العلية /قصة قصيرة

ازدهار الانصاري

عضو بلاتيني
في يوم غائم تعثرت فيه الرياح على النوافذ الخشبية التي زرعتها قبل سنوات على هيكل بيت تسكنه الأشباح بعد ان هجرته القلوب التي كانت بضجيجها تملأ المكان.. في ذلك اليوم تصفحت شهرزاد دفتر

مذكراتها باحثة في مهمهات الامس عن ذكرى عزيزة، حاولت ان تقرأ فيما بين السطور وبكل الملكات التي تحتويها لعلها تخترق ذلك الحزن الشفيف الذي ألصقته السنوات العجاف فوق صدرها، لكنها شعرت

بألم دافق يستنزف احشاءها.. ألم من نوع خاص.. تداعيات امس سقط في براثن حمى مجهولة المصدر وارهاصات نفس عذبتها الذكريات واوردتها مورداً متعرجاً غير ذي بال.

ألقت بدفترها جانباً وأشعلت لفافة تبغ.. في داخلها كان هناك شيء يشبه الفراغ والعتمة.. شيء ليست له أية مسميات.. لا ينتمي لأي عالم من العوالم المحيطة أو اللاكونية.. طرق سمعها حفيف الرياح التشرينية

وهي تصطفق على نوافذ حجرتها في العلية، الحجرة التي لم تدخلها منذ زمن بعيد ولعل الذي خلفته أتربة الفوضى والدمار قد أغرق كل ذكرياتها في دوامة لا انقطاع لها.. فكرت لو انها تفتعل شيئاً ما جديداً..

كأن ترتقي السلم الحجري وتصعد إلى حجرة الأشباح تلك.. لم لا؟ تساءلت في داخلها: ما الذي يمنع من أن أتحاور مع اشباحي الذين يسكنون معي هذي الدار الموحشة لعلنا نؤنس بعضنا بعضاً.. لعلنا ننسج

عالماً آخر لا يسكنه الفراغ المتعم؟ ولعل ما شجعها وأورد في خاطرها تلك الفكرة هو ذلك الحفيف الشديد الذي تصطفق جراءه نوافذ المنزل كلها..

في أول خطوة نحو السلم الحجري تناوشها هاجس من صوت بعيد: كلنا بالانتظار منذ زمن طويل، تعالي إلينا فنحن نحتاج إلى رفقتك.. هلم ارتقي السلم وتعالي إلى العلية..! وعلى الرغم من عدم اهتمامها

بشيء وعدم احساسها بالحر او البرد ارتجفت أوصالها هلعاً من خوض تجربة لم يسبق لها أن تواردت إلى ذهنها.. فكرت أن تعود ادراجها لولا ذلك الشعور المبهم الذي استنزف ذاتها المتعبة غير المبقية على

شيء..

كانت المسيرة بطيئة وطويلة والصوت البعيد يقترب منها كلما خطت صعوداً خطوة بعد أخرى، وجدت نفسها عند الباب الذي سكنت اركانه خيوط العنكبوت المتدلية من السقف والاركان، وأمسكت بيد مرتعشة

مقبض الباب الذي كان وعلى الرغم من مرور السنين دافئاً يحتفظ بحرارة اليد التي كانت في يوم مضى تمسح دموعها المتساقطة على وجنتيها، وتمسد لها شعرها الأشقر الذي غدا اكثر بياضاً من الثلج..

خالجها ذلك الشجن الخفي الذي هجرها كما هجرتها الاشياء من قبل وهي تنصت إلى صوت الكرامافون المزروع على منضدة من خشب الزان.. الاتربة والغبار يحتلان اجواء الحجرة الباردة كالزمهرير..

صور طفولية قديمة وأخرى تحمل في طياتها شباباً والقاً وعنفواناً وأخرى انحلتها الشيخوخة وصوت شجي دافئ يغني (ون يا قلب ون ون ون، لا تتبع العافوك، وتظل شماتة راح ولفي د ون يا قلبي).*

استقبلتها جموع الاشباح بصوت واحد: تأخرت طويلاً في المجيء الينا وكنا بالانتظار.. كنا نعلم انك ستواصلين المقاومة حتى تدخلي بوابة الحجرة انظري كم هي مألوفة اشياؤها لديك انها الحياة التي تبحثين

عنها ولم تفكري قط بزيارتها! تعالي وانظمي إلى كوكبتنا لأننا الأهل والأحبة والأصدقاء.

حالة من دفء غريب تخللت مسام صدرها الموحشة لتبعد فزعاً أخلد في دخيلتها وهي تنظر إلى الأشياء المركونة في حجرتها المغلفة بالغبار..!

رائحة دخان تنبعث من احد الاركان.. صوت ضحكات تتناوش بالنكات الامها المتناسلة.. عيون ترقبها بترصد واستهجان.. وصوت دافئ حنون يخترق مسامعها: تعالي حبيبتي انضمي إلي.. كم اشتقت

لاحتضانك يوماً بعد الرحيل انه ليس حلماً بل هو حقيقة أنت معي الان شابة مرحة عطوف كما كنت من قبل.. تعالي اسكب لك كأس فرح جديد بعيداً عن كل المنغصات التي خلفتها الأيام.. وانسي ما حل بك

وحولك من دمار وغربة وضياع.. تعالي لنلفك بين احضاننا ونزيح عن كاهلك هموم الامس واليوم لا تفكري بما يحمله الغد لأنه ليس لك..


تعالي وانضمي إلى هذا الحشد من الارواح التي سبقتك إلى هنا حاملة معها أشياء شتى ليكتمل نصاب العدد..

كانت شهرزاد تغوص عميقاً بين الاتربة والغبار.. لم تعد تسمع اصطفاق النوافذ ولا هواجس النفس البرية ولا رياح تشرين الخريفية.. كل ما لديها الآن روح تحلق في فضاءات لا نهائية تقتبس منها أحلامها

المؤجلة والمضيعة.. نسيت كل شيء حين لم تعد تملك ذلك الجسد المتواطئ مع فوضى واسقاطات الواقع.. تحررت أخيراً من القيود التي ربطتها عمراً كاملاً تحت ضغط مستمر.. لترقص مع الأشباح

والارواح رقصة الوداع الاخير..!

في الصباح كان الناس يحملون نعشاً لامرأة سقطت من علية ذلك البيت المسكون بالأشباح ومن نافذة العلية تنظر عيون ضاحكة مودعة ذلك الجسد الفاني، وصوت الكرامافون يردد: (وين رايح وين).*

سلام


* أغنية من الفلكور العراقي القديم.

* أغنية من الفلكور العراقي القديم.
 
أعلى