المغترب و.. الدين!

المغترب و.. الدين!

يأخذ، أحياناً، المغتربُ معه دينـــَـه ويترك في بلده إيمانه، فالدين تستخدمه وفق هواك، أما الإيمان، فهو ما وقر في القلب وصدَّقه العمل.

بعض المغتربين يذهب بهم الظن إلى أن الهجرة لا تعني أن الله هنا هو الله هناك، وأن الضمير الديني سيغمض عينيه فور أن تطأ قدماه أرض مهجر غربي أو أمريكي أو كندي، ومن هنا تبدأ الازدواجية في السلوك والتفكير، ويقوم المغترب بتقسيم الدين إلى أجزاء، منها ما هو سهل ويعطي إشارة للعقيدة، مثل عدم أكل لحم الخنزير، ومنها ما هو متاح ويصعب رفضه، كالخمر وصويحباتها!

أتذكر أنني عندما كنت أعمل في نهاية السبعينيات بمدينة الطلاب في أوسلو أن ألتقيت بشاب مهذب ولطيف، ودعوته لتناول الغداء معي في كانتين مدينة الطلاب.
طلبت أنا مياه غازية وطلب هو بيرة، ثم سألني: لماذا لا تشرب؟ هل أنت خجل مني لأنني قادم من مكة المكرمة ولا تريد أن تشرب أمامي؟ قلت له: أنا لم ولن أرتشف الخمر طوال عمري، وأظن أن الله في أوسلو هو الله في السعودية وفي مصر!
طبعا لم يصدّقني، وتبادلنا حديثا عاديا ووديا ما بقي من وقت الغداء.

المغترب القبطي أيضا لا يفهم أن هناك خصوصية في الأرثوذوكسية، فهو قادم من عالم مختلف، يختلط فيه المسلم والمسيحي والتاريخ القبطي والفنون وحتى النضال ضد قوى الاستعمار والاحتلال، ودخول كنيسة في شيكاجو أو أوكلاند أو مونتريال أو فيكتوريا لا يعني أنك ستشعر بنفس الأحاسيس أمام تمثال العذراء أو المسيح ، فالرهبة هنا تختلف عن الرهبة في كنيستك بشبرا أو أسيوط أو الاسكندرية أو أثينا أو أديس أبابا.
الدين لا يهاجر معك في كل الأحوال، فهو يمدك بالايمان من مكانه، وإيمانك يستعين به بدون تغريب أو هجرة أو خلط مع مشاعر الغربة.

أما إذا أخذت الدين واستخدمته في التكبُّر على أصحاب دين آخر من أبناء بلدك فقد أحكمت للكراهية عقدة لا حل لها، ووضعت في القلب بقعة سوداء لا تزيلها كل منظفات الدنيا.
بعض المغتربين يحجبون فشلهم في التمسك بقشور الدين ، ويظنون أنهم دعاة مع أموال من الضمان الاجتماعي، وأنهم مصلحون في المهجر رغم فشلهم في كل العلاقات الاجتماعية.
في سوبر ماركت بالعاصمة البريطانية شاهدت امرأة منقبة تستوقف زوجتي وتسألها: هل أنت مصرية؟ نعم! لماذا لا ترتدين النقاب فهو حماية للمرأة. زوجها الأهبل يقف قريباً منها وابنهما الصغير في عربته يبكي، والرجل سعيد لأن زوجته المتخلفة تجمع حسنات في السوبر ماركت ليوم القيامة، وتتدخل في خصوصيات الناس المجهولين، وتتحدث مع امرأة لا تعرفها، وتطلب منها تغطية وجهها حتى تدخل الجنة.
هذا نموذج للعفن الفكري الذي أفرزته فتاوى نتنة خارجة من بالوعات التاريخ ولا علاقة لها بالاسلام.

في صلاة عيد الفطر في العام الماضي كان هناك رجل يقف على يسار ابني الأصغر ناصر، وأنا عن اليمين. والرجل اثيوبي يتحدث بعض العربية، وقد أمسك بقدم ابني عنوة؛ يريد أن يلصق الاصبع الأيسر منه بالاصبع الأيمن من قدمه اليُمنى حتى يمنع مرور الشيطان. بعد الصلاة لقنته درسا في أصول الوقوف أمام الله، وقدَّم اعتذاره بعد أن أفزع ناصر وسرَّب إلى نفسه الخوف من هؤلاء الغوغاء.

الغربة طريق إلى التحضر فالايمان لا يتعارض معه، ولكن إذا ظننت أن الدين أيضا يهاجر معك بغض النظر عن فحوى الايمان به أو خلوه منه، فثق أن طريقك إلى جهنم مفروش في المهجر كما كان سهلا في وطنك.

كثير من المتدينين يلعبون دورا أشد خطرا على دينهم من أعدائه، ولعل المسلم النرويجي( باكستاني الأصل ) الذي كان يحصل على مرتب شهري من الضمان الاجتماعي ثم سافر للجهاد(!) في أفغانستان هو الأكثر وضوحا أمامنا، فقد أرسل يطلب وقف مرتبه لأنه لا يأخذ أموالا من الكفار، بعدما تضخم جيبه من أموال مجاهدين وطالبان.

تمسَّك بدينك إذا أردت، لكن لا تلعب دور المصلح أمامنا، والغربة عمل وشقاء وشرف.
لا تُقدم لنا نفسك مع دينك، ولكن دع إيمانك يتحدث عنك، وسلوكك يفتح لك أبواب قلوب كانت مغلقة قبل ذلك.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال

عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج
 
أعلى