لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين: درس من المشهد المصري

روائي

عضو مميز
تتطلب الثقافة الديمقراطية، مجموعة من القيم والتمثلات الذهنية كالاعتدال والتسامح والحرية وقبول الآخر، فكل نظام ديمقراطي يحتاج لدعامات ثقافية تغذي الشعور الجمعي بأهمية هذه الآلية في ضمان الاستقرار وحرية الأفراد في الاختيار. لذا تشكل الثقافة الديمقراطية شرطا ضروريا في عملية البناء المؤسساتي، والتعايش السلمي بين الأفراد داخل الدولة الواحدة، خاصة في ظل المجتمعات ذات البنى التعددية كما الحالة العربية، حيث تمثل الانتماءات العشائرية والطائفية والقبلية أساس العلاقات الاجتماعية والسياسية بين الأفراد.
فلما كانت العملية الديمقراطية تشكل نوع من الاستعلاء على البنية التقليدية التي تتغذى من العصبية والانتماء العضوي للعشيرة، بات من الواضح أن أي عملية انتقال نحو الديمقراطية تقتضي إفراز بيئة اجتماعية مستعدة لتقبل قيم الحداثة ومضمون الديمقراطية، وهو ما لا يزال يعترض مسلسل الدمقرطة في المنطقة العربية. فإذا كانت الثورات التي شهدتها المنطقة بشرت بتحول نوعي في الثقافة الجمعية التقليدية للمجتمع العربي، وما تشكله من اعتراض راسخ مع الديمقراطية، فإن واقع الحال يشي بأن هذا التحول لم يستطع تفكيك ميكنزمات الثقافة الأبوية وليدة الاستبداد البائد.
إن كان هناك درس يمكن أن يقدم لنا في هذا الباب، فذاك الذي يأتينا من المشهد المصري الحالي، في ظل حالة الانقسام والتجاذبات الإيديولوجية بين مختلف مكونات المجتمع، وهو تعبير على أن الثقافة الديمقراطية لم تستطع بعد أن تجد لها مكانا في التمثلات الذهنية والقيمية للفرد العربي. سلطة الأب والشيخ، التي كانت عماد نظام الاستبداد الذي قامت ضده الثورات العربية لا زالت حاضرة، بل تجدد ذاتها باستمرار مما يهدد مسلسل الانتقال الديمقراطي برمته في المنطقة.
حينما يخرج قائد عسكري ويخاطب الشعب بصيغة المفرد (أريدك أن تخرج لتعطيني تفويضا من أجل محاربة الإرهاب)، نحن إزاء عملية تنميط لشخصنة السلطة، وعودة مبيتة للنظام الأبوي القديم، وضرب في عمق مؤسسات النظام السياسي، وجوهر السلطة السياسية الديمقراطية. وحينما يخرج جزء كبير من الشعب المصري يحمل صور قائد عسكري، وشعارات مبجلة له لدرجة اختصار مصير مجتمع بكامله في قبضة هذا القائد، فهذا يعني شيء واحد أن سلطة الأب الحاضن للعائلة وراعيها والآمر والناهي الذي على صواب دائما، لا زالت مترسخة في ذهنية الفرد العربي والمصري تحديدا، وهو ما يزيد من حجم الهوة ما بين العيش في ظل الحكم الديمقراطي الذي يضمن الاختلاف والمشاركة بين مختلف مكونات المجتمع، وما بين المنظومة العشائرية التي لا تضمن العيش للخارج عن طوع قائدها وحاميها.
خروج تيارات محسوبة على الجناح الليبرالي والتقدمي بتحالف مع قوة العسكر، للإطاحة برئيس منتخب بعملية انتخابية مشهود لها بالنزاهة، وإلغاء دستور مستفتى عليه بأغلبية الأصوات، لا يختلف كثيرا عن شعارات الأخونة والتكفير والنفي التي مارستها بعض تيارات الإسلام السياسي تجاه معارضيها والمختلفين معها. فنحن إزاء مشهد يعري مدى جسامة ومعضلة الثقافة السياسية للفرد العربي، التي تبتعد كثيرا عن مقومات الثقافة الديمقراطية التي تعني بالأساس القبول بالآخر واحترام الإرادة الشعبية المعبر عنها عبر آليات مؤسساتية.
المشهد المصري يقدم لنا إجابة شافية وعافية عن سؤال قديم، أن الديمقراطية ليست مجرد مؤسسات سياسية أو صناديق اقتراع أو حتى تعددية حزبية شكلية، بل هي بنى ثقافية وتحولات جذرية في بنية المجتمع التقليدي، الذي تؤهله لإمكانية استيعاب مضامين الديمقراطية في جوهرها الأساسي، كنهج للحكم يضمن التداول على السلطة ويحترم إرادة الشعب وفق قواعد دستورية متفق عليها سلفا بين كافة أطياف المجتمع، والتي بدورها تضمن الممارسة الديمقراطية للحكم.
فعلا، لم تشهد المنطقة العربية انقلابا فكريا وانتقالا نوعيا من الولاء للجماعة وللعشيرة، إلى الولاء لمؤسسات الدولة وقوانينها. وتعنت بعض الفئات التي تعتبر نفسها ممثلة للتيارات الديمقراطية في تكريس سلطة الأبوية التي هي أساس المنظومة التربوية التي تقوم عليا تيارات الإسلام السياسي من خلال التبعية للشيخ أو مرشد الجماعة، لن يزيد المشهد المصري إلا تعقيدا وتأجيلا للمضي نحو البناء الديمقراطي، وإدخال البلاد في دوامة إعادة إنتاج الاستبداد الذي بدأت تلوح بعض علاماته مع عودة العسكر للتحكم في دواليب الدولة.
الخلاصة، أثبتت التجارب الديمقراطية العالمية، أن لا تجربة ديمقراطية رائدة وناجحة، جاءت بيد فئات غير متشعبة بقيم هذه الأخيرة وبثقافة تضمن حق الجميع في الاختلاف والمشاركة في العملية السياسية، بل الدفاع بشراسة عن أن يستمر من اختارته الإرادة الشعبية في تطبيق برامجه وفق قواعد لعب تمض للطرف الآخر المعارض حقه الكامل في الوجود والنقد والاعتراض
 
أعلى