قراءة فى كتاب الشمس في نصف الليل

رضا البطاوى

عضو ذهبي
قراءة فى كتاب الشمس في نصف الليل
الكتاب تأليف تقي الدين الهلالي والرجل يحكى لنا حكايته مع بلاد الثلج وقصر النهار وطول الليل وانعدام أحدهما فى بعض بلاد الأرض فيقول:
"كنت قرأت منذ زمن طويل أخبار القبائل التي تسمى (إسكمو) وأحوال معيشتهم، ومساكنهم وأسفارهم وحالة الجو في بلادهم، وذلك معروف في كتب الجغرافية، والذي يهمنا هنا من أخبار الأراضي القطبية ما شاع أن السنة عندهم يوم واحد، نهار وليلة، ستة أشهر للنهار، وستة أشهر لليل ولم أؤمل قط أن أرى تلك الأراضي، لما قرأته من شدة البرد وتراكم الثلوج هناك، وأنهم يلجئون إلى لبس الجلود والاختباء في بيوت يحيط بها الثلج من كل جانب، إلى غير ذلك من الأخبار وفي صيف سنة 1936اجتمعت بالدكتور/ زين العابدين خير الله الحلبي وكان أستاذا في مستشفى الأمراض الخاصة بالنساء في جامعة مار بورك بألمانيا، فأخبرني أن الأراضي القطبية واسعة، وليست محصورة في الأراضي التي يسكنها قبائل (إسكمو) وأنه هو نفسه زار الأراضي القطبية في شمال النرويج، وأن سكانها متمدنون، وأنه أقام هناك نحو اثني عشر يوما لم ير فيها ظلمة ولا ليلا، بل كلها كانت نهارا ومن ذلك الحين عزمت على زيارة هذه الأراضي في أقرب وقت ممكن فلما أشرفت السنة الدراسية على نهايتها ذهبت إلى السفارة النرويجية في الرباط، وسألتها عن الأراضي القطبية التي لا تغيب فيها الشمس بضعة أشهر، فأخبروني أن الأمر كذلك، وأن هناك نواحي تابعة للحكومة النرويجية تبقى الشمس فيها مشرقة مدة ثلاثة أشهر من أول مايو (أيار) إلى آخر يوليو (تموز) فتأهبت للرحلة وتوجهت من مكناس في سيارتي يسوقها الحاج أحمد هارون في اليوم الثاني من يوليو، وسرنا متوكلين على الله من مكناس إلى تطوان، ثم عبرنا البحر من سبتة إلى الجزيرة الخضراء، ثم سرنا عبر إسبانيا ففرنسا فألمانيا، فالدانمارك، فالسويد فالنرويج، وتركنا السيارة في مدينة (أوسلو) عاصمة النرويج، وركبنا القطار والسيارات مدة يومين، فوصلنا مدينة (ناروك)، وشاهدنا الشمس مشرقة مدة أربعة وعشرين ساعة
أوقات الصلاة في الأراضي القطبية كنت عازما قبل أن أصل إلى تلك البلاد أن أصلي خمس صلوات في مدة اثنتي عشر ساعة، ثم أترك الصلاة اثنتي عشر ساعة، فتكون خمس صلوات في أربع وعشرين ساعة فلما وصلت إلى تلك البلاد تغير رأيي، وظهر لي أن تتبع أوقات الصلاة في تلك البلاد الأراضي الجنوبية من البلاد النرويجية، فيصلي المصلي صلاة الصبح وقت طلوع الفجر في الجنوب، ويصلي الظهر حين تزول الشمس في الجنوب، وهكذا الشأن في جميع الصلوات، بناء على قاعدة: "ما قرب من الشيء يعطي حكمه"، وكذلك يفعل الصائم في رمضان إذا جاء في وقت الشمس، أو في وقت الظلام"
هذه حكاية الرجل مع الليل والشمس وقد أظهر حكما فى المسألة وهو ما قرب من الشيء يعطي حكمه وهى قاعدة لا دليل عليها فمثلا ال،عام التى تعيس بالقرب من الخنازير لا تعطى حكم الخنازير والحى الذى يسكن بجوار الأموات لا يعطى حكم الموتى والذى يعيش فى جزيرة أو أرض بالقرب من البحر أو النهر لا يعطى حكم الحياة فى الماء والذى يتواجد فى الكعبة من الكفار لا يعطى حكم المسلم مع أنهما فى مكان واحد قبل منع الكفار من دخول الكعبة كما قال تعالى "أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن أمن بالله واليوم الآخر وجاهد فى سبيل الله لا يستوون عند الله"
القرب الزمانى او المكانى لا يوحد الحكم
وقد طرح تقى الدين السؤال التالى وأجاب عليه فقال :
"هل في الأراضي القطبية فصول؟
ينبغي أن يعلم أن في تلك البلاد ما يشبه الفصول الأربعة، وقد تقدم أن الشمس تستمر مشرقة من أول مايو (أيار) إلى آخر يوليو (تموز) ثم تغيب غيابا جزئيا في أول غشت (آب) في كل يوم تبقى غائبة أكثر من اليوم الذي قبله، فيكون الليل قصيرا والنهار طويلا، ولا يزال الأمر كذلك، يزداد الليل طولا والنهار قصرا إلى آخر أكتوبر (تشرين الثاني) فتغيب الشمس وتبقى ثلاثة أشهر غائبة وفي أول فبراير (شباط) تطلع الشمس، ثم لا تلبث أن تغيب، فيكون النهار قصيرا والليل طويلا، ولا يزال النهار يطول، والليل يقصر إلى آخر إبريل (نيسان) ثم ينعدم الليل فهذه مدد تشبه الفصول الأربعة في البلاد التي يكون فيها الليل والنهار طول السنة وقد عرفنا حكم أوقات الصلاة في الأشهر الثلاثة الشمسية، ومثلها الأشهر الثلاثة المظلمة بقي حكم أوقات الصلاة في ربيع تلك البلاد وخريفها، وهما مدتان، يكون فيهما ليل جزئي ونهار جزئي، فكيف الحكم في أوقات الصلاة والصيام؟
لا يمكن أن نفكر في هذه المسألة ثم نبدي رأينا فيها إلا إذا أحطنا علما بليلها ونهارها، كيف يطول وكيف يقصر، فالليلة الأولى بعد انتهاء مدة الشمس، وهي أول ليلة من غشت (آب) كم طولها؟ فإذا كان طولها نصف ساعة أو أقل، فهل يحكم عليها بأنها ليلة تصلى فيها المغرب والعشاء والصبح عند نهايتها، ويفطر الصائم ويتسحر فيها، ويصوم نهارها، ويصلي الظهر والعصر في وسطه، أم يستمر على اعتبار توقيت العاصمة ( أوسلو) ويعتبر الليل ليلا، والنهار نهارا؟ وما مقدار الساعات التي يبلغها الليل طولا حتى يعتبر أنه ليل، وإذا مضى أكثر الأشهر الثلاثة وقصر النهار جدا يعود السؤال نفسه وهكذا يقال في المدة الثانية التي تبتدئ من شهر فبراير (شباط) وتنتهي في آخر إبريل (نيسان)"
الغريب فى الفقرة من عالم أصول الدين هو اعتقاده بوجود سنة شمسية مع أن كتاب الله جعلها سنة واحدة لا ثانى لها وهى القمرية فقال :
"إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فى كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم"
والغريب أن يقول الرجل فى الفقرة:
"فإن قيل: أنت أول من بدأ هذا البحث، فعليك أن تجيب عن أسئلتك، وتبدي رأيك؟ قلت: يمنعني من ذلك أنني من أهل الحديث المتبعين للسلف الصالح المتجنبين للرأي، المعتبرينه كالميتة لا يجوز الأكل منها إلا بقدر الضرورة فما نزل من المسائل وتحقق وقوعه، وسئلنا عنه أفتينا فيه بالرأي قائلين: إن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمنا، والله بريء منه، كما قال عبد الله بن مسعود"
الرجل هنا يزعم كونه أول من طرح المسألة مع ان المثل الشعبى معروف منذ عصور طويلة وهو :
"سأريك النجوم فى عز الظهر"
وقد وردت المسألة فى العديد من الكتب القديمة ويحضرنى منها رحلة بن فضلان ومنها قوله:
" قال: ودخلت أنا وخياط كان للملك من أهل بغداد قد وقع إلى تلك الناحية قبتي لنتحدث فتحدثنا بمقدار ما يقرأ إنسان أقل من نصف سبع ونحن ننتظر أذان العتمة فإذا بالأذان فخرجنا من القبة وقد طلع الفجر فقلت للمؤذن :أي شيء أذنت قال: أذان الفجر قلت: فالعشاء الآخرة قال: نصليها مع المغرب قلت: فالليل قال: كما ترى وقد كان أقصر من هذا إلا أنه قد أخذ في الطول وذكر أنه منذ شهر ما نام خوفا أن تفوته صلاة الغداة وذلك أن الإنسان يجعل القدر على النار وقت المغرب ثم يصلي الغداة وما آن لها أن تنضج.
قال: ورأيت النهار عندهم طويلاً جداً وإذا أنه يطول عندهم مدة من السنة ويقصر الليل ثم يطول الليل ويقصر النهار فلما كانت الليلة الثانية جلست خارج القبة وراقبت السماء فلم أر من الكواكب إلا عدداً يسيراً ظننت أنه نحو الخمسة عشر كوكباً متفرقة وإذا الشفق الأحمر الذي قبل المغرب لا يغيب بتةً وإذا الليل قليل الظلمة يعرف الرجل الرجل فيه من أكثر من غلوة سهم.
قال: ورأيت القمر لا يتوسط السماء بل يطلع في أرجائها ساعة ثم يطلع الفجر فيغيب القمر وحدثني الملك أن وراء بلده بمسيرة ثلاثة أشهر قوم يقال لهم ويسو الليل عندهم أقل من ساعة قال: ورأيت البلد عند طلوع الشمس يحمره كل شيء فيه من الأرض والجبال وكل شيء ينظر الإنسان إليه حين تطلع الشمس كأنها غمامة كبرى فلا تزال الحمرة كذلك حتى تتكبد السماء وعرفني أهل البلد أنه إذا كان الشتاء عاد الليل في طول النهار وعاد النهار في قصر الليل حتى إن الرجل منا ليخرج إلى موضع يقال له إتل بيننا وبينه أقل من مسيرة فرسخ وقت طلوع الفجر فلا يبلغه إلى العتمة إلى وقت طلوع الكواكب كلها حتى تطبق السماء فما برحنا من البلد حتى امتد الليل وقصر النهار."
ومع ـن الرجل فى الفقرة أعلن أنه لا يفتى برأيه فقد أفتى فقال :
"أما مدة الشمس فقد وجب علينا أن نجتهد في حكم أوقات الصلاة فيها، لأن ذلك وقع ونزل، وقسنا عليه مدة الظلام، لأنهما سواء أما المدتان الأخريان فندعهما حتى يحتاج بعض المسلمين إلى معرفة الحكم، فييسر الله له من يفتيه وقد كان السلف الصالح، إذا سئل أحدهم عن مسألة استحلف السائل بالله، أنها وقعت، فإن حلف له أفتى فيها برأيه، وإلا قال: دعها إذا نزلت ييسر الله لها من يفتي فيها وما زعمه بعض المتقدمين من أن بلاد بلغار يقصر فيها الليل والنهار جدا وهم، وقد لاحظت أن الليلة الأخيرة التي مضت قبل وصولنا إلى بلاد الشمس في نصف الليل، كما يسمونها، لم تكن مظلمة، حتى أني مع ضعف بصري، وأنا راكب في السيارة كنت أرى الأشجار، وأغصانها ولا توجد ظلمة أصلا، إلا أن الشمس مختفية، ومن حين يتوسط الإنسان بلاد النرويج متوجها من الجنوب إلى الشمال تقل ظلمة الليل شيئا فشيئا حتى تنعدم بانعدام الليل نفسه فسبحان الخلاق العليم
ولاحظت أيضا: كما لاحظ من معي أن الشمس في نصف الليل تكون قريبة من الأرض كأنها تريد أن تغيب، لكنها لا تغيب، بل تأخذ في الارتفاع وتدور في السماء، فتشكل دائرة من نصف الليل إلى نصف الليل قال الله تعالى في سورة الحج: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} فأخبر سبحانه وتعالى أن السير في الأرض يزيد في العقل والعلم المكتسب بالتجارب
 

رضا البطاوى

عضو ذهبي
وقل ربي زدني علما وهناك في تلك الناحية قبائل بدوية تسكن الخيام، ولها ماشية، وهي الأيائل، وهي نوع من الحيوان يشبه الظباء، إلا أنها أكبر منها، وقرونها متشعبة -كالأشجار- يحلبونها ويأكلون لحومها، وينتفعون بجلودها ولا يستطيع شيء من سائر الحيوان كالبقر والغنم أن يعيش في تلك البلاد غير الأيائل، لشدة بردها، وكثرة ثلوجها، ولتلك القبائل لباس خاص وسمعت أنهم وثنيون، لا يدينون بالنصرانية التي يدين بها أهل تلك البلاد، ولا أعلم مقدار هذا الخبر من الصحة، وليس هذا الجو خاصا بشمال النرويج، بل يعم كذلك شمالي السويد وقد علمت أن من أراد أن يشاهد الأراضي القطبية التي في شمال السويد يستطيع أن يسافر إليها بالقطار أما مدينة ناروك التي تقدم ذكرها فقد سافرنا إليها من (أوسلو)، بعض المسافة بالقطار، وبعضها بالسيارة، وكنا في كل بضع ساعات نجتاز خليجا من خلجان البحر، بمعدية، وهي باخرة كبيرة، تدخلها السيارات، فتبقى فيها نصف ساعة أو أكثر حتى تصل إلى البر، فتخرج السيارة منها وتستأنف سيرها
وقد رأيت القطار نفسه يعبر البحر في معدية بين ألمانيا الشرقية والدانمارك في مدة ساعتين وتلك المعدية الضخمة عظيمة الحجم، ذات ثلاث طبقات، يصعد إلى الطبقة العليا بالمصعد الكهربائي وهناك معدية رأيتها تستعمل بين سبتة والجزيرة الخضراء، وهي أيضا عظيمة، ولكنها دون تلك، وليس مقصودي أن أصف هذه الرحلة، لأن وصفها يحتاج إلى مؤلف مستقل، وإنما ذكرت ما تقدم استطرادا"
إلى هنا انتهى الكتاب عن الشمس فى منتصف الليل والمفارض أنه يبحث فى حكم المسألة ولكنه طرح السؤال ولم يجب وأما باقى الكتاب وهو اكثر من نصفه فهو قصيدة فى الأندلس لا علاقة بها بالمسألة وسوف نذكر جزء منها ونحذف الباقى لكون الحديث خارج عن عنوان الكتاب وفى هذا قال الهلالى :
"من وحي الأندلس قصيدة من بحر جديد:
لما مررنا بأرض الأندلس في رحلتنا إلى شمال أوروبا تذكرت أهل الأندلس المسلمين، وما كان لهم من المجد والسؤدد، فقلت هذه القصيدة، وهي من بحر جديد اخترعته وأجزاؤه أربعة: مستفعلاتكم مستفعلين مرتين له عروض واحدة صحيحة، لها ضربان، أولهما مذيل، والثاني عار عن التذييل وكل هذه التفاعيل بفتح العين ومعناها: مستخرجاتكم مستخرج أيها المسلمين، فالزموا مستخرجاتكم ولا تهملوها وقد أحدث العرب المولدون أوزانا شعرية زائدة على بحور الشعر بعد زمان العرب الأقحاح، ونظموا عليها شعرا كثيرا، ثم جاء زمان الموشحات والأزجال، فاشتغل بها العرب في الشرق والغرب، واشتملت على أدب جم ونظم بهاء الدين زهير شعرا أخترع له وزنا خاصا، وهو قوله:
يا من لعبت به شمول ما ألطف هذه الشمائل
فلا غرابة إذا اقتديت به، وألقيت دلوي في الدلاء وهذا نص القصيدة:
لما بدا لنا جمالكم أضحت قلوبنا أسرى الغرام
وانبعثت بها مودة تنمو وتزدهي على الدوام
قد طال هجركم وصدكم وما رثيتم للمستهام
ولم نزل نفي بعهدكم وما رعيتم لنا ذمام
فهل سمعتم بقاتل لمن يحبه هذا حرام
هبوا أسيركم لو نظرة صلوا عميدكم لو بالكلام
أما ترونني متيما لم تدر مقلتي أي منام
محبتي لكم عفيفة غدت بريئة من كل ذام
....وقد اطلع على هذه القصيدة الأديب الكبير العالم المحقق العبقري عبد الله كنون فأعجبته وأثنى عليها"
وبدلا من أن يكمل المسألة التى ابتداها قام بوصف ما سماه جامع قرطبة وما هو بجامع فى وقته ولا وقتنا وإنما كنيسة وفى هذا قال :
"وفي الإياب من هذه الرحلة عرجنا على قرطبة وزرنا مسجدها، فاعتراني شعور فيه روعة وإجلال وإعجاب، وحزن، لا أقدر أن أصفه بلسان ولا أظن أن شخصا له شعور إنساني يرى ذلك المسجد ولا يعتريه مثل ذلك الشعور، سواء أكان مسلما أم غير مسلم
وصف جامع قرطبة:
"من أمثال العرب: "أن الحديث لذو شجون"، وقد بدا لي أن أنقل هنا وصف مسجد قرطبة الجامع من كتاب مدينة المور في الأندلس الذي ترجمته بالعربية من أصله الإنجليزي لمؤلفه (جوزيف ماك كيب) ليرى القارئ العربي المسلم شيئا من مجد أسلافه وهذا نص ما قاله في وصف مسجد قرطبة:
"لم يبق من آثار قرطبة في القرون الوسطى إلا أثر واحد، وهو جامعها الذي لا يزال إلى اليوم، جميع أطفال قرطبة يسمونه مسجدا، ولولاه ما تجشم أحد عناء السفر لمشاهدة قرطبة، ولو كانت خمسة أميال منه، ولكن الناس من جميع أنحاء الدنيا يسافرون إليها ليشاهدوهوهو أعظم معبد في الدنيا بعد كنيسة (سنت بيترس)، وهو آية لا نظير لها من الهندسة والبناء، وظاهر هذا المسجد لا يستولي على اللب، ولم يكن المور الذين كانوا يفضلون الإقامة داخل البيوت أكثر من خارجها يعتنون كثيرا بالظاهر وأما الداخل فهناك العجائب، إذا دخلت الجامع من أي باب من أبوابه التسعة عشر يخيل إليك أنك تائه في غابة من أشجار المرمر، ففيه ثمانمائة وستون سارية من المرمر والرخام واليسر، وفيه غير ذلك ألف واثنتي عشرة سارية وفيه تسعة عشر رواقا، ينتهي كل منها بباب من الأبواب التسعة عشر، وله سقف خشبي منخفض نسبيا، وقد زخرف أحسن زخرفة بالأرجوان والذهب
وفي الأعياد الكبيرة توقد مائتان وثمانون ثريا من الفضة والنحاس، يحترق فيها الزيت والعطر، وتتلألأ فيها آلاف كثيرة من المصابيح، فتلقي أنوارها على ذلك المشهد وأكبر ثريا منها كان محيطها ثمانية وثلاثين قدما (فوت) يحمل ألفا وأربعمائة وأربعا وخمسين مصباحا، ولها مرآة تعكس النور، فيزيد شعاعه تسعة أضعاف وفيها (6000) ألف طبق من الفضة مسمرة بالذهب، ومرصعة باللؤلؤ وكان الجامع قد شيد مع مضافته في القرن الثامن والتاسع والعاشر والمحراب الذي هو أقدس محل في مسجد المور، كان فيه حنيتان، وكان أعظم زخرفا من سائر المساجد وآخر المحراب يشبه صدفة من رخام، وله مدخل يتلألأ كالذهب الخالص أو الديباج بفسيفسائه الجميلة، وأحيل القارئ على كتب زخرفة البناء أو كتب الاستدلال، ليرى عجائب هذا الجامع العظيم وكان بناؤه من النصارى المنتمين إلى الكنيسة اليونانية، وكانت بينهم وبين المور مودة، فجلبوهم لبنائه، وهو أثر لمدينة زاهرة، لا يضاهيها اليوم شيء في الدنيا كلها وكان عبد الرحمن الأول مؤسس هذه الدولة، قد جعل مدينة قرطبة على مثال مدينة دمشق التي قضى فيها أوائل عمره، وهو الذي ابتدأ بناء الجامع وأتمه الخلفاء الذين جاءوا بعده وبلغت نفقاته على ما حدث به مؤرخو العرب (300000000) دولار، وكان هذا آخر عمل عمله في حياته، وقد شيد غير هذا هو وخلفاؤه ورجال دولتهم قصورا فخمة، ومساجد كثيرة، كانت تزيد المدينة في كل سنة جلالة وبهاء" ا هـ
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
لكن لا ينبغي لنا أن نقتصر على الافتخار بمجدهم، بل ينبغي لنا ويتحتم علينا أن نعمل بقول من قال:
لسنا وإن أحسابنا كرمت يوما على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثل ما فعلوا
فنسأل الله أن يوفقنا لإحياء ذلك المجد الشامخ، إنه على ذلك قدير"
الغريب فى الأمر هو أن يمدح رجل عالم بأصول الدين مكان وبناته وهو علامة من علامات الكفر فالمساجد وجدت للصلاة وليس للزخرفة ووضع الذهب والفضة والرخام وهذه الأشياء إذا وضعت فى بيوت الله فقد كفر الواضعين لأنهم أسرفوا فى مال الله الذى سرقوه من الناس وأنفقوه على مبانى تاركين الناس يعانون من قلة المال فى طعامهم وكسوتهم وعلاجهم وفير ذلك
والملاحظ أن معظم ما يسمى المساجد الأثرية التى بناها من أسموهم الخلفاء والأمراء والسلاطين هى مبانى ترمز للظلم الذى كانوا عليه من حيث الإسراف فى المال حتى يقال مسجد فلان أحسن من مسجد علان والأغرب من هذا أن يقوم هؤلاء الجهلة ببناء أكثر من عشرة مساجد فى شارع واحد كشارع المعز بالقاهرة تاركين أكثر المدينة خالى من المساجد وكأنهم يقولون للناس كما سرقنا منكم المال وجعلناكم تعانون بسبب قلة المال سوف نجعلكم تعانون فى الصلاة فتأتون من أماكن بعيدة مشيا للصلاة فى المساجد التى بنيناها بأموالكم المسروقة
وحكم مسألة الكتاب هو :
حرمة الحياة فى الأماكن التى لا يتواجد فيه الليل والنهار بصورة معروفة إلا أن يكون الوجود فيها وجودا للجهاد دفاعا عن أرض المسلمين
الصلاة والصوم فى تلك الأماكن لمن يقيم فيها مضطرا هو القياس على وقت أم القرى التى هى وسط العالم فكما يجب الاتجاه لمكة فى الصلاة يجب الاتجاه لها عند فقد علامات الزمن
 
أعلى