غـــربـــة ديـــجـــيـــتـــال!

غـــربـــة ديـــجـــيـــتـــال!

سعيد أنت بهذا التطور التكنولوجي الرائع الذي جعلك تستطيع أن تتحدث مع أهلك قبل النوم وفور الاستيقاظ وهم في النصف الثاني من الكرة الأرضية.
تشاركهم أفراحهم وأحزانهم، تعرف أخبارهم قبل أن ينبلج فجر جديد، وتنصح، وتشير، وتأمر، وتغضب، وتنظر حتى يعود ابنك المراهق أو أختك الصغرى إلى البيت.
المضحك أن الغربة الديجيتالية أفقدتنا اشياء كما أعطت في المقابل، فإذا كنت الأب الغائب في المهجر فما زالت غربتك كما هي ولا تعرف ماذا يفعل ابنك مع أصدقائه، ولا تلعب إلا ديجيتالياً، دور الأب أو الأخ الأكبر، سي السيد.


غربة الديجتال تفقد معها أيضا الحنين الدافيء الذي كنت تشعر به سابقاً، وتصبح زياراتك أقل رغم أن نفقاتك لم تعد تفي بالاحتياجات، الأسرة، المدرسة، الزوجة الأولى في الوطن والتي تقوم بتربية الأبناء، والزوجة التي لا يعرف كثيرون عنها شيئا في الغربة.
زوجة تربي أولادك، وأخرى تعينك على الابتعاد عنهم أو تبــّـلد مشاعرك في الابتعاد عنهم.

الأب الغائب يتصور أن اللابتوب الجديد والسكايب والآي فون والتانجو والواتس أب والكروت الهاتفية التي يشتريها رخيصة من المحل الهندي المجاور ستجعله متواجداً في البيت بالوطن الأم، وإذا أدار الابن أو البنت المفتاح في باب الشقة كان سي السيد(!) جالسا ملء كرسيه وعيناه تقدحان شررًا أو غضبا.
هذه ليست الحقيقة، فالأب الغائب جسداً، يغيب روحا بعد عامين، وفي العام الثالث يبتعد أولاده عنه ولكن يظل حسابه في البنك رهنا لمطالبهم.

بعد عشر سنوات يجلس الأب الغائب أمام مكاسبه، مبلغ في البنك، بيت جميل يحسده الجيران عليه، وشاليه في الساحل الشمالي، وأولاد لا يعرف عنهم إلا القليل، وابنة إذا رآها فرك عينيه مثنى ورباع وخُماس، فهي ليست الطفلة التي تركها وكانت تجلس على ركبته لتسمع صوته الأبوي الجميل. هذا فضلا عن زوجة غابت عن البيت سنوات طويلة أقدام كانت تشعر إزاءها بالأمن، فأصبح الأمن مع غربته الطويلة وحريتها في تربية أبنائها كما ترى، فهي الأب والأم.

غربة ديجيتال تنفعك وتضرك بنفس القدر، يختفي الصوت الأكثر دفئاً في حياتك ويحل محله صوت عبر الأثير أو أضحى ببرود الستالايت التي يمر بها.
الأب الغائب زلزال تصغر بجانبه كل مقاييس ريختر، والدفء الديجيتالي رائع أحيانا، وزائف أحايين أخرى.

محمد عبد المجيد
طائر الشمال

عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج
 
أعلى