حسن الخاتمة وقفات وعبر وقصص

يا نفس توبى فإنّ الموت قد حانا ... واعصي الهوى فالهوى ما زال فتّانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنا ... لقطا فتلحق أخرانا بأولانا
في كل يوم لنا ميتٌ نشيّعه ... نرى بمصرعه آثار موتانا
يا نفس ما لي وللأموال أتركها ... خلفي وأخرج من دنياي عريانا
أبعد خمسين قد قضيتها لعبا ... قد آن أن تقصري قد آنا
ما بالنا نتعامى عن مصائرنا ... ننسى بغفلتنا من ليس ينسانا
نزداد حرصا وهذا الدهر يزجرنا ... كأنّ زاجرنا بالحرص أغرانا
أين الملوك وأبناء الملوك ومن ... كانت تخرّ له الأذقان إذغانا
صاحت بهم حادثات الدهر فانقلبوا ... مستبدلين من الأوطان أوطانا
خلّوا مدائن كان العز مفرشها ... واستفرشوا حفرا غبرا وقيعانا
يا راكضا في ميادين الهوى مرحا ... ورافلا في ثياب الغيّ نشوانا
مضى الزمان وولّى العمر في لعب ... يكفيك ما قد مضى قد كان ما كانا
أيها القارئ الكريم : حسن الخاتمة وما أدراك ما حسن الخاتمة ، ربي أحسن رحيلنا إن حآن وقتنا عن الدنيا سنرتحل ، يرافق سيرنا العمل ، فإما روضة ونشدوا ، وإما القبر يشتعل ، اللهم اجعل خير أيامنا خواتمها ، وايقظنا لتدارك بقايا الأعمار ، وثبت قولنا ب لا إله إلا الله يوم ترفع الروح إليك ، عبارة أعجبتني يقول أحدهم : ( ياليتني أسجد لربي سجدة طويلة ، أفارق فيها الحياة ، وتهتف الملائكة مات وهو ساجد ) اللهم ارزقنا حسن الخاتمة ، إن آخر ساعة في حياة الإنسان هي الملخص لما كانت عليه حياته كلها، فمن كان مقيما على طاعة الله ، بدا ذلك عليه في آخر حياته ذكرا وتسبيحا وتهليلا وعبادة وشهادة، فيا ترى كيف كانت ساعة الاحتضار على سلفنا الصالح ، الذين عاشوا على طاعة الله وماتوا على ذكره، لما رأت فاطمة رضي الله عنها ما برسول الله من الكرب الشديد الذي يتغشاه عند الموت ، قالت: وا كرب أبتاه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم "ليس على أبيك كرب بعد اليوم" وهذا عبد الله بن جحش رضي الله عنه عندما خرج لمعركة أُحد دعا الله عز وجل قائلا "يا ربّ: إذا لقيت العدوّ فلقّني رجلا شديدا بأسه، شديدا حرده، فأقاتله فيك، ويقاتلني، ثم يأخذني ويجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدا ، قلت يا عبد الله: من جدع أنفك وأذنك؟! فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت" وبعد المعركة رآه بعض الصحابة مجدوع الأنف والأذن كما دعا ، وطعن جبار بن سلمى الكلبي عامر بن فهيرة رضي الله عنه يوم بئر معونة، فنفذّت الطعنة فيه، فصاح عامر بن فهيرة قائلا: فزت بها ورب الكعبة ، كان بلال بن رباح رضي الله عنه يردد حين حضرته الوفاة وشعر بسكرات الموت قائلا: غدا نلقى الأحبة، محمدا وصحبه، فتبكي امرأته قائلة: وا بلالاه، وا حزناه، فيقول رضي الله عنه : وا فرحاه ، وعندما نادى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض" فسمع عمير بن الحمام هذا الفضل العظيم ، فقال : يا رسول الله: إني أرجو أن أكون من أهلها، فقال "فإنك من أهلها"فأخرج عمير تمرات من جعبته ليأكلها ويتقوى بها، فما كادت تصل إلى فمه حتى رماها وقال: إنها لحياة طويلة إن أنا حييت حتى آكل تمراتي، فقاتل المشركين حتى قتل ، وعندما حضرت الوفاة معاذ بن جبل رضي الله عنه قال "مرحبا بالموت زائرا ، وحبيبا جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك، فأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لجري الأنهار ، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ، أي الصيام ، ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء عند حلق الذكر" ولما احتضر عمر بن عبد العزيز ، قال لمن حوله "اخرجوا عني فلا يبق أحد" فخرجوا فقعدوا على الباب فسمعوه يقول: "مرحبا بهذه الوجوه، ليست بوجوه إنس ولا جان" ثم قال (تلك الدّار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتّقين) ثم قبض رحمه الله ، ولما حضرت الوفاة آدم بن إياس ، ختم ما تبقى عليه من سور القرآن وهو مسجّى، فلما انتهى قال: "اللهم ارفق بي في هذا المصرع، اللهم كنت أؤملك لهذا اليوم وأرجوك" ثم قال: "لا إله إلا الله" وقضى نحبه ، ولما حضرت الوفاة أبا الوفاء بن عقيل ، بكى أهله فقال لهم: "لي خمسون سنة أعبده، فدعوني أتهنّى لمقابلته" وقال المزني: دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه فقلت له ، كيف أصبحت؟! فقال "أصبحت من الدنيا راحلا، ولإخواني مفارقا، ولكأس المنية شاربا، ولسوء عملي ملاقيا، وعلى الله تعالى واردا، فلا أدري: روحي تصير إلى الجنة فأهنيها ، أم إلى النار فأعزيها" ثم بكى ، ولما احتضر عامر بن عبد الله بكى وقال "لمثل هذا المصرع فليعمل العاملون" وكان يزيد الرقاشي يقول أيها الناس: ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟! يا من الموت موعده، والقبر بيته، والثرى فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر ، كيف يكون حاله ؟! فهذا أبو الحسن النساج ، لما حضره الموت غشي عليه عند صلاة المغرب، ثم أفاق ودعا بماء فتوضأ للصلاة ثم صلى ، ثم تمدد وأغمض عينيه وتشهد ومات ، وهذا ابن أبي مريم الغساني ، لم يفطر مع أنه كان في النزع الأخير، وظل صائما، فقال له من حوله: لو جرعت جرعة ماء!! فقال بيده: لا، فلما دخل المغرب قال: أذّن؟! قالوا: نعم، فقطروا في فمه قطرة ماء، ثم مات ، ولما احتضر عبد الرحمن بن الأسود بكى فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: "أسفا على الصلاة والصوم" ولم يزل يتلو القرآن حتى مات ، وهذا أبو حكيم الخبري وكان نساخا كان يوما جالسا يكتب الكتب كعادته، فوقع القلم من يده وقال: "إن كان هذا موتا، فوالله إنه موت طيب" فمات ، وعن الفضل بن دكين قال "مات مجاهد بن جبر وهو ساجد" النّفس تبكي على الدّنيا وقد علمت أن السّعادة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلّا الّتي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشرّ خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدّهر نبنيها
فكم مدائن في الآفاق قد بنيت أمست خرابا وأفنى الموت أهليها
لا تركننّ إلى الدّنيا وما فيها فالموت لا شكّ يفنينا ويفنيها
أيها القارئ الكريم : إن حسن الخاتمة هي أن يوفّق العبد قبل موته للتوبة عن الذنوب والإقبال على الطاعات ، قال عليه الصلاة والسلام "إذا أراد الله بعبده خيرا استعمله" قالوا: كيف يستعمله؟! قال: "يوفقه لعمل صالح قبل موته" ويبشّر به عند موته رضا الله واستحقاق كرامته ، تفضلا منه جل وعلا ، قال تعالى (إنّ الّذين قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنّة الّتي كنتم توعدون) وهذه البشارة تكون للمؤمنين عند احتضارهم ، ولكي يدّرك العبد المؤمن حسن الخاتمة فينبغي له أن يلزم طاعة الله وتقواه ، والحذر من ارتكاب المحرمات ، اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة ، ونسألك بوجهك الكريم أن تسكننا الفردوس الأعلى من الجنة ، اللهم زلت بنا أقدام وغرقنا في لجج المعاصي والآثام ، فاغفر لنا ذنوبنا وتوفنا وأنت راض عنا غير غضبان يا رب العالمين .
هناك علاماتٌ بيّناتٌ يستدلّ بها على حسن الخاتمة ، فأيّما امرئ مات بإحداها؛ كانت له البشارة بحسن الخاتمة، ويا لها من بشارة ومن أهمّها:
1- النّطق بالشّهادة عند الموت: قال عليه الصلاة والسلام «من كان آخر كلامه ، لا إله إلّا اللّه" دخل الجنّة» رواه أبو داود
2- الموت على عمل صالح: قال عليه الصلاة والسلام «من قال: "لا إله إلّا اللّه" ابتغاء وجه اللّه ختم له بها دخل الجنّة، ومن صام يوما ابتغاء وجه اللّه ختم له بها دخل الجنّة، ومن تصدّق بصدقة ابتغاء وجه اللّه ختم له بها دخل الجنّة» رواه أحمد .
3- الموت برشح الجبين: قال عليه الصلاة والسلام «المؤمن يموت بعرق الجبين» رواه الترمذي وفي رواية: «موت المؤمن بعرق الجبين»رواه النسائي
4- الموت ليلة الجمعة، أو نهارها: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم «ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلّا وقاه اللّه فتنة القبر»رواه الترمذي
5- الموت غازيا في سبيل اللّه: قال عليه الصلاة السلام «من مات في سبيل اللّه فهو شهيدٌ»(رواه مسلمٌ) .
6- الموت مرابطا في سبيل اللّه: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم «رباط يوم وليلة خيرٌ من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الّذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتّان»(رواه مسلمٌ). وقال عليه الصلاة والسلام «كلّ ميّت يختم على عمله، إلّا الّذي مات مرابطا في سبيل اللّه؛ فإنّه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر» (رواه التّرمذيّ) .
7- الاستشهاد في ساحة القتال، قال الله تعالى(ولا تحسبنّ الّذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتا بل أحياءٌ عند ربّهم يرزقون * فرحين بما آتاهم اللّه من فضله ويستبشرون بالّذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألّا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون) وقال عليه الصلاة والسلام «للشّهيد عند اللّه ستّ خصال: يغفر له في أوّل دفعة، ويرى مقعده من الجنّة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار؛ الياقوتة منها خيرٌ من الدّنيا وما فيها، ويزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفّع في سبعين من أقاربه» رواه التّرمذيّ ، وترجى هذه الشّهادة لمن سألها مخلصا من قلبه، ولو لم يتيسّر له الاستشهاد في المعركة؛ بدليل قوله صلّى اللّه عليه وسلّم «من سأل اللّه الشّهادة بصدق؛ بلّغه اللّه منازل الشّهداء، وإن مات على فراشه»(رواه مسلمٌ)، وسأل رجل يا رسول اللّه! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلّا الشّهيد؟ قال: «كفى ببارقة السّيوف على رأسه فتنة» رواه النّسائيّ .
8- الموت في الدّفاع عن الدّين، أو النّفس، أو الأهل: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم «من قتل دون ماله فهو شهيدٌ، ومن قتل دون دينه فهو شهيدٌ، ومن قتل دون دمه فهو شهيدٌ، ومن قتل دون أهله فهو شهيدٌ رواه التّرمذيّ ، وقال صلّى اللّه عليه وسلّم «من قتل دون مظلمته فهو شهيدٌ» رواه النّسائيّ ، والمظلمة تشمل "الأنواع الأربعة"، المذكورة في الحديث .
9- الموت في الدّفاع عن ماله الخاصّ: أي من اغتصب ماله ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «من قتل دون ماله فهو شهيدٌ»(رواه البخاريّ ومسلمٌ)، وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللّه، أرأيت إن جاء رجلٌ يريد أخذ مالي؟ قال: «فلا تعطه مالك» قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله» قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيدٌ». قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النّار»(رواه مسلمٌ) .
10- الموت بالطّاعون: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «الطّاعون شهادةٌ لكلّ مسلم»(متّفقٌ عليه)، وقالت عائشة رضي اللّه عنها سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الطّاعون؟ «فأخبرني أنّه عذابٌ يبعثه اللّه على من يشاء، وأنّ اللّه جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطّاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا، يعلم أنّه لا يصيبه إلّا ما كتب اللّه له؛ إلّا كان له مثل أجر شهيد»(رواه البخاريّ).
11- الموت بداء البطن: قال عليه الصلاة والسلام «من مات في البطن فهو شهيدٌ» رواه مسلمٌ، وفي رواية «من يقتله بطنه؛ فلن يعذّب في قبره»رواه النّسائيّ ، وقد وضع العلماء ضابطا للشهيد : أن كل من مات في علة مؤلمة متمادية ، أو مرض هائل ، أو بلاء مفاجيء ، فله أجر الشهيد ، شريطة أن يكون صابرا ومحتسبا على البلاء ، ويدخل في ذلك من مات بمرض السرطان والسل وكورونا فانها من الوباء العام ومن الأمراض الفتاكة .
12- الموت بالغرق، والهدم: قال صلّى اللّه عليه وسلّم «الشّهداء خمسةٌ: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشّهيد في سبيل اللّه»(رواه البخاريّ).
13- موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها: عن عبادة بن الصّامت رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «أتدري من شهداء أمّتي؟» قالوا: قتل المسلم شهادةٌ قال «إنّ شهداء أمّتي إذا لقليلٌ! قتل المسلم شهادةٌ، والطّاعون شهادةٌ، والمرأة يقتلها ولدها جمعا شهادةٌ؛ أي: تموت والمولود مجموعٌ في بطنها»(رواه أحمد) وفي رواية «والنّفساء شهيدٌ يجرّها ولدها بسرره إلى الجنّة" السّرر: هو ما يقطع من المولود من السّرّة»( واه أحمد) .
14- الموت بالحرق، وذات الجنب: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «الشّهداء سبعةٌ سوى القتل في سبيل اللّه» وذكر منهم: «وصاحب ذات الجنب شهيدٌ، والحرق شهيدٌ» (رواه مالكٌ في "الموطّأ)، والجنب: هي الدّمّل الكبيرة الّتي تظهر في باطن الجنب وتنفجر إلى داخل، وقلّما يسلم صاحبها .
15- الموت بداء السّلّ: لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم «السّلّ ‌شهادةٌ»(رواه الطّبرانيّ) أيها الأحبة في الله : فالعبرة بالخواتيم؛ فمن وفّق للطّاعة، وحسن ظنّه باللّه تعالى، وثبت على الإيمان؛ تولّى قبض روحه ملائكة الرّحمة، وبشّروه بالمغفرة والرّضوان، والفوز بالجنان، ومن ختم له بسوء؛ استحقّ غضب الدّيّان، ونزلت عليه ملائكة العذاب، وبشّروه بالخيبة والخسران، وسخط الرّحمن! فالعاقل: من جعل هذه اللّحظات نصب عينيه، فأخذ حذره منها، وسعى في تحصيل رضا الرّحمن. وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ... كتبه د/ عبدالخالق بن سيد بن أحمد أبوالخير
 
أعلى