثم يبركونها على الأرض، وهو عمل ينفذونه بكل وداعة وألفة لا تصدق. في حين يربطون واحداً أو اثنين أو ثلاثة من الجياد قرب باب الخيمة، وعدداً مماثلاً من الرماح الطويلة المغروسة في الأرض دليلاً على استعداد المحاربين من أبناء الأسرة للدفاع عن ممتلكاتها.



وقد وعدنا الباشا (زعيم) القبيلة بأنه سوف يرسل لنا مبعوثين إلى مضارب أخرى موالية له حتى نتمكن من رؤية ما لديهم من جياد. ولكن بدأت بين أعضاء اللجنة حالة من الشك (لم أكن مشاركاً فيها) في أنهم يخفون عنا السلالات الجيدة. وحتى نخرج من حالة الشك هذه اقترحت أن يقولوا لزميلي البدوي: إنني أرغب في القيام بجولة على ظهر الحصان عبر خيام قبيلته القوية، ولم يمانعنا ابن زعيم القبيلة هذا المطلب، وعرض أن نترافق في الصباح الباكر من اليوم التالي، والذي سوف نتجول فيه وبصحبتنا المترجم والطبيب البيطري عبر كل مكان.




 
وحين عزمنا على الانصراف طلباً للراحة في خيامنا، تقدم إلى خوسيه ثمانية من محاربي القبيلة مدججين بالسلاح، وهم يحملون سيوفاً طويلة ومحدبة، أنصالها لامعة وتتدلى من احزمة علقت على أكتافهم اليمنى؛ وتنبئ هذه السيوف بكل وضوح عن القرون الكثيرة التي مضت عليها منذ صنعها إلى اليوم. وهناك كذلك خنجران أو ثلاثة كنا نرى مقابضها فوق الزنار الذي يشدون به أوساطهم، وفوقها الكنانات الطويلة المعترضة على صدورهم وتعج بخراطيش الطلقات الخاصة بالسلاح الناري الذي كان يحمله هؤلاء المحاربون المدافعون عنا. كانوا يُمثلون الحرس الليلي الذي بعثه باشا القبيلة للمحافظة على أمننا. وعندما قدموا لنا أنفسهم توجهوا إلى أماكن حراستهم منقسمين إلى اربعة أزواج بحيث أحاطوا بخيامنا. ولقد جلسوا على الطريقة العربية قابعين على الأرض بحث تكاد تصل ركبة كل منهم إلى مستوى لحيته.




إن هذه الضيافة التي يستقبلنا بها هؤلاء البدو تعد أسطورية، فهم يُقدِّسون ضيوفهم (حسب قولهم). أما أنا فقد شعرت هنا بالأمان أكثر مما لو كنت في بيتي، وكنت على استعداد لأن أنام في هدوء (أمر كان ينقصني بحق)، في الوقت نفسه الذي بدأ فيه زوج الحرس القريب من الخيمة التي أشغلها أنا والقائد تعلو أصواتهما قليلاً بالغناء. وبشكل متواصل، بدأ رجال الحراسة القريبة منها بالغناء الذي يشبه الأناشيد الأندلسية بطريقة تحمّلتها على مضض، وهذا اضطرني لتأجيل ما انتويت غناءه لمورفيو (Morfeo) لوقت آخر.




وها هو ذا الظريف خوسيه الذي يسهر على راحتنا يأمرهما بالصمت، وأخذ يترجم لنا المعاني التي انطوت عليها تلك الأغاني التي تقول: اليقظة أيها الرفاق، اعتنوا براحتهم! السلام من عند الله وعباده يحفظونه... إلخ.



وقبل أن يطلع النهار استيقظنا حتى لا نجعل رفيق الصحراء ينتظر كثيراً. ولقد كان خادمنا يواكين (Yoaquin) (الأرمني الأصل مثل أراكيب) يظهر لي دائماً عاطفة فريدة، وذلك دون شك نوع من الامتنان لما قدمته في حلب من إكرامية يسيرة إلى والده العجوز. إذ أعدَّ لي في ذلك الصباح - مكافأة من عنده - قدحاً لذيذاً من حليب الناقة. وحين لحظ حيرتي وارتباكي ألح في إطرائه لطعم الحليب الذي - في الواقع - أعجبني كثيراً، إنه أكثر سيولة وأحلى من لبن البقر، وأكثر كثافة من لبن الأتان. وربما يكون لبن الفرس الذي ذقته في العام التالي في روسيا هو أكثر أنواع الحليب شبهاً في الكثافة والطعم بلبن الناقة، الذي بات مقبولاً من قبل جميع أعضاء اللجنة منذ ذلك اليوم.

وقبل طلوع الشمس كنا نمتطي الجياد مع ولي العهد صاحب القلب الجريء، والطبيب البيطري بييدما والمترجم خوسيه.




أمضينا حوالي خمس ساعات نجوب الطرقات التي تُكوِّنها خيام القبيلة، كانت دروباً متقاطعة ومتشابكة، وكنا نتوقف حينما نشاهد أحد الجياد المميزة هنا أو هناك. فقد كانت الأمهار والأفراس لا تذهب إلى المراعي مع بقية قطعان الماشية، بل تبقى ليل نهار مربوطة أمام أبواب الخيام حيث تأكل علف الشعير والتبن أو الحشائش، يلقونه إليها في بطانية أو على الأرض. إنه لمن المحزن والمثير للعاطفة أن يرى الإنسان هذا الحيوان النبيل مكبلاً بالحديد ومربوطاً في عمود حديدي كما لو كانت قيوداً ثقيلة، مادّةً أعناقها وثانية سيقانها في أوضاع متوازنة حتى تتمكن من الوصول إلى موضع العلف الذي تلوكه. وإذا ما كان ذلك أمراً يسيراً، فإنها تربط من إحدى أرجلها إلى وتد من الخشب أو الحديد مغروس في الأرض. أما ذلك المهر الرضيع الذي لا ينفصل عن امه فإنه يظل حراً طليقاً، ولكنه حين ينهي أمد الفطام فإنه سيلاقي هو الآخر هذا الأسر القاسي الذي تعانيه أمه. وهنا تبدو بشكل واضح وغير غريب عيوب التكوين التي نلحظها دائماً في الجياد البالغة، التي تبدو على كثير منها ملامح النبل من اصل أرستقراطي عريق؛ ولكننا أصبحنا مقتنعين بأن هذا لا يكفي. فعند رؤية أيسر العيوب في أطراف تلك الجياد كانت تُرفض بشكل قاطع من قبل لجنتنا، يا للحسرة!




إن مؤلفاً عريق التخصص في هذا المجال مثل كونت كومينخس يذكر في كتابه خيل الركوب الحكمة الآتية: إذا كنت تبحث عن حصان دون عيوب، وعن امرأة تتصف بالجمال، فإنك لن تمتلك لا حصاناً مفيداً في إصطبلاتك، ولا ملاكاً في سرير نومك .





وباختصار، فخلال هذه الجولة لم نعثر سوى على ثمانية أفراس أو تسعة يمكن عرضها هذا المساء أمام القائد للمعاينة بعد أن تأكدنا واقتنعنا بأنهم لا يخفون عنا شيئاً أفضل مما رأيناه.




وينبغي أن ألفت الانتباه إلى أنني لا أتحدث عن الأحصنة في هذا المحيط، إذ إن القبائل البدوية يفضّلون الاحتفاظ بها. فقد جرت عادة هؤلاء القوم على بيع الأمهار الصغيرة بعد فطامها مباشرة، أو بعد عامين من ولادتها على أكثر تقدير نظراً لعصبية الأحصنة وحرارة دمائها، بالإضافة إلى أنها تظل معزولة عن أمثالها من الذكور منذ ولادتها، وفي الوقت نفسه محاطة بالأفراس، وهي أمور تجعل من الحصان حيواناً ذا خطر متسماً بسرعة الغضب، وقد يصبح يُخاف منه كما يُخاف من السبع حين تقترب من أحد أبناء جنسه. ولهذا السبب، فإن البدو لا يحتفظون بالذكور من الجياد، ويأخذون إناث خيولهم ليلقحها أحد الفحول المميزة الموجودة بحوزة القبيلة أو تلك التي يجدونها خلال تجولاتهم المستمرة.




وفي مسيرنا ذاك توقفنا للحظات عند اثنتين أو ثلاث من خيام علية القوم الذين دعونا للنزول إليهم ليقدموا لنا القهوة. وأنا يا من أصبحت فاقداً للحياء تعودت أن أطلب دائما ذلك الحليب الذي يطفئ العطش ويرطب حرارة الجسد.




في إحدى الخيام التي توقفنا عندها رأيت صقراً مدرباً على صيد الغزلان، وكان أول طائر عظيم أقف أمامه بإعجاب. وها هو ذا صاحبه يتركه فوق سبابة يدي اليمنى ويدعوني لرحلة قنص إذا ما كنا سنبقى لبعض الأيام. إن الفكرة لا يمكن لها أن تكون أكثر جاذبية لمن لديه مثلي هواية عارمة للصيد؛ لينقذني الإله من هذه الهواية المغوية! فقد أودت بحياة بعض المستكشفين الذين خرجوا وحدهم مُعرِّضين أنفسهم لأخطار ذوي السطوة الطامعين. إن الرغبة في حيازة ما يحمله المرء من أسلحة، والرغبة الطامعة في أيٍّ مما يمتلكه من أغراض، كلها أسباب تحث على الجريمة دون أدنى تردد.





إنه لا مجال للدهشة هنا حينما تلافيت عمداً عدم تقديم وصف في مذكراتي عن انضباط البدو.
وعندما انتهت الجولة التي قمنا بها بين أرجاء مضارب القبيلة، لم يكن ابن الزعيم مسروراً من نتائجها، مبدياً امتعاضه لما عايناه من عدد قليل من أفراس القبيلة.




وهنا قال للمترجم: إذا ما كانت المجموعة التي اخترناها تبدو لنا رديئة، فهناك فرس أبيه التي كان يمتطيها في تلك الجولة، وتحمّلت ذلك المسير الذي استغرق 12 ساعة منذ طلوع الشمس حتى غروبها، وكانت تتحمّل العدو دون طعام أو شراب. وهنا وجدت نفسي مضطراً لإطراء كل ما رأيناه؛ ولكن الشاب قد صعدت الذبابة إلى أذنيه، وما كانت هناك من وسيلة لإخراجها منها، ولا لإخراج فرسه مما هي فيه.




كانت الساعة حينذاك العاشرة صباحاً، وحينها تعرضنا لشمس شديدة حارقة، ولقد حاولت مرتين أو ثلاث مرات همز حصاني الصغير كي يسير على نغمة أو عَدْوٍ معين لمتابعة ما إذا كان سيتبعني؛ ولكنه لم يعبأ بما فعلت. ومرة أخرى حاولت أن أتباعد شيئاً فشيئاً بهدف أن أخرج هارباً صوب خيامنا في أول عاصفة تلفني، ولكن الأمير الأنوف، رابط الجأش قد فهم الأمر، فقال لخوسيه: إن النقيب يصنع ما نصنعه نفسه نحن البدو، كنا نخرج مجتمعين حينما نتجه إلى صفقة ما، ثم يعود كل منا بمفرده إذا كانت النتائج سيئة. وهنا ناداني خوسيه في الحال، وكان عليّ أن أتحمل مدة الساعة تحت حرارة الشمس الحارقة التي بلغت 48 درجة مئوية.




وبينما كنت أنا والطبيب البيطري نتابع معاينة المواشي، حضرت مجموعة كبيرة من البدو إلى خيمة القائد ليتفحص ما بهم من مرض، فهم يعتقدون بحسن نية أن كل الأوربيين يعرفون فن المداواة جيداً.
وهكذا فإن القائد الخامس وضابط الإدارة السيد فرنانديث توافد إليه جمع كبير من القوم للمعالجة حيث أخذ يصدر لهم وصفات كثيرة لما رأوه صعب التداوي. كذلك حضر زعيم القبيلة لاستشارة القائد علّه يجد وسيلة لعلاج آلامه وعرجه الذي يعاني منه في رجله اليسرى. وقد عَنَّ للقائد أن يخبره بأنني سوف أصف له علاجاً شافياً حيث إنني متخصص في هذا المرض وعلاجه. وحين وصلت ناداني بلقب الطبيب الخصوصي، وأن عليّ أن أذهب لكي أرى وأتفحص المريض القدير. وعندما أراني العجوز الطيب ساقه التي تؤلمه، وتفحصتها جيداً وبكل دقة كما لو كنت طبيباً ماهراً. كان الرجل المسكين يعاني من ورم في الركبة وتصلب في المفاصل، كما أن رجله توشك على الجفاف وحين عاينت المرض وقرر نوعية العلاج أمرت بإحضار ماء ساخن، وطلبت قطعاً من القماش النظيف غسلته بكل عناية، ثم دهنت ركبته بمرهم مسامي للدكتور ويندر (Dr.Winder)، كنا نحمله معنا في صيدليتنا الخاصة. ثم طلبت منه أن يستريح بضعة أيام، ولعله لم يكن بمقدور أشهر أطباء البلاط الملكي أن يفعل شيئاً أكثر مما فعلته، مع الفارق الذي يشهد لي بالأفضلية، وهو أنني لم أطلب منه مقابلاً لذلك. ولقد بات مريضي في غاية السعادة، ونحن دون ذلك المرهم المسامي الذي يمكننا أن نستخدمه في مناسبة أكثر ملاءمة.




تجدر الإشارة إلى أن الكاتب بلجريف (W.G.Palgrave) الذي سوف أتحدث عنه فيما بعد، قد ألمح إلى أن الذكاء الذي يتمتع به البدو أقل بكثير من ذلك الذي يتمتع به أي طفل في أوروبا.




إن حياة هؤلاء الناس لا بد أن تكون قصيرة جداً، وذلك بالنظر إلى عدد الأفراد المسنين القلائل بين هؤلاء القوم. ويعد مرض الدرن أبرز الأمراض التي تحل بهؤلاء الناس وأخطرها، وذلك لعدم وجود العلاج المناسب بصفة مطلقة.




إن مشاغلهم المعتادة تكاد تنحصر في الترحال والتنقل أو الحروب بين النبلاء الأثرياء. وكما يحدث في كل تكتلات الشعوب، توجد في هذه القبائل درجات اجتماعية مختلفة، أدناها تلك التي تقوم بعمليات الرعي، بوصفهم خَدَماً بالأجرة أو عبيداً لأولئك المقتدرين من هذه القبائل. هؤلاء يجتمعون خلال النهار تحت سقف إحدى خيامهم ممضين وقتهم في الجدال والحكايات التي تدور حول القصص والأساطير التي تتعرض لبطولاتهم ومآثرهم في الحروب والمعارك.




ومما يلحظ هنا أن النساء البدويات يرتدين عباءة زرقاء قاتمة للغاية، ويشددن محازم على أوساطهن، كما يضعن منديلاً من اللون نفسه معصوباً على الجبهة ويتدلى حتى الكتفين والظهر، على غرار ما تفعله المصريات، وتبدو النساء ذوات قوام ممشوق، ويرى من بينهن بعض الفتيات الشابات الجميلات، ولكن شفاههن السفلية تظهر موشومة بلون أزرق بحيث يعطي انطباعاً محزناً لنا، فنحن نفضل تلك الشفاة الناعمة الحمراء في النساء الجميلات


.

أما فيما يتعلق بنسوة زعيم القبيلة وعلية القوم من البدو فما كن يظهرن لأحد، ويَقَرْن دائماً في خيام كبيرة على مقربة من خيمة وليهن. ومعظم النساء يعملن بغزل الصوف أو الكتان الذي يصنعن منه الأنسجة الخاصة بالملابس والخيام.




في الثانية ظهراً - أي في الوقت الذي كان رفقائي ينامون فيه القيلولة - كان هناك أمر أود فعله أنا، ما كان بإمكاني معرفة طعم النوم لأنني أكاد أتصبب عرقاً، وأسلّي نفسي بكتابة هذه الملحوظات والانطباعات وتسجيلها، وأرقب هؤلاء القوم عبر فتحة صغيرة في خيمتي.



إنهم يسقون مواشيهم ويحلبون شياههم وماعزهم، وهي المهام التي يبدي فيها الرعاة تمرسهم الجيد في مهنتهم، الأمر الذي لا يحلم أحد منا بأن يقوم به على الإطلاق.



وعلى مرمى بصري أشاهد أمامي قطيعاً من النعاج يصل عدده إلى 300 رأس ينتظر دوره للسقي. وهناك أربع نسوة يَمْتَحن الماء من بئر قريبة ثم يسكبنها في حوضين من النحاس الأبيض، فيشرب منهما ما يقرب من ثمانية رؤوس أو عشرة، بعد ذلك تُنهر هذه وتُبعد عن الأحواض بمجرد ضربها سطحياً على رقابها، ثم يُستبدل بها مبشارة أطراف أخرى من الأغنام تُعَدُّ كي تأخذ دورها في السقي، وهكذا تتكرر العملية بشكل منتظم.





وبعد أن تنتهي جميع المواشي من السقي تنتظم في طابور مكوّن من صفين متقابلين، فتبدو بينها شيئاً من الاتحاد والالتحام، فتخرج كل نعجة رأسها من بين أعناق ما يجاورها من نعاج بالطريقة نفسها التي تتشابك فيها أصابع أيدينا. وبعد أن تصبح المواشي في هذا الترتيب يبادر اثنان من الرعاة في كل جانب بحلب الأغنام في قدح من الخشب. ولا أحد – في واقع الأمر – يستطيع أن يتخيل الوداعة التي يحرزها العرب من حيواناتهم الأليفة.

إن المواشي التي تتصف بكثرة صوفها ويملكها البدو هنا هي من أصل خاص لم أرَه حتى اللحظة التي وصلت فيها إلى سوريا. إن ما فيها من صوف يبدو ناعماً وغزيراً جداً، ولكن ما يميز هذه النعاج حقاً هي تلك الأذناب التي تُعَدُّ مستودعاً للدهن، ويزداد حجمها ووزنها بشكل فائق، خصوصاً عندما تتوافر المراعي المغذية المناسبة. أما حين تقلّ المراعي فإن هذه الحيوانات تتغذى على الدهن المتراكم في أجسادها. أما الماعز فتبدو في شكل صغير، وجميعها ذات لون أسود، وتتميز بشعرها الطويل الزاهي الحريري، كما تتميز بطول آذانها المتدلية.

ويتبين مما ذكر أن العرب البدو هم في الأصل من مربي المواشي، إذ يقفون حياتهم دائماً لتربيتها والاتجار بها، ويبيعون من أنواعها الثلاثة: الجمال والخراف والماعز؛ أصوافها ولحومها في أزمنة وأسواق قائمة منذ مُدَد بعيدة. أما فيما يتعلق بالخيول أحصنة كانت أو أفراساً فإنهم يربونها ويقدرونها وكأنها شيء ضروري، ولا غنى لهم عنه في حياتهم المتنقلة والرعوية، ولكنهم لا يتخذونها بتاتاً مصدراً للثراء ولا سبباً للمضاربة، وفي مساء هذا اليوم بالذات أصبح بمقدورنا أن ندرك حقيقة هذا الأمر الواقع.

كانت الساعة تقترب من الثالثة عصراً حين كنا نجلس تحت ظل خيمتنا الكبرى برفقة زعيم القبيلة وبعض أعيانها نتفقد الأفراس التي رايناها صباح اليوم. وحول الساحة التي نوجد فيها جلست – حسب العادة – مجموعة من خمسين بدوياً لمتابعة عملياتنا.

وفجأة بدأت تتعالى فوق تلّ قريب منا أصوات مجموعة من الشباب دفعة واحدة، متكررة وبصورة إيقاعية، ظهر اثرها في أذني بهذه الصورة: أهو – أه .. أهو – أه .. أهو – أه ..!! ولم ينته بعد آخر المقطع حتى تكررت أصوات أخى بعيدة بالعبارات نفسها، وهكذا أيضاً ترددت الأصوات من جانب إلى آخر في المخيم، وأصبحت الأصوات تتردد كما لو كانت رجع صدى في كل الوادي.

لا زعيم القبيلة ولا الذين كانوا معنا بدرت منهم أدنى إشارة تدل على استغرابهم للموقف، وظلوا جميعاً في أماكنهم غير مكترثين لما يحدث، ولكن الذين أبدوا تطفلاً في الموقف بدؤوا يختفون من الساحة دونما عجلة تذكر بحيث خرجوا واحداً تلو الآخر. وقد أشار صاحب تلك الفرس التي كنا نتفحصها بحركة من يده إلى أنه سوف ينصرف؛ ولكن صوتاً صدر عن زعيم القبيلة أوقفه مكانه مع أنه لم يُبْد رضاه لهذا الأمر.

وأمامنا مر كالبرق فارس يحمل رمحه في صدر درعه، وخلفه ثان ثم ثالث، يظهر عليهم الحماس والتصميم نفسه. وفي ثوان قليلة، وزعوا المحاربين برماحهم الطويلة حول المخيم كاشعة أطلقت في الاتجاه نفسه. وقد أدركنا أن أمراً ذا خطر قد وقع فبدأنا نسأل زعيم القبيلة عما يحدث؟ فأجابنا: "إنه العدو على مرمى البصر". وعقب ذلك، وخرقاً لكل تقليد نهضت من مقامي متجهاً إلى البدوي الذي كان أمامنا فأمسكت بلجام فرسه ورأسها وأشرت إليه بيدي أن يقفز على متنها ويتوجه صوب ساحة الوغى؛ فَعَلَت ضحكاته وابتساماته وأخذ يضرب بيديه على صدره علامة على الشكر، ثم اختفى.

ومنذ تلك اللحظة تركنا مقاعدنا جميعاً دون أن نتوصل بعد إلى تقدير الموقف، أنظل متفرجين؟ أم مشاركين أيضاً في المشهد الذي يجري أمامنا؟!

يا لها من لحظة جميلة! يا لها من لوحة عجيبة! أو كما نقول الآن: يا له من فلم مشوق! ساد المخيم كله صمت مطبق. النساء والأولاد والرجال العُزّل ظلوا صامتين هادئين، ينظرون إلى المحاربين وهم ينطلقون كالسهام إلى مكان الخطر.

في دقيقتين فقط سرى ما يقرب من أربع مئة محارب في الاتجاه نفسه دون أن ينتظر أحدهم الآخر، متفرقين ومجتمعين صوب الهدف نفسه. إن خيال أي فنان لا يحلم بأن يرسم مثل هذه اللوحة وهذا العرض الكبير. ولقد كانت هناك لحظة شعرت فيها بأنني قد انتعشت بالحماس الذي أدخله هؤلاء الفرسان في نفسي، الذين خرجوا تلفهم سحابة بيضاء من الغبار كما لو كانوا طلقات بنادق. واسفت أنني لم أكن أحمل رمحاً كي أشهره على شاكلة أولئك الفرسان.

ومن فوق ربوة عالية كنت أرقب بناظور الرحلة التحركات التي تجري دون أن أبلغ مدى ما يحدث بعيداً عنا حيث تباعد الجميع تباعاً عن المدار الذي بلغته السحابات البيضاء التي بدأت تتلاشى بعيداً. ولقد تجمع حولي ما يقرب من عشرين رجلاً أبدوا دهشتهم وفضولهم حينما رأوني أوجه المنظار صوب الأفق البعيد، ومن خلفي أرادوا أن يدخلوا رؤوسهم كي يتمكنوا من الاستكشاف كذلك.

ومشفقاً على هؤلاء بما أرى لديهم من فضول وجهل ضعفت أمامهم فسلمته لمن هم أقرب إليّ. ما كنت سأفعله قط! ومثلما تتقاتل الوحوش على الفريسة فقد سقطت على الجهاز عشرون يداً في وقت واحد، متعاصرين ومتزاحمين لو لم أتدخل وسط هذا الزحام موزعاً لكمات ودفعات بكل ما أوتيت من قوة حتى تمكنت من استعادته. هؤلاء العشرون فرداً الهائجون، الذين بمقدور أضعف رجل فيهم أن يحطمني ظلوا ذليلين وخاضعين لما قمت به كما تجري السباع الضارية أمام سياط الإنسان.

وحين لم يعد يُرى شيء في الأفق سحبت نفسي من ذلك المكان ففتحت لنفسي طريقاً بين مجموعة المتطفلين الذين تعجلوا بتركي حراً وحيداً.

ولحسن حظ ابناء عشيرة السبعة، فقد ارتد أعداؤهم من قبيلة شمّر عن المكان حين علموا باكتشاف أمرهم. وسرعان ما تطاير الخبر بين القوم فهنأنا زعيم القبيلة على هؤلاء المحاربين الشجعان الذين يتزعمهم، فرد بقوله:" إن النساء لا يقبلن مضاجعة من لايكون متمتعاً بهذه الصفة من أزواجهن".
وقبل الغروب عاد الفرسان كلهم مجتمعين، يلحنون أغاني النصر التي أخذوا يكررونها بصوت واحد في صورة ترتيلية عالية. وهكذا وقعت الغنيمة التي بلغت (80.000) بعير في أيديهم دونما نقصان!!

ها هو ذا السبب والهدف الذي يحافظ من أجله عرب الصحراء على خيولهم.

وحين تحدثنا مع باشا القبيلة عن أصول إناث الجياد التي رأيناها، أخذ يبين أسماءها التي منها : صقلاوي، وحمداني، وكحيلان، وعبيان، وغيرها. كما أضاف إلى هذه الأسماء من الأصول المعروفة أسماء أخرى أظنها من أملاك أحد أصحاب بعض الأفراس التي أعطت شهرة في هذا الأقليم أو ذاك لهذا العدد الكبير من الجياد. وهو تقليد ينبغي ألاّ يصيبنا بالدهشة، فنحن في حديثنا عن الحصان الأندلسي نسميه باسم صاحبه أو مربيه، فهناك على سبيل المثال: كورباتشوس، روميروس، ثاباتاس، ميوراس، غريروس، ونحوها، وذلك نسبة إلى اشخاص يحملون هذه الأسماء ممن يربون الخيول.

وفيما يتعلق بعراقة الدم فليست كل الجياد تتمتع بهذا الشرف، وذلك طبقاً لأقوال البدوي العجوز. فحين تبلغ المهرة سن الثانية فإنها تُدرَّب على الجري ساعات كثيرة متتالية، حتى إذا ما أصابها الإعياء وتمرغت في الرمال، فإنه يُدني منها الشعير، فإذا ما اكلته في الحال، فهذا يعني أنها عريقة الأصل. أما إذا حدث عكس ذلك، فلن يكون بمقدورها إخراج صاحبها من مأزقه حين يهم بركوبها. هذه الحكم الرفيعة لدى العرب التي تأتي مزدانة بخيال لغتهم قد ملأت الغرب ونقلها إليه المستكشفون العلميون الذين خلقوا كل هذه الهالة التي هي نوع من الأكاليل المقدسة التي يحاط بها الجواد العربي.

وفي ص 182 وفي نفس السياق السابق قال مورس : إن التشدد الذي اتبعته اللجنة في البحث عن جياد ذات مواصفات معينة قد أسفر عن نتيجة مفادها أنه من بين ما يزيد على مئة فرس عايناها، ليس هناك سوى واحدة فقط هي التي تستحق السؤال عن ثمنها. وهذه الفرس بالذات هي نفسها التي كنا نتأملها في ذلك الوقت الذي حدث فيه الإنذار بالخطر بسبب هجوم أولئك الأعداء.

إن مالكها، وهو أحد أعيان القبيلة رفض أن يبيعنا إياها، ولكن زعيم القبيلة قد أجبره على ذلك. وما إن اتفقنا على ثمنها حتى دفع الضابط المكلف من بين أعضاء اللجنة الجنيهات الذهبية التركية لمالكها في كف يده، واحداً بعد آخر، وبدأ المترجم أيضاً في عدها بالطريقة نفسها. وقد قبل البدوي المال دون أن ينظر إليه، وفجأة أعاد يده، فأوقع كل ما فيها من مال على الأرض، وانصرف على مهل من ذلك المكان.

ولقد أكد الزعيم الذي تناول طعام العشاء معنا للقائد أن الفرس سوف تكون من نصيبنا على الرغم من معارضة مالكها. ولكن هذه المعارضة وبعض الكلمات الغامضة التي أدهشناهم بها حين رأوا الوزن الذي كانت حقيبة الضابط تزنه إذ كانت مليئة بالجنيهات الذهبية، كل هذا قد ولّد لدى اللجنة الشك وعدم الثقة بأن هؤلاء الغاضبين يعدون لنا واحدة من هجماتهم الشرسة.

هذا الشك وعدم الثقة شارك فيها أيضاً العريف المسؤول عن تمويننا، وذلك من خلال بعض المؤثرات التي لحظها، ما جعله يضاعف انتباهه.

بسبب هذه الأحوال، اتُّفق على أنه في منتصف الليل سوف نطوي خيامنا وسنغادر القبيلة دون أن نوضح ذلك لي فرد كان. اهـ .
 
بعض الملحوظات في عجالة :


1- الشيخ المذكور هو الشيخ فرحان باشا بن هديب شيخ السبعة من عنزة وابنه الأكبر هو برجس الذي تخرج من الكلية الحربية في اسطنبول برتبة نقيب (كابتن) حيث كانت الدولة العثمانية تريد أن تكسب ولاء القبائل . والشيخ برجس تولى المشيخة بعد وفاة والده عام 1324هـ/1906م .

2- خيال هذه الرحالة واسع (بالحيل) جدا عندما ذكر أن الغنائم التي عادوا بها السبعة من غزو شمر 80000 الف جمل . والغزو عادة يأتي من اجل المكاسب فإذا وجد حراسة أو مقاومة شديدة فإنه يطلب النجاة مثل ما فعل غزو شمر عندما هب وفي دقيقتين 400 فارس من السبعة لملاقاتهم .

3- لا يمكن لأي قوة مهما كانت جاهزة ان تنزل إلى الميدان في دقيقتين وفعلتها قبيلة السبعة . ولنفرض جدلا أن هذا الكلام من باب المبالغة ولنقل أنها 20 دقيقة !! ايضا في هذا الزمن لا يمكن لأي قوة أن تنزل إلى الميدان في 20 دقيقة وهذا مع سرعة الاتصالات .

4- ينسب الكاتب إلى نفسه قدرات هائلة، ويصور نفسه بأنه البطل الذي لا يقهر، كما يدعي أن الآخرين يهابونه بمجرد معرفتهم أنه أوروبي (من كلام محقق الرحلة).

5- يستغرب المرء كيف يصدر الكاتب هذه الأحكام الجائرة بحق أناس استضافوه وأكرموه، فشرب من قهوتهم وأكل من ولائمهم؛ بل وقدموا له يد المساعدة والإرشاد في أكثر من مناسبة. وعلى النقيض من ذلك نجد أن السيدة آن بلنت (1295هـ/1878م) وفي أحوال أصعب من الأحوال التي مر بها الكاتب، تنوه في أكثر من مناسبة بأخلاق هؤلاء القوم وحسن معاملتهم. انظر : قبائل بدو الفرات عام 1878م، ص 142- 145،351 وغيرها (من كلام محقق الرحلة).

6- خوفهم من غدر السبعة ليس له مبرر ابدا بل نحن من سن قانون الملحة وهي الضيافة فإن من طعم معنا او شرب فهو في حمايتنا ثلاثة ايام ونصف . والذي لا يعرفه مورس إنك إذا طعمت أو شربت مع أي فرد من عنزة فأنت آمن في جميع ديار قبيلة عنزة. وكذلك إذا أعطاك الأمان أي فرد من عنزة فأنت آمن في جميع ديار قبيلة عنزة، فإننا ولله الحمد يجير علينا أدنانا.

7- (ويجب) على القاريء الكريم أن يفطن إلى أن من كتب هذه النصوص هم رحّالة، وبعضهم يختلف معنا في أشياء كثيرة، ولا يؤخذ قوله على أنه آية منزلة لا ينبغي لنا أن نتقدم عليها أو نتأخر؛ بل هي نصوص قد يفتقد بعضها الدقة، وبعضها من خيال الرحّالة الواسع. والرحالة مثلهم مثل غيرهم، منهم من هو في أعلى الرتب العلمية والثقافية، وبعضهم لا يعدو كونه سائحاً سجل مرئياته ومشاهداته، ونظرته كنظرة الطير عندما يغدو صباحاً ويروح مساء، فإننا لو جمعنا ما رآه الطير لا نجده شيئاً ذا بال!! فهي نظرات سريعة لا تعطينا الصورة كاملة كما ينبغي. وبعضهم كان رحّالة متمكناً نقل لنا الكثير من الفوائد، وهؤلاء أيضاً مع ما في كتبهم من فوائد تبقى بعض نصوصهم محل نظر.




الملحوظات للزميل فايز الرويلي من منتدى عنزة


:وردة:​
 
أعلى