رائحة الرحيل

هارون الرشيد

عضو بلاتيني
بالرغم من كل محاولاته المستميتة للإستسلام والقبول ، إلا أنه فشل في ذلك. مستحيل، كيف يستطيع الإنسان أن يتخلى عن روحه!؟ إن ذكرياته المتراكمة على مدى خمسين عاما تقف حاجزا وسدا منيعا أمام كل محاولة إستسلام. إلتقى بها وارتبطا عندما كانا في سن الخامسة والعشرين، وعاش معها خمسون عاما حتى غادرت الحياة وهي في الخامسة والسبعين. كانت شراكتهما في كل شيء روح، فكر، قلب، وجسد. لقد صَدَم الجميع بردة فعله عندما علم بوافاتها. صمت ولم تنزل دمعته أبدا!. كان جالسا على كرسي المقعدين، عندما حضر إليه أخيه الأصغر مع أبنائه ليبلغوه بوافاتها، فلم ينطق حرفا وكانت تعابيره جامدة. كان قاسيا جدا بردة فعله. بعدها توجه إلى ذلك الشباك الذي يطل على الشارع يراقبه وهو صامت. بعد لحظات قليلة نادى على إبنه الأكبر، وطلب منه أن يسارع في إجراءات الدفن، ثم أبلغه بأنه لن يستطيع أن يذهب للمقبرة أو يستقبل المعزين!، ثم طلب من الخادمة أن تجهز له غرفة الضيوف ليسكنها. حاول أخوه وأبناؤه أن يثنوه عن رأيه في عدم حضور الدفن والعزاء لكنه لم يعرهم إنتباها، فطلب من الخادمة مرة أخرى الإستعجال في ترتيب غرفة الضيوف. انتهت الخادمة من ذلك، أثناء توجهه للغرفة قال: أنا ذاهب للنوم، لا أريد أن يزعجني أحد! ترك الجميع من خلفه في صدمة وذهول!، فهم يعلمون مدى عشقه لها وتعلقه بها، فكيف تكون ردة فعله هكذا !؟ دخل إلى غرفة الضيوف وأغلق بابها بالمفتاح. إنها ليست عادته، فعندما كانت ترقد والدتهم في المستشفى ولمدة عامين لم يغلق باب غرفته بالمفتاح ولو لمرة واحدة، والآن يغلقه بالمفتاح! عندما دخلها قام بإطفاء النور فهو ليس بحاجته، فهو سيدخل الآن الى أعماقه وينزوي فيها. لقد كان يشعر وقتها بأن كل هذا العالم أضيق من جحر نملة. قاسية وأنانية بل هي عديمة الإحساس!، كيف تتركني وترحل لوحدها؟ هي تعلم عن حالي بعدها. لقد أخبرتها مرار وتكرارا أنني لا أستطيع العيش من دونها، لماذا تركتني لوحدي في آخر محطة، من يتحدث أو يجلس معي، ومن يضحكني سواها، ومن يستلقي معى على السرير ويدي بيده حتى أنام . لقد تخلى عني أبي وأمي وكل أصدقائي ورحلوا، وبالرغم من ذلك كنت صامدا، لأنها بجانبي وأصبحت الأب، الأم، الصديقه، الزوجة، الحبيبة، إنها كل شيء. لكنها رحلت دون أن تصحبني معها. إذا كل شيء ذهب، ولم يبقى أي شيء يجعل للحياة قيمة. لقد إستجاب الله لدعوتها التي تكررها والتي طالما نهيتها عنها لأنها تشعرني بأنانيتها. كانت تدعو الله أن تغادر الحياة قبلي، حينها كنت أقول لها: لماذا لا تدعين بأن أغادرها قبلك !؟ فكانت تنزل دمعتها وتصمت ........ في صباح اليوم التالي طرق إبنه الأكبر باب غرفته ليطمئن عليه فلم يجبه، حاول كثيرا دون أن يجيبه ، فاضطر لكسر الباب فوجده ميتا على كرسيه. لقد غادر الحياة وهو مبتسما شوقا للقاءه بها. ما أصدق ذلك الرجل عندم قال أنه لن يستطيع أن يحضر دفنها أو عزائها. إن هناك بعض البشر لديهم القدرة على شم رائحة الرحيل .
 
أعلى