أماكن..

البريكي2020

عضو فعال
أماكن..


بقلم: أحمد مبارك البريكي
Twitter: @ahmad_alburaiki
Instagram: @ahmad_alburaiki



ثمَة أماكن تسكنها الأحداث وتستقر، تتكاثر عليها السنون فيزيد بريق الحدث العتيق ألقاً وغلاءً، إن بعض الأماكن كالمعادن لا تعبرها الذكرى مطلقا، إنما تجعلها في ديمومة تجدد أبدية.. أنا في أحد هذه الأمكنة التي يعدّها عشاق الكُرة الإنجليزية "بقاعاً مقدّسة"، فَتحت قوسيّة ملعب استاد ويمبلي الشهير في يومٍ ضبابيّ، كانت رغبتي أقوى في أن تلامس أقدامي الأرضية التي أبلجَت كرة القدم الصغيرة إلى الوجود على سطح الكرة الأرضية الكبيرة، فلو كانت خطوتي هذه لم تتأخر خمسين عاماً إلى الوراء، وتحديداً في ليلة الثلاثين من يونيو عام 1966، لكنت وقتئذٍ في حضرة الإمبراطورة البريطانية، وهي تمُدّ كأس العالم إلى يد بوبي مور ليرفعه عالياً، معلناً بأن إنجلترا مهد القدم سيدة العالم لأول وآخر مرة، وليكون بعدها "مور" ذاته قائداً أيقونياً تلقّبت باسمه بوابة الملعب اللندنيّ، الذي أقام له صرحاً خالداً يستقبل القادمين، في هذه المسطحة الخضراء التي رُكلت عليها الكرة البيضاء لأول مرة في نهائي كأس إنجلترا يوم 28 أبريل عام 1923، ليعدو بعدها عمالقة اللعبة بين جنباته.. كـ تشارلتون وأوزيبيو وبيليه وغارنشيا وبلاتيني وجورج بيست وكرويف وبوشكش وجيف هيرست اللاعب الذي ارتطمت كرته في سقف المرمى الألماني الغربي في ذاك النهائي المشهود، ليعلن الحكم الأذري هدفاً مشكوكاً أشغل العالم بحثاً وجدلاً بعده. والعارضة التي تسببت في تلك المعضلة عُلّقت حتى اليوم في مكان بارز عند مدخل الجمهور، وقد مررت مسرورا تحت ظلها الشاحب الباقي، وهذا الملعب المقوّس استضاف حفلين افتتاحيين للألعاب الأولمبية أعوام 1948 و2012 بحضور جورج السادس وابنته فيما بعد إليزابيث الثانية، وكما حفِل الملعب الاستثنائي بالفرح تلقت مقاعد جمهوره كذلك الدموع، فقد شهد عام 1953 سقوط فريق الأسود تحت فرامة المجر الذهبية فيه بستة أهداف، أسقطت أسطورة الفريق الإنجليزي من عرشه العاجيّ العالي.. الذي لا يُهزم في عقر "ويمبليّه".
***
كُل أحد.. هنا يجتمعُ كُل أحدٍ يرغب بالجهر علانية بفكرةٍ مجنونة أو طرح مبدأ معقول، أو يسجل حضوراً لمجرد المجادلة وعرض عضلات اللسان، و"معاياة" الغير دون هدف.. ليتكدّس حوله المتجمهرون في بقعة ربما كانت هي الوجهة الوحيدة في العالم التي يرغب بزيارتها سائحو الكلام، إنه رُكن الخطباء أو كما يُعرِّفه العجم بـ Speaker's Corner.
في هذه الخانة الطرفية من حديقة الهايد بارك الأشهر في لندن، يضع المتحدثون كرسياً أو صندوقاً أو أيّ متكئٍ يرفعهم عن الأرض البريطانية، ليرى مستمعوهم عجب الكلام، ويعيشوا لحظات الأعاجيب، إنه سوقٌ وباعة وبضائع من حناجر، تنغمرُ طائعا وسط الصخب لتشهد تفاوت العقول وفوارق الألسن وألوان البشر.
إنها مساحة أرض محدودة بمساحة لا محدودة من الاختلاف والتنوّع والجِدال، أقف في خضم هذا البحر اللسانيّ الهائل لعلّي أكون في المكان الذي عادَه كثيراً عبقري الرواية العربية الطيب صالح، الذي ذكر هذه الرقعة بين دفتي خالدته "موسم الهجرة إلى الشمال".. أو ربما كانت خطوات كارل ماركس وجورج أورويل عبقري الرواية الإنجليزية أيضاً أو حتى فلاديمير لينين مرّت هنا قريباً من موقفي وسط الصوت وسوق الضجيج.
 
أعلى