سياسي الحيّ , قصة قصيرة

"سياسي الحيّ" هي قصة قصيرة من تأليف الكاتب والاديب الإنجليزي "سومرست موم".

هذه القصة الساخرة تحكي عن فترة زمنية قديمة, ولكن ألم يقولوا: ما أشبه اليوم بالبارحة!


كان من اسخف ساسة الحي في اوروبا الوسطى, وكان يجب ان اقول بانه اسخفهم على الإطلاق لولا إن الكثيرين منهم كانوا ينازعونه هذا الشرف. وانا لا انكر عليه مزية إنه كان يشعر شعورا غامضا بما فيه من نواحي النقص, ولو إنه كان يجهل إنه طراز فريد ومثل نادر في كل ناحية من نواحي الجهالة, كان يستطيع ان ينشئ الخطب التي تحوز إعجاب الغوغاء والرعاع, وان يردد في أساليب مختلفة تلك الافكار البالية المبتذلة التي يذيعها الساسة, وهما كفايتان لاتدلان على أن له مواهب أسمى من مواهب أي ببغاء مدرب, وكان يكتفي بان يردد عن ظهر قلب, الجمل التي سمعها من الآخرين, ويقلد تقليدا قردياً حركات هؤلاء الرجال الأكثر منه رشاقة, وكان ذكيا في مسايرة الجمهور, ويذهب في مرونة عجيبة كل مذهب يعد بالربح الوافر, ويرجى منه النفع الجزيل, فبالأمس كان إشتراكياً متطرفاً, واليوم أصبح رجعياً لاتلين قناته, ولايحيد عن ثباته.

وفي نهاية المطاف, ملّ الصيغ الشائعة والمالوفة, وضاق ذرعاً بالعبارات المعروفة, وشعر شعوراً غامضاً بالتوق إلى شيئ جديد, وعارضه في هذا الإتجاه أصدقاؤه معارضة عنيفة, ولما تهامس الناس بأن هذا المنكود كان يحاول ان يتعلم شيئاً جديداً ليطلع عليهم بفكرة طريفة, إستبان له (ولأول مرة) أن السخف ظهير لا يُستهان به في حياة الكثيرين.

وإلى ذلك كان عنيداً لاينثني بسهولة عما رامه, ولذا عقد العزم على المثابرة, وصمم على ان يحصل على فيض من المعرفة.




وللقصة بقية...
 
سياسي الحيّ - الجزء الثاني

زاره في ذات يوم رجل مرسل الشعر, عليه إمارات الجد والوقار, وقد وضع على عينيه نظارة, وخاطبه قائلا:

- لقد تتبعت بتنبه وعناية, سير حياتك العامة ردحاً من الزمن, واعلم بأنك لم تدخل مدرسة.

- (إعترضه السياسي بغضب قائلاً) لقد حصلت على إجازة إتمام الدراسة الإبتدائية!

- ولم تتعلم شيئاً, ولا تدري شيئاً!!

- ولكن .. ولكن ..

- (مقاطعا إياه) أعرف أن ذلك يُشكل أية عقبة في حياتك السياسية, فلقد ألقيت خطباً لا تُحصى في إجتماعات شعبية عدة, ولقد سمعتك تستشهد بآراء متطرفة في الحرية, وتيشر بالمذاهب الرجعية, وتدافع عن لينين, وتطري موسوليني, ولحظت أنك كنت من متطرفي اليسار, وبعد ذلك بقليل أصبحت من متطرفي أحزاب اليمين.

- ولِمَ كل هذه التفصيلات الدقيقة في حياتي؟

- الحقيقة إنك أدرى مني بهذه التفصيلات, وأنا لم ارد إلاّ ان تعلم إنني اعرف جلية امرك, وادرك مطامعك السياسية, وانت غير قانع بإعجاب العامة والخاصة, وتريد ان تدخل مجلس النواب.

- (معترضا, ولكن صوته كان يوحي بالموافقة!) لا .. لا ..

- هل تريد ان تكون مديراً لاحد المصالح؟

- أستميحك المعذرة, ليس كل من تلقاه من الناس له مؤهلات صالحة لملء هذه الوظيفة.

- ربما كنت تطمح في منصب الوزارة إذاً!!

- (مغمغماً) بالطبع أطمح في ذلك.

- ولكنك تشعر شعوراً تاماً بأنك لاتدري شيئاً, وانت بطبيعة الحال تذكر ان الكثيرين من الجهلة (وغير المثقفين) قد لعبوا دوراً كبيراً في بلادنا, ولكن هؤلاء كانوا من الشواذ المحظوظين, وليس كل سخيف محظوظاً.

- (مغتاظاً) إذكر ماجئت من أجله, وقل لي ما شأنك؟

- أجل, لقد جئت لاسألك, هل تريد رأساً غير رأسك ؟

:)

وللقصة بقية...
 
سياسي الحيّ - الجزء الثالث

فحملق السياسي مدهوشا, واجاب:

- إفرض اني اريد ذلك, فماذا ينفعني هذا؟

- هذا هو المطلوب, لقد جئت لأعطيك راساً آخر, وسيكون في وسعك ان تعرف في مدى ايام قلائل, بل في ساعات قلائل, ماعرفه غيرك في سنوات جاهدة ناصبة من الإقبال على الدراسة والإنقطاع للمعرفة, وستتمكن من العلوم السياسية والمالية والفلسفة والقانون والطب, وستطبح حكيماً مثل "فاوست" نفسه.

- لا أريد ان أصبح حكيما مثل "فاوست", فليست لي طاقة على تحمل ذلك.

- هذا صحيح, ومن أجل ذلك أنت في حاجة إلى ان تستبدل برأسك راساً آخر.

- أستبدل برأسي رأساً آخر, ماهذا يا سيدي؟

- ألم تقرأ التقرير الأخير الذي كتبه الأستاذ "مايسنهايمر" العالم الكبير والمتخصص في علم الاحياء, عن إبدال رؤوس الحشرات والفقاريات؟؟

- أنا لا أقرأ مثل هذه التقريرات.

- ألم تقرا في الجرائد عن مدى التقدم الذي بلغه الأستاذ "فنكلر" في بجوثه؟

- أنا لا أقرا الجرائد التقدمية.

- عليّ إذاً ان أوضح لك الامر قبل ان اسألك هل تريد راساً آخر.

- عفوا يا سيدي؟

- منذ خمس وعشرين سنة عكف علماء الطبيعة وعلماء التشريح على تجربة نقل أعضاء الحيوانات الدنية, ونجحت التجربة, فتابعوا البحث وساروا على الدرب, وهم في هذه الآونة يقطعون رأسي دودتين, ويضعون كل واحد منهما مكان الآخر, والعجب أن الرأسين المستبدلين ينموان في الجسدين الجديدين بعد فترة قصيرة.

- (متألماً مما سمعه) مسكينة هذه الديدان!

كان رقيق القلب, ولكن رقة قلبه كانت مقصورة على الحشرات والحيوانات. ;)

- وبعد هذه الفواتح الواعدة, اخذ العلماء يجربون ذلك في الحشرات العليا, وحرصاً على سلامة شعورك الرقيق أذكر لك أنهم كانوا يستعملون أدوية مخدرة في اثناء قيامهم بهذه العمليات.

- أنت يا سيدي هازلٌ ساخر!

- إني لا اقول لك سوى الحق المحض, ولقد نجح الأستاذ "ريزبرام" بالنمسا نجاحا باهرا في أساليبه الخاصة بالنقل والتعويض, وأمكن تحت إشرافه استبدال عيون الأسماك, وقد توصلنا الآن إلى اننا نستطيع نقل الرؤوس في ثقة وإطمئنان.

- هذا شائق إلى درجة كبيرة, ولكنك تتحدث عن الحشرات!

- لا, هذا عظيم الاهمية قياساً إلى البشر, فقد تجاوزت التجربة الحدود التي وقف عندها العلماء, واستطيع ان أؤكد لك أن كل ما صُنع بالحيوانات يمكن ان يُكرر صنعه باسمى انواع الإنسان, فهل تريد راساً آخر؟ إني استطيع أن احصل لك على راس جديد.





يتبع ....
 
سياسي الحيّ - الجزء الرابع

أجاب السياسي, وقد رفع يديه لاإرادياً وكأنما كان يحمي بهما رأسه! ;)

- هذا لايمكن تصديقه!

- لو كنت مثابرا على قراءة الجرائد لما وجدت في ذلك أي غرابة, ففي كل يوم تشير الصحف إلى كشف جديد, وتذكر إختراعاً علمياً كان يظن معجزة منذ سنوات قليلة, فكّر في عمليات تجديد الشباب, فهم يحيلون الشيخ الفاني شاباً, فلماذا لايجعلون من الأحمق حكيماً؟ وإني لأعلم علم اليقين أن في إستطاعتي أن أتولى أمرك, وفي مثل غمضة العين أو رجعة الطرف أجعل منك سياسياً عظيماً مفوهاً.

- أهذا ضرب من ضروب السخرية؟

- ليس في هذا مثقال ذرة من السخرية, ولست من الساخرين, فأنا - ولابد أنك قد تبينت ذلك بعد أن قدمت نفسي إليك - أشهر جراح في العالم, ولقد قمت بعمليات هي من الكثرة بحيث أن تسجيل الكثير منها قد فقد, وايسر شيئ عندي هو أن أطيح برأسك وأضع لك رأساً آخر جديداً.

- ياسيدي, إنك تهزأ بي, ولست أدري ماذا أظن بك؟

- ولكني أعلم حقاً ماذا أظن بنفسي, وأنا أسلم بان العملية ستكون على جانب من الصعوبة, لأن علينا في بادئ الأمر, وقبل كل شيئ, أن نبتّ في مسألة اختيار نوع الرأس الذي تريد, وخير سبيل هو أن تختار الرأس الخاص الذي تريده قبل العملية, وقد وجدت من الضروري ألا أحيد عن هذه الخطة, وهي أن أترك لمن يريد استبدال رأسه حق إختيار الرأس الذي يرغب في الحصول عليه. على ان هناك صعوبة أخرى قد تعترض سبيلنا, فأنت في هذه الآونة تمقت الشيوعية اشد المقت, وقد يقع إختيارك على رأس رجل تبدو عليه إمارات الفهم والنجابة, وقد يتكشف هذا الرجل عن أحد اتباع "ماركس وإنجلز", وربما وجدت رأسك الجديد مبشراً بالشيوعية, وسيكون هذا كارثة عليك من غير شك. ولا استطيع ان أعدك بما يمكن أن يحدث لو وضعت لك رأس أحد اليهود الماكرين, فأخذت تدافع عن الساميين في مجتمع يكرههم... وموجز القول إن من أشق الامور في الدنيا الحصول على الرأس الملائم للإنسان, وكلما أطلتُ التفكير في ذلك, كلما أصاب رأسي الدوار, وظلت تمور بي الأرض الفضاء, إضافة إلى ذلك فإن راس كل إنسان خزانة مقفلة ومستودع أسرار, ومعظم الناس يخوضون في أحاديث تخالف مايضمرون في رؤوسهم, ومن سوء الحظ أننا لانستطيع حتى اليوم أن نسبر غور أفكار الناس قبل القيام بالعملية.





يُتبع ...
 
سياسي الحيّ - الجزء الخامس والأخير

وقد نطق الغريب بالكلمات الاخيرة في سرعة واندفاع, ثم اخذ بتلابيب السياسي قائلاً:

- والآن يجب أن اعرف قياسك, وإذا أتيح لي قطع راسك وإستبداله فلا بد على الاقل من معرفة حجم البنيقة (وهي رقعة تُزاد في نحر القميص لتوسيعه) التي تلبسها.

وهمّ السياسي بالدفاع عن نفسه بكل ما أوتي من قوة, وإذا بأحد زملائه السياسيين يظهر فجأة, فانحنى الغريب في التو واللحظة إنحناءة ذات مغزى وانصرف.

فسأله زميله القادم:

- أتعرف هذا الطبيب الشهير؟

- (أجابه وهو يحك حنجرته بأنامله) هذه أول مرة اراه فيها, هل هو حقيقة جراح شهير؟

- جرّاح؟ ماذا تظن بالرجل يا صديقي؟ إنه طبيب نفسي!

- أهو طبيب يعالج المجانين؟ لقد رأى هذا الرجل أن رأسي غير صالح لي, وكان يهم بان يضع لي راساً آخر كما يصنع العلماء بالحشرات والديدان!

- لا يسوءنك ذلك, فهذا الطبيب يعامل الكثيرين من المرضى الذين يزورون عيادته كما لو كانوا عقلاء, ويعامل الكثيرين في خارج عيادته كما لو كانوا مجانين, ونحن لا نعلم متى يجّد معنا, ومتى يسخر منا, ولستَ في حاجة إلى رأس آخر, فرأسك يكفي لمهنتك, وفضلاً عن ذلك, إنّ أي راس غير راسك لا يفيدك, لأن الناس يحكمون على إخوانهم البشر برؤوسهم, ولذا إذا ألصقت بجسدك راساً آخر, اصبحت شخصاً آخر, وتصير أنت الشخص الآخر الذي يوضع رأسك على كتفيه.

- لقد أخذ الدوار برأسي.

- لا بأس في ألا يكون لك رأس على الإطلاق, فهذا لا يعوق عملك في شيئ, ونحن الساسة لسنا بحاجة إلى رؤوس جديدة, وإنما نحن بحاجة إلى أفواه فقط.

- (مغتبطاً وقانعاً) ولقد رزقت ذلك.

وتأبط كل من الزميلين ذراع الآخر, وسارا إلى إجتماع, حيث وعدا فيه بان يدافعا عن النظم السائدة في بلادهم, ببلاغة ساحرة وقوة آسرة.




النهاية.
 

أوراد الكويت

عضو بلاتيني
أخي ستانفورد ..
أكثر ناس تمتهن الكلام والرغي واللت والعجن هم الساسيين ..
وأكثر فئه تحترف الكذب هم الساسيين ..
ألا ترى انه لا سياسيه غير الكلام .. ؟!!

ولا يفوتني ان اشكر العزيزه لميا ء ..

تحياتي لكما ..
 
أعلى