روائع شعراء الحجاز

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته

هذا الموضوع يختص عن اجمل القصائد لشعراء الحجاز في جميع انواع الشعر ( نظم ومحاوره ومجالسي وغيره)

ابدا الموضوع بالرديه المشهوره بين حاكم الحجاز الشريف سلطان العبدلي وبين حاكم نجد محمد بن هادي بن قرمله القحطاني وقصه الرديه ان الشريف سلطان اراد فرس بن هادي فرفض بن هادي وارسل البيوت التاليه افتخارر بفعله وحكمه لنجد للشريف سلطان العبدلي :
ياراكـب مـن عنـدنـا فــوق هجـهـوج =ســــواج مـــــواج بـعــيــدمـعــشــاه
ما فوقـه الا الكـور والنطـع وخـروج =وسفيفـتـيـن فـــوق وركـيــه تــزهــاه
اسبـق مـن الدانـوق فـى غبـة المـوج =ملفاك(سـلـطـان) زبــــون الـمـخــلاه
يالعبـدلـي لاتكـثـر الـســوم بـالـغـوج =لـو كـان طارينـا الثمـن كــان بعـنـاه
شـفـي علـيـه بــرده والغـلـب عـــوج =ان حـــل بـنـحـور السـبـايـا مـثــاراه
وان لجلج المجمول فوق الحنى العوج =ذهل الغطـا وأهـل الرمـك قـام تنخـاه
تناطحوا واوقف على الزمل عمهوج =من شح في عمره عسى الخيل تاطاه
نحدكـم حـد الـجـوازي عــن الـمـوج =ونـردكـم رد الـبـدن صــوب مـسـنـاه
هل سربه وان دبرت ركضها عـوج =وان اقبلـت شـروى الحـرار المـغـذاه
وكم عندل تبكـي علـى العـم والـزوج =تـجـر صــوت غـافـي الـنــوم قـــزاه
وكم سايق تشرى من المـال بخـروج =غــدت بــروس ارماحـنـا بالـمـثـاراه
انـا جـنـودي كـثـر جــوج ومـاجـوج =حريـبـنـا لـــو هـــو بـعـيـد نصـيـنـاه
حريبـنـا مــا يـمـرح اللـيـل مـغـلـوج =الـنـاس قــد نـامــوا وعـيـنـه مـقــزاه
وعدونـا لـو قـطـب الخـيـل بـسـروج =لازم يـخـلــي مـنــزلــه لانـصـيـنــاه
ذا قول من يلوي على الهرج بهروج =يلـوي ولا يلـوي علـى بعـض مـلـواه



رد الشريف سلطان العبدلي حاكم الحجاز يفتخر بفعله وحكمه للحجاز بالرد التالي :

حي الكتاب اللي من الفخر ممزوج =حيه وحي اللي لفابه وعناه
اهلا وسهلا به ولا هوب مسهوج =حشمه لمن كزه ونرفا خطاياه
كريم مثل الدر مخلوط ببلوج =وانوج من العنبر اليا غلي مشراه
القول له حشمه ومعنى ومهروج =عند الذي يفهم جوابه ومعناه
جانا جواب معرب الحبرمعروج =ومعسكر لكن حنا فهمناه
جواب من ياخذ على نجد مخروج/ /وياخذ على من حل في عشبه الشاه
وش عاد لو عيا محمد على الغوج =بخيل الطواله واحد كنه اياه
منها ثلاثماية وتسعين بسروج =مع مثلها تزها القلايد وتزهاه
نعطي المهار اللي عراقيبها عوج =واليا عطينا مدة ماتليناه
كم سابق تشرى من المال بخروج =والياعطينا مانبي له مجازاه
انتم سهيل له مطاليع وبروج =وحنا القمر فى ليلة النصف غطاه
فان كان قومك كثر جوج وماجوج =كفرت بالطاغوت وآمنت بالله
 
التعديل الأخير:

صدى الحجاز

عضو ذهبي
قصة الأدب في الحجاز
مقدمة:
1- هذا الكتاب: "قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي" أوسع دراسة ظهرت عن بيئة أدبية من بيئات الأدب العربي القديم، وهو أول كتاب يؤلف عن الحجاز ونهضة الأدب العربي وازدهاره فيه في العصر الجاهلي، وإذا أطلقنا كلمة "الحجاز" فإنما نعني بها ما يشمل الحجاز, وما يسمى بـ"تهامة الحجاز".
وهذا الكتاب جديد في الأدب العربي؛ لأن موضوعه جديد بكر، لم يتناوله على هذا النحو أحد من قبل. فالذين يتحدثون عن آداب العرب القديمة، يتحدثون عنها في الجزيرة العربية كلها بأقسامها العديدة، دون أن يخصصوا دراساتهم ببيئة مستقلة من بيئات الجزيرة العربية كالحجاز، وإنما يدرسون أدب هذا الشعب العربي جملة، لا يفرقون بين الأدب الحجازي، وبين الأدب النجدي، ولا بين هذين وبين الأدب اليمني، ولا يتحدثون عن خصائص ومميزات الأدب في كل إقليم متميز من هذه الأقاليم، فتجيء الأحكام الأدبية عامة مجملة، غير صادقة تمام الصدق، ولا عميقة في جملتها عمقا يحيط بحقائق الأدب وأصوله وحياته في هذا الجانب أو ذاك، من جوانب الجزيرة العربية الشاسعة المسافات، المترامية الأطراف.
إن خصائص الأدب في بيئة نجد، لا يمكن أن تكون هي نفس خصائصه في الحجاز، والشاعر الجاهلي الذي قضى حياته في ربا نجد، لا يصح أن تكون شاعريته مطابقة تمام المطابقة لشاعر جاهلي آخر عاش في الطائف أو مكة أو المدينة.
ومن ثم كان لا بد لنا من تخصيص هذه الدراسة عن الحجاز في العصر الجاهلي.


المصدر

يتبع
2- وربما اعترض علينا بعض القراء بأننا في عصر القوميات، الذي انتفضت فيه القوميات، وانبعثت من مرقدها. وهذه القوميات تحتم علينا دراسة الشعب العربي جملة، وآدابه جملة كذلك، دون النظر إلى أقاليمه وبيئاته.
ونحن نقول لهؤلاء المعترضين: إن دراسة آداب الشعب العربي جملة لا تتأتى إلا عن طريق دراسة آداب أقاليمه وبيئاته دراسة نقد، واستيعاب، وتحليل، بحيث يتبين منها الخصائص والسمات، وتستمد الأحكام الأدبية الصادقة التي لا حيف فيها على الحقيقة.
ثم إن الحجاز كان البوتقة الحيوية التي انصهرت فيها الخصائص الأساسية للأمة العربية، وتخلصت فيها من الشوائب والمثالب، حتى غدا جوهرها صافيا نقيا ... انصهرت في الحجاز العقائد, واللهجات، والتقاليد، والعنعنات، والسجايا والأخلاق، فصفاها من أوشابها وأدرانها، حتى برزت تلك العناصر الفعالة، التي استندت إليها القومية العربية الإسلامية في نشوئها وتكوينها ومراحل تطورها، هذه القومية العظيمة التي وثبت اليوم وثبتها القوية الجبارة!
أفلا يجدر بنا -وهذا هو دور الحجاز منذ القدم- أن ندرس حياته وخصائصه، وشخصيته الأدبية والفنية، وجميع مقوماته السامية؟!

وإذا كانت اللغة هي إحدى عناصر القومية، أفليس من الواجب أن ندرس إلى أي حد، أثر الحجاز عامة، ولهجة قريش خاصة، في تهذيب اللغة العربية، وترقيتها، وتوحيدها، حتى أصبحت اللسان القومي للأمة العربية جمعاء؟!
ثم ما هو موقف الحجازيين من العقيدة، ووحدة الأماني المشتركة, والتبادل التجاري، ونمو الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وجميع العوامل التي تعتبر عناصر هامة للقومية العربية؟!
ما هو موقفهم من ذلك كله؟ لنرى أي أثر تركه الحجازيون في تخليص العقائد من الخرافات والأباطيل؛ لأن هذه التنقية وسيلة هامة من وسائل
 

صدى الحجاز

عضو ذهبي
تمهيد: وصف عام للحجاز وبيئته الطبيعية والبشرية
5- وسوف يستبين للقارئ الكريم أن طائفة من شعراء الحجاز في الجاهلية، كانوا يحبون السلام، ويشيدون بأنصار السلام، وكانوا يكرهون الظلم والطغيان، وينددون بأرباب العدوان ... وكانوا يدعون إلى التكافل الاجتماعي حتى يكون فقيرهم كغنيهم في ميزان الحياة على السواء.
والشعر الحجازي في الجاهلية -في بعض صوره- فضلا عن بلاغته وروعته، غني بالمضامين الحية، وبالروح الإيجابية، والثورة على الخرافات والأوهام والأوضاع الفاسدة، والقيم الموروثة البالية.
وهو إلى ذلك سجل دقيق يصور بيئتهم القلقة المضطربة، وحاكٍ أمين يحكي لنا عن مذاهبهم في الحياة، وأساليبهم في العيش، وطرائقهم في التفكير والتعبير.
وسيجد القارئ أن ألوانا جديدة من الفنون أو الأغراض الشعرية كان الحجازيون أسبق إلى ابتداعها، ولا تكاد توجد في البيئات الأدبية الأخرى في سائر أنحاء الجزيرة.
وما أثر من النثر الجاهلي ينسب معظمه إلى أدباء حجازيين.
6- ونود في أعقاب هذا التقديم أن نشير إشارة مجملة إلى أهم ما كتبه الأستاذ عبد الله عبد الجبار، فقد تناول بالبحث ما يلي:
أولا: في التمهيد:
بيئة الحجاز الطبيعية ومدنه "ما عدا مكة والمدينة" 24-78
المضريون في الحجاز إلى آخر التمهيد 87-113
ثانيا: في القسم الأول:
التوطئة 119-123
طبيعة الحكم في الحجاز 150-165
باب الحياة الدينية 202-218


أقسام الجزيرة:
تنقسم الجزيرة العربية إلى خمسة أقسام:
الحجاز, تهامة, نجد, اليمن, العروض.
وهذا التقسيم يكاد يكون طبيعيا، فإن جبل السراة -أعظم جبال الجزيرة- يمتد من اليمن إلى أطراف بادية الشام، فيقسم الجزيرة قسمين: صغير منخفض في الغرب يسمى تهامة أو الغور، وكبير مرتفع في الشرق يسمى نجدا، والعرب تقول: أغار وأنجد، وأتهم وأنجد ... وجبل السراة هذا يسمى "الحجاز" لحجزه بين القسمين السابقين، وجنوبي الحجاز تقع اليمن، وبين نجد والبحر الشرقي "خليج عمان والبصرة" تقع العروض لاعتراضها بينهما، وسنتكلم في إيجاز على هذه الأقسام الطبيعية للجزيرة العربية:
1- فأما تهامة فهي بلاد منخفضة بين الحجاز وبحر القلزم، ويضاف جزؤها الشمالي إلى الحجاز والجنوبي إلى اليمن، فيقال: تهامة الحجاز، وتهامة اليمن.
2- وأما الحجاز فإقليم جبلي يمتد من الشام إلى اليمن، مضافا إليه تهامة الشمالية.
ويسكن جنوبي الحجاز قبيلة كنانة ومنها قريش، وهي التي كان لها السيادة على الحجاز كافة، بل على العرب عامة.
3- وأما اليمن فتقع في الطرف الجنوبي الغربي للجزيرة، وهي أغزر بلاد الجزيرة العربية أمطارا، وأكثرها زرعا، وأقدمها حضارة، وتسميها العرب "الخضراء" لكثرة مراعيها ومزارعها وأشجارها، ويطلق عليها المستشرقون "البلاد السعيدة", وفيها يقول شاعر يمني قديم:
هي الخضراء فاسأل عن رباها ... يخبرك اليقين المخبرونا
ويمطرها المهيمن في زمان ... به كل البرية يظمئونا
وفي أجبالها عز عزيز ... يظل له الورى متقاصرينا
وأشجار منورة وزرع ... وفاكهة تروق الآكلينا

1- ذكر صاحب "الرحلة اليمانية" المطبوعة 1912 بمصر "أن الحجاز يبلغ طوله من الشمال إلى الجنوب ألفا وخمسمائة كيلو متر، وعرضه من الشرق إلى الغرب خمسمائة وخمسين كيلو مترا تقريبا".
جبال الحجاز:
تحيط بالحجاز جبال وحرار كثيرة، وقد اعتبرها الباحثون سلسلة واحدة أسموها "السراة", وسلسلة جبال السراة تمتد طولا من الشمال إلى الجنوب، وهي العمود الفقري لشبه الجزيرة العربية، وبعض هذه السلسلة مرتفع وقد تتساقط الثلوج عليها كجبل دباغ الذي يزيد ارتفاعه عن 2200 متر عن سطح البحر، وجبل وتر, وجبل شيبان.

الحرار في الحجاز:
توجد في الحجاز حرات عديدة، والحرات جمع حرة، وهي المناطق السود ذات الحجارة النخرة المحرقة بالنار، أو الحجارة المؤلفة من السائل البركاني المتجمد.

وقد استفاد الحجازيون من الحرار فاستخرجوا منها الأحجار والمعادن، فكانت مواطن للتعدين في القديم.
مدن الحجاز:
أشهر مدن الحجاز: مكة، والمدينة، والطائف، وجدة.
ومن مدن الحجاز وقراها الواقعة في المنطقة الشمالية: العقبة، والمويلح، وضبا، وتبوك، وتقع في المنطقة الوسطى: الوجه، وأملج، وينبع، والعلا، وتيماء, والحناكية، وخيبر.

 

صدى الحجاز

عضو ذهبي
ويرى المستر "فيلبي" أن هذا العصر كان عصر مجادة وازدهار، وحياة تجارية وفكرية عظيمة، وأن العرب قد أجحفوا حين وسموا هذه الحقيقة الزاهية -من تاريخهم- بسمة "العصر الجاهلي"، وفي ذلك يقول:
إنه قبل ظهور محمد -عليه السلام- بحوالي ألفي عام، كانت الجزيرة العربية قوة من القوى العظمى في العالم, لها مكانتها التجارية والثقافية العظيمة. ثم غدت مرة أخرى بعد انبثاق فجر الإسلام مركزا لإمبراطورية عالمية عظيمة، شعلة من العلم والمعرفة حية متقدة وسط عصور الظلام في أوروبا، ولكن الجزيرة العربية كانت -بعدئذٍ- قد نسيت ماضيها المجيد، وانصرفت عن تقدير ما حققته في عصورها التليدة، وأطلقت بكل كبرياء على تلك الفترة التي حققت فيها ماضي عظمتها الباكرة "اسم الجاهلي""1.
والذي نميل إليه، هو أن الجاهلية -في مدلولها الواسع- لا تطلق على الجهل الذي هو ضد العلم فقط، ولا على السفه والطيش والحمية وحسب، وإنما تشمل كل ما يجافي الروح الإسلامية من عقائد وأخلاق وعادات، كالربا وعبادة الأوثان، ونصرة الأخ ظالما ومظلوما، ووأد البنات. بيد أن المؤرخ خليق -حين يدرس العصر الجاهلي- أن تذكر ما يتعارض مع الإسلام من التقاليد والمعتقدات وألوان السلوك، وما لا يتعارض مع روحه ومبادئه، كحلف الفضول، وما عرف عن قريش من ختان الأولاد، وتكفين الموتى، والاغتسال من الجنابة، وتعففها في المناكح عن الأخت وبنت الأخت، مما أوجبه الإسلام.
أما فيما يختص بالأدب وتحديد مدة الشعر الجاهلي، فقد ظن كثير من الباحثين -قديما وحديثا- أن أقدم شعر جاهلي وصل إلينا كان قبل الهجرة بنحو 150 سنة إلى مائتي سنة. وفي طليعة هؤلاء، أبو عمرو الجاحظ، الذي يرى أن العرب تشارك العجم في البناء وتنفرد بالشعر، فبنت غمدان وكعبة نجران وقصري مارد وشعوب، والأبلق الفرد، كما بنت الأعاجم كرييداد، وبيضا إصطخر، وبيضا المدائن. والكتب -فيرأيه- أبقى من بنيان الحجارة وحيطان المدر؛ لأن من شأن الملوك أن يطمسوا على آثار من سبقهم، وأن يميتوا ذكر أعدائهم2.
 
طه حسين وشعراء الحجاز:

لم يكن مفهوما ما قاله عميد الأدب العربي طه حسين رحمه الله، حين زعم أن أدبنا أدب يأخذ من (البداوة) ما يتميز به بين الآداب العربية، خاصة أنه قال ذلك في مقدمته التي قرأ فيها شعر أحد شعرائنا الذين لا ينتمون للصحراء ولا البداوة، وهو الشاعرالراحل حسن عبدالله القرشي، وقال فيه (شاعر في طليعة المجودين، فيه من الروعة والتجويد، ما يبشر البيئات الأدبية العربية بأن مهد الشعر قد استأنف مشاركته في إغناء النفوس وإمتاع العقول والقلوب، ففي شعره ما يشوق ويروق، ويرضي طلاب الرصانة وعشاق الجمال)..
تمر الصبــا صفحا بساكن ذي الغضــا
ويصـدع قلبــي أن يهب هبوبــــــها
إذا هبت الريح الشـــمال فإنمــــــــــــا
جواي بما تهدي إلي جنوبـــــــــها
لا أدري ما هي دلالة طه حسين على بداوة شعر القرشي خاصة أنه ربط بين شعراء الحجاز المعاصرين وشعراء العصر الجاهلي. ورد إلى الحجاز مجده الفني العظيم، ولعل طه حسين رأى (البداوة) في الجمر والهجر والغرس في صحراء قاحلة:
كم غرست الهوى نديا وديعا
فجنيت الأسى حصادا لغرســـي
وتقلبت نضو جمـــر وهجـر
أتهادى بين الخلائق بؤســـي
الشعرفي الحجاز، كما رآه طه حسين في ذلك الوقت، وبشهادة أستاذنا الناقد عبدالله عبدالجبار يمتاز بعاطفة قوية مشتعلة متأججة، وتبدو هذه العاطفة القوية في كثير من قصائد الشعر الحجازي الجاهلي. والشعر الحجازي الحديث، وفيه كثير من الخصائص الشعرية التي يتميز بها قديمه، وحديثه، كقول الشاعر طاهر زمخشري:
قد أثار الشوق في قلبــي لهيبــا
وهو يدعوك ويرجو أن تجيبـا
أترى أحيا بما في كبــــــدي
من حنين سال فانساب وجيبا
أم ترى أنت على عهد الهــوى
فأمنّي النفـس ألقاك قريبــــا
مقولة العميد طه حسين رحمه الله، حول بداوة الأدب السعودي، كصفة تميزه عن غيره من الآداب العربية، حتى عن التي لها جذورها وأصولها في الصحراء والبادية، أثارت في وقتها، جدلا بين النقاد، خاصة الذين يعرفون خصائص أدب الجزيرة العربية وسماته. ن
ذكر أن طه حسين أورد مقولته، في مقدمة مشهورة لقصائد حسن القرشي، وهو شاعر ينتمي للمجتمع الحضري ولم يكن بداويا، ولم تلفح وجهه شمس الصحاري، وليس في طبعه قسوتها كما عرفته، ولعل شاهد طه حسين في قراءته لشعر الشاعر القرشي هذه الأبيات:
أريقي على مسمعي النـــداءْ
ورَوّي حياتـي رحيق الصفـاء
جمالك يا فتنـنــةُ الملهمين
أناشيـدُ قـد نغّمتهــا السماءْ
ونجواك نبض فؤادي الحنون
وروح النعيــم وعطرُ المساءْ
وأزعم أنه كان صــادقا في قوله إن شــعراء الحجــاز المعاصرين، وصــلوا قديـمهم بالحديث وساروا على مجده الفني العظيم، في تجلياته دائما صفاء يسرع بها إلى تمازج الأرواح، تملأ القلوب إبداعا وسحرا، كقول القرشي:

لا تدعي ثَغــرَك في مَرشفـِـــي
أخشــى على سُــكره أن يـَـــذوبْ
لا تهمسي: أهواك ؟ إني هنــا
قيثـــارةٌ قد حَطمتهــــا الخطــوبْ
وفي قولـه:
اتركيني ولا تُبالي بِدَمعي
إن فيضَ الدموعِ أصفَى شَـرَابي
في هذا الشعر، حبٌ عذري وعواطفٌ متأججة، وعشقٌ يذوب في حنينه الشعراء.


 
المقدمات:

التوحيد.. وأي أثر كان لهم في الرقي الاقتصادي والاجتماعي؛ لأن هذا الرقي من أعظم الدعائم للرخاء والاطمئنان وضم الصفوف. ثم أي أثر لهم في إقرار السلام؛ لأن السلام، كان ولا يزال، عاملا جوهريا للاتحاد ولا سيما في بيئة مزقتها الحروب والأحقاد. ثم ماذا فعلوا في محاربتهم للطغيان؟ فإن استبداد الحاكم يبعث على الخوف، ويقضي على الروح الوطنية التي هي من أقوى الدوافع لبناء صرح القومية!
كل ذلك وغيره قد تناولناه بالدرس المفصل في هذا الكتاب، وبيّنا كيف انعكست آثاره على نتاجهم الأدبي شعره ونثره, حتى وصلنا إلى نتيجة واحدة، وهي أن الحجاز كان -بحق- قلبا للأمة العربية!
3- ثم إن الحجاز هو بيئة النبوة، وموطن الرسالة، والأرض التي اهتزت جوانبها بالصدى المدوي الذي أحدثه نزول القرآن.
ولذا كان من الضروري أن ندرس هذا الموطن وتلك البيئة من شتى نواحيها السياسية، والاجتماعية, والعقلية، والأدبية، واستعداد الحجازيين النفسي والمادي والفني؛ لنعرف عمق هذا الحادث العظيم الذي هز الإنسانية، وأيقظ الدنيا، وحرر العقل، ورفع صروح المدنية، وقضى على عصور الظلام والوحشية.
وعندما نريد أن نفهم إعجاز القرآن وبلاغته الرفيعة خاصة, وأن نفهم الحياة الأدبية في الحجاز في عصر النبوة عامة، لا بد لنا من دراسة بيئة الحجاز الأدبية في العصر الجاهلي أولا وقبل كل شيء؛ لنفهم خصائص هذا الشعب الحجازي وعقليته وتفكيره، وذوقه في الحياة وفي الفن والأدب على وجه الخصوص؛ لأنه هو الذي حمل الدعوة، وبلغها إلى الآفاق، وبشر بها العالم كله، وسارت جحافله ومعه إخوانه من شتى أرجاء الجزيرة العربية توغل في الأرض مبشرة بدين الله الجديد، وثورته القوية العارمة.
إذن فحياة الحجاز عامة، وحياته الأدبية خاصة، جديرة بالدرس؛ لأثرها القوي في تصفية العناصر الجوهرية للقومية العربية، ثم لأنها تمثل البيئة التي انبعثت منها الدعوة الإسلامية الجديدة.
ولو لم يكن هذان العاملان، لكانت هذه الحياة خليقة بالدرس لذاتها؛ لما حققته من أمجاد تزيد من الثروة الروحية والخلقية للإنسانية عامة.
4- ويشتمل هذا الكتاب على "تمهيد" في ست عشرة ومائة صفحة، ويحتوي على وصف عام للحجاز وبيئته الطبيعية والبشرية. وقد "بلورنا" فيه حقائق عن الحجاز لم يضمها أي بحث أو كتاب سابق, ويعد هذا التمهيد كتابا مستقلا بذاته. وكان من الممكن نشره على حدة، لولا أننا آثرنا أن يكون مقدمة لدراسة الحياة العقلية والأدبية للحجاز في مختلف العصور؛ هذه الحياة التي اعتزمنا تقديمها للقارئ العربي متتالية بحول الله.
ويلي هذا التمهيد القسم الأول من الكتاب، وهو عن العوامل المؤثرة في الأدب الحجازي: من الحياة السياسية، والاجتماعية، والدينية، والعقلية، وهذا القسم يصلح لأن يكون كذلك كتابا منفردا كاملا عن شتى جوانب الحياة في الحجاز.
ويلي ذلك القسم الثاني من الكتاب، وهو عن الحياة الأدبية في الحجاز في العصر الجاهلي، ويشتمل هذا القسم على دراسات واسعة للنثر الحجازي الجاهلي وأشهر أعلامه، وللشعر الحجازي في العصر الجاهلي وخصائصه وفنونه ومناهجه ومذاهبه وأصوله، ولأعلام الشعراء من الحجاز في العصر الجاهلي، ولسوى ذلك من شتى جوانب الحياة الأدبية القديمة في أرض الحجاز. ولتصوير أهمية هذه الدراسات يكفي أن نقول: إننا قد عرضنا فيها لكثير من أعلام الأدب الحجازي القديم، كانوا في نسي منسي من الباحثين والدارسين.
 

صدى الحجاز

عضو ذهبي
كان رأي ثعلب، الذي نقله الأصمعي، من أن الشعر الجاهلي كان قبل الهجرة بنحو 400 سنة، أدنى إلى المعقول، والمنطق السليم ... بل إن بعض الباحثين المحدثين -اعتمادا على حساب أجيال الأنساب "40 سنة للجيل الواحد"- قد وصل إلى أن أقدم شعر جاهلي كان قبل الهجرة بأكثر من ستمائة سنة, وأن أقدم المقطوعات ينسب لطي بن أدد في القرن السابع قبل الهجرة, وأن لقيطا الإيادي في قصيدته التي مطلعها:
يا دار عبلة من محتلها الجرعا ... هاجت لي الهم والأحزان والوجعا
يعتبر ناظم أول قصيدة من الطوال. وفيها ينذر قومه ويحذرهم من زحف ملك الفرس "سابور ذي الأكتاف"، وقد قيلت هذه القصيدة في سنة 326م "296ق. هـ"1.
وديوان لقيط الأيادي -وهو مخطوط بدار الكتب- يعتبر -على الأرجح- أقدم دواوين الشعر الجاهلي.

وانفردت الجزيرة العربية -أو قل: الحجاز من بينها- بصفة خاصة: بأنها كانت مصدر المعجزات الإنسانية خلال عصور التاريخ.
فهي التي وجهت العالم القديم قبل الإسلام، وهي التي وجهت العالم بعد ظهور الإسلام، وهي التي خرّجت عظماء الإنسانية خلال عصور التاريخ، ومنها خرج محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- ومنها كذلك انبثق نور الإسلام وشع ضوءه على أرجاء الدنيا في المشرق والمغرب.
ولقد قام سكان الجزيرة العربية -وفي مقدمتهم عرب الحجاز- بكثير من الأدوار المهمة في تاريخ الشرق الأوسط وحضارته؛ فقد كانت هذه الحضارات تتعرض للانهيار، فكان أهل صحارى العرب ينشطون في بعض الأحقاب، فيبثّون روح النهوض من جديد، إذ كانت الواحات المتناثرة في أرجاء الصحارى مراكز للمدنية، وكانت مدنها معاقل للثقافة والتجارة والزعامة ... وكانت القبائل الرحل كثيرا ما تغير على مراكز المدنيات في وديان الأنهار في شمال الجزيرة العربية -وديان: دجلة والفرات وسوريا وفلسطين- في أويقات ضعفها، حاملة معها نقاء الصحراء وطهرها وبساطتها، فيبثون هذا الروح الجديد فيمن تتم لهم الغلبة والسيادة عليهم، ويأخذون عنهم ثقافتهم.
ويكفي مثالا أن نذكر أن بدو شبه الجزيرة العربية هم الذين خرجوا من ديارهم منذ ثلاثة عشر قرنا، وقد تملكهم الإيمان بعقيدة جديدة -هي الإسلام- فانسابوا ينشرون ضياءها في الأرض.

النثر الحجازي الجاهلي:
1- كان للحجازيين نثر فني صِيغ في قالب أدبي يثير المشاعر ويحرك العواطف؛ لأنهم كانوا ينطقون باللغة كما صنعوها على أعينهم، نقية من الشوائب، فقد عاشوا في جزيرتهم بعيدين عن المؤثرات التي تضعف الملكات، ومن ثم فقد كان نثرهم منخولا ينزع عن قوس الإجادة ويصدر عن وحي الطبع والملكة السليمة، وليس من شك أيضا أن هذا النثر كان لا منتدح منه في جميع شئونهم، وأمور حياتهم، يتحدثون به في معاشهم وتبين به شفاههم لتصوير ما يعتلج بنفوسهم ويختلج بأفئدتهم، وكان ملحمة لقراع الألسنة ومباراة للبلغاء في مضمار البيان والأسواق الأدبية، ولم يكن للعرب عند تفاقم الفتن ولا للأبطال في معمعة الحروب ولا للأمهات عند إهداء بناتهن، مناص من كلام يستأصلون به شأفة الفتن، ويحمسون به النفوس, ويصيبون به مقاطع الرأي.
ولا نكاد نهتدي إلى صورة جلية تمثل هذا النثر الجاهلي الحجازي؛ فكل ما وصل إلينا قل من كثر، وغيض من فيض، ولقد ذكر الرواة أن ما وصلنا من أدب ليس إلا أقله، ولكن ما وصل إلينا من النثر كان أقل شأنا من الشعر، ومرد ذلك إلى:
1- أن العرب في الجاهلية كانوا أميين لا يكادون يقرءون أو يكتبون, فكانوا يعتمدون في رواية الأدب من نثر وشعر على المشافهة والاستظهار، والذاكرة أقدر على حفظ الشعر وروايته من حفظ النثر وروايته.
فإن ما للشعر من أوزان راقصة، ونغمات موسيقية، وقوافٍ متزاوجة، وجرس عذب مثير، يعين على استذكاره واستظهاره، والنثر ليس بهذه المثابة، فالنثر إذن يتطلب معرفة الكتابة وهي اختراع متأخر.
2- لم يستطع النثر منذ أن أطل برأسه إلى الحياة أن يباري الشعر في عهد الجاهلية، وأن يقوى على معالجة الموضوعات التي عالجها الشعر، فقد كان
 

صدى الحجاز

عضو ذهبي
لمحة عامة عن الشعر الجاهلي
ذكر علماء الأدب ومنهم أبو عبد الله محمد بن سلام الجمحي في طبقات الشعراء "أن الشعر كان أولا في ربيعة، وهي قبائل كثيرة، منها: بكر وتغلب وعبد القيس والنمر بن قاسط ويشكر وعجل ولجيم وضبيعة وشيبان وذهل وسدوس، كانوا يقيمون في الحجاز، وتهامة الحجاز، ثم في نجد، ثم نزحت بكر وتغلب نحو العراق"1.
ثم تحول الشعر في قيس عيلان، ومن بطونها: عبس وذبيان وغطفان وهوازن وسليم وعدوان وثقيف وعامر بن صعصعة ونمير وجعدة وقشير وعقيل وخفاجة، وكانت هذه القبائل في نجد وأعالي الحجاز. ومن ثم يمكننا اعتبار كثير من شعراء هذه القبائل من شعراء الحجاز، وعلى رأسهم النابغة الذبياني وزهير.
ثم استقر الشعر في تميم، وهي قبيلة كبيرة من مضر، ومن بطونها: مازن, ودارم، ويربوع، ومجاشع، ومالك، وبهدلة. وكانت تقيم تميم في تهامة، ثم نزحت في أواسط القرن الثاني -قبل الهجرة- إلى بادية العراق وما يليها جنوبا، ومنهم أوس بن حجر، وكان شاعر مضر في الجاهلية، حتى نشأ النابغة وزهير فأخملاه وهما حجازيان, ثم ظهر الشعر في بطون مدركة، وهي: هذيل وأسد وكنانة وقريش والدئل، وأغلب هؤلاء من أهل البادية.

وكان لقريش شعراؤها وشعرها، وإن كان قليلا في الجاهلية، يقول ابن سلام: نظرت قريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية، فاستكثرت منه في الإسلام.
وأشهر شعراء مكة: عبد الله بن الزبعرى، وأبو طالب، وأبو سفيان، ومسافر بن أبي عمرو بن أمية، وضرار بن الخطاب، وأبو عزة الجمحي، وعبد الله بن حذافة السهمي، وهبيرة بن أبي وهب بن عامر بن عائذ بن عمران بن مخزوم، والزبير بن عبد المطلب صاحب البيت المشهور:
إذا كنت في حاجة مرسلا ... فأرسل حكيما ولا توصه2
وأشهر شعراء الطائف: أبو الصلت، وأمية بن أبي الصلت، وغيلان، وكنانة بن عبد ياليل

3- ومن القبائل الحجازية الشاعرة قبيلة هذيل، وكانت أولى القبائل التي يقتدى بها في البلاغة والبيان، وهذيل تمتّ إلى قريش بالنسب والمصاهرة والجوار، وكانت تحاكي قريشا في انتقاء الأفصح من الألفاظ, مما يسهل على اللسان في النطق، ويحسن عند المتذوق والسامع المتفهم.
والهذليون من مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار، وكانوا يحاورون القرشيين، فقد كانت قريش تسكن مكة، وكانت هذيل تسكن حولها أو قريبا منها، ومن ثم كان الهذليون والقرشيون قسماء في الفصاحة.
وقد نبغت هذيل من الشعر خاصة، حتى كان الرجل منهم ربما أنجب عشرة من البنين كلهم شعراء، يقول أبو الفرج الأصبهاني: "كان بنو مرة عشرة: أبو خراش، وأبو جندب، وعروة، والأنج، والأسود، وأبو الأسود، وعمرة، وجنادة، وسفيان، وزهير، وكانوا جميعا شعراء دهاة". ويروى عن الأصمعي أنه قال: إذا فاتك الهذلي أن يكون شاعرا أو راميا, فلا خير فيه.
وحسبك ما جمعه كتاب "ديوان الهذليين" الذي نشرته دار الكتب المصرية بالقاهرة من أعلام الشعراء الهذليين1, وقد طبع في أوروبا مجموعات ثلاث في شعراء هذيل, وهي:
1- ما بقي من أشعار الهذليين، ويعرف بالبغية, ويحتوي على سبعة وعشرين شاعرا.
3- شرح ديوان الهذليين، لأبي سعيد السكري، ويحتوي على تسعة وعشرين شاعرا.
3- مجموعة أشعار الهذليين، المطبوع في ليبزج، ويشمل ستة شعراء.
ويروى أن الرواة لم يكونوا يأخذون عن لخم وجذام وقضاعة وغسان وإياد وتغلب والنمر، وإنما كانوا يأخذون العربية عن قيس وأسد وتميم وهذيل وبعض كنانة، وكانوا يأخذون عن قيس وأسد وتميم الإعراب والتصريف والغريب، من حيث كانوا يأخذون عن قريش وهذيل الفصاحة والبلاغة.

ومن شعراء هذيل: أبو ذؤيب، وأبو خراش، وساعدة بن جؤية، وأبو العيال، وأبو قلابة، وأبو المثلم، وأبو جندب، ومالك بن خالد، وبدر بن عامر، والمتنخل, وأبو كبير، ومعقل بن خويلد، والبريق، وأمية بن أبي عائذ، وصخر الغي، وعمرو ذو الكلب، وحبيب الأعلم، وعبد مناف بن ربع، والمعطل، وقيس بن عيزارة، وأسامة بن الحارث، وساعدة بن العجلان، وجنادة بن عامر، وأبو بثينة، والعجلان بن خالد، وحذيفة بن أنس، وخالد بن زهير، ومالك بن الحارث، وعمرو بن الداخل، وأسامة بن الحارث.
4- ويجعل ابن سلام شعراء المدينة الفحول خمسة: ثلاثة من الخزرج، واثنان من الأوس. فمن الخزرج من بني النجار: حسان بن ثابت, ومن بني سلمة: كعب بن مالك, ومن بني الحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة، ومن الأوس: قيس بن الخطيم من بني ظفر، وأبو قيس بن الأسلت من بني عمرو بن عوف, وأشعرهم حسان1. ومما يدل على انتشار الشعر في يثرب، ما يرويه ابن عبد ربه عن أنس بن مالك، أنه قال: "قدم علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما في الأنصار بيت إلا وهو يقول الشعر، قيل له: وأنت يا أبا حمزة؟ قال: وأنا". ويقول: وفي يهود المدينة وأكنافها شعر جيد2.
ويقول: وبالطائف شعراء وشعرهم ليس بالكثير، وإنما يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء، نحو حرب الأوس والخزرج، والذي قلل شعر قريش كذلك أنه لم يكن بينهم ثائرة ولم يحاربوا3.
5- وللشعر الحجازي خصائصه الواضحة في الأسلوب واللفظ والمعنى والخيال والغرض. ويلاحظ اشتماله على كثير من الحكمة وقصص الأنبياء، واحتواؤه على

فكرة التدين، إلى جزالته وفصاحته ومتانة أسلوبه في عذوبة، وقد ترتفع العذوبة إلى منزلة عالية في البلاغة.
وتتمثل كذلك في الشعر الحجازي -في الأغلب- عفة اللفظ وشرف المعنى ونبل الغرض، فلم يفحش كثير من الشعراء الحجازيين في قول, ولم يسفوا في بيان، ولم ينزلوا عن مستواهم الرفيع في شرفهم وحسبهم ومنزلتهم الاجتماعية العالية، ويضاف إلى ذلك الطبع وعدم التعجل في التكلف في شعر شعراء الحجاز عامة، إلى العذوبة والرقة في شعر شعراء الحواضر.
ولقد كان الشعر الحجازي ممثلا للفكر العربي بما فيه من طموح ومن قوة، ومن شرف وعزة وإباء، وتطلع وحيرة، ومعرفة وخبرة وتجربة، ففيه الكثير من معارف العرب وآرائهم في الحياة، وفهمهم لها، وإدراكهم للتاريخ، مما سيتجلى في حديثنا عن الشعراء الحجازيين.
ويرى ابن سلام أن شعر قريش كان قليلا في الجاهلية1 لقلة حروبهم ... وقد يرد على هذا بعام الفيل وما ورد فيه من شعر كثير2، وبالخصومات الكثيرة بين القبائل الحجازية، مما كانت الأيام الحجازية أثرا لها، وبالخصومات التي وقعت بين الرسول وأعداء الإسلام.
 
شعراء الحجاز في القرن الهجري الأول
عابد خزندار



dc1ef45a04aa275b4ca04e755ec9fa7c.jpg

من المعروف أن معظم الشعر العربي، إن لم يكن كله، هو في المديح، حتى ما يعرف بالنسيب أو الغزل يأتي كمقدمة لشعر المديح، وقد خرج على هذه القاعدة شعراء الحجاز في القرن الهجري الأول، كعمر ابن أبي ربيعة وجميل بثينة وكثيّر عزة، وكان كلّ شعرهم في الغزل، ويروى أنّ ابن أبي ربيعة وفد على هشام بن عبدالملك فقال له: لما ذا لا تمدحنا؟ فأجابه: إنني أمدح النساء، على أنّ أرقّ شعراء هذا العصر، رغم أنه مقل هو عروة ابن أذينة، ومن شعره:

إنّ التي زعمت فؤادك ملّها ** خلقت هواك كما خلقت هوى لها

فبك التي زعمت بها وكلاكما ** أبدى لصاحبه الصبابة كلّها

بيضاء باكرها النعيم فصاغها ** بلباقة فأدقّها وأجلّها

منعت تحيتها فقلت لصاحبي ** ما كان أكثرها لنا وأقلّها

فدنا وقال لعلّها معذورة ** من أجل رقبتها فقلت لعّلها

والقصيدة جميلة لأنها تنتهي بالهاء، وهي هاء الضمير الزائدة التي تدل على الغائب، ومن قبيل هذه القصائد: عفت الديار محلها فمقامها، وياليل الصبّ متى غده، ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياة وإنّي لا أودعه، ثمّ إن هناك الحذف البليغ وهو نوع من الإيجاز الذي لا يأتي لصاحبه بسهولة.

وقد روي عن سعد زغلول أنه قال في إحدى رسائله: آسف للاطناب لأنّه لا وقت لديّ للايجاز، ومن قبيل الحذف:

قالت بنات العم ياليلى وإن ** كان فقيرا معدما قالت وإن

وحذف ما بعد إن الأخيرة لأنّ ما قبلها يدلّ عليها، ومن قبيل الحذف هذه الآيات من سورة الضحى: "ألم يجدك يتيما فآوى، ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى"، هنا حذف المفعول به، وهذا نوع من الالتفات البلاغي، إذ عطف فعل ماض على فعل مضارع، عطف وجد على يجدك، وفي قصيدة عروة جاء الحذف بعد أقلّها وتقديره أقلها عليها، وبعد لعلها أي معذورة، وجاء الحذف لأن ما قبله يدلّ عليه ومن شعره:

بيض نواعم ما هممن بريبة ** كظباء مكة صيدهن حرام

يحسبن من لين الكلام زوانيا ** ويصدهن عن الخنا الإسلام
 
سيره الشاعر الحجازي دريد بن الصمه الهوازني :

مقدمة:
لو كانت في الجاهلية جوائز مثل نوبل وكان فيها فرع للفروسية أو الشعر لحاز شاعرنا الذي نتحدث عنه اليوم جائزة منها ، بل وربما أعطيت له جائزة في المجالين كسابقة نادرة، فشاعرنا جمع المجد من أطرافه واستحق أن يقال عنه (فارس الشعراء) أو (شاعر الفرسان) ، بل إن العجيب في فارسنا هذا ودوناً عن كثير من فرسان الجاهلية أنه كان يعشق الفروسية لذاتها بينما كان الفرسان غيره يمتهنونها للحصول على غرضٍ من مال أوشهرة.
كان فارسنا كلما سمع عن فارس في قبيلة هب إليها محارباً ، بينما كان غيره من الفرسان إذا سمعوا بفارس في قبيلة حاولوا تجنبها ماأمكنهم ذلك، ولذلك فليس عجيباً أن يقارع فارسنا عدد من أبطال العرب ، بل والعجيب أنه كان إذا تمكن من فارسٍ ليس بينه وبينه ثأر فإنه لايقتله بل يطلقه...هل رأيتم أعجب من ذلك؟!...إن من يريد الشهرة من الفرسان لن يترك فرصة قتل فارس مشهور ، لكن فارسنا هذا لم يكن يعشق الفروسية للشهرة بل كان يعشقها لذاتها، ولذلك كان يكره أن يقتل كل من ينتمي إلى الفروسية حتى لو كان عدواً له. وليس عجيباً بعد ذلك أن يرتبط فارسنا بعلاقة صداقة مع عدد من فرسان العرب الذين كان على رأسهم فرسان قبيلة سليم معاوية وصخر ابنا عمرو بن الشريد أخو الخنساء.

نال شاعرنا الدرجة العظيمة في الفروسية حين أهلته فروسيته ليقول عنه فارس الفرسان عمرو بن معديكرب : " لو طفت بظعينة أحياء العرب ماخفت عليها مالم ألق حريها وعبديها " يعني بالعبدين عنترة والسليك الصعلوك، وبالحرين عامر بن الطفيل ودريد بن الصمة. كما نال الدرجة العظيمة في الشعر حينما أهله شعره ليقول عنه الأصمعي أحد أعظم نقاد الشعر الجاهلي : " هو في بعض أشعاره أشعر من النابغة الذبياني ، وقد كاد يغلبه " ، كما قدم عدد من نقاد الأدب العربي شعره على عنترة وقالوا : " لولا المعلقة لم يسبقه عنترة" ، وهو أشعر شعراء بادية الحجاز في الجاهلية غير مدافع.

نبذة مختصرة عن الشاعر:
شاعرنا إخوتي هو: دُرَيد بن الصـِّمـَّـة بن الحارث بن معاوية من بني غـُـزيَّـة بن جُشـَم بن معاوية بن بكر بن هوازن.
كان أبوه الصمة من فرسان قومه المعدودين وكذلك كان أعمامه . وأم شاعرنا هي ريحانة بنت معديكرب أخت فارس اليمن المشهور عمرو بن معديكرب ، أسرها أبوه في إحدى غزواته ضد قبيلة زبيد واتخذها من بعد ذلك زوجة ً له عندما عَلِم أنها سليلة بيتٍ من بيوت أسياد اليمن وفرسانها على أمل أن ينجب منها فرساناً. وبالفعل فقد أنجبت ريحانة من الصمة خمسة أولاد كلهم كانوا فرساناً ولهم غزوات معدودة . والعجيب أن كل هؤلاء الإخوة ماتوا في غزوات كما كانوا يتمنون وكان آخرهم دريد الذي قـُتِل في معركة حنين حينما خرج مع المشركين ضد المسلمين وكان وقتها شيخاً يناهز المئة سنة فقتله أحد شباب المسلمين.
كان شاعرنا دريد من أشهر فرسان العرب بل عـَدَّه بعض مؤرخي الأدب الجاهلي أعظم من عنترة ، وقد ذكروا أن دريداً غزا أكثر من مئة غزوة انتصر فيها ولم يغلب سوى في معركتين أو ثلاث كاد أن يقتل في إحداها . وقد صنع هو وأبوه وأعمامه وإخوته لقومهم مجداً جعل العرب تجعل في إحدى مفاخرها أن يكون من ضمن قتلاها أحد بني جـُشَم بن بكر ، وأشهر ماقيل من الفخر في ذلك ماورد في معلقة عمرو بن كلثوم حين يقول مفتخراً:


وَأَمَّـا يَـوْمَ لاَ نَخْشَـى عَلَيْهِـمْفَـنُـمْـعِـنُ غَــــارَةً مُتَلَـبِّـبِـيْـنَـا
بِرَأْسٍ مِنْ بَنِي جُشْمٍ بِنْ بَكْرٍنَدُقُّ بِهِ السُّهُوْلَـةَ وَالحُزُوْنَـا






مصارع أقاربه ومراثيه فيهم وثأره لهم:
ذكر رواة الأدب الجاهلي أن دريداً عاش جزءاً كبيراً من حياته ينتقم لكل من قـُتِل من أقاربه ، فقد انتقم لكل من قـُتِل من إخوته الأربعة ، كما انتقم لأحد أعمامه وكذلك لأحد أبناء عمه، كما قيل أنه هو من انتقم لمقتل أبيه من بني يربوع وبني سعد وهما فرعان من تميم حاربهما دريد بعد أن قتلوا أباه الصمة غدراً ، فغزاهم دريد ببني جشم وبني نصر فأوقع بهم وقتل فيهم، وذكر في ذلك أبياتاً منها:
- امَّا عمه خالد بن الحارث فقيل أنه خرج مع دريد يغزو بني أحمس وهم بطن من شنوءة من قبائل اليمن، فظفر دريد ومن معه واستاقوا إبل القوم وسبوا نساءهم، ولكن عمه خالداً أصيب بسهمٍ فقُتِل ، فقيل أن دريداً قتل رجالاً منهم انتقاماً لعمه، وقال يرثيه:

- وأمَّا إخوته فقد ذكرنا أن ريحانة أنجبت للصمة خمسة أبناءٍ كلهم كان فارساً بارزاً ، وعلى رأسهم شاعرنا وفارسنا دريد ، وعبد الله ويُسمَّى أيضاً غالب،وخالد، وقيس، وعبد يغوث.
امَّا عبد الله فقيل أنه قُتِل في غزوةٍ له ضد قبيلة غطفان وكان معه في الغزوة دريد الذي كاد أن يُقتل فيها هو أيضاً. وأمَّا خالد فقتله بنو الحارث بن كعب حين هبَّ مُدافعاً عن حلفائه وجيرانه من بني نصر حين أغار عليهم بنو الحارث بن كعب . وامَّا قيس فقتله بنو أبي بكر بن كلاب. وأمَّا عبد يغوث فقد قتله بنو مُرَّة غِيلة ً.
وقد انتقم دريد لكل من قتل من إخوانه . وليس عجيباً بعد ذلك التاريخ من البطولات لعائلة دريد أن يصف دريد عائلته بتلك القطعة الشعرية الرائعة التي تُعدُّ من عيون الشعر العربي ، والتي أوردها أبوتمام في كتاب الحماسة، وفخر دريد في هذه القصيدة بنفسه وإخوته ذاكراً أنهم لايفارقون السيف قاتلين أو مقتولين، وقد رثى فيها ثلاثة من إخوته هم عبد الله ، وقيس،
وعبديغوث، وفيها يقول:
تَقولُ أَلاَ تَبكِي أَخَـاكَ وَقَـد أَرَى
مَكانَ البُكا لَكِن بُنيتُ عَلَى الصَبـرِ
فَقُلتُ أَعَبدَ اللهِ أَبكـي أَمِ الَّـذي
لَهُ الجَدَثُ الأَعلى قَتيلَ أَبِـي بَكـرِ
وَعَبدُ يَغوثَ تَحجُلُ الطَيـرُ حَولَـهُ
وَعَزَّ المُصابُ جَثوَ قَبـرٍ عَلى قَبـرِ
أَبَى القَتـلُ إِلاَّ آلَ صِمَّـةَ إِنَّهُـم
أَبَوا غَيرَهُ وَالقَدرُ يَجرِي إِلى القَـدرِ
فَإِمّـا تَرَينـا لاَ تَـزالُ دِماؤُنـا
لَدَى واتِرٍ يَسعى بِهَا آخِرَ الدَّهـرِ
فَإِنّا لَلَحمُ السَيـفِ غَيـرَ نَكيـرَةٍ
وَنَلحَمُهُ حيناً وَلَيسَ بِـذي نُكـرِ
يُغـارُ عَلَينَـا واتِرِيـنَ فَيُشتَفَـى
بِنَا إِن أُصِبنَا أَو نُغيـرُ عَلَـى وِتـرِ
بِذَاكَ قَسَمنَا الدَّهرَ شَطرَينِ قِسمَـةً
فَمَا يَنقَضِي إِلاَّ وَنَحنُ عَلَى شَطـرِ


وفي هذه الأبيات السابقة يصف دريد صبره على مقتل إخوته ‘ فهو لايبكي مع أنهم يستحقون أن يُبكى عليهم ، وذكر ثلاثة منهم هم :عبد الله، وقيس قتيل أبي بكر، وعبد يغوث. ثم ذكر أن القتل يبحث عن آل صمة مجتهداً وهم يبحثون عنه ، فهم إما قاتلين لأقرانهم من الأبطال أو مقتولين يشقى أعداؤهم بقتلهم إلى آخر الدهر خوفاً من الأبطال الذين سوف يثأرون لهم.
وآل صمة كما يقول دريد ليس عجيباً أن يكون لحمهم طعاماً للسيوف، كما ليس عجيباً أن يُطعموا لحم أعدائهم للسيوف . وحين يغير الأعداء على آل صمة ليثأروا لقتل أبطالهم فإنهم يشتفون بقتل أحدهم فهم أكفاء والعرب معروف أنهم حين يغيرون للثأر لايكفون عن القتل حتى يكون من القتلى شخص كفء لمن يثأرون له. كما أن آل صمة لايتركون ثأرهم أيضاً.
وفي النهاية يقول دريد أنهم قسموا عمرهم نصفين فهم إما يغيرون على القبائل أو يدافعون عن قبيلتهم ضد غارات القبائل الأخرى فحياتهم الفروسية ولاحياة لهم غيرها.


معركة اللـِّوى ومقتل عبدالله وثأره له ورثاؤه فيه:
- قصة مقتل عبدالله هي أهم ما يمر بنا في حياة دريد لأنها تركت أثراً بليغاً في حياته، فعبدالله هذا والذي يُسمَّى أيضاً "غالب" كان أكبر إخوة دريد وسيِّد قبيلته ، كما كان أعز إخوة دريد لديه، وهو الذي تعلم دريد الفروسية على يديه ، وقد قُتِل بين يدي دريد بعد أن حاول دريد أن ينقذه ولكنه لم يستطع.
وكان من قوة أثر مقتل عبدالله في نفس دريدٍ أنه كان يذكره في أكثر أشعاره التي رثى بها إخوانه الآخرين بينما كان يذكر بقية إخوانه في قصيدة أو اثنتين على الأكثر. وبينما كان يمر على ذكر إخوته الآخرين مروراً سريعاً في أكثر قصائده فإنه كان يتوقف طويلاً عند عبدالله ذاكراً محاسنه مسترجعاً لشيء من ذكرياته معه.
- وكان من قصتهما أنهما خرجا مع نفرٍ من فرسان قومها من بني غُزيّة بن جشم بن بكر يريدون غزو غطفان ، وكان عبدالله قائدهم في تلك الغزوة التي سُمِّيَت فيما بعد" يوم اللوى" ، واستهدفوا في هذه الغزوة إبلاً لقبيلة غطفان وبالفعل نجحوا في استياق الإبل دون أن يُصاب منهم أحد ، ولكن فرسان قبلة غطفان عرفوا الأمر بأسرع مما كان يتوقع الغزاة ، وعرف دريد بخبرته في حرب القبائل أن غطفان من أسرع القبائل نذيراً ونفيراً ، فقال لأخيه عبدالله:"أسرِع في الهرب لتنجو وننجو معك!" فأخذت الحمِيَّة عبد الله وقال: " والله لا أهرب ولا أبرح مكاني حتى أقسم مرباعي وأنتقع نقيعتي " - والمرباع هو ربع الغنيمة يأخذه سيد القوم ، والنقيعة ناقة تنحر وسط الإبل ثم يسمها الرئيس على أصحابه. فأقام عبد الله وعصى أخاه دريد الذي لم يجد بُدًّا من أن يقيم مع أخيه لعلمه أن فرسان غطفان سيهاجمونه لامحالة.
وبالفعل ماهو إلا قليل حتى ظهر فرسان غطفان وكان أكثرهم من بني فزارة وبني عبس، وكانوا يفوقون فرسان بني جشم عدداً وعدة. وبدأت المعركة وحمي وطيسها ،ولمَّا علم فرسان بني جشم أنهم مهزومين لامحالة شرعوا في الفرار لكن نخوة عبدالله ومروءته منعته من الفرار فبقي يصارع فرسان غطفان فأسقطوه وصاحوا: " أسقطنا فارساً من بني جشم!" ، فالتفت دريد إلى الصريخ ليعرف من الذي سقط فإذا به يرى الصريع أخوه عبدالله ، فكافح حتى وصل إليه ليدافع عنه ، ولكنه لم يصل إليه إلا وقد هلك بل وتناوشته الرماح حتى لم يبق فيه رمق، وأخذ دريد يبارزهم حتى أسقطوه هو أيضاً وجرحوه جروحاً بالغة ً وفقد وعيه، فظنوا أنه هلك فتركوه واستاقوا إبلهم . ثم إنه عاد منهم ثلاثة فرسان اثنان من بني عبس يقال لهما "الزهدمان" وثالث من بني فزارة يقال له"كُردُم" ، ومرُّوا على الجثث ليتأكدوا من الإجهار على من بقي فيه رمق، فشكـُّوا في أمر دريد وقال الزهدمان " لعله لم يَمُت" ، فضربه أحدهما برمحه، ثم قالوا لكردم "اضربه"، فعاد إليه فطعنه بالرمح في شرجه فخرج دم قد احتقن في جوفه فقيل أن دريد كان يقول بعدها أنه لولا طعنة كردم لمات...فسبحان الله!
بعد رحيل فرسان غطفان أفاق دريدوأخذ يزحف ويقوم ويتخبط حتى وجد نفسه بين قائمتي ناقة لامرأة من هوازن فارتعبت المرأة لما رأت دريد وقالت: " أعوذ بالله منك " ،قال لها :" من أين أنتي؟" ،قالت: " أنا من هوازن"، فقال لها دريد : " أنا فارس هوازن دريد بن الصمة!".
فأخذته المرأة وأخبرت به قومها الذين أخذوه فعالجوه ، ثم نقلوه إلى أهله.
وظلَّ دريد عاماً كاملاً يتداوى من جراحه ، وطالت الفترة حتى ظن الناس أن دريداً نسي ثأر أخيه وهاب أن يقاتل جموع غطفان ؛ حتى أن أمَّه ريحانة قالت له وهي تريد أن تغضبه:" يابني إن عجزت عن الثأر لأخيك فاستعن بأخوالك من زبيد يساعدونك" ، فغضب دريد ومالبث بعد شفائه أن جمع عدداً من فرسان قومه وأغار بهم على جمع من قبائل غطفان في منطقة اسمها "الصلعاء" فقتل عدداً كبيراً منهم وأسر عدداً آخر ، وأجلاهم عن الصلعاء.
وكان فيمن أسر منهم أحد فرسان بني عبس وساداتهم واسمه" ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب"، وكانوا يتهمون بني قارب بقتل عبدالله بن الصمة، ثم إن دريداً عندما عاد ومعه سيد بني عبس"ذؤاب" أراد بنو جشم أن يفادوه بمالَ كثير من بني عبس ، فرفض دريد الفداء وأخذ ذؤاب إلى فناء أمه ريحانة ، ثم قال لها:" ياأمة هذا ذؤاب بن أسماء سيد بني قارب الذين قتلوا عبدالله!" ، ثم قتله وقال لها: " هل بَلَغتُ مافي نفسك؟ّ" ، فقالت: " نعم مُتِّعتُ بك".
 
وفي المعركة التي قُتِل فيها عبد الله وفي رثاء عبدالله قال دريدٌ أجمل قصائده وأطولها وفيها يقول:

أَرَثَّ جَديدُ الحَبـلِ مِـن أُمِّ مَعبَـدٍ
بِعاقِبَـةٍ وَأَخلَفَـت كُـلَّ مَوعِـدِ
وَبانَت وَلَم أَحمَـد إِلَيـكَ نَوالَهـا
وَلَم تَرجُ فينـا رِدَّةَ اليَـومِ أَو غَـدِ
مِنَ الخَفِراتِ لا سَقوطـاً خِمارُهـا
إِذا بَـرَزَت وَلا خَـروجَ المُقَـيَّـدِ
وَكُـلَّ تَبـاريـحِ المُحِـبِّ لَقيتَـهُ
سِوى أَنَّنِي لَم أَلقَ حَتفي بِمَرصَـدِ
وَأَنِّيَ لَم أَهلِك خُفاتاً وَلَـم أَمُـت
خُفاتاً وَكُـلاًّ ظَنَّـهُ بِـيَ عُـوَّدي
كَأَنَّ حُمولَ الحَيِّ إِذ تَلَعَ الضُحـى
بِنا صِفَةِ الشَجنـاءِ عُصبَـةُ مِـذوَدِ
أَوِ الأَثأَبُ العُـمُّ المُخَـرَّمُ سوقُـهُ
بِشابَةَ لَـم يُخبَـط وَلَـم يَتَعَضَّـدِ
أَعاذِلَ مَهلاً بَعضُ لَومِكِ وَاِقصِـدي
وَإِن كانَ عِلمُ الغَيبِ عِندَكِ فَاِرشِدي
أَعاذِلَتِـي كُلُّ امـرِئٍ وَاِبـنُ أُمِّـهِ
مَتـاعٌ كَـزادِ الراكِـبِ المُتَـزَوِّدِ
أَعاذِلَ إِنَّ الـرُزءَ فِي مِثـلِ خالِـدٍ
وَلا رُزءَ فيما أَهلَكَ المَرءُ عَـن يَـدِ
وَقُلتُ لِعارِضٍ وَأَصحَابِ عَـارِضٍ
وَرَهطِ بَنِي السَوداءِ وَالقَومُ شُهَّـدي
عَلانِيَـةً ظُنّـوا بِأَلفَـي مُدَجَّـجٍ
سَراتُهُـمُ فِـي الفَارِسـيِّ المُسَـرَّدِ
وَقُلتُ لَهُم إِنَّ الأَحاليفَ أَصبَحَـت
مُطَنِّـبَـةً بَيـنَ السِّتـارِ فَثَهمَـدِ
فَما فَتِئـوا حَتّـى رَأَوهـا مُغيـرَةً
كَرِجلِ الدِبَى فِي كُلِّ رَبعٍ وَفَدفَـدِ
وَلَمّا رَأَيتُ الخَيـلَ قُبـلاً كَأَنَّهـا
جَرادٌ يُباري وِجهَةَ الريـحِ مُغتَـدي
أَمَرتُهُمُ أَمـري بِمُنعَـرَجِ اللِّـوى
فَلَم يَستَبينوا النُصحَ إِلاَّ ضُحَى الغَـدِ
فَلَمّا عَصَونِي كُنتُ مِنهُم وَقَـد أَرَى
غِوايَتَهُـم وَأَنَّنِـي غَيـرُ مُهتَـدي
وَهَل أَنا إِلاَّ مِن غَزِيَّـةَ إِن غَـوَت
غَوَيتُ وَإِن تَرشُـد غَزيَّـةُ أَرشَـدِ
دَعَانِي أَخِي وَالخَيـلُ بَينِـي وَبَينَـهُ
فَلَمّا دَعَانِي لَـمْ يَجِدنِـي بِقُعـدَدِ
أَخِـي أَرضَعَتنِـي أُمُّـهُ بِلِبانِهـا
بِثَديِ صَفَـاءٍ بَينَنـا لَـمْ يُجَـدَّدِ
فَجِئـتُ إِلَيـهِ وَالرِّمَـاحُ تَنوشُـهُ
كَوَقعِ الصَياصِي فِي النَسيجِ المُمَـدَّدِ
وَكُنتُ كَذاتِ البَوِّ ريعَت فَأَقبَلَـت
إِلى جَلَدٍ مِن مَسكِ سَقـبِ مُقَـدَّدِ
فَطاعَنتُ عَنهُ الخَيلَ حَتّى تَنَهنَهَـت
وَحَتّى عَلانِي حَلِكُ اللَّـونِ أَسـوَدِ
فَمَا رِمتُ حَتّى خَرَّقَتنِـي رِماحُهُـم
وَغودِرتُ أَكبو فِي القَنـا المُتَقَصِّـدِ
قِتالُ اِمرِئٍ آسَـى أَخـاهُ بِنَفسِـهِ
وَيَعلَـمُ أَنَّ الـمَرءَ غَيـرَ مُخَلَّـدِ
تَنَادوا فَقَالوا أَردَتِ الخَيـلُ فَارِسـاً
فَقلـتُ أَعبدُ اللهِ ذَلِكُـمُ الـرَّدي
فَإِن يَـكُ عَبدُ اللهِ خَلّـى مَكانَـهُ
فَما كانَ وَقّافـاً وَلا طائِـشَ اليَـدِ
وَلا بَرِمـاً إِذا الرِيـاحُ تَناوَحَـت
بِرَطبِ العِضاهِ وَالـهَشِيمِ المُعَضَّـدِ
وَتُخرِجُ مِنهُ صَـرَّةُ القَـومِ جُـرأَةً
وَطولُ السُرى ذَرِّيَّ عَضبٍ مُهَنَّـدِ
كَميشُ الإِزارِ خارِجٌ نِصفُ ساقِـهِ
صَبورٌ عَلى العَـزاءِ طَـلاَّعُ أَنجُـدِ
قَليلُ تشِّكيـهِ المُصِيبَـاتِ حَافِـظٌ
منَ اليومِ اعقابَ الأحاديثِ فِي غَـدِ
صَبا مَا صَبا حَتّى عَلا الشَيبُ رَأسَهُ
فَلَمّا عَـلاهُ قـالَ لِلباطِـلِ ابعَـدِ
تَراهُ خَميصَ البَطنِ و الزَّادُ حاضـرٌ
عَتِيدٌ و يَغدو فِي القَمِيـصِ المُقَـدَّدِ
وَإِن مَسَّـهُ الإِقـواءُ وَالجَهـدُ زادَهُ
سَماحاً وَإِتلافـاً لِما كَانَ فِي اليَـدِ
إِذا هَبَطَ الأَرضَ الفَضـاءَ تَزَيَّنَـت
لِرُؤيَتِـهِ كَالـمَأتَـمِ الـمُتَبَـدِّدِ
فَـلا يُبعـدنكَ اللهُ حيّـاً و ميِّتـاً
ومنْ يَعلُهُ رُكـنٌ مِنَ الأَرضِ يَبعُـدِ
رئيسُ حروبٍ لا يزالُ ربيئةً مُشيحاً
عَلَى مُحقوقـفِ الصُّلبـش مُلبِـدِ
وَغَارةٍ بَينَ اليَومِ و الأَمـسِ فَلتـةٍ
تَدَارَكتُهَا رَكضـاً بِسِيـدٍ عَمَـرَّدِ
سَلِيمِ الشَّظَى عَبلِ الشَّـوى شَنِـخِ
النَّسَا طَوِيلِ القَرا نَهدٍ أسيلِ المقلَّـدِ
يَفوتُ طَويلَ القَومِ عَقـدُ عِـذارِهِ
مُنيفٌ كَجِـذعِ النَخلَـةِ المُتَجَـرِّدِ
فَكنـتُ كأنَّـي واثـقُ بِمُصَـدَّرٍ
يُمَشِّي بِأَكنَافِ الحُبَيـبِ بِمَشهَـدِ
لَهُ كُلُّ مَن يَلقى مِنَ النَّاسِ واحِـداً
وَإِن يَلقَ مَثنى القَومِ يَفـرَح وَيَـزدَدِ
وَهَوَّنَ وَجدي أَنَّنِـي لَم أَقُـل لَـهُ
كَذَبتَ وَلَم أَبخُل بِما مَلَكَت يَـدي
فإنْ تعقبِ الأيَّامُ و الدَّهـرُ تعلمـوا
بَنِي قـاربٍ أنَّا غضـابٌ بِمعبـدِ




- وفي انتقام دريد لأخيه عبد الله وقتله لذؤاب بن أسماء وهزيمته لغطفان قال دريد قصيدة جميلة أيضاً وهي في المرتبة الثانية بعد قصيدته الأولى وقد وردت في عدد من كتب المختارات الأدبية لجمالها ، وفيها يقول:

يَا رَاكِبـاً إِمّـا عَرَضـتَ فَبَلِّغَـن
أَبا غالِـبٍ أَن قَد ثَأَرنـا بِغالِـبِ
قَتَلنـا بِعَبـدِ اللهِ خَيـرَ لِـداتِـهِ
ذُؤابَ بنَ أَسماءَ بنِ زَيدِ بنِ قـارِبِ
وَأَبلِغ نُمَيـراً إِن مَـرَرتَ بِدارِهـا
عَلَى نَأيِها فَـأَيُّ مَولَـىً وَطالِـبِ
وَعَبسـاً قَتَلناهُـم بِحُـرِّ بِلادِهِـم
بِمَقتَلِ عَبـدِ اللهِ يَـومَ الذَنائِـبِ
جَعَلنَا بَنِي بَدرِ وَشَمخـاً وَمازِنـاً
لَنَا غَرَضـاً يَزحَمنَهُـم بِالمَناكِـبِ
فَلِليَومِ سُمّيتُـم فَـزارَةَ فَاصبِـروا
لِوَقعِ القَنا تَنـزونَ نَـزوَ الجَنـادِبِ
فَإِن تُدبِروا يَأخُذنَكُم فِي ظُهورِكُـم
وَإِن تُقبِلـوا يَأخُذنَكُـم بِالتَرائِـبِ
وَإِن تُسهِلوا لِلخَيلِ تُسهِل عَلَيكُـمُ
بِطَعنٍ كَإيزاعِ المَخاضِ الضَـوارِبِ
إِذا أَحزَنوا تَغـشَ الجِبـالَ رِجالُنـا
كَمَا استَوفَزَت فُدرُ الوُعولِ القَراهِبِ
تَكُرُّ عَلَيهُـم رَجلَتِـي وَفَوارِسـي
وَأُكرِهَ فيهُم صَعدَتِي غَيـرَ ناكِـبِ
وَمُرَّةَ قَـد أَخرَجنَهُـم فَتَرَكنَهُـم
يَروغونَ بِالصَلعـاءِ رَوغَ الثَعالِـبِ
وَأَشجَعَ قَد أَدرَكنَهُـم فَتَرَكنَهُـم
يَخَافونَ خَطفَ الطَيرِ مِن كُلِّ جانِبِ
وَثَعلَبَةَ الخُنثَـى تَرَكنـا شَريدَهُـم
تَعِلَّـةَ لاهٍ فِـي البِـلادِ وَلاعِـبِ
وَلَولا جَنانُ اللَيلِ أَدرَكَ رَكضُنا بِذي
الرِمثِ وَالأَرطى عِياضَ بنَ ناشِـبِ
فَلَيتَ قُبـوراً بِالمَخاضَـةِ أَخبَـرَت
فَتُخبِرُ عَنّا الخُضرَ خُضرَ المُحـارِبِ
رَدَ سناهُمُ بِالخَيلِ حَتّـى تَمَـلأَّت
عَوافِي الضِباعِ وَالذِئابِ السَواغِـبِ
ذَرينِي أُطَـوِّف فِي البِـلادِ لَعَلَّنِـي
أُلاَقِي بِإِثـرٍ ثُلَّـةً مِـن مُحـارِبِ


دريد وغطفــان

- ثم لم يزل دريد يغزو غطفان وبالأخص قبائلها التي شاركت في موقعة" اللِّوى" التي قُتل فيها عبدالله وبالتحديد بني عبس وبني فزارة،فأوقع بهم في يوم مشهود لهوازن على غطفان وهو"يوم الغدير" ، وفيه أيضاً أوقع ببني مُرَّة الذين قتلوا أخاه عبد يغوث غدراً، وفي ذلك يقول من قصيدة طويلة:
فأبلغ سليمى وألفافها = وقد يَعْطِفُ النَّسَبُ الأكبرُ
بأنِّي ثأرت لإخوانكم = وكُنت كانـِّي بهم مُخـْفِرُ
صبحنا فزارة سُمْر القنا = فمهلا ً فزارة لاتـَضْجَروا
وأبلغ لديك بني مازن ٍ = فكيف الوعيد ولم تقدِروا

- وأمَّا خبر مقتل أخيه خالد ففيه : أن بني الحارث بن كعب أغاروا على بني نصر بن معاوية جيران بني جُشَم وأبناء عمومتهم ، فانتصر بنو الحارث بن كعب فغنموا وأسروا ناساً من بني نصر ، وبلغ الخبر بني جُشم فلحقوهم ورئيس بني جشم يومئذٍ "مالك بن حزن"، فاستنقذوا ماكان بأيديهم من غنائم بني نصر وأسراهم ، وأسروا من بني الحارث فارساً يقال له"ذو القرن"، وفقؤوا عين سيد بني الحارث في تلك الغزوة واسمه"شهاب بن أبان" ،وقُتل يومئذٍ خالد بن الصمة وكنيته "أبو جعد"، ولم يشهد دريد ذلك اليوم، فلما رجعوا قتلوا ذا القرن الحارثي بخالد بن الصمة،فقال دريد يرثي أخاه خالد:
أ ُميم أجِدي عافي الرزء واجشمي
وشُدِّي على رزءٍ ضلوعكِ وابؤسي
حرامٌ عليها أن ترى في حياتها
كمثل أبي جَعـْدٍ فعودي أو اجلسي
أعفَّ وأجدى نائلاً لِعشيرةٍ
وأكرمَ مَخـْلودٍ لدى كل مجلس ِ
وألينَ منه صَفـْحة ً لـِعـَشـِيرة ً
وخيراً أبا ضيف ٍ وخيراً لمـَجْـلـِسِ
تقول هلالٌ خارجٌ من غمامةٍ
إذا جاء يجري في شليل ٍ وقـَوْنس
يشُدُّ متون الأقربين بهاؤه
وتخبُثُ نفسُ الشانئِ المـُتـَعـَبـِّس ِ
 
قصته مع رَبِيعة بن مُكـَدِّم :
- تورد عدد من روايات الجاهلية ربيعة بن مكدم الكِناني كأسطورةٍ من أساطير البطولة العربية ، ولكن كما نعرف من طبيعة الأساطير فإن بعضها لا أصل له ، وقد نفى بعض الأدباء أن يكون ربيعة هذا شخصاً معروفاً ، بل قالوا إن قصصه كلها كانت من تخيلات العرب ومن تأليف الوضاعين من القصاصين ، ولكن من يُثبت وجود ربيعة من الأدباء يعتمدون في ذلك على قصته مع دريد التي جاءت برواية الراوية الخبير بالشعر الجاهلي أبو عبيدة معمر بن المثنى، ووردت في عدد من كتب الأدب الموثوقة وعلى رأسها "أمالي أبي علي القالي"، كما وردت في الأغاني برواية أبي عبيدة وأوردها أبو الفرج في سياق القصص الموثوقة ، مع أنه علق على عدد من القصص المروية عن دريد إلا أن هذه لم تكن من ضمنها ،وعلى ذلك نعلم أن أبا الفرج يثبتها ، وفي القصة:
أن دريد بن الصمة فارس هوازن خرج يوماً في فوارس من بني جشم يريد الغارة على بني كنانة ؛ فلما كان بواد لبني كنانة في طرف الدهناء يقال له ( الأحزم ) رُفِع له رجل من ناحية الوادي ومعه ظعينة (فتاة). فلما نظر إليه قال لفارس من أصحابه : صِحْ به أن خل عن الظعينة ، وانج بنفسك - وهو لا يعرفه - فانتهى إليه الرجل ، وألح عليه ، فلما أبى ألقى زمام الراحلة وقال للظعينة :
سيري على رسلك سير الآمن = سير رداح ذات جأش ساكن
إن انثنائي دون قرني شائني = أبلي بلائي ، واخبري ، وعايني

ثم حمل على الفارس فصرعه ، وأخذ فرسه فأعطاه الظعينة .
فبعث دريد فارسا آخر لينظر ما صنع صاحبه ؛ فرآه صريعاً ، فصاح به ، فتصامم عنه ، فظن أنه لم يسمع فغشيه ، وألقى زمام الراحلة إلى الظعينة ، ثم حمل على الفارس فصرعه ، وهو يقول :
خـَلِّ سبيل الحرة المنيعة إنك لاق ٍ دونها ربيعة
في كـفه خَطـِّية مطيعة أولا فخذها طعنة سريعة
فالطعن مني في الوغى شريعة

ثم حمل عليه فصرعه .
فلما أبطأ على دريد بعث فارسا آخر ، لينظر ما صنعا ، فانتهى إليهما ، فرآهما صريعين ، ونظر إليه يقود ظعينته ، ويجر رمحه ، فقال له الفارس : خـَلِّ عن الظعينة . فقال لها ربيعة : اقصدي قصد البيوت ، ثم أقبل عليه ،فقال :
ماذا تريد من شتيم عابس ألم تر الفارس بعد الفارس
أرداهما عامل رمح يابس

ثم طعنه فصرعه ، فانكسر رمحه . ولما أبطأ عن دريد ارتاب ، وظن أنهم قد أخذوا الظعينة ، وقتلوا الرجل ، فلحق بهم فوجد ربيعة بن مكدم لا رمح معه ، وقد دنا من الحي ؛ ووجد أصحابه قد قـُتلوا ، فقال له دريد : أيها الفارس ؛ إن مثلك لا يـُقتل ، وإن الخيل ثائرة بأصحابها ، ولا أرى معك رمحا ، وأراك حديث السن ؛ فدونك هذا الرمح ؛ فإني راجعٌ إلى أصحابي فمثبطهم عنك . وأتى دريد أصحابه ، فقال : إن فارس الظعينة قد حماها ، وقتل فرسانكم ، وانتزع رمحي ، ولا طمع لكم فيه ؛ فانصرف القوم ،

وقال دريد :
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله = حامي الظعينة فارسا لم يقتل
أودى فوارس لم يكونوا نِهْزةً = ثم استمـرَّ كـأنَّـه لم يـفـعـل ِ
متهلـِّلا ً تبدو أسِرَّة ُ وجهه = مثل الحسام جَلـَتـْه كفُّ الصيقَل ِ
وترى الفوارس من مخافة رمحه = مثل البغاث خشين وقع الأجدل ِ
ياليت شِعري من أبوه وأمه ؟ = يا صاح ِ من يكُ مثله لا يُجهل ِ

...وهنا قبل إكمال القصة نتأمل قليلا ً في عشق دريد للفروسية ؛ فمن الصعب على أي أحد أن يرى فارساً يقتل ثلاثة ً من قومه ثم يرى هذا الفارس أعزلا ً ولايقتله ، ولكن دريداً فعلها لأنه يعشق الفروسية ويكره أن يرى فارساً مثل ربيعة مقتولا ً . ولكن ربما نجد من يقول : بل لعل ربيعة غلب دريداً وأخذ رمحه بالفعل ومَنَّ عليه بالحياة ...هاهاها! نعم لم لا ،ثم إن هذه القصة حكاها دريد بعد مقتل ربيعة...إذن احكي يادريد كما تشاء فمن يعرف القصة الحقيقية مات!
طيب اسمعوا ترا كل هذا الكلام مزح لاتصدقونه ،وبعدين لو سمحتوا ممنوع الكلام على دريد لأنه من الجماعة واللي يبغى يزعلني يتكلم فيه! وبعدين أحبابي انتظروا تكملة القصة لأن المرأة التي كانت مع ربيعة هي التي حكتها...

...المهم لم تلبث كنانة وهي القبيلة التي منها ربيعة أن أغارت على بني جُشم فقتلوا ناساً وأسروا دريد (ياعيباه يادريد والله راحت علومك! مرة مجروح ومرة مأسور أين المئة غزوة المظفرة؟! اعذروه ياشباب الله العالم انه وقتها كان كبير في السن) فأخفى دريد اسمه عن الناس خجلاً من أن تتسامع العرب أن دريداً أ ُسر، وبينما هو عند آسره إذ جاء نسوةُ يتهادين ، فصرخت إحداهن وقالت:" هلكتم والله وأهلكتم ! ماذا جرَّ علينا قومنا ؟!هذا والله الذي أعطى ربيعة رمحه!" ( هاااه سمعتم كلام المرأة؟! يعني دريد صادق) فسألوه : من أنت؟ فقال:" أنا دريد بن الصمة! فمن صاحبي؟!" قالوا: ربيعة بن مكدم . قال : فما فعل؟ .قالوا: قتله حلفاؤكم من بني سليم. قال: فما فعلت الظعينة؟ قالت المرأة: أنا هي وأنا امرأة ربيعة.
فحبس القوم دريد وآمروا أنفسهم فكيف يتركون فدية فارس فرسان هوازن فهي لن تقل عن الآلاف من الإبل. فقال بعضهم: لاينبغي أن نكفر نعمة دريد على صاحبنا. وقال آخرون: والله لايخرج من أيدينا إلا برضا الذي أسره. فانبعثت المرأة في الليل وهي ريطة بنت جذل الطعان تقول أبياتاً منها:
سنجزي دريداً عن ربيعة نعمةً
وكُلُّ امرئٍ يُجزى بما كان قدَّما
فلو كان حيًّا لم يضِق بثوابه
ذراعاً غنيـًّا أو كان مُعدِما

فلما أصبحوا أطلقوه فكسته المرأة وجهزته ولحق بقومه، فلم يزل كافـًّا عن بني فراس حتى هلك.


صداقته مع فرسان بني سليم وقصته مع الخنساء:
- ليس للفارس سوى الفرسان ،والناس ينجذبون لأشباههم ؛ وكذلك كان دريد فكان لايُرافق سوى الفرسان ، وقد اشتهر أن دريد تحالف مع معاوية بن عمرو بن الشريد السلمي أخو الخنساء ، وتواثقا إن هلك أحدهما أن يرثيه الباقي بعده وإن قُتل أن يطلب بثأره،فقُتل معاوية على يد هاشم بن حرملة فكان دريد يحث بني سليم على الثأر لمعاوية وعرض عليهم المساعدة بكل مايستطيع ليصلوا لثأرهم، لكن فرسان بني سليم لم يكونوا بالضعفاء لينتظروا دريداً ليثأر لمعاوية ؛ فقد كان منهم فرسان ليسوا في الشُّهرة دون دريد وعلى رأسهم العباس بن مرداس(ابن الخنساء أخت معاوية)، وخفاف بن ندبة ابن عم معاوية. وبالفعل فقد ثأر خفاف بن ندبة لمعاوية فقتل قاتله هاشم بن حرملة كما قتل به مالك بن حمار الشمحي فارس بني فزارة وسيدهم ‘ ورثى دريد صديقه معاوية في قصيدة جميلة منها:
وإن الرزء يوم وقفت أدعو
فلم أسمع معاوية بن عمرو
ولو أسمعتة لسرى حثيثاً
سريع السعي أو لأتاك يجري
بشكة حازم ٍ لا عيب فيها
إذا لبس الكـُماة جلود نمرِ
فعَزَّ عليَّ هلكك يا ابن عمرو
ومالي عنك من عزمٍ وصبرِ

- وكان دُريد قبل قتل معاوية قد رأى الخنساء(تماضربنت عمرو) أخت معاوية ، فتعلق قلبه بها وأراد أن يتزوجها ، وقال فيها أبياتاً منها:
حَيّوا تُماضِـرَ وَاِربَعـوا صَحبِـي
وَقِفـوا فَـإِنَّ وُقوفَكُـم حَسبِـي
أَخُناسُ قَـد هَـامَ الفُـؤادُ بِكُـم
وَأَصابَـهُ تَبَـلٌ مِـنَ الـحُـبِّ


وخطبها دريد من أخيها معاوية، ولكنها رفضت الزواج من دريد، وكان عذرها أنه كان يكبرها سناً ولم يكن من الكرماء المشهورين ؛ كما أن الفتاة في ذلك الزمان وفي كل زمان تتخوف من الزواج من خارج مجتمعها لأنها تعلم أن كرامة الغريبة لن تكون ككرامة ابنة المجتمع نفسه فأحبت أن تتزوج من قومها، فحاول أخوها معاوية أن يجبرها على دريد فأبت بشدة ، وقالت في ذلك:
أتـُكرِهني هُبـِلت على دريدٍ
وقد أحرمت سيد آل بدر ِ
معاذ الله ينكحني حبركي
قصير الشبر من جُشم بن بكر
يرى مجدًا ومكرمة ً أتاها
إذا عشَّى الصَّديق جريمَ تمر ِ

فقال دريد بعد أن علم برفضها قصيدة منها:
لِمَن طَلَلٌ بِذاتِ الخَمـسِ يُمسِـى
عَفا بَينَ العَقيـقِ فَبَطـنِ ضَـرسِ
أُشَبِّهُـها غَمامَـةَ يَـومِ دَجـْنٍ
تَلألأَ بَرقُهـا أَو ضَـوءَ شَمـسِ
فَأُقسِم ما سَمِعتُ كَوَجدِ عَمـروٍ
بِذاتِ الخـالِ مِن جِـنٍّ وَإِنـسِ
وَقـاكِ اللهُ يَا ابنَـةَ آلِ عَـمـروٍ
مِـنَ الفِتيـانِ أَمثالِـي وَنَفسِـي
فَلا تَلِـدي وَلا يَنكَحـكِ مِثلِـي
إِذا مـا لَيلَـةٌ طَرَقَـت بِنَحـسِ
إِذا عُقبُ القُـدورِ تَكَـنَّ مـالاً
تُحِبُّ حَلائِـلُ الأَبـرامِ عِرسِـي
لَقَد عَلِـمَ المَراضِـعُ فِي جُمـادَى
إِذا اِستَعجَلـنَ عَن حَـزٍّ بِنَهـسِ
بِـأَنّـي لا أَبيـتُ بِغَيـرِ لَحـمٍ
وَأَبدَءُ بِالأَرامِـلِ حِيـنَ أُمسِـي
وَأَنِّـي لا يَهِـرُّ الضَيـفَ كَلبِـي
وَلا جَاري يَبِيتُ خَبِيـثَ نَفسِ
وَتَـزعُـمُ أَنَّنِـي شَيـخٌ كَبيـرٌ
وَهَل أَخبَرتُها أَنِّـي ابـنُ أَمـسِ
تُريـدُ أُفَيحِـجَ القَدَمَيـنِ شَثنـاً
يُقَلِّـعُ بِالجَديـرَةِ كُـلِّ كِـرسِ

وَما قَصُرَت يَدي عَن عُظـمِ أَمـرٍ
أَهُمُّ بِـهِ وَمـا سَهمـي بِنَكـسِ
وَمَا أَنا بِالمُزَجّـى حِيـنَ يَسمُـو
عَظيـمٌ فِي الأُمـورِ وَلا بِوَهـسِ




نظرة على شاعرية دريد وشهرته:
- قضَى دريد حياته بين الغزوات والثأر لأحبابه وتدبيج الأشعار بالفخر بفروسيته ورثاء إخوته، وقد قيل على التحقيق أن لدريداً أكثر من مئة غزوة مظفرة غير الغزوات التي خسر فيها وهي قليلة بالطبع لاتتجاوز الثلاث أو الأربع.
كان دريد أشهر شعراء بادية الحجاز بلا منازع ، ولكم أن تتخيلوا أن شعراء المعلقات كلهم لم يكن بينهم شاعرٌ حجازي ، كما أنه لم يذكر من شعراء الحجاز بين فحول الجاهلية إلاَّ قلة على رأسهم : قيس بن الخطيم الأوسي، وأمية بن أبي الصلت الثقفي وهم من شعراء حاضرة الحجاز، ودريد بن الصِّمَّة الجُشَمي وهو من بادية الحجاز.

 
القصص الموضوعة على دريد(أسبابها والرد عليها):
1-ما قيل عن تخاذله أمام قبائل اليمن:
ولعل كون دريد على رأس هؤلاء القلة من فحول شعراء الحجازهو ماجعل كثيراً من الوضاعين للقصص والأشعار ينسبون إلى دريد الكثير من القصص والأشعار المكذوبة التي تنبَّه لها كبار نقاد الأدب الجاهلي ونبَّهوا إليها، فقد كان بعض الوضاعين من رواة القصص والشعر الجاهلي ذوي الميول اليمنية أو النجدية عندما يريدون تفضيل القبائل التي يميلون إليها على القبائل الحجازية لايجدون سوى دريد ليضعوا عليه القصص والأشعار ويظهرونه في هذه القصص في صورة الضعيف المستجدي ...وأشهر ماورد من ذلك هي القصص التي أوردها محمد بن السائب الكلبي وصور فيها دريداً ضعيفاً أمام قبائل اليمن من بني الحارث بن كعب وخثعم مع أن دريد لم يكن كذلك قطعاً! وكيف ذلك وانتصاراته عليهم يحكي بها التاريخ؟! بل كان مَن دونه في الفروسية من قبائل الحجاز لايخشون قبائل اليمن فكيف بدريدٍ فارس الحجاز كلها.
والجدير بالذكر أن كثيراً من نقاد الأدب كانوا يحذرون من مرويات محمد بن السائب التاريخية والأدبية لأنه كان مشهوراً بالوضع والتلاعب في القصص والأشعار، وقد نص أبو الفرج الأصفهاني على تكذيب محمد بن السائب الكلبي ونبه لمروياته التي أوردها له في كتاب الأغاني ، وأشهر روايات ابن الكلبي التي كذبها النقاد هي تلك الرواية التي ذكر فيها كيف غزت خثعم قبيلة دريد وسبت نساء جيرانه وأخذت أموالهم ، وذكر فيها أن دريداً ظل أعواماً لم يستطع فيها أن يغزو خثعم وصوَّره في صورة الجبان ثم صوَّر كيف أنه لم يتحرك لاسترجاع ما أخذته خثعم إلا بعد أن عيَّره جيرانه وقومه بذلك وبعد قصيدة قالها أحد جيرانه عَرَّض به فيها، وعندما تحرك لم يكن ذلك بالقـُوَّات بل كان ذلك بالاستجداء من سيد بني الحارث بن كعب ليعينه على رد أمواله وأموال جيرانه، وصور لنا رحلة دريد لبني الحارث بن كعب وما رآه في تلك القبيلة في مشاهد من وحي الخيال الواسع الذي يتفوق على خيالات من وضعوا قصص"ألف ليلة وليلة". كما أخذوا على ابن الكلبي تلاعبه بقصة الرجل الذي قتل فوارس دريد فقال أنه مسهر بن يزيد من بني الحارث بن كعب بينما المشهور أنه هو ربيعة بن مكدم الكناني.

2- ماقيل عن صداماته مع عنترة العبسي:- كما وضع القـُصَّاص قصصاً عن صدامات حصلت بين عنترة بطل عبس مع دريد بن الصمة بطل بني جشم بن بكر ولو حصل لقاء مثل هذا بينهما لكان أشهر من أن يخفى على نقاد الأدب الجاهلي ورواته الموثوقين،ولحصل نتيجة هذا اللقاء قصص وأشعار عظيمة، كما أنه من الغريب أن يلتقي مثل هذان البطلان ولايصرع أحدهما الآخر.
ولكن أليس من حق المتابعين للأدب الجاهلي أن يستغربوا عدم اصطدام عنترة العبسي مع دريد مع مانعرفه من عداوة دريد لقبيلة عبس وثأره عندهم وغزواته الكثيرة لهم ومواقعه المشهورة معهم ،ومع مانعرفه من أن دريداً وعنترة عاشا في زمن واحد؟!...نقول نعم من حقهم الاستغراب ولكن قد تنتفي الغرابة إذا توقـَّعنا أن غزوات دريد لعبس كانت قبل صعود نجم عنترة. والذي ينفي الغرابة أكثر هو معرفة أن قبيلة عبس كانت تنقسم إلى فروع وكان بعضها يسكن على حدود الحجاز مع نجد ،بينما البعض الآخر كانوا يسكنون أعالي نجد بعيداً عن الحجازوهؤلاء الأخيرين هم الذين نعلم علم اليقين أن عنترة كان منهم ،وهذا مايجعلنا نستبعد حدوث صدام بين هذا الفرع من عبس وقبيلة دريد، ولو كان هذا الفرع هو الذي غزاه دريد لسمعنا في المذكور من شعره أحد مشاهيرهم الذين نعرفهم مثل بني زياد، أو قيس بن زهير ،أو الورد بن حابس وابنه عروة الصعاليك، ولحصل بين دريد وعنترة صدامات شعرية هائلة! وكم يلذ لنا لو أن ذلك حصل ، ولكن أغلب الظن ومايقضي به التحقيق العلمي الدقيق هو أن ذلك اللقاء لم يحصل.


3-أشعاره في بعض قبائل الحجاز:
- كما اشتهر عند نقاد الأدب الجاهلي فإن تدوين الشعر لما بدأ وأخذ بعض كبار الرواة أمثال الأصمعي وأبوعمرو بن العلاء والمُفَضَّل الضَبِّي يأخذون الشعر مِن الرواة من الأعراب ومِن غيرهم أخذ بعض الرواة يضعون بعض القصص على بعض مشاهير الشعراء ليفضلوا فيها قبيلة من القبائل على غيرها ، وقد وضع بعض هؤلاء الرواة بعض الأشعار على لسان بعض شعراء الحجاز ومنهم دريد حينما حاولت بعض القبائل الحجازية أن تجعل لنفسها شهرة في التاريخ العربي... ومايدلك على بعض ذلك أن تجد تناقضاً غريباً بين بعض هذه القصائد ، وتجد أحياناً أشياء تستغربها ، فنجدهم يروون قصيدة لشاعر يمدح عدواً له دون أن نعلم فضلاً يدين به هذا المادح للممدوح؛ فنحن نشك في كل مارُوي من قصائد لدريد يمدح فيها بعض الأشخاص أو العوائل القرشية، وكيف لانشك في ذلك ونحن نعلم العداوة القوية بين قبائل هوازن وقريش والتي نتجت عنها حروب الفجار، ومما نشك فيه قصيدة ٌ قيل أن دريداً مدح فيها عبد الله بن جدعان التيمي القرشي، والذي يجعلنا نشك في تلك القصيدة أن هناك قصيدة أخرى لدريد في هجاء عبدالله بن جدعان، فياللعجب من هذا التناقض أيعقل أن يمدح شاعرٌ شخصاً ثم يهجوه ، أو يهجوه ثم يمدحه دون سبب؟!
 
4- قصيدة دريد في تهديد الفرس هل هي مختلقة؟!:
- أوردت بعض كتب الأدب والروايات الشعرية قصيدة لدريد يتهدد فيها الـفـُرْس، وبمجرد معرفتنا لذلك فلايتبادر لذهننا أي شك في أن هذه القصيدة مكذوبة وموضوعة على دريد.
فكيف لدريد أن يهجو الفـُرس وبينه وبينهم آلاف الأميال؟ ولماذا يهجوهم وهم لم يرتكبوا أي جناية ضده؟ ثم كيف يتهددهم وهو وقبيلته لم يستطيعوا أن يقفوا ضد أبرهة الأشرم الذي كان ينوي أن يهدم الكعبة ويهين العرب أجمع ، ولم تكن قوة أبرهة التي فرَّت منها هوازن تبلغ عشر معشار قوة الفـُرس؟! والعجيب أن نرى دريداً في هذه القصيدة يشجع قومه على قتال أبرهة مع أن المشهور أن هوازن لم تتعرض لجيش أبرهة بسوء . ونحن لانقول أن دريد وقبيلته كانت تنقصهم الشجاعة أمام جيوش فارس ولكنهم كانوا يعلمون أنهم بتفرقهم ونزاعاتهم وبساطة أسلحتهم وقلة خبرتهم العسكرية في الحروب المنظمة لايستطيعون الصمود أمام جيوش الدولة الفارسية.
دعك عزيزي من الذين يقولون أن دريداً كان له شعور قومي قوي وقد تعاطف مع قبائل بكر حينما حاربوا الفـُرس! أين كان هذا الشعور القومي حينما قتل وسبى وشرد الكثير من القبائل العربية! ويرد ذكر القضاء والقدر في أحد أبيات القصيدة وكأن الذي يقولها شاعرٌ إسلامي وليس شاعراً وثنياً لا يعترف بالقضاء والقدر.
ثم إن من ينظر إلى القصيدة يجدها لاتليق بدريد! نعم هي جميلة في بعض أبياتها لكنها لاتحمل خصائص شعر دريد الذي نعرفه، ولنلق نظرة على هذه القصيدة التي نجد فيها ضعفاً لغوياً لايجدر أن يقع فيه أحد أفصح العرب ، كما يوجد فيها سقطات غبية لايَصِحُّ أن يقع فيها شاعر مثل دريد ، فلو تأملت قليلاً البيت الذي يقول فيه " فما توهمت أني خضت معركة" هل كان دريد يتوهم معاركه ؟ ...نعم إخواني نحن لانحب الفرس المجوسيين ولايهمنا إن أهانهم دريد أم لم يهنهم بل يكون هذا من دواعي سرورنا كلما وجدنا العرب أعزاء أمام الفرس ، لكن هل يشفع كل هذا لنا أن نكذب وأن ندنس شاعرية دريد بقصيدة لاتليق به ؟!
ونترككم تتأملون هذه القصيدة وقولوا لنا هل تليق مثل هذه القصيدة المليئة بالسَّقطات اللغوية بشاعرٍ فصيح مثل دريد:

يـا هندُ لاتنكري شَيبي ولا كِبَري

ولـي جـنـانٌ شديدٌ لو لقِيتُ بِهِ

فـمـا توهمتُ أني خُضتُ iiمعركةً

كَـمْ قَـدْ عَرَكْتُ مع الأيامِ نائِبةً

عُـمري مع الدهر موصولٌ بآخرهِ

ويـلٌ لكِسرى إذا جَالَتْ فَوَارِسُنا

أولادُ فـارِسَ مـالـلعهدِ عِندهمُ

يـمـشونَ في حُلَلِ الدِيباجِ ناعِمةً

ويـومَ طَعْنِ القَنا الخَطي تَحْسَبُهُمْ

غـداً يـرون رجالاً من فوارسِنا

خُلِقْتُ لِلحربِ أُحْمِيها إذا بَرَدَتْ

يـا آل عَدْنانَ سِيروا واطلبوا رَجُلاً

قـد جـدَّ في هدِّ بيتِ الله مجتهداً

وعـن قَـلـيلٍ يُلاقي بَغْيَهُ وَيرى

ويُـبـتلى برجالٍ في الحروب لَهُم

الـمـوتُ حلوٌ لما لاقتْ شَمائلهم

والـنـاسُ صنفانِ هذا قلبهُ خَزَفٌ

فَـهِـمتي مِثل حَدِ الصارمِ الذَّكَرِ

حوادث الدهر ما جارت على بَشَرِ

إلا تَـرَكْـتُ الدِما تَنْهلُّ كالمطرِ

حتى عَرَفْتُ القضا الجاري مع القدرِ

وإنـمـا فـضلهُ بالشمس والقمر

فـي أرضـهِ بـالقنا الخَطِيةِ السُّمُرِ

حِـفـظٌ ولا فـيهمُ فخرٌ لِمفتَخِرِ

مشيَ البناتِ إذا ما قُمْنَ في السحرِ

عاناتِ وحشٍ دهاها صوتُ مُنْذَعِرِ

إن قاتلوا الموتَ ما كانوا على iiحَذَرِ

وأجـتـنـي مِنْ جَناها يانِعِ الثمرِ

مِـثـالهُ مِثلُ صوتِ العارض المطرِ

بِـعَـزْمَةً مِثل وَقْعِ الصارمِ الذكرِ

حـربـاً أشدَّ عَلَيهِ مِن لظى سَقَرِ

بـأسٌ شـديـدٌ وفِيهم عزمُ مُقْتَدرِ

وعِـنـدَ غَيْرِهِمُ كالحنظلِ iiالكَدِرِ

عِـنـد اللقاءِ وهذا قُدَّ مِنْ حَجَرِ




نهاية دريد:
- عاش دريد فترة طويلة وذكره مؤرخي الأدب الجاهلي في معمري العرب، والمشهور أنه قبل مقتله كان قد جاوز المئة سنة بكثير ، بل قال بعضهم أنه بلغ المئتين، وقد عاش دريد حتى هلك كل إخوته وأحبابه ، فقال له أحد قومه يوماً:أسننت وضَعُف جسمك وقُتِل أهلك ولامال لك ولا عُدَّة فعلى أي شيءٍ تعتمد؟ فقال:
أعاذل إنمـا أفـنى شبـابـي إجابتي الصَّريخ إلى المُنادي
مع الأبطال حتى كـَلَّ جسمي وأقرحَ عاتـِقي حمـلُ الـنـِّجادِ
أعاذل إنـه مـالٌ طـريـفٌ أحَـبُّ إليَّ مـن مـال ٍ تِـلاد ِ
أعاذل عدتي بدني ورمحي وكـل مـقـلـص سلس الـقـيادِ
ويبقى بعد حلم القوم حلمي ويفنى قـبل زاد الـقـوم زادي
والمشهور أن هذه الأبيات لخال دريد عمرو بن معديكرب الزبيدي، وهو ربما تمثل بها في هذا الموقف ولاتصح نسبة هذه الأبيات لدريد.

- أما مقتل دريد فقد ذكرته كتب التاريخ الإسلامي قبل كتب الأدب الجاهلي ؛ لأن دريداً قُتِل مع المشركين مظاهراً للمسلمين في معركة حُنَين ، وقد جاء في تاريخ الطَّبري :
أنَّه لمَّا سمعت هوازن بفتح مكة جمعها مالك بن عمرو بن عوف النصري، فاجتمعت إليه ثقيفٌ مع هوازن ،ولم يجتمع إليه من قيس إلا هوازن وناسٌ قليل من بني هلال ، وغابت عنها كعبٌ وكلاب، فاجتمعت نصر وجُشَم وسعد وبنو بكر بني هوازن وثقيف واحتشدت، وفي بني جشم (دريد بن الصمة) ، وكان وقتها شيخاً كبيراً أعمى ليس فيه شيءٌ إلاَّ التَّيمُّن برأيه ومعرفته بالحرب وكان شجاعاً مجرباً، واجتمع أمر الناس إلى مالك بن عوف، فلمَّا أجمع مالك المسير حطَّ مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم .
ولما نزل القوم بأوطاس قال لهم دريد: أين نحن؟ . قالوا: بأوطاس . قال: نِعْم مجال الخيل ليس بالحزن الضَّرس ولا السهل الدَّهس، لكن مالي أسمع رغاء الإبل ونهيق الحمير وثُغاء الشَّاء وبكاء الصغير. قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم. فغضب دريد وقال: أين مالك ائتوني به؟! فدعوا مالك، فقال له دريد: يامالك لماذا سُقت مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم؟!. قال مالك : أردت أن أجعل مع كل رجلٍ أهله وماله ليُقاتل عنهم! . فوبخه دريد وقال له: راعي ضأن ٍ والله! وهل يرد المهزوم شيء؟! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل ٌ بسيفه ورمحه، وإن كانت لهم عليك فُضِحت في أهلك ومالك! ، ثم قال دريد : مافعلت كعبٌ وكلاب؟ ، قالوا: لم يشهدها أحدٌ منهم ، فقال دريد : غاب الحَدُّ والجـِدُّ لو كان يوم علاءٍ ورفعة لم تـَغِب عنه كعبٌ وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم مثل مافعلوا. ثم قال: يامالك إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً،فارفعهم إلى إلى أعلى بلادهم وعَلياء قومهم ، ثم الق القوم بالرِّجال على متون الخيل ،فإن كانت لك لحق بك من وراءك ، وإن كانت عليك أحرزت أهلك ومالك ولم تُفضح في حريمك. فقال مالك : لا والله ما أفعل ذلك أبداً ! إنَّك قد خَرِفت وخَرِف رأيك وعلمك! والله لتطيعنني يامعشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتَّى يخرج من ظهري. فقالوا لمالك : أطعناك وعصينا دريداً .فقال دريد : هذا يومٌ لم أشهده ولم أغِب عنه.
فلما لقيهم جيش المسلمين بقيادة (الرسول صلى الله عليه وسلم) كانوا قد سبقوا المسلمين لموقع المعركة وهو وادٍ ، فكمنوا في مضايقه وشعابه وتجهزوا للمسلمين ثم صدموهم صدمةً قوية ورموهم بالسِّهام ، فهرب أكثر المسلمين، ولكن الله ثبَّت رسوله (صلى الله عليه وسلم)، وثبت معه أبطال بني هاشم علي بن أبي طالب ، والعباس وابنه الفضل، وأبو سفيان وربيعة ابني الحارث بن عبد المطلب، وثبت معهم أبوبكر وعمر والزبير ،وأسامة بن زيد وأيمن بن أم أيمن، وقلة من المهاجرين والأنصار ؛ فقيل أن مجموع من ثبت مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يزد عن السبعة عشر رجلاً.
ثم إن الرسول ( صلى الله عليه وسلم) ومن ثبت معه انحازوا إلى اليمين ، والرسول (صلى الله عليه وسلم )ينادي: " إلى أين أيها الناس؟ هلُمَّ إليَّ،أنا رسول الله أنا محمد بن عبد الله" ، وطمع المشركون في أن يقتلوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) ومن معه ولكن هيهات!
وأول ماكان من هزيمة المشركين أن عدا علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه) على فارسٍ مغوار من هوازن كان يحمل رايتهم على مقدم رمحه وكان هذا الفارس قد نكَّل بالمسلمين تنكيلاً شديداً فقتله علي( رضي الله عنه)، ثم أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) العباس وكان شديد الصوت فقال له:ياعباس اصرخ يامعشر الأنصار! ياأصحاب السَّمُرة!" ،فصرخ العباس ، فأجابه الأنصار:لبيك! . فاجتمع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قرابة المئة رجل ، فاستقبل بهم القوم وقاتلهم ، فلما رأى النبي ( صلى الله عليه سلم ) شِدَّة القتال قال : " أنا النبي لا كَذِب أنا ابن عبد المطلب، الآن حمي الوطيس" ، وماهو إلا قليل حتى أفاق المسلمون من الصدمة وعاد من الفارِّين عدد كثير ، فدارت الدائرة على المشركين ، ثم إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) أخذ قبضة ً من تراب الأرض وقال: " شاهت الوجوه "؛ فثار غبارٌ كثيرٌعلى المشركين دخل في عين كُلٍّ منهم وبدأت الهزيمة فيهم ومن ثَمَّ الفِرار.

أمَّا دريد فكان شيخاً كبيراً أعمى لايقوى على الفرار، وكان ابنه سلمة قد هرب وتركه، فأدرك شابٌّ من المسلمين دريداً فأناخ بعيره ،فقال له دريد: ما أنت فاعل ؟! قال : أقتلك! قال دريد : ومن أنت؟ .قال: أنا ربيعة بن رفيع السُّلمي!. فقال دريد: " فخذ سيفي من مؤخرة رحلي ثم اضربني به، وارفع عن العظام واخفض عن الِّماغ فكذلك كنت أفعل بالرِّجال،ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة فرُبَّ يومٍ قد منعت فيه نساءك ". فقتله ربيعة ولمَّا عاد إلى أمه أخبرها بالخبر ، فقالت: " سامحك الله يابُنيَّ لقد أعتق قتيلك ثلاثاً من أمهاتك ".
ثم إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أرسل في آثار المنهزمين من مشركي هوازن سرِيَّة يقودها الصحابي الجليل أبو عامر الأشعري ( رضي الله عنه ) ، فهزمهم أبوعامر ، ولكن قالوا أن سلمة بن دريد بن الصمة كمن لأبي عامر الأشعري بالليل ثم رماه بالسهام غدراً وهو يصلي فقتله ، فلما طلع الصباح ظفر المسلمون بسلمة فقتلوه.
وكان لدريد بنت اسمها عمرة شاعرة ، فقالت ترثيه وتذم بني سليم بعد أن علمت أن قاتله منهم :
لَعَمرك ما خشيت عَلى دريدٍ= بِبطنِ سميرة جيشَ العناقِ
جَزَى عنّا الإلهُ بني سليمٍ = وَعقّتهم بِما فعلوا عقاقِ
وَأَسقانا إِذا سِرنا إِليهم = دماءَ خيارهم يومَ التلاقي
فَربّ عظيمةٍ دافعتَ عَنهم = وَقَد بَلغت نفوسهم التراقي
وَربّ كريمةٍ أعتقت منهم = وَأخرى قَد فككت من الوثاقِ
وَربّ منوّهٍ بك من سليمٍ = أَجبت وقد دعاكَ بلا رماقِ
فكان جزاؤنا منهم عقوقاً= وهما ماع منه مخ ساقي
عفت آثار خيلك بعد أين= بذي بقر إلى فيف النهاق
 

صدى الحجاز

عضو ذهبي
بأكنافِ الحجازِ هوىً دفينُ = يُؤرَّقُني إذا هَدَتِ العيونُ
أَحِنُّ إلى الحجَازِ، وساكنيه = حنينَ الإلْفِ فارقَهُ القرينُ
وأبكي حينَ ترقدُ كلُّ عينٍ = بكاءً بينَ زفْرتِه أنينُ

أشجع بن عمرو السلمي
 

صدى الحجاز

عضو ذهبي
بعض الأبيات لشاعر علي بن محمد التهامي وهو من العصر العباسي
أحياه بعد الله إذ حياه .... طيف يسري الهم عنه سراه
أهدى السلامَ على تنائي أرضه .... يا حبذا المهدى ومن أهداه
أهداه أحورُ من ظباء تهامة .... كالظبي ألحاظ الظباء ظباه
كلت لواحظ مقلتيه وإنما .... لحظ العيون أكله أمضاه
يعدي ولا يعديه سقم جفونه .... والسيف ليس يضره حداه
ما العيش غير جواره في روضة ٍ .... ينضاف رياها إلى رياه
يثني النسيم الأقحوان بمثله .... فيها كما تتلاثم الأفواه
نفسي الفداء له على هجرانه .... أبداً ومن لي أن أكون فداه
أستودع الله الحجاز وأهله .... وسقاهم سيل الحيا وسقاه
أهوى الحجاز وطلحهُ وسيالهُ .... وأراكه وبشامهُ وعضاه
فسقى الإله سهوله وحزونه .... ومروجه ووهاده ورباه
غيثاً يطبّق بالفلاة ِ فيستوي .... بالروض منظرُ أرضه وسماه
 

صدى الحجاز

عضو ذهبي
أبثين إنك قد ملكت فأسجحـي = وخذي بحظك من كريمٍ واصل
فأجبتها في القول بعد تسـتـرٍ = حبي بثينة عن وصالك شاغلي
فلرب عارضةٍ علينا وصلـهـا = بالجد تخطله بقول الـهـازل
لو كان في صدري كقدر قلامةٍ = فضلاً وصلتك أو أتتك رسائلي

لجميل بن عبد الله بن معمر بن الحارث
والغناء ليحيى المكي ثقيل أول بالوسطى
من كتاب الأغاني
 
من مجله الهيئه العامه للشؤون الاسلاميه والاوقاف بدوله الامارات العربيه المتحده انقل لكم هذه المقاله عن ابو ذؤيب الهذلي اعداد ابراهيم الحمد العمرو :

النسخه الالكترونيه : http://www.awqaf.ae/Uploads/Manar/485/54-65.pdf

ذكر أبي ذؤيب وخبره ونسبه

هو خويلد بن خالد بن محرث بن زبيد بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار. وهو أحد المخضرمين ممن أدرك الجاهلية والإسلام، وأسلم فحسن إسلامه. ومات في غزاة إفريقية.
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال: كان أبو ذؤيب شاعراً فحلا لا غميزة فيه ولا وهن.

وقال ابن سلام: قال أبو عمرو بن العلاء: سئل حسان بن ثابت: من أشعر الناس؟ قال: أحيا أم رجلاً؟ قالوا: حيا؛ قال: أشعر الناس حيا هذيل، وأشعر هذيل غير مدافع أبو ذؤيب.

قال ابن سلام: ليس هذا من قول أبي عمرو ونحن نقوله.

أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال أخبرني محمد بن معاذ العمري قال: في التوراة: أبو ذؤيب مؤلف زوراً، وكان اسم الشاعر بالسريانية مؤلف زورا. فأخبرت بذلك بعض أصحاب العربية، وهو كثير بن إسحاق، فعجب منه وقال: قد بلغني ذاك. وكان فصيحاً كثير الغريب متمكناً في الشعر.

قال أبو زيد عمر بن شبة: تقدم أبو ذؤيب جميع شعراء هذيل بقصيدته العينية التي يرثي فيها بنيه. يعني قوله:

أمن المنون وريبه تـتـوجـع



والدهر ليس بمعتب من يخزع

وهذه يقولها في بنين له خمسة أصيبوا في عام واحد بالطاعون ورثاهم فيها.

وسنذكر جميع ما يغنى فيه منها على أثر أخباره هذه.

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن مصعب الزبيري، وأخبرني حرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال: كان أبو ذؤيب الهذلي خرج في جند عبد الله بن سعد بن أبي سرح أحد بني عامر بن لؤي إلى إفريقية سنة ست وعشرين غازياً إفرنجة في زمن عثمان.

فلما فتح عبد الله بن سعد إفريقية وما والاها بعث عبد الله بن الزبير – وكان في جنده- بشيراً إلى عثمان بن عفان، وبعث معه نفراً فيهم أبو ذؤيب.

ففي عبد الله يقول أبو ذؤيب:

فصاحب صدق كسيد الـضـرا



ء ينهض في الغزو نهضاً نجيحاً

في قصيدة له. فلما قدموا مصر مات أبو ذؤب بها. وقدم ابن الزبير على عثمان، وهو يومئذ، في قول ابن الزبير، ابن ست وعشرين سنة؛ وفي قول الواقدي ابن أربع وعشرين سنة. وبشر عبد الله عند مقدمه بخبيب بن عبد الله بن الزبير وبأخيه عروة. بن الزبير، وكانا ولدا في ذلك العام، وخبيب أكبرهما. قال مصعب: فسمعت أبي والزبير بن خبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير يقولان: قال عبد الله بن الزبير: أحاط بنا جرجير صاحب إفريقية وهو ملك إفرنجة في عشرين ألفا ومائة ألف ونحن في عشرين ألفا؛ فضاق بالمسلمين أمرهم واختلفوا في الرأي، فدخل عبد الله بن سعد فسطاطه يخلو يفكر. قال عبد الله بن الزبير: فرأيت عورة من جرجير والناس على مصافهم، رأيته على برذون أشهب خفف أصحابه منقطعاً منهم، معه جاريتان له تظلانه من الشمس بريش الطواويس. فجئت فسطاط عبد الله فطلبت الإذن عليه من حاجبه؛ فقال: إنه في شأنكم وإنه قد أمرني أن امسك الناس عنه. قال: فدرت فأتيت مؤخر فسطاطه فرفعته ودخلت عليه، فإذا هو مستلق على فراشه؛ ففزع وقال: ما الذي أدخلك علي يا بن الزبير؟ فقلت: إيه وإيه! كل أزب نفور! إني رأيت عورة من عدونا فرجوت الفرصة فيه وخشيث فواتها، فاخرج فاندب الناس إلي. قال: وما هي؟ فأخبرته؛ فقال: عور لعمري! ثم خرج فرأى ما رأيت؛ فقال: أيها الناس، انتدبوا مع ابن الزبير إلى عدوكم. فاخترت ثلاثين فارساً، وقلت: إني حامل اضربوا عن ظهري فإني سأكفيكم من ألقى إن شاء الله تعالى.

فحملت في الوجه الذي هو فيه وحملوا فذبوا عني حتى خرقتهم إلى أرض خالية، وتبينته فصمدت صمده؛ فوالله ما حسب إلا أني رسول ولا ظن أكثر أصحابه إلا ذاك، حتى رأى ما بي من أثر السلاح، فثنى بزذونه هارباً، فأدركته فطعنته فسقط، ورميت بنفسي عليه، واتقت جاريتاه عنه السيف فقطعت يد إحداهما. وأجهزت عليه ثم رفعت رأسه في رمحي، وجال أصحابه وحمل المسلمون في ناحيتي وكبروا فقتلوهم كيف شاءوا، وكانت الهزيمة.

فقال لي عبد الله بن سعد: ما أحد أحق بالبشارة منك، فبعثني إلى عثمان. وقدم مروان بعدي على عثمان حين اطمأنوا وباعوا المغنم وقسموه.

وكان مروان قد صفق على الخمس بخمسمائة ألف، فوضعها عنه عثمان، فكان ذلك مما تكلم فيه بسببه.

فقال عبد الرحمن بن حنبل بن مليل – وكان هو وأخوه كلدة أخوي صفوان بن أمية بن خلف لأمه، وهي صفية بنت معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، وكان أبوهما ممن سقط من اليمن إلى مكة-:

أحلف بالله جهـد الـيمـي



ن ما ترك الله أمراً سـدى

ولكن خلقت لـنـا فـتـنة



لكي نبتلى فيك أو تبتـلـى

دعوت الطريد فـأدنـيتـه



خلافاً لسنة من قد مضـى

وأعطيت مروان خمس العبا



د ظلماً لهم وحميت الحمى

وما لا أتاك به الأشـعـري



من الفيء أعطيته من دنـا

وأن الأمينـين قـد بـينـا



منار الطريق عليه الهـدى

فما أخذا درهـمـاً غـيلةً



ول اقسما درهماً في هوى

قال: والمال الذي ذكر أن الأشعري جاء به ما كان أبو موسى قدم به على عثمان من العراق، فأعطى عبد الله بن أسيد بن أبي العيص منه مائة ألف درهم، وقيل: ثلثمائة ألف درهم؛ فأنكر الناس ذلك.

أخبرني أحمد بن عبيد الله قال حدثنا عمر بن شبة عن محمد بن يحيى عن عبد العزيز- أظنه ابن الدراوردي – قال: ابن بجرة الذي ذكره أبو ذؤيب رجل من بني عبيد بن عويج بن عدي بن كعب من قريش، ولم يسكنوا مكة ولا المدينة قط، وبالمدينة منهم وامرأة، ولهم موال أشهر منهم، يقال لهم بنو سجفان.

وكان ابن بجرة هذا خماراً. وهذا الصوت الذي ذكرناه من لحن حكم الوادي المختار من قصيدة لأبي ذؤيب طويلة. فمما يغنى فيه: منها:

أساءلت رسم الدار أم لم تسـائل



عن الحي أم عن عهده بالأوائل

عفا غير رسم الدار ما إن تبينـه



وعفر ظباء قد ثوت في المنازل

فلو أن ما عند ابن بجرة عندهـا



من الخمر لم تبلل لهاتي بناطل

فتلك التي لا يذهب الدهر حبهـا



ولا ذكرها ما أرزمت أم حائل

غناه الغريض ثقيلا أول بالوسطى. ويقال: إن لمعبد فيه أيضاً لحناً. قوله: أساءلت يخاطب نفسه. ويروى: عن السكن أو عن أهله. والسكن. الذي كانوا فيه. وقال الأصمعي: السكن: سكن الدار. والسكن: المنزل أيضاً. ويروى: عفا غير نؤى الدار. والنؤى: حاجز يجعل حول بيوت الأعراب لئلا يصل المطر إليها. ويروى – وهو الصحيح-:

وأقطاع طفي قد عفت في المعاقل

والطفي: خوص المقل. والمعاقل: حيث نزلوا فامتنعوا، واحدها معقل. وواحد الطفي: طفية. وأرزمت: حنت. والحائل: الأنثى. والسقب: الذكر.

ومنها:

وإن حديثاً منك لو تـبـذلـينـه



جنى النحل في ألبان عوذ مطافل

مطافل أبكار حديث نتـاجـهـا



تشاب بماء مثل ماء المفاصـل

غناه ابن سريج رملاً بالوسطى. جنى النحل: العسل. والعوذ: جمع عائذ، الناقة حين تضع فهي عائذ، فإذا تبعها ولدها قيل لها مطفل.

والمفاصل: منفصل السهل من الجبل حيث يكون الرضراض ، والماء الذي يستنقع فيها أطيب المياه. وتشاب: تخلط.
 
أعلى