الجرح والتعديل في عصر الصحابة رضي الله عنهم
عن طاوس : جاء هذا إلى ابن عباس رضي الله عنه – يعني : يُشَيْر بن كعب – فجعل يحدثه ، فقال له ابن عباس رضي الله عنه : (( عُد لحديث كذا وكذا )) ، فعاد له ، ثم حدّثه ، فقال له : (( عُد لحديث كذا وكذا )) ، فعاد له ، فقال له بُشَيْر : (( ما أدري أعرفتَ حديثي كله وأنكرتَ هذا ؟ أم أنكرتَ حديثي كله وعرفتَ هذا ؟ )) ، فقال له ابن عباس رضي الله عنه : (( إنا كنا نُحَدِّث عن رسول الله صلى الله وعليه وسلم إذ لم يكن يُكذَبُ عليه ، فلما ركب الناس الصَّعْبَ والذَّلول تركنا الحديث عنه )) رواه مسلم في مقدمة صحيحه ص 12 – 13 .
قال الشيخ الشريف حاتم العوني : ( فكان هذا أول تطبيق عملي ظاهر لعلم الجرح والتعديل ، وأولُ السؤال عن الإسناد ورفض المراسيل ، وذلك لظهور علتين اقتضتا ذلك ، وهما : علتا رواية المجروح والإرسال وعدم الإسناد ) المنهج المقترح لفهم المصطلح ص 30 .
لذا كان أول ظهور لعلم الجرح والتعديل هو في عصر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم .
الجرح والتعديل في عصر التابعين وأتباعهم
قال الإمام ابن حبان رحمه الله وهو يبين سلوك التابعين مسلك أئمتهم من الصحابة في التيقظ من الروايات وانتقاء الرجال : ( ... ثم أخذ مسلكهم ، واستن بسنتهم ، واهتدى بهديهم فيما استنوا من التيقظ من الروايات جماعة من أهل المدينة من سادات التابعين منهم : سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد بن أبى بكر ، وسالم بن عبدالله بن عمر، وعلي بن الحسين بن علي ، وأبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف ، وعبيد الله بن عبدالله بن عتبة وخارجة بن زيد بن ثابت ، وعروة بن الزبير بن العوام ، وأبو بكر بن عبدالرحمن ابن الحارث بن هشام ، وسليمان بن يسار ،فَجَدُّوا في حفظ السنن والرحلة فيها ، والتفتيش عنها والتفقه فيها ولزموا الدين ودعوة المسلمين ، ثم أخذ عنهم العلم وتتبع الطرق وانتقاء الرجال، ورحل في جمع السنن جماعة بعدهم منهم : الزهري ، ويحيى بن سعيد الانصاري ، وهشام بن عروة ، وسعد بن إبراهيم في جماعة معهم من أهل المدينة ،إلا أن أكثرهم تيقظاً ، وأوسعهم حفظاً ، وأدومهم رحلةً ، وأعلاهم همةً الزهري رحمة الله عليه ) مقدمة كتاب المجروحين ص 38 – 39 .
قال محمد بن سيرين ( ت 110 هـ ) : ( لم يكونوا يسألون عن الإسناد ، فلما وقعت الفتنة ، قالوا : سموا لنا رجالكم ، فيُنظر إلى أهل السنة فيُؤخذ بحديثهم ، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يُؤخذ حديثهم ) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه ص 15 .
وهو يحكي هنا ما كان عليه شيوخه من الصحابة وكبار التابعين من عدم التشدد في نقد الرجال لتوافر الأمانة والصدق والعدالة بينهم ، وعدم وجود ما يدعو للكذب ووضع الأحاديث ، فلما وقعت فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه سنة 35 هـ ، وكثرت الهجمات على الإسلام ومحاولات التزوير في النصوص والكذب في الأحاديث ، أصبحوا يسألون عن الإسناد ويُدَقِّقون في المصادر فلا يقبلون من الروايات إلا ما توافرت فيه شروط القَبول من صدق ٍ وضبط .
منهج انتقاء الشيوخ والتزام التحديث عن الثقات دون غيرهم
قال عروة بن الزبير الأسدي المدني ( ت 94 هـ ) : ( إنى لأسمع الحديث استحسنه فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمعه سامع فيقتدى به ، أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدثه عمن أثق به وأسمعه من الرجل أثق به قد حدث به عمن لا أثق به ) الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص 32 .
وهنا يؤسس عروة – رضي الله عنه – قاعدة مهمة وهي ( رواية الثقة عن رجل ٍ ليست دليلاً على صحة المروي عنده ) و ( ليست دليلاً على توثيق رجال إسنادها ) .
قال الإمام الشافعي رحمه الله ( ت 204 هـ )
وعطاء بن أبي رباح ( ت 114 ) .
وكذلك نجد سيد التابعين : سعيد بن المسيب ( ت 94 هـ ) يتكلم في بعض الرواة ، فيُروى عنه أنه كَذَّبَ عطاء الخراساني في بعض رواياته ، انظر : الضعفاء للعقيلي ( 3 / 405 ) والكامل في ضعفاء الرجال ( 5 / 358 ) .
وهذا سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ( ت 126 هـ ) وهو ( من جِلَّةُ أهل المدينة وقدماء شيوخهم ) يُعلن منهج انتقاء الشيوخ والتزام التحديث عن الثقات دون غيرهم من الضعفاء والمجاهيل :
عن سعد بن إبراهيم ، قال : (لا يُحَدِّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الثقات ) ، انظر : مقدمة صحيح مسلم ص 15 ، المعرفة والتاريخ ( 1 / 681 ) ، العلل ومعرفة الرجال ( 2 / 447 ) ، الكفاية في علم الرواية ص 32 ، أدب الإملاء ص 55 .
وهاهو مفتي المدينة وعالمها ربيعة بن أبي عبد الرحمن المعروف بـ ( ربيعة الرأي ) يحذر من أخذ الحديث عن غير الثقات ويعتبره مسبباً لضياع الدين ، فيقول : ( ثلاثٌ من توديع الإسلام : العصبية ، والقدرية ، والرواية عن غير ثقة ) الكفاية في علم الرواية ص 33 ، وأدب الإملاء ص 56 .
وأيضاً نجد التابعي البصري المعروف محمد بن سيرين ( ت 110 هـ ) يقول : ( إنهذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ) مقدمة صحيح مسلم ص 14 .
بل إن الإمام مالك ( ت 179 ) من أشد الناس انتقاءً للرجال إلى درجة أنه أدرك أكثر من 100 من رواة الحديث ولم يأخذ منهم شيئاً من الحديث لعدم استيفاء أحد منهم شروط القبول عنده .
فقد روى عنه ابن وهب أنه قال : ( أدركت بهذا البلد رجالاً بني المائة ونحواً منها يحدثون الأحاديث لا يؤخذ منهم ليسوا بأئمة ، فقلتُ لمالك : وغيرهم دونهم في السن يؤخذ ذلك منهم ؟ قال: نعم ) المعرفة والتاريخ ( 3 / 31 ) .
أي أنه لا يلزم بسنٍّ معين للراوي ، بل يأخذ من الراوي الثقة ويرد الراوي غير الثقة سواءً كان كبيراً أو صغيراً .
ومن علماء التابعين الذين كانوا ينتهجون منهج انتقاء الشيوخ واقتصار الرواية على الثقات عنده :
1 – شيخ الحرم عمرو بن دينار المكي ( ت 126 هـ ) :
قال سفيان : قلتُ لمسعر : ( من رأيتَ أشد تثبتاً في الحديث ؟ ) قال : ( القاسم بن عبد الرحمن وعمرو بن دينار ) .
2 – الإمام بكير بن عبد الله الأشج المدني ( ت 126 هـ ) .
قال أحمد بن صالح المصري : ( إذا رأيتَ بكير بن عبد الله روى عن رجل ٍ فلا تسأل عنه ، فهو الثقة الذي لا شكَّ فيه ) تهذيب التهذيب ( 1 / 431 ) .
3 – الإمام محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب القرشي المدني ( ت 159 ) ، كان أحد المحتاطين المتثبتين في الرواية .
قال يحيى بن معين : ( ابن أبي ذئب ثقة ، وكل من روى عنه ابن أبي ذئب ثقة ، إلا أبا جابر البياضي ) الكامل في ضعفاء الرجال ( 6 / 182 ) .
4 – الإمام مالك بن أنس رحمه الله ( ت 179 ) ، وقد وردت عنه نصوصٌ كثيرة تدل على اهتمامه بانتقاء الرجال واختيار الشيوخ ، من ذلك :
أ – قال بشر بن عمر الزهراني : سألت مالكاً عن رجل ، فقال : ( هل رأيته في كتبي ؟ ) قلت : ( لا ) ، قال : ( لو كان ثقة لرأيته في كتبي ) .
قال الحافظ الذهبي معلقاً : ( فهذا القول يعطيك بأنه لا يروي إلا عمن هو عنده ثقة ، ولا يلزم من ذلك أنه يروي عن كل الثقات ، ثم لا يلزم مما قال أن كل من روى عنه ، وهو عنده ثقة ، أن يكون ثقة عند باقي الحفاظ ، فقد يخفى عليه من حال شيخه ما يظهر لغيره ، إلا أنه بكل حال كثير التحري في نقد الرجال ، رحمه الله ) سير أعلام النبلاء ( 8 / 71 ، 72 ) .
ب – قال سفيان بن عيينة : ( ما كان أشد انتقاد مالك ٍ للرجال وأعلَمَه بشأنهم ) الجرح والتعديل للرازي ( 8 / 204 ) .
ج – قال علي بن المديني : ( كان مالك ينتقي الرجال ولا يُحَدِّثُ عن كل أحد ) تاريخ ابن أبي خيثمة ( 1 / 272 ) برقم 958 .
وروى أبو نعيم أنه قال أيضاً : ( كل مدني لم يحدث عنه مالك ففي حديثه شيء ، ولا أعلم مالكاً ترك إنساناً إلا إنساناً في حديثه شيء ) ، وقال أيضاً : ( ومالك أمانٌ فيمن حدث عنه من الرجال ) مقدمة الكامل في ضعفاء الرجال ص 91 .
د – قال يحيى بن معين : ( كل من روى عنه مالك بن أنس فهو ثقة إلا عبد الكريم البصري أبو أمية ) حلية الأولياء ( 6 / 322 ) .
وقال أيضاً : ( كل من حَدَّثَ عنه– أي الإمام مالك –فهو ثقة إلا رجلاً أو رجليْن ) تقدمة الجرح والتعديل ص 17 .
هـ - قال الإمام أحمد بن حنبل – في رواية ابن هانئ – : ( ما روى مالكٌ عن أحد ٍ إلا هو ثقة ، كل من روى عنه مالك فهو ثقة ) شرح علل الترمذي ( 1 / 80 ) .
ز – قال أبو حاتم الرازي : ( ... ومالكٌ نقيُّ الرجال ، نقيُّ الحديث ... ) الجرح والتعديل للرازي ( 8 / 206 ) .
ح – قال صالح بن محمد جزرة : ( سفيان أحفظ وأكثر حديثاً من مالك ، لكن مالكاً ينتقي الرجال ... ) تذكرة الحفاظ ( 1 / 206 ) ، سير أعلام النبلاء ( 7 / 271 ) .
ط – قال النسائي رحمه الله : ( ما عندي أحد من التابعين أنبل من مالك بن أنس ، ولا أجلُّ منه ، ولا أوثق ولا آمن على الحديث منه ... وليس أحدٌ بعد التابعين أقل رواية ً عن الضعفاء من مالك بن أنس ، ما علمناه حدَّث عن متروك ٍ إلا عن عبد الكريم بن أمية ) التعديل والتجريح للباجي ( 2 / 699 – 700 ) .
ي – قال يعقوب بن سفيان الفسوي : ( وقد تحققت من الاستقصاء وذكر الأسامي اسماً فاسماً ، لأن جملة الأمر : أن مالك بن انس لم يضع في الموطأ اسناداً وأظهر اسماً يحدث عنه إلا وهو ثقة ، خلا عبد الكريم بن أمية فإنه ضعيف وكان له رأي سوء ) المعرفة والتاريخ ( 1 / 425 ) .
وقال في موضع آخر : ( ومن كان من أهل العلم ونصح نفسه ، علم أن كل ما وضعه مالكٌ في [ موطئه ] وأظهر اسمه ثقةٌ تقوم به الحجة ) المصدر السابق ( 1 / 349 – 350 ) .
ك – قال الحافظ الذهبي رحمه الله : ( وقد كان مالك إماماً في نقد الرجال ، حافظاً ، مجوداً ، متقناً ) سير أعلام النبلاء ( 8 / 71 ) .
تنبيه : من عبارات الإمام مالك الدالة على الجرح الشديد :
قال الشيخ الإمام عبد الرحمن المعلمي رحمه الله : ( إذا قيل : [ ليس بثقة ولا مأمون ] تَعَيَّنَ الجرح الشديد ، فإن اقتُصر على [ ليس بثقة ] فالمتبادر جرحٌ شديد ، ولكن إذا كان هناك ما يشعر بأنها استُعمِلت في المعنى الآخر حُمِلَتْ عليه ) التنكيل ( 1 / 70 ) .