القدس فى مدونة الشعر الحديث دراسة الدكتور خليل الموسى جامعة دمشق ج5

البطل التراجيدي والقدس الضائعة فيما بين النكبة والنكسة:

كانت الصدمة التاريخية المفاجئة التي حلّت بالأمة واحتلال القدس تدريجيّاً، نتيجة لحدثين متتاليين (1948 ـ 1967) في أقلّ من عشرين عاماً، قاسية على الشعراء والشعر العربي الحديث، وقد أثّرت تأثيراً بالغاً في سيرورته واتجاهه وبنيته في آنٍ معاً، ويمكن أن ندَّعي بأنَّ الصرخة الملحمية التي تجلَّت في شعر ما قبل النكبة، وكانت موجَّهة إلى استنهاض الهمم للقضاء على الغرباء، قد تحوّلت إلى صرخة أليمة حادة وزفرة رومانسية حارقة اتجهت إلى الداخل، ولاسيّما بعد النكسة وفقد الشعراء الأمل إلى حدّ كبير بالبطل الملحمي، وحلَّ محلَّه البطلُ التراجيدي الذي استيقظ من أحلامه الوردية على واقع راعب، وحلّ القلق محل الاطمئنان واليقين، كما حلَّت الرومانسية الدامعة محلّ الكلاسيكية الهادرة، وربما كانت صرخة الشاعر عمر أبو ريشة في قصيدته "بعد النكبة" معبّرة عن غياب البطل الملحي الذي كان ينتظره الشعراء من قبل؛ ولنستمع إلى آلامه الدامية وهو يخاطب أمته ويشكو منها إليها ويوازن بين ماضيها وحاضرها:

أُمَّتي! كم غَصَّةٍ داميةٍ
خَنَقَتْ نجوى عُلاَكِ في فمي
أيُّ جُرْحٍ في إبائي راعفٍ
فَاتَهُ الآسي، فلم يَلْتَئِمِ
أَلإِسْرَائِيلَ تعلو رايةٌ
في حِمَى المَهْدِ وظِلِّ الْحَرَمِ
كيفَ أَغْضَيْتِ على الذُّلِّ ولم
تَنْفُضي عَنْكِ غُبَارَ التُّهَمِ...
رُبَّ "وَامُعْتَصِمَاهُ" انْطَلَقَتْ
مِلْءَ أَفْوَاهِ البناتِ اليُتَّمِ
لاَمَسَتْ أَسْمَاعَهُمْ لكنَّها
لم تُلاَمِسْ نَخْوَةَ الْمُعْتَصِمِ[1]
ومرَّ عام على النكبة كان فيه عمر أبو ريشة ينتظر أن تنهض أمته للثأر، ولكنَّ ذلك لم يحدث، فنظم قصيدته "يا عيد"، وهي صرخة أخرى تردّد الصرخة السابقة من دون جدوى، فقال:

يا عِيدُ ما افْتَرَّ ثَغْرُ المجدِ، يا عيدُ
فكيف تَلْقَاكَ بِالْبُشْرَى الزَّغَارِيدُ؟
طَالَعْتنا وَجِرَاحُ الْبَغْيِ راعفةٌ
وما لها مِنْ أُسَاةِ الحيِّ تَضْمِيدُ
فَلِلْفَجِيعَةِ فِي الأَفْوَاهِ غَمْغَمَةٌ
وَلِلْرُجُولَةِ في الأَسْمَاعِ تَنْدِيدُ
فَتِلْكَ راياتُنا خجلى مُنَكَّسَةٌ
فَأَيْنَ من دُونها تلكَ الصَّنَادِيدُ
يا عيدُ كَمْ في روابي الْقُدْسِ من كَبِدٍ
لَهَا على الرَّفْرَفِ الْعُلُوِيِّ تَعِييدُ؟[2]
وللشاعر زكي قنصل قصيدة بعنوان "خرافة السلام" نظمها سنة 1955 يُحمّل فيها تبعات ضياع القدس وفلسطين لمن وقّعوا الهدنة بين العرب والكيان المغتصب، وهو لا يشكّ أبداً في أنَّ هذه الهدنة سبب بلائنا، ويدرك أنَّ السلام خدعة ووهم، وأنَّ هذا الكيان قائم على التضليل والمراوغة والتأجيل ليستفيد من عنصر الوقت، ولو تُرك الأمر مفتوحاً لهبَّ الشعب العربي لإنقاذ القدس من أنياب هذه الأفعى السامة، وهو يوضِّح طبيعة هؤلاء القوم القائمة على المخادعة ونشر الفساد والرذيلة، ولذلك يبكي على مستقبل هذه المدينة:

لَهْفي على الْقُدْسِ انْطَوَتْ أَعْلاَمُهُ
وَكَبَتْ بأَشْبَالِ النِّضَالِ خُيُولُ
يمشي الأَصِيلُ ابْنُ الأَصِيلِ مُطَأْطِئاً
فيهِ وَيَشْمَخُ وَاغِلٌ مَرْذُولُ
الْهُدْنَةُ النَّكْرَاءُ أَصْلُ بَلاَئِنا
في عُنْقِ عَاقِدِها الدَّمُ الْمَطْلُولُ
لولا حَبَائِلُها لَحَطَّمَ سَيْفُنا
وَكْرَ الرَّذِيلَةِ وانْتَهَتْ إِسْرِيلُ
لَيْتَ الذينَ اسْتَبْشَرُوا بِسَرَابِها
زَلَّتْ بهمْ قَدَمٌ وَضَلَّ دَلِيلُ
مِلْيُونُ لاَجٍ في الْعَرَاءِ تَشَرَّدُوا
لم يَخْتَلِجْ لِهَوَانِهِمْ مَسْؤُول[3]ُ
ولبدويِّ الجبل قصيدة بكائية طويلة صارخة بعنوان "من وحي الهزيمة" نظمها بعد حرب تشرين التحريرية 1973، وهو يبكي فيها على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس في ظلّ الاحتلال الصهيوني، ويوازن فيها بين حاضر العرب وماضيهم، ويرى أنَّ الإسلام فيها ذليل، وكأنه يصرخ: "وامعتصماه" ولكن ليس من مجيب:

هَلْ دَرَتْ عَدْنُ أنَّ مَسْجِدَها الأَقْـ
ـصَى مكانٌ من أَهْلِهِ مَهْجُورُ
أينَ مَسْرَى الْبُرَاقِ، والقُدْسُ والمَهْـ
ـدُ وَبَيْتٌ مُقَدَّسٌ مَعْمُورُ؟
لم يُرَتَّّلْ قُرْآنُ أَحْمَدَ فيهِ
وَيُزَارُ المبكى ويُتْلَى الزَبُورُ
طُوِيَ المُصْحَفُ الكريمُ، وَرَاحَتْ
تَتَشَاكى آياتُهُ والسُّطُورُ
تُسْتَبَى الْمُدْنُ والْقُرَى هاتِفَاتٍ
أينَ.. أينَ الرَّشِيدُ والمَنْصُورُ؟
يا لَذُلِّ الإسلامِ إِرْثُ أبي حَفْـ
ـصٍ بَدِيدٌ مُضَيَّعٌ مَغْمُورُ
كلُّ دنيا للمسلمينَ مَنَاحَا
تٌ وَوَيْلٌ لأَهْلِها وَثَبُورُ...
أَيْنَ آيُ القُرْآنِ تُتْلَى على الْجَمْـ
ـعِ وَأَيْنَ التَّهْلِيلُ والتَّكْبِيرُ؟
النَّصَِارَى والْمُسْلِمُونَ أَسَارَى
وَحَبِيبٌ إلى الأَسِيرِ الأَسِيرُ[4]
ولم يقتصر الأمر على الآلام والبكاء والشكوى، وإنَّما تمادى الصهاينة في غِيّهم، ولم تقتصر اعتداءاتهم على الأرض والبشر، وإنَّما ذهبت إلى المقدسات الإسلامية والمسيحية، ولا سيّما المسجد الأقصى، فهو المكان الأكثر استهدافاً بحجّة كاذبة من حجج الصهاينة، وهي أنَّه مبني فوق الهيكل المزعوم، ولذلك دُنِّس هذا المكان غير مرّة، وهم يستهدفون من خلال الحفريات التي تجري في باطن الأرض تهديمه، والعرب صامتون كصمت أبي الهول إلاَّ من صرخات هنا وهناك داخل القدس سرعان ما تتغلَّب عليها الطغمة العسكرية، وخاصة بعد أن أصبح العرب أقلّية في هذه المدينة، ولذلك يتوجَّه هارون هاشم رشيد إلى العرب الغافلين عما يُدَبَّر لهذا الصرح الديني في الخفاء، فيقول في قصيدته "صرخة الأقصى":

الْمَسْجِدُ الأَقْصَى يُبَاحُ وَيُهْدَمُ
وَالْعَالَمُ الْعَرَبِيُّ غَافٍ يَحْلُمُ
المسجدُ الأقصى يَدُورُ بِسَاحِهِ
الآثِمُونَ الْغَادِرُونَ ويُظْلَمُ
المسجدُ الأقصى على أَفْوَاهِنا
نَغَمٌ نُرَدِّدُهُ وشِعْرٌ يُنْظَمُ
وَقَصَائِدٌ رَنَّانَةٌ نَهْذِي بها
وَتَلفُّتٌ وَتَحَسُّرٌ وَتَأَلُّمُ[5]
وبناءً على هذه الحال الفجائعية فإنَّ الشاعر هارون هاشم رشيد لا يرى أيّ بارقة أمل من المؤتمرات والندوات الاجتماعية العربية أو الإسلامية التي تُعقد في سبيل نُصرة القدس، وهو يسخر في قصيدته "هذا العام" من إعلان المؤتمر الإسلامي في قمته بأنَّ هذا العالم هو عام القدس، ويدرك أنَّ المسلمين كالعرب لا يعرفون سوى الإدانة والشجب والاستنكار في حين أنَّ الصهاينة لا يلتفتون إلى خطاباتهم الرَّنانة، وإنما هم ماضون في تهويد القدس والاعتداء على المقدسات الدينية:

وقيلَ عامُ القدسِ هذا العامْ

اتّخذ القرارَ في اجتماعِهِ مؤتمرُ الإسلامْ

وَصَفَّقَ الْحُجَّابُ والخُدَّامْ

وَعَادَ كلُّ واحدٍ لِقَصْرِهِ وَنَامْ

وتُركتْ مدينةُ القدسِ تغوصُ في الظلامْ

تغرقُ في القتامْ.

تَدُوسُها سَنَابِكُ الْغُزَاةِ بالأَقْدَامْ

وَتَسْتبي تاريخَا وَتَزْرَعُ الألْغَامْ

وتَنْشُرُ الدمارَ في أَنْحَائِها والموتَ والْحُطَامْ

وقِيلَ عامُ القدسِ هذا العامْ[6]


ومع ذلك فإنَّ هذا البطل التراجيدي لا يَسْتَسْلم لمصيره، وهو يؤمن أنَّه صاحب القضية، وأنَّ في القدس تاريخَ أجداده الأولين، وهو بيتُه الذي دمَّره الغاصبون، وأنَّ الحكَّام العرب والحكام المسلمين يقولون ما لايفعلون، وأن عليه أن ينهض من واقعه الحزين ليردَّ الاعتداءات عن نفسه وأهله ومدينته ومقدساته، وهذا ما فعله سرحان الشابّ المقدسي في قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكفاتيريا" لمحمود درويش الذي وضَّح الصلة المتينة بين بطله والقدس، فقال على لسانه:

وما القدسُ والمدنُ الضَّائِعَهْ

سوى ناقةٍ تَمْتَطِيْها البداوه

إلى السُّلطةِ الجائِعَهْ.

وما القدسُ والمدنُ الضائعهْ

سوى منبرٍ للخطابَهْ

ومستودعٍ للكآبَهْ.

وما القدسُ إلاَّ زُجَاجَةُ خمرٍ وصندوقُ تبغ..

.. ولكنَّها وطني.

منَ الصَّعْبِ أن تَعْزلوا

عصيرَ الفواكهِ عن كرياتِ دمي..
ولكنَّها وطني




[1] ديوانه، دار العودة، بيروت، 1998، ص 8 ـ 10.



[2] - المصدر نفسه، ص 93 ـ 95.



[3] - قنصل، زكي: الأعمال الشعرية الكاملة (1)، جدّة، 1995، ص 43 ـ 44.



[4] - ديوانه، دار العودة، بيروت، ط 1، 1978، ص 195 ـ 196.



[5] - رشيد، هارون هاشم: قصائد فلسطينية، دار مجدلاوي، عمّان، 2003، ص 116.



[6] - رشيد، هارون هاشم: مفكّرة عاشق، المطابع الموحدة، 1980، ص 18 ـ 19.


 
أعلى