القدس فى مدونة الشعر الحديث دراسة الدكتور خليل موسى جامعة دمشق ج2

1 ـ ما قبل الكلام: القدس من أقدم المدن التي عرفها التاريخ، وهي مدينة مقدّسة عند أصحاب الديانات السماوية من جهة، وبوَّابة واسعة للقارات الثلاث: آسية وإفريقية وأوروبة من جهة أخرى، ومن هنا استرعت اهتمام الغزاة والفاتحين فتعرّضت في تاريخها الطويل إلى ما لم تتعرض له أيّ مدينة أخرى على بقاع المعمورة نظراً إلى موقعها الجغرافي ومكانتها عند الأمم، وهي مدينة يبوسية كنعانية واليبوسيون بطن من بطون العرب الأوائل ينتمون إلى القبائل الكنعانية التي نزحت من الجزيرة العربية، والأرجح أنَّ "ملكي صادق" أحد ملوك اليبوسيين هو أوَّل من خطَّط لها وبناها، وكان ذلك نحو 3000 قبل الميلاد، وسمّيت حينذاك بـ"يبوس"[1]، ثمَّ تعاقبت عليها الأمم من فراعنة وإسرائيليين وآشوريين وفرس ويونان ورومان إلى أن جاء عصر السيد المسيح، فبدأ بنشر رسالته التي تختلف في مضمونها إلى حدّ التناقض عن رسالة الإسرائيليين، وهي تقوم على المحبة والتسامح ونشر العدالة بين الأمم، وشتّان ما بين الرسالتين: رسالة البغضاء والتفرقة والدماء ورسالة المحبة والتسامح، وكان غضبه منصبّاًَ على رؤساء الكهنة منهم، وقد وصفهم بأبناء الأفاعي والذئاب الكاسرة، وهو وصف ينطبق عليهم تمام الانطباق، وكان يدرك أنَّهم يطلبون حياته، فنصبوا له الشراك في دروبه كلِّها، وأرادوا الإيقاع بينه وبين السلطة الرومانية الحاكمة، وأخيراً تمكّنوا من ذلك في عهد بيلاطس وصلبوه[2]، وهكذا إلى أن جاء الفتح الإسلامي أو استعادة القدس وتحريرها عربيّاً في زمن الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) سنة 15هـ= 636م، ثمَّ بُني المسجد الأقصى سنة 74هـ= 693م في عصر عبد الملك بن مروان.





[1] - انظر: العارف، عارف: المفصّل في تاريخ القدس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 3، 2005، ص 37 ـ 42.



[2] - انظر: المرجع نفسه، ص 101 ـ 113، تذهب العقيدة الإسلامية إلى التشبيه، ولكنَّ ذلك لا ينفي نيّة الصلب.



مرَّت بالقدس أحداث جسام وتعرَّضت للغزو غير مرة وصمدت في وجه الجحافل من صليبيين ومغول وسواهما، ولكنَّ ما تعرَّضت له في العصر الحديث كان فوق ذلك نتيجة لتآمر الغرب الاستعماري على العرب وخوفه من الوحدة الكبرى التي تُعيد لهذا الشعب الممزّق عصر الفتوحات والبطولات من جهة، وللخلاص من فئة تبحث عن وطن قومي لها رأى الغرب من الصعوبة بمكان أن تعيش من دون أذى بين شعوبه من جهة ثانية، وهي تمثلّ عنصر الشرّ وتبثُّ سمومها وأحقادها في مجتمعاته وتنخرُها من الداخل، فوجد فيها فائدتين: التخلّص منها وإلحاق أضرارها بالمجتمع العربي الذي يمثّل المارد النائم الذي إذا استيقظ قد يمثّل خطراً عليه، فكان وعد بلفور المشؤوم في الثاني من تشرين الثاني لسنة 1917، واستغلّت العصابات الصهيونية هذا الوعد، وعملت على تحقيقه في ظلِّ الاحتلال البريطاني الذي تكفَّل بإنشاء الوطن القومي لليهود وعمل على تضييق الخناق على العرب في المدينة المقدسة بوضع قوانين صارمة على البناء في القدس الشرقية، ثم عمل على تحويل المدينة إلى عاصمة للدولة اليهودية، وسعت الوكالات الصهيونية إلى قلب الميزان الديمغرافي في القدس لمصلحة اليهود، وهكذا إلى أن أصبحوا أغلبية في المدينة[1]، ولما انسحب البريطانيون من فلسطين كانوا قد هيَّؤوا لهم فرص الانتصار على العرب، فقامت العصابات الصهيونية بالمذابح الجماعية، ولا سيّما مذبحة دير ياسين التي كانت نقطة التحول، وقد قال عنها مناحيم بيغن: "لولا النصر الذي حقَّقناه في دير ياسين لما كانت هناك دولة إسرائيل"[2].


ثمَّ بدأت محاولات تنفيذ المخططات الصهيونية الخاصة بمدينة القدس لما لها من مكانة كبيرة في الديانات السماوية الثلاث، وأولها تأهيلها لتكون عاصمة للدولة بدلاً من تل أبيب، ولذلك كان من الضروري تغيير ملامحها العربية وإبراز الهوية اليهودية بالقوة وترسيخ الادعاءات الباطلة، وساروا في تنفيذ مخططاتهم في خطّين متزامنين: ضمّ القدس إلى الكيان الصهيوني، وتهويدها، وهذا ما حدث للقدس الغربيّة في عام 1948، ثم احتلّ الصهاينة القدس الشرقيّة، واستطاع مناحيم بيغن اقتحام المدينة القديمة في صبيحة السابع من حزيران 1967، ودخلها دايان ليعلن أمام حائط المبكى: "لقد أعدنا توحيد المدينة المقدسة وعدنا إلى أكثر أماكننا قدسية، عدنا ولن نبارحها أبداً"
[3]، وواضح من هذه العبارات أنَّ الصراع الحقيقي في المنطقة سيكون بعد احتلال المدينة احتلالاً كاملاً، لأنَّ طرفاً من الطرفين جاء ليبقى ويهيمن ويفرض إرادته على العرب والعالم، وهو لن يتنازل عن أيّ شبر من هذه المدينة التي استولى عليها، ومنذ ذلك الوقت عملت الجرافات الإسرائيلية على تغيير ملامح المدينة جغرافياً وديمغرافيّاً، وهي تسعى إلى التهويد الكامل وتصفية المؤسسات العربية[4].

إنَّ مشكلة القدس مختلفة عن مشكلة أيّ مدينة أخرى في العالم، وهي معقَّدة الخيوط، فعلى الرغم من صغرها نسبيّاً بين المدن الكبيرة في العالم غير أنها تعجُّ بالأماكن المقدّسة عند أصحاب الديانات الثلاث، ولهذه الأماكن ذاكرة تاريخية تزيدها قداسة، ككنيسة القيامة والمسجد الأقصى وسواهما، وقد ذكر هذه الأماكن ووصفها وصفاً دقيقاً عارف العارف وسمير جريس
[5]، ومن هنا يتوقَّع المرء أن يطول زمن الصراع على هذه المدينة، وأنَّ جميع الحلول التي تقترحها هذه الجهة أو تلك ستظلّ حلولاً مؤقتة وموضعية، فالصهاينة لن يتنازلوا عن شبر واحد فيها، وقد حزموا أمرهم على ذلك، والعرب مسلمون ومسيحيون لن يتنازلوا عن منازل الآباء والأجداد من جهة، ولن يسكتوا عما يُصيب مقدساتهم ومعتقداتهم في هذه المدينة من جهة أخرى.



[1] - انظر: جريس، سمير: القدس ـ المخططات الصهيونية، الاحتلال، التهويد، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، ط 1، 1981، ص 22 ـ 33.



[2] - نقلاً عن جريس، سمير: القدس، ص 34.



[3] - نقلاً عن المرجع نفسه، ص 51.



[4] - انظر: المرجع نفسه، ص 52 ـ 72.



[5] - انظر: المفصل في تاريخ القدس، (الباب الثامن ـ ص 715 ـ 774)، والقدس (الفصل السابع ص 181 ـ 204).


 
أعلى