تصريحات الوزراء.. وعبقرية التجربة الجزائرية

كنت أظن أن الدول العربية تجمعها فقط الوشائج المألوفة الشائعة، مثل الإسلام، والعروبة، والعلاقات الاقتصادية، والسياسية، والإثنية، والثقافية، والرياضية، وغيرها.. لكني اكتشفت أن المصائب أيضاً تجمعها، كما قال الشاعر احمد شوقي في قصيدته "يا نائح الطلح": فـإِن يَـكُ الجـنسُ يا ابنَ الطَّلْحِ فرّقنا.. إِنّ المصــائبَ يجــمعْنَ المُصابينـا.

والمصائب التي أعنيها هنا هي التصريحات غير المسؤولة الصادرة من بعض الوزراء والمسؤولين في بعض الدول العربية، والتي اعتبرها المواطنون في تلك الدول تصريحات مسيئة وجارحة للمشاعر.

ما دفعني لكتابة هذا الموضوع هو برنامج ساخر يتناول هذا الموضوع. فقد استوقفني برنامج "jt fou" الساخر الذي بثته قناة الشروق الجزائرية في شهر يناير المنصرم، والذي كان يتكلم عن إساءة بعض المسؤولين للمواطنين الجزائريين في قالب كوميدي ساخر. وإمعاناً في السخرية، فإن مقدم البرنامج صرّح إن البرنامج سيقدم جائزة لصاحب أفضل إساءة. وعلى حسب ما بثته تلك القناة في ذلك البرنامج أن الوزير السابق قد قال "يلعن بو اللي ما يحبّناش". وفي تصريح لوزير آخر قال أحد الوزراء للمواطنين: لقد أكلتم أشهى المأكولات، وركبتم أفخم السيارات، وها قد جاء وقت الحساب. وقال مسؤول في العاصمة في تصريح له للمواطنين: إن السكن الإجتماعي هو صدقة من الدولة.

ننتقل الآن إلى المشهد السوداني. ففي السودان اتهم مواطنون وزيراً بأنه صرّح ونصحهم بأكل الضفادع، لأنها غنية بالبروتينات. السيد الوزير نفى ذلك التصريح، وقال إنه لم ينصح المواطنين بأكلها، لكنه اعترف أنه صرّح بأن بها بروتينات. عموماً نقبل نحن السودانيون نفي السيد الوزير، لكننا نسأل سؤالاً بريئاً: فيها بروتينات لمن؟.عموماً نتمنى أن تكون الأفاعي والثعابين قد سمعت بخبر الضفادع الغنية بالبروتينات، لأنها المعنية بتلك البروتينات. وقبله كان وزير المالية السابق قد منح المواطنين وصفة سحرية لعلاج حدّة الفقر..وصفة أشبه بوصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للدول النامية.. في ظاهرها الرحمة.. وفي باطنها العذاب، وصفة مثل الحنظلة.. ليس لها ريح..وطعمها مُر، وذلك عندما نصحهم بأكل الكِسْرة بدلاً عن الخبز لأنها أقل تكلفة، مما اعتبره المواطنون كلاماً استفزازياً، لأن الكِسْرة في حد ذاتها عصّية الجلْب والحضور، وليست في متناول الكثيرين. ونقول للوزير السابق: إذا كنت لا تعلم مستوى خط الفقر ونسبة الفقر، وأنت وزير المالية، فهذه مشكلة، وإذا كنت تعلم وصرّحت بهذا التصريح، فهذه مشكلة أكبر، كما قال الشاعر: إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة.. وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم. ناقش البرلمان السوداني مسألة زيادة أسعار بعض السلع، وفي النهاية أجازها، فصفق أعضاء البرلمان تصفيقاً حاراً، فرحاً بمضاعفة معاناة الشعب، ومباركةً للجوع والفقر، فأثار ذلك التصفيق نقمة الكثير من المواطنين. وأخيراً، (وليس آخراً، كما قال مقدّم البرنامج الجزائري الساخر) صرّح أحد الوزراء بأن الشعب السوداني هو شعب مستهلك وغير منتج!! لكن رد عليه أحد المواطنين رداً مقنعاً، قال فيه: إذا كان كذلك، فانظر – على سبيل المثال – إلى المعدّنين الذين يعملون في مناطق التعدين الأهلي في المناطق الغنية بالذهب.. يعملون ويكدّون في حرّ الصيف وبرد الشتاء.. وبالرغم من أنهم يستخدمون أساليب بدائية في التنقيب والتعدين، فإنهم يرفدون خزينة الدولة بإيرادات مقدّرة من عائدات تصدير الذهب، وتساهم بالتالي تلك الإيرادات بصورة فعّالة في الناتج المحلي الإجمالي وفي ترجيح كفة الميزان التجاري.

في المشهد التونسي كان الشاب محمد البوعزيزي في مدينة سيدي بوزيد يبحث عن عمل فلم يجد.. في نهاية المطاف لم يجد حلاً سوى بيع الخضار على عربة صغيرة، لكن البلدية صادرتها منه. عندما ذهب ليسترد عربته من البلدية، صفعته مسؤولة وقالت له: ارحل.

في ليبيا، وأثناء الثورة الليبية، قال الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي مخاطباً شعبه الثائر ضده: من أنتم؟! يا جرذان.. يا مقمّلين.. يا مهلوسين!!

في مصر قال أحد الوزراء: إن المواطن المصري يستطيع أن يعيش ب2 جنيه في اليوم!! مما ألّب وأثار ضده الرأي العام، وسخر المواطنون وتهكموا من تصريحه في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.

قد ينظر المشاهد العادي، والسياسي ذو النظرة القاصرة، نظرة دونية محتقرة لمثل هذه البرامج السياسية الساخرة، باعتبار أنها برامج إساءة ولهو وضحك، ليس إلا، لكنني أقول أنها نظرة قاصرة ومجحفة.. ففي تقديري أن مثل هذه البرامج التي تنتقد الوزراء نقداً بنّاءً هادفاً في قالب ساخر وكوميدي، هي برامج ناجحة وجيدة بكل المقاييس. لذلك فإن برنامجاً مثل البرنامج الناقد الساخر الذي بثته قناة الشروق يمكن يقدم فوائد عظيمة وجمّة للأوطان والحكومات والمواطنين في هذه الدول. عند نقد الوزير بصورة ساخرة عند خطأه – ولكن بصورة بنّاءة وهادفة، تحفظ له كبرياءه ومكانته – ، يستمتع المواطن المشاهد بالجانب الساخر، فينسى الإساءة، ويشعر بأن جهة غيره أخذت له بالقصاص والثأر من المسؤول الذي أساء له، وذلك كفيل بأن يخفف من حدة وشدة الإحتقان، والموجدة والغل في صدره.

بصورة عامة، عندما يخطئ المسؤول في حق المواطن فإن ثمة ثلاث كفّارات كفيلة وجديرة بأن تجُبَّ تلك الإساءة: أولاً: أن يعتذر المسؤول عن إساءته للمواطن. فقد اعتذر رئيس كوريا الجنوبية للشعب الكوري بسبب تجاهله لمخاوف من استيراد لحوم قد تكون غير صالحة للاستهلاك، ومشكوك في سلامتها. ثانياً: أن تتم محاسبة المسؤول بواسطة الجهات الأعلى في السلطة. ثالثاً: أن تحاسبه السلطة الرابعة (الصحافة والإعلام) بطريقة ساخرة، كما فعلت قناة الشروق. لذلك عندما يخطئ الوزير في حق المواطن، يدرك بأنه سيتعرض للمساءلة، أو للسخرية، فيبادر بالإعتذار، ويجتهد في ضبط تصريحاته، وفي تجنب الأخطاء، وفي تجويد الأداء لاحقاً.. وتجويد الأداء هذا بدوره يؤدي إلى الإرتقاء بمستوى الخدمات، وإلى زيادة الإنتاج، فتنهض بذلك الدولة وتزدهر.

تمرّ الدول العربية هذه الأيام بمنعطفات خطيرة وحرجة، وتحديات كبيرة، منها بروز ظاهرة التطرف والغلو، وما ينتج عنها من ترويع وإهدار للدماء. وجاءت الطامة الكبرى بانخفاض أسعار النفط عالمياً.. فبعد أن كان سعر برميل النفط يساوي 140 دولار.. صار اليوم متأرجحاً بين 25-35 دولار، لذلك فإن الكفارات الثلاث التي ذكرناها، أو تحديداً، النقد الساخر الذي يوجّه للمسؤولين المسيئين للمواطنين، يمكن أن يعالج جزءاً كبيراً من مشاكل الدول العربية التي ذكرنا، التطرف، وتباطؤ النمو الاقتصادي. بصورة عامة، فإن نقد المسؤول بصورة ساخرة في وسائل الإعلام، يخلق توازناً في سيكولوجية المواطن العربي، فيخفف ذلك التوازن من حدة الغضب وروح الانتقام في صدره، وبالتالي يمنع ردّات الفعل المتطرفة، ويوْزَع المتطرفين من ارتكاب حماقات وجرائم، ويساهم في درء المفاسد، فيضمن للدولة سلامة مئات المنشآت وآلاف الأرواح. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هذا التوازن والرضا في سيكولوجية المواطن العربي يساهم بصورة فاعلة في النمو الاقتصادي بطريقة "تكلفة الفرصة البديلة" في علم الاقتصاد. فالدولة من الدول العربية كانت ستنفق على الأمن ومحاربة التطرف لحماية المواطنين والمنشآت والأفراد، وكانت ستقوم بإعادة التأهيل للمنشآت التي تم تدميرها، وعلاج وإعادة التأهيل للمصابين في الأعمال الإرهابية، وتعويضهم،... وقِسْ على ذلك من أنواع الإنفاق الحكومي الواسع. بالتالي فإن تقليل الإنفاق الحكومي الضخم على الأمن والصحة وإعادة البناء والتأهيل لمنشآت، بطريقة "تكلفة الفرصة البديلة" يجنّب الدولة إهدار ملايين الدولارات، ويساهم بالتالي بشكل كبير في النمو الاقتصادي.

إساءة المسؤول للمواطن قد قد تجرّ وراءها عواقب كارثية وخيمة، إذا لم يُكفّر عنها بالطرق التي ذكرنا. بوعزيزي في تونس صفعته امرأة مسؤولة في الحكومة على وجهه، فأضرم النار في نفسه، فاندلعت ثورة في تونس أطاحت بنظام الرئيس السابق بن علي..وطارت شرارة الثورة التونسية إلى بقية الدول العربية.. فأطاحت الثورات فيها بثلاثة أنظمة.. حكومة القذافي في ليبيا.. وحكومة مبارك في مصر.. وحكومة صالح في اليمن.. مجرد صفعة واحدة من مسؤولة في الحكومة في خد مواطن، أطاحت بأربع حكومات.

إساءة المسؤول للمواطن يمكن أن تدفع المواطن للتطرف.. والتطرف يمكن أن يكبّد الدول خسائر فادحة. المتطرف المصري الذي زرع قنبلة في الطائرة الروسية التي تقلّ سيّاحاً أجانب في سماء سيناء، وأدى ذلك إلى تفجيرها، كلّف روسيا خسائر بمئات الأرواح، وكلف مصر واقتصادها خسائر بمئات الملايين من الدولارات من عائدات السياحة.. وربما ما زال يعاني الاقتصاد المصري من تراجع في النمو الاقتصادي، بسبب عواقب تلك الفعلة النكراء.

لذلك فإن الجزائريين، ممثلين في إدارة قناة الشروق، والفريق العامل في برنامج "جي تي فو" الساخر، والسلطات الجزائرية التي سمحت ببث هذا النقد، يستحقون الإشادة والتحية على هذه التجربة العبقرية. في تقديري هي طريقة ذكية وحديثة لمكافحة التطرف، والحفاظ على اقتصاد وأمن واستقرار البلاد، وأرواح المواطنين وممتلكاتهم، ربما كان للجزائريين قصب السبق في تطبيقها. هي تجربة تستحق التأمل والتثمين. هي تجربة عبقرية بجدارة وامتياز.. تجربة جديرة بالمجاراة والإحتذاء والتعميم. بل حتى الوزراء الذين أساؤوا للجزائريين بتصريحاتهم، يستحقون هم أيضاً الإشادة والتقدير، لأنهم جزء من السلطة التي سمحت ببث هذا النقد البنّاء الذي مسّهم، لأنهم بذلك كأنهم يمارسون جلد الذات، كأنهم أرادوا وفضّلوا راحة الضمير مقابل بث البرنامج الساخر، على تبكيت وتأنيب الضمير عند منع البث.. يتفّوقون ويصبرون على السخرية الموجّهة لهم، مقابل مصلحة الوطن، الذي تعلو مصلحته فوق كل مصلحة.

أخيراً، يبقى العزاء والسلوى هو أن هذه الإساءات الصادرة من المسؤولين في الدول العربية المختلفة ليست مقنّنة، وليست سياسة من سياسات حكومات الدول العربية تنتهجها تجاه المواطنين، بل هي هفوات ساسة. أي أن الحكومات ليست مسؤولة عن تلكم الإساءات، وإنما يتحملها المسؤولون الذين أطلقوها بصورة فردية وشخصية. ومع ذلك فإننا نؤمن بأن كل بني آدم خطاؤون، وأن الساسة والوزراء هم بشر وليسوا معصومين، لذلك لا نحمل موجدة ولا كراهية تجاههم بسبب تلك التصريحات، وإنما تناولنا الموضوع من زاوية نقدية، كما تناولتها قناة الشروق بسخرية شفيفة، خالية من الكراهية والغل. بل حتى إن الوزير السوداني صاحب "بروتينات الضفادع" عندما نفى بأنه صرح ذلكم التصريح، تناول الموضوع بصدر رحب، وقال: الجميل في هذا الموضوع هو أنه أشاع روح الدعابة والمزاح والمرح بين الناس في وسائل التواصل الاجتماعي، من صور للضفادع وتعليقات ساخرة. وهذه في تقديري أيضاً عبقرية وحلم وسعة صدر تحسب للوزير.

أخيراً نقول للساسة المسؤولين الذين أطلقوا تلك التصريحات في تلك الدول العربية: غفر الله لنا ولكم، وأقال عثراتكم، وهداكم ووفقكم لما فيه خير وصلاح العباد والبلاد. جاء عن "الفضيل بن عياض" ونسبت ل"الإمام أحمد": (لو كان لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان فقيل له: يا "أبا علي" فَسِّر لنا هذا، فقال: إذا جعلتُها في نفسي لم تَعْدُني، وإِذا جعلتها في السلطان صَلُح، فصَلُح بصلاحه العبادُ والبلاد).

الكاتب الصحفي / انور عبد المتعال سر الختم
 

أروى

عضو ذهبي

لا شك ان من اصعب الاداب هو الادب الساخر لما فيه من استخدام لكل كبيرة وصغيرة ، و رواية الساخرة في متابعة الأحداث تجد دائما فيها الكثير من المفارقات ، في ما مضى كانت الرمزية لغة ابداعية لا يجيدها سوى الموهوبين بالفطرة ثم بالممارسة شأنها شأن الاعمال الابداعية الاخرى التي تتطلب الموهبة والحس الابداعي وقد بدأت من خلال الاعمال الأدبية والشعرية،وانتقلت للصحافة في اوقات وحالات كان فيها التعبير يعجز عن البوح، والنطق يعجز عن الكلام وكانت تزعج من تستهدفهم ثم تراجعت لتحل مكانها اللغة الساخرة ، فان الكتابة الساخرة هي كذلك نوع من الفنون الابداعية التي لا يستطيع كل من يريد دخول ميدانها أن يكون كاتبا ساخرا حتى لو اراد ذلك ما لم تكن لديه الموهبة والحس الساخر اللذان يتفاعلان مع صاحبه ويقدم من خلالها عملا ابداعيا ونقداً لاذعاً لمحاربة الاخطاء والظواهر السلبية ، وكتاب الاسلوب الساخرة سوكانت مقالات صحفية او رواية في كل دولة نجد أنهم قلة ينعدون على الاصابع ، واسلوب الكتابة الساخرة ظاهرة جديدة في عالمنا العربي للتعامل مع الأزمات ، واضيف على ما تفضلت به وزير مصري في حكومة الأخوان الذي يلمس هموم المواطنين من انقطاع الكهرباء طلب منهم إرتدوا الملابس القطنية لتجنب الحر، لكني لا اعتقد أنها أقوى من بروتينات الضفادع ..

آنا شايفة أن مقالك قصير جدا وتوجد مساحة وأنت نسيت فلسطين كضيتنا الأولى قضيتنا الأولى وتوجد نكت ومواقف كثيرة جدا جدا عن الفلسطينيين فــ اجعل ختامها مسك
 
أعلى