مطرقة العدل
عضو مميز
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العلمين القائل (ولا يشرك في حكمه أحدا ) والقائل ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) والقائل (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ) والصلاة والسلام على نبيه الأمين الحاكم بالحق المبين القائل (وايم الله ! لو أن فاطمة بنت محمد
سرقت لقطعت يدها ، ) أما بعد :
إن حكام هذا الوقت ينطبق عليهم تفسير قوله تعالى (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) الآية 26 الكهف قال (رحمه الله):-
قوله تعالى: (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن عامر "لايشرك" بالياء المثناه التحتية، وضم الكاف على الخبر، ولا نافية –والمعنى: ولا يشرك الله جل وعلا أحداً في حكمه، بل الحكم له وحده جل وعلا لا حكم لغيره ألبتة، فالحلال ما أحله الله تعالى، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه؛ والقضاء ما قضاه، وقرأ ابن عامر من السبعة "ولا تشرك" بضم التاء المثناة الفوقية وسكون الكاف بصيغة النهي، أي لا تشرك يا نبي الله، أو لا تشرك أيها المخاطب أحداً في حكم الله جل وعلا، بل أخلص الحكم لله من شوائب شرك غيره في الحكم. وحكمه جل وعلا المذكور في قوله: (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) شامل لكل ما يقضيه جل وعلا، ويدخل في ذلك التشريع دخولاً أولياً.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له فيه على كلتا القراءتين جاء مبينا في آيات أخر؛ كقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ..) الآية، وقوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ..) الآية، وقوله تعالى: (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ)، وقوله تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وقوله تعالى: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، وقوله: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، وقوله تعالى: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً)، إلى غير ذلك من الآيات.
ويفهم من هذه الآيات كقوله: (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)- أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله، وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخر؛ كقوله فيمن اتبع تشريع الشبطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم. وهذا الإشراك في الطاعة، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى – هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)، وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم: (يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً)، وقوله تعالى: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً) أي ما يعبدون إلا شيطاناً، أي وذلك باتباع تشريعه؛ ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ..) الآية. وقد بين صلى الله عليه وسلم هذا لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عن قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..) الآية –فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم في ذلك، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أرباباً. ومن أصرح الأدلة في هذا: أن الله جل وعلا في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من لكذب ما يحصل منه العجب؛ وذلك في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً).
وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليه وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم.
هذا كلام صاحب تفسير أضواء البيان العلامة محمدالأمين الشنقيطي رحمه الله . الشيخ يذكر إن متبعي غير تشريع الله مشركين فكيف يكون من شرع من دون الله ألا يكون طاغوتا ؟
تنبيه
اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السموات والأرض، وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك.
وإيضاح ذلك –أن النظام قسمان: إداري، وشرعي، إما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع، فهذا لا مانع منه، ولا مخالف فيه من الصحابة، فمن بعدهم. وقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط، ومعرفة من غاب ومن حضر كما قدمنا إيضاح المقصود منه في سورة "بني إسرائيل" في الكلام على العاقلة التي تحمل دية الخطأ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولم يعلم بتخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك إلا بعد أن وصل تبوك صلى الله عليه وسلم. وكاشترائه –أعني عمر رضي الله عنه- دار صفوان بن أمية وجعله إياها سجناً في مكة المكرمة، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجناً هو ولا أبو بكر، فمثل هذه الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا يخالف الشرع –لا بأس به؛ كتنظيم شئون الموظفين، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع. فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به، ولا يخرج من قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة.
وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السموات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السموات والأرض؛ كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، وأنهما يلزم استواؤهما في الميراث. وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم، وأن الطلاق ظلم للمرأة، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان، ونحو ذلك.
فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأدديانهم –كفر بخالق السموات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها وهو أعلم بمصالحها سبحانه وتعالى عن أن يكون معه مشرع آخر علوا كبيرا (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ)، (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) وقد قدمنا جملة وافية من هذا النوع في سورة "بني إسرائيل" في الكلام على قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ..) الآية.
تفسير قوله تعالى:
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) سورة براءة.
قال رحمه الله تعالى: "ذكر الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمات من سورة براءة ما جرى من اليهود والنصارى. فعد منها أنهم نسبوا له الأولاد وأتبع ذلك بقوله (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن الحق مع وضوحه ويدّعون للواحد الآحد الذي لم يلد ولم يولد، يدّعون له الأولاد فيقولون عزير ابن الله مسيح ابن الله سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً ثم ذكر في معائبهم وإجرامهم بلايا أخر فقال (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) أي واتخذوا المسيح ابن مريم رباً من دون الله هذه الآية جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسرها لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عنها فقد أخرج الترمذي وغيره عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقه صليب من ذهب فقال له صلى الله عليه وسلم أخرج هذا الوثن من عنقك وسمعه يقرأ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وكان عدي في الجاهلية نصرانياً فقال عدي ما كنا نعبدهم من دون الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ألم يحرموا عليكم ما أحل الله ويحلوا لكم ما حرم الله فتتبعوهم قال: بلى قال فذلك عبادتهم وهو معنى اتخاذهم أرباباً وهذا التفسير النبوي يقتضي أن كل من يتبع مشرعاً بما أحل وحرم مخالفاً لتشريع الله أنه عابد له متخذه رباً مشرك به كافر بالله هو تفسير صحيح لا شك في صحته والآيات القرآنية الشاهدة لصحته لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم وسنبين إن شاء الله طرفاً من ذلك.
اعلموا أيها الإخوان: أن الإشراك بالله في حكمه والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد لا فرق بينهما البته فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله وتشريعاً غير تشريع الله (أو غير ما شرعه الله) وقانوناً مخالفاً لشرع الله من وضع البشر معرضاً عن نور السماء الذي أنزله الله على لسان رسوله...
من كان يفعل هذا هو ومن كان يعبد الصنم ويسجد للوثن لا فرق بينهما البته بوجه من الوجوه فهما واحد كلاهما مشرك بالله. هذا أشرك به في عبادته وهذا أشرك به في حكمه كلهما سواء وقد قال الله جل وعلا في الإشراك به في عبادته (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).
وقال تعالى في الإشراك في حكمه أيضاً (لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً).
وفي قراؤة ابن عامر من السبعة (وَلا تُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) بصيغة النهي فكلاهما إشراك بالله ولهذا بين النبي صلى الله عليهم لعدي بن حاتم أنهم لما أتبعوا نظامهم في التحليل والتحريم وشرعهم المخالف لشرع الله كانوا عبدة لهم متخذيهم أرياباً والآيات القرآنية في المصحف الكريم المصرحة بهذا المعنى لا تكاد تحصيها ومن أصرحها المناظرة التي وقعت بين حزب الرحمن وحزب الشيطان يقولون إن الميتة حلال ويستدلون بوحي من وحي الشيطان وأن الشيطان أوحى إلى أصحابه وتلامذته في حكمه أن اسألوا محمدا عن الشاة تصبح ميتة من هو الذي قتلها فلما قال الله قتلها احتجوا على النبي وأصحابه في تحريمهم الميتة بفلسفة من وحي الشيطان وقالوا ما ذبحتموه وذكيتموه بأيديكم حلال وما ذبحه الله بيده الكريمة بسكين من ذهب تقولون حرام فأنتم أحسن من الله إذن وهذا على فلسفة الشيطان ووحي إبليس استدل بها كفار مكة على اتباع نظام الشيطان وتشريعه وقانونه بدعوى أن ما ذبحه الله أحل مما ذبحه الناس وأن تذكية الله أطهر من تذكية الخلق واستدل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على تحريم الميتة بوحي الرحمن بقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) فأدلى هؤلاء بنص من نصوص السماء وأدلى هؤلاء بفلسفه من وحي الشيطان ووقع بينهم جدال وخصام فتولى رب السماء والأرض الفتيا بنفسه فأنزلها قرآناً يتلى في سورة الأنعام معلماً بها خلقه أن كل من يتبع نظاماً وتشريعاً وقانوناً مخالفاً لما شرعه الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مشرك بالله كافر متخذ ذلك المتبوع ربا. فأنزل الله قوله (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) من الميتة أي وإن قالوا أنها ذكاة الله وأنها أطهر ثم قال (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) إي أن الأكل من الميتة لفسق أي أنه خروج من طاعة الله إلى طاعة الشيطان (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) من الكفرة ككفار مكة (لِيُجَادِلُوكُمْ) بوحي الشيطان ما ذبحتموه حلال وما ذبحه الله حرام فأنتم أحسن من الله ثم قال وهو محل الشاهد (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) أي اتبعتموهم في ذلك النظام الذي وضعه الشيطان لإتباعه وأقام الدليل من وحيه عليه (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) بالله متخذون من اتبعتم تشريعه ربا غير الله وهذا الشرك المذكور في قوله (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) هو الشرك الأكبر المخرج عن الملة (ملة الإسلام) بإجماع المسلمين وهو الذي أشار الله إليه بقوله (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) وهو الذي صرح به الشيطان في خطبته يوم القيامة المذكورة في قوله تعالى (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) إلى قوله (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) وهو المراد على أصح التفسيرين بقوله (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) أي يعبدون الشياطين باتباعهم أنظمتهم وتشريعاتهم على ألسنة الكفار وهو الذي نهى إبراهيم عنه أباه (يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ) أي باتباع ما يقرر لك من نظام الكفر والمعاصي مخالفاً لشرع الله الذي أنزله على رسوله وهذه العبادة هي التي وبخ الله مرتكبها وبين مصيرها الأخير في سورة (يس) بقوله (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
فهم ما عبدوه بسجود ولا ركوع ولكن عبدوه باتباع نظام وتشريع وقانون، شرع لهم أموراً غير ما شرع الله فاتبعوه وتركوا ما شرع الله فعبدوه بذلك واتخذوه ربا كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه وهذا أمر لا شك فيه وهو المراد بقوله (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً) يعني ما يعبدون إلا شيطاناً مريداً أي عبادة نظام وتشريع.
ويقول الله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) فكل من تحاكم إلى غير ما أنزل الله فهو متحاكم إلى الطاغوت، وهؤلاء قوم أرادوا التحاكم إلى الطاغوت ويزعمون أنهم مؤمنون بالله فيعجب الله نبيه من كذب هؤلاء وعدم حيائهم بقوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) بتعجيبه منهم (يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) ويريد الشيطان الذي شرع لهم تلك النظم والأوضاع التي يسيرون عليها يريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً.
وأقسم الله جل وعلا إقساماً سماوياً من رب العالمين على أنه لا إيمان لمن لم يحكم رسول الله فيما جاء به من الله خالصاً من قبله في باطنه وسره وذلك في قوله (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
فبين الله جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه أن الحكم له وحده لا شريك له في حكمه، وجاء بكل ما ذكر من اختصاصه بالحكم أوضح العلامات التي يفرق يها بين من يستحق أن يحكم ويأمر وينهى ويشرع ويحلل ويحرم وبين من ليس له شيء من ذلك قال تعالى (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وقال تعالى (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ) وسنبين لكم أمثلة من ذلك.
من ذلك قوله في سورة الشورى (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) ثم إن الله كأنه قال: هذا الذي يكون المرجع إليه والقول قوله والكلمة كلمته حتى يردّ إليه كل شيء اختلف فيه ما صفته التي يتميز بها عن غيره قال: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) ثم بين صفات من يستحق الحكم والتشريع والتحليل والتحريم والأمر والنهي فقال: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
هذه صفات من له أن يحكم ويحلل ويحرم ويأمر وينهى أفترون أيها الإخوان أن واحداً من هؤلاء القردة والخنازير الذين يضعون القوانين الوضعية أفيهم واحداً يستحق هذه الصفات –التي هي صفات من يحكم ويحلل ويحرم ويأمر وينهى: ومن الآيات الدالة على هذا النوع قوله تعالى في سورة القصص: (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
ثم بين من له الحكم فقال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
هل من القردة والخنازير الذين يضعون النظم ويزعمون أنهم يرتبون بها علاقات الإنسان ويضبطون بها شئونه، هل من هؤلاء من يستحق أن يوصف بهذه الصفات التي هي صفات من له أن يحكم ويأمر وينهى ويحلل ويحرم؟ ومن ذلك قوله تعالى في أواخر سورة القصص: (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
والآيات في ذلك كثيرة جداً.
والحاصل أن التشريع لا يكون إلا للأعلى الذي لا يمكن أن يكون فوقه أمير ولا ناهي ولا متصرف، فهو السلطة العليا، أما المخلوق الجاهل الكافر المسكين فليس له أن يحلل أو يحرم والعجب كل العجب من قوم كان عندهم كتاب الله عز وجل وورثوا الإسلام عن آبائهم وعندهم هذا القرآن العظيم والنور المبين وسنة خير الخلق صلى الله عليه وسلم وقد بين الله ورسوله لهم كل شيء ومع ذلك يعرضون عن هذا لاعبين لأنه بزعمهم لا يحسن القيام بشئون الدنيا بعد تطوراتها الراهنة!! يطلبون الصواب في زبالات أذهان الكفرة الخنازير وهم لا يعلمون شيئاً وهذا من طمس البصائر والعياذ بالله ولا يصدّق به إلا من رآه، ولكن الخفافيش يعرضون عن القرآن الكريم، فالقرآن العظيم نور عظيم والخفاش لا يكاد يرى النور فالخفافيش أعماها النور بضوئه وهي لا ترى إلا في الليل المظلم.
فهذا القرآن العظيم ينصرفون عنه وترى الواحد الذي هو مسئول عنهم يعلن في غير حياء من الله ولا حياء من الناس بوجه لا ماء فيه وبكل وقاحة أنه يحكم في نفسه وفي الناس الذين هم رعيته ومسئول عنهم يحكم في أديانهم وفي أنفسهم وفي عقولهم وفي أجسادهم وفي أموالهم وفي أعراضهم قانوناً أرضياً وضعه خنازير الكفرة الجهلة الذين هم من الكلاب والخنازير أمثالهم، والذين هم أجهل خلق الله معرضين عن نور السماء الذي وضعه الله جل وعلا على لسان خلقه هذا من طمس البصائر لا يصدق به إلا من رآه والعياذ بالله، اللهم لا تطمس بصائرنا ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.
اعلموا أيها الإخوان أن كل من يتعالى أمام الخالق جل وعلا بلا حياء في وجهه إنه يعرض عما أنزل الله على محمد –صلى الله عليه وسلم- مدعياً أنه لا يقدر أن يقوم بتنظيم علاقات الدنيا يطلب النور والهدى في زبالات أذهان الخنازير الكفرة الفجرة، والذين هم جهلة في غاية الجهل اعلموا أنه هو وفرعون وهامان وقارون في الكفر سواء لأنه يعرض عن الله وعن تشريع الله فيفضل عليه تشريع الشيطان ونظام إبليس الذي شرعه على ألسنة أوليائه وليس له نصيب في الإيمان بوجه من الوجوه كما رأيتم الآيات الكثيرة الدالة على ذلك وتعجيب الله نبيّه من ادعائهم الإيمان، فعلى المسلمين جميعاً أن يعلموا ويعتقدوا ونحن نقول بلا شك يجب على كل مسلم كائناً من كان أن يعلم أنه لا حلال إلا ما أحله الله ولا حرام إلا ما حرمه الله ولا دين إلا ما شرعه الله فمن سوى الله لا تحليل له ولا تحريم لأنه عبد مسكين ضعيف مربوب، عليه أن يعمل بما يأمره به ربه فينتفع بما شرعه ربه وهذا معنى قوله اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله (أ.هـ) من شريط مسجل بصوت الشيخ رحمه الله.
ويقول الشيخ محمدالأمين الشنقيطي رحمه الله :
في تفسيره لقوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) من سورة الشورى.
قال (رحمه الله):-
قوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ).
ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن ما اختلف فيه الناس من الأحكام فحكمه إلى الله وحده، لا إلى غيره، جاء موضحا في آيات كثيرة.
فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته قال في حكمه (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)، وفي قراءة ابن عامر من السبعة (وَلا تُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) بصيغة النهي.
وقال في الإشراك به في عبادته: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً). فالأمر سواء كما ترى إيضاحه إن شاء الله.
وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه، كفر بواح لا نزاع فيه.
وقد دل القرآن في آيات كثيرة، على أنه لا حكم لغير الله، وأن اتباع تشريع غيره كفر به، فمن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده قوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)، وقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) الآية. وقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)، وقوله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، وقوله تعالى: (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)، وقوله تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، وقوله تعالى: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد قدمنا إيضاحها في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً).
وأما الآيات الدالة على أن اتباع تشريع غير الله المذكور كفر فهي كثيرة جداً، كقوله تعالى: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)، وقوله تعالى: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)، وقوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً، كما تقدم إيضاحه في الكهف.
الحمدلله رب العلمين القائل (ولا يشرك في حكمه أحدا ) والقائل ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) والقائل (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ) والصلاة والسلام على نبيه الأمين الحاكم بالحق المبين القائل (وايم الله ! لو أن فاطمة بنت محمد
سرقت لقطعت يدها ، ) أما بعد :
إن حكام هذا الوقت ينطبق عليهم تفسير قوله تعالى (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) الآية 26 الكهف قال (رحمه الله):-
قوله تعالى: (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن عامر "لايشرك" بالياء المثناه التحتية، وضم الكاف على الخبر، ولا نافية –والمعنى: ولا يشرك الله جل وعلا أحداً في حكمه، بل الحكم له وحده جل وعلا لا حكم لغيره ألبتة، فالحلال ما أحله الله تعالى، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه؛ والقضاء ما قضاه، وقرأ ابن عامر من السبعة "ولا تشرك" بضم التاء المثناة الفوقية وسكون الكاف بصيغة النهي، أي لا تشرك يا نبي الله، أو لا تشرك أيها المخاطب أحداً في حكم الله جل وعلا، بل أخلص الحكم لله من شوائب شرك غيره في الحكم. وحكمه جل وعلا المذكور في قوله: (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) شامل لكل ما يقضيه جل وعلا، ويدخل في ذلك التشريع دخولاً أولياً.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له فيه على كلتا القراءتين جاء مبينا في آيات أخر؛ كقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ..) الآية، وقوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ..) الآية، وقوله تعالى: (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ)، وقوله تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وقوله تعالى: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، وقوله: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، وقوله تعالى: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً)، إلى غير ذلك من الآيات.
ويفهم من هذه الآيات كقوله: (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)- أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله، وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخر؛ كقوله فيمن اتبع تشريع الشبطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم. وهذا الإشراك في الطاعة، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى – هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)، وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم: (يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً)، وقوله تعالى: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً) أي ما يعبدون إلا شيطاناً، أي وذلك باتباع تشريعه؛ ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ..) الآية. وقد بين صلى الله عليه وسلم هذا لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عن قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..) الآية –فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم في ذلك، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أرباباً. ومن أصرح الأدلة في هذا: أن الله جل وعلا في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من لكذب ما يحصل منه العجب؛ وذلك في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً).
وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليه وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم.
هذا كلام صاحب تفسير أضواء البيان العلامة محمدالأمين الشنقيطي رحمه الله . الشيخ يذكر إن متبعي غير تشريع الله مشركين فكيف يكون من شرع من دون الله ألا يكون طاغوتا ؟
تنبيه
اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السموات والأرض، وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك.
وإيضاح ذلك –أن النظام قسمان: إداري، وشرعي، إما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع، فهذا لا مانع منه، ولا مخالف فيه من الصحابة، فمن بعدهم. وقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط، ومعرفة من غاب ومن حضر كما قدمنا إيضاح المقصود منه في سورة "بني إسرائيل" في الكلام على العاقلة التي تحمل دية الخطأ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولم يعلم بتخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك إلا بعد أن وصل تبوك صلى الله عليه وسلم. وكاشترائه –أعني عمر رضي الله عنه- دار صفوان بن أمية وجعله إياها سجناً في مكة المكرمة، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجناً هو ولا أبو بكر، فمثل هذه الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا يخالف الشرع –لا بأس به؛ كتنظيم شئون الموظفين، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع. فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به، ولا يخرج من قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة.
وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السموات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السموات والأرض؛ كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، وأنهما يلزم استواؤهما في الميراث. وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم، وأن الطلاق ظلم للمرأة، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان، ونحو ذلك.
فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأدديانهم –كفر بخالق السموات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها وهو أعلم بمصالحها سبحانه وتعالى عن أن يكون معه مشرع آخر علوا كبيرا (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ)، (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) وقد قدمنا جملة وافية من هذا النوع في سورة "بني إسرائيل" في الكلام على قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ..) الآية.
تفسير قوله تعالى:
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) سورة براءة.
قال رحمه الله تعالى: "ذكر الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمات من سورة براءة ما جرى من اليهود والنصارى. فعد منها أنهم نسبوا له الأولاد وأتبع ذلك بقوله (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن الحق مع وضوحه ويدّعون للواحد الآحد الذي لم يلد ولم يولد، يدّعون له الأولاد فيقولون عزير ابن الله مسيح ابن الله سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً ثم ذكر في معائبهم وإجرامهم بلايا أخر فقال (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) أي واتخذوا المسيح ابن مريم رباً من دون الله هذه الآية جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسرها لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عنها فقد أخرج الترمذي وغيره عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقه صليب من ذهب فقال له صلى الله عليه وسلم أخرج هذا الوثن من عنقك وسمعه يقرأ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وكان عدي في الجاهلية نصرانياً فقال عدي ما كنا نعبدهم من دون الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ألم يحرموا عليكم ما أحل الله ويحلوا لكم ما حرم الله فتتبعوهم قال: بلى قال فذلك عبادتهم وهو معنى اتخاذهم أرباباً وهذا التفسير النبوي يقتضي أن كل من يتبع مشرعاً بما أحل وحرم مخالفاً لتشريع الله أنه عابد له متخذه رباً مشرك به كافر بالله هو تفسير صحيح لا شك في صحته والآيات القرآنية الشاهدة لصحته لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم وسنبين إن شاء الله طرفاً من ذلك.
اعلموا أيها الإخوان: أن الإشراك بالله في حكمه والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد لا فرق بينهما البته فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله وتشريعاً غير تشريع الله (أو غير ما شرعه الله) وقانوناً مخالفاً لشرع الله من وضع البشر معرضاً عن نور السماء الذي أنزله الله على لسان رسوله...
من كان يفعل هذا هو ومن كان يعبد الصنم ويسجد للوثن لا فرق بينهما البته بوجه من الوجوه فهما واحد كلاهما مشرك بالله. هذا أشرك به في عبادته وهذا أشرك به في حكمه كلهما سواء وقد قال الله جل وعلا في الإشراك به في عبادته (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).
وقال تعالى في الإشراك في حكمه أيضاً (لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً).
وفي قراؤة ابن عامر من السبعة (وَلا تُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) بصيغة النهي فكلاهما إشراك بالله ولهذا بين النبي صلى الله عليهم لعدي بن حاتم أنهم لما أتبعوا نظامهم في التحليل والتحريم وشرعهم المخالف لشرع الله كانوا عبدة لهم متخذيهم أرياباً والآيات القرآنية في المصحف الكريم المصرحة بهذا المعنى لا تكاد تحصيها ومن أصرحها المناظرة التي وقعت بين حزب الرحمن وحزب الشيطان يقولون إن الميتة حلال ويستدلون بوحي من وحي الشيطان وأن الشيطان أوحى إلى أصحابه وتلامذته في حكمه أن اسألوا محمدا عن الشاة تصبح ميتة من هو الذي قتلها فلما قال الله قتلها احتجوا على النبي وأصحابه في تحريمهم الميتة بفلسفة من وحي الشيطان وقالوا ما ذبحتموه وذكيتموه بأيديكم حلال وما ذبحه الله بيده الكريمة بسكين من ذهب تقولون حرام فأنتم أحسن من الله إذن وهذا على فلسفة الشيطان ووحي إبليس استدل بها كفار مكة على اتباع نظام الشيطان وتشريعه وقانونه بدعوى أن ما ذبحه الله أحل مما ذبحه الناس وأن تذكية الله أطهر من تذكية الخلق واستدل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على تحريم الميتة بوحي الرحمن بقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) فأدلى هؤلاء بنص من نصوص السماء وأدلى هؤلاء بفلسفه من وحي الشيطان ووقع بينهم جدال وخصام فتولى رب السماء والأرض الفتيا بنفسه فأنزلها قرآناً يتلى في سورة الأنعام معلماً بها خلقه أن كل من يتبع نظاماً وتشريعاً وقانوناً مخالفاً لما شرعه الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مشرك بالله كافر متخذ ذلك المتبوع ربا. فأنزل الله قوله (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) من الميتة أي وإن قالوا أنها ذكاة الله وأنها أطهر ثم قال (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) إي أن الأكل من الميتة لفسق أي أنه خروج من طاعة الله إلى طاعة الشيطان (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) من الكفرة ككفار مكة (لِيُجَادِلُوكُمْ) بوحي الشيطان ما ذبحتموه حلال وما ذبحه الله حرام فأنتم أحسن من الله ثم قال وهو محل الشاهد (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) أي اتبعتموهم في ذلك النظام الذي وضعه الشيطان لإتباعه وأقام الدليل من وحيه عليه (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) بالله متخذون من اتبعتم تشريعه ربا غير الله وهذا الشرك المذكور في قوله (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) هو الشرك الأكبر المخرج عن الملة (ملة الإسلام) بإجماع المسلمين وهو الذي أشار الله إليه بقوله (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) وهو الذي صرح به الشيطان في خطبته يوم القيامة المذكورة في قوله تعالى (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) إلى قوله (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) وهو المراد على أصح التفسيرين بقوله (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) أي يعبدون الشياطين باتباعهم أنظمتهم وتشريعاتهم على ألسنة الكفار وهو الذي نهى إبراهيم عنه أباه (يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ) أي باتباع ما يقرر لك من نظام الكفر والمعاصي مخالفاً لشرع الله الذي أنزله على رسوله وهذه العبادة هي التي وبخ الله مرتكبها وبين مصيرها الأخير في سورة (يس) بقوله (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
فهم ما عبدوه بسجود ولا ركوع ولكن عبدوه باتباع نظام وتشريع وقانون، شرع لهم أموراً غير ما شرع الله فاتبعوه وتركوا ما شرع الله فعبدوه بذلك واتخذوه ربا كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه وهذا أمر لا شك فيه وهو المراد بقوله (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً) يعني ما يعبدون إلا شيطاناً مريداً أي عبادة نظام وتشريع.
ويقول الله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) فكل من تحاكم إلى غير ما أنزل الله فهو متحاكم إلى الطاغوت، وهؤلاء قوم أرادوا التحاكم إلى الطاغوت ويزعمون أنهم مؤمنون بالله فيعجب الله نبيه من كذب هؤلاء وعدم حيائهم بقوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) بتعجيبه منهم (يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) ويريد الشيطان الذي شرع لهم تلك النظم والأوضاع التي يسيرون عليها يريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً.
وأقسم الله جل وعلا إقساماً سماوياً من رب العالمين على أنه لا إيمان لمن لم يحكم رسول الله فيما جاء به من الله خالصاً من قبله في باطنه وسره وذلك في قوله (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
فبين الله جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه أن الحكم له وحده لا شريك له في حكمه، وجاء بكل ما ذكر من اختصاصه بالحكم أوضح العلامات التي يفرق يها بين من يستحق أن يحكم ويأمر وينهى ويشرع ويحلل ويحرم وبين من ليس له شيء من ذلك قال تعالى (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وقال تعالى (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ) وسنبين لكم أمثلة من ذلك.
من ذلك قوله في سورة الشورى (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) ثم إن الله كأنه قال: هذا الذي يكون المرجع إليه والقول قوله والكلمة كلمته حتى يردّ إليه كل شيء اختلف فيه ما صفته التي يتميز بها عن غيره قال: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) ثم بين صفات من يستحق الحكم والتشريع والتحليل والتحريم والأمر والنهي فقال: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
هذه صفات من له أن يحكم ويحلل ويحرم ويأمر وينهى أفترون أيها الإخوان أن واحداً من هؤلاء القردة والخنازير الذين يضعون القوانين الوضعية أفيهم واحداً يستحق هذه الصفات –التي هي صفات من يحكم ويحلل ويحرم ويأمر وينهى: ومن الآيات الدالة على هذا النوع قوله تعالى في سورة القصص: (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
ثم بين من له الحكم فقال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
هل من القردة والخنازير الذين يضعون النظم ويزعمون أنهم يرتبون بها علاقات الإنسان ويضبطون بها شئونه، هل من هؤلاء من يستحق أن يوصف بهذه الصفات التي هي صفات من له أن يحكم ويأمر وينهى ويحلل ويحرم؟ ومن ذلك قوله تعالى في أواخر سورة القصص: (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
والآيات في ذلك كثيرة جداً.
والحاصل أن التشريع لا يكون إلا للأعلى الذي لا يمكن أن يكون فوقه أمير ولا ناهي ولا متصرف، فهو السلطة العليا، أما المخلوق الجاهل الكافر المسكين فليس له أن يحلل أو يحرم والعجب كل العجب من قوم كان عندهم كتاب الله عز وجل وورثوا الإسلام عن آبائهم وعندهم هذا القرآن العظيم والنور المبين وسنة خير الخلق صلى الله عليه وسلم وقد بين الله ورسوله لهم كل شيء ومع ذلك يعرضون عن هذا لاعبين لأنه بزعمهم لا يحسن القيام بشئون الدنيا بعد تطوراتها الراهنة!! يطلبون الصواب في زبالات أذهان الكفرة الخنازير وهم لا يعلمون شيئاً وهذا من طمس البصائر والعياذ بالله ولا يصدّق به إلا من رآه، ولكن الخفافيش يعرضون عن القرآن الكريم، فالقرآن العظيم نور عظيم والخفاش لا يكاد يرى النور فالخفافيش أعماها النور بضوئه وهي لا ترى إلا في الليل المظلم.
فهذا القرآن العظيم ينصرفون عنه وترى الواحد الذي هو مسئول عنهم يعلن في غير حياء من الله ولا حياء من الناس بوجه لا ماء فيه وبكل وقاحة أنه يحكم في نفسه وفي الناس الذين هم رعيته ومسئول عنهم يحكم في أديانهم وفي أنفسهم وفي عقولهم وفي أجسادهم وفي أموالهم وفي أعراضهم قانوناً أرضياً وضعه خنازير الكفرة الجهلة الذين هم من الكلاب والخنازير أمثالهم، والذين هم أجهل خلق الله معرضين عن نور السماء الذي وضعه الله جل وعلا على لسان خلقه هذا من طمس البصائر لا يصدق به إلا من رآه والعياذ بالله، اللهم لا تطمس بصائرنا ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.
اعلموا أيها الإخوان أن كل من يتعالى أمام الخالق جل وعلا بلا حياء في وجهه إنه يعرض عما أنزل الله على محمد –صلى الله عليه وسلم- مدعياً أنه لا يقدر أن يقوم بتنظيم علاقات الدنيا يطلب النور والهدى في زبالات أذهان الخنازير الكفرة الفجرة، والذين هم جهلة في غاية الجهل اعلموا أنه هو وفرعون وهامان وقارون في الكفر سواء لأنه يعرض عن الله وعن تشريع الله فيفضل عليه تشريع الشيطان ونظام إبليس الذي شرعه على ألسنة أوليائه وليس له نصيب في الإيمان بوجه من الوجوه كما رأيتم الآيات الكثيرة الدالة على ذلك وتعجيب الله نبيّه من ادعائهم الإيمان، فعلى المسلمين جميعاً أن يعلموا ويعتقدوا ونحن نقول بلا شك يجب على كل مسلم كائناً من كان أن يعلم أنه لا حلال إلا ما أحله الله ولا حرام إلا ما حرمه الله ولا دين إلا ما شرعه الله فمن سوى الله لا تحليل له ولا تحريم لأنه عبد مسكين ضعيف مربوب، عليه أن يعمل بما يأمره به ربه فينتفع بما شرعه ربه وهذا معنى قوله اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله (أ.هـ) من شريط مسجل بصوت الشيخ رحمه الله.
ويقول الشيخ محمدالأمين الشنقيطي رحمه الله :
في تفسيره لقوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) من سورة الشورى.
قال (رحمه الله):-
قوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ).
ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن ما اختلف فيه الناس من الأحكام فحكمه إلى الله وحده، لا إلى غيره، جاء موضحا في آيات كثيرة.
فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته قال في حكمه (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)، وفي قراءة ابن عامر من السبعة (وَلا تُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) بصيغة النهي.
وقال في الإشراك به في عبادته: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً). فالأمر سواء كما ترى إيضاحه إن شاء الله.
وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه، كفر بواح لا نزاع فيه.
وقد دل القرآن في آيات كثيرة، على أنه لا حكم لغير الله، وأن اتباع تشريع غيره كفر به، فمن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده قوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)، وقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) الآية. وقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)، وقوله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، وقوله تعالى: (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)، وقوله تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، وقوله تعالى: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد قدمنا إيضاحها في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً).
وأما الآيات الدالة على أن اتباع تشريع غير الله المذكور كفر فهي كثيرة جداً، كقوله تعالى: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)، وقوله تعالى: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)، وقوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً، كما تقدم إيضاحه في الكهف.
التعديل الأخير بواسطة المشرف: