في الخـَـلـق ومشيئة الرب تعالى
البداية لابد لها من مقدمة.
الكثير من القصص والآراء الواردة في الديانات المختلفة أصبح من الصعب تفسيرها أو قبولها حرفياً، ولعدة أسباب. فمثلاً، في العهد القديم (وهو ما يؤمن به اليهود والمسيحيون على أنه وحي) وفي سفر التكوين (أحد أسفار التوراة أو أسفار موسى الخمسة) توجد الكثير من القصص لا يمكن غض النظر عن التشابه بينها وبين الأساطير البابلية (قصة الطوفان كمثال). والملفت للنظر أن بعض هذه القصص موجودة في القرآن أيضاً. ولا يمكن أيضاً أن نقبل بعض التفسيرات الموجودة في هذا السفر (كمثال على الكتاب الموحى به) على أنها تفسير منطقي ومعقول (أنظر كمثال سبب إختلاف الألسنة وتعدد اللغات في سفر التكوين، فالسبب المقدم هو أنهم أرادوا بناء برج فبلبل الرب السنتهم حتى يمنعهم من إتمامه، ولهذا السبب سُميت "بابل").
إذن هناك إشكالية. ولكن، وفي رأيي على الأقل، الحل لا يكمن في إنكار الوحي، ولهذا أيضاً عدة أسباب. ولكن الأهم هو أن الإعتماد على التفسير الحرفي للقصص المقدسة أصبح، وبالضرورة، لا يؤدي بنا إلى المعرفة ولكن إلى "الإيمان". ويجب أن نلجأ إلى التفسير "الرمزي" لهذه القصص والتعليلات إن أردنا الوصول "للمعرفة" ونفي تعارض العقل والنقل.
بعد هذه المقدمة، وفي البداية، يجب أن أقول بأنني لا أدعي أن ما سوف أقوله هو الجواب الفصل أو النهائي، ولكنه ما أراه أنايقدم شيئاً بسيطاً في محاولة تفسير الخلق والتطور. وفي النهاية هو رأي شخصي يحتمل الأخذ والرد أو حتى الرفض، ولكنها محاولة لنفي التعارض.
أنا أعتقد أن الله جل وعلى لم يخلق الخلق مباشرة. وقبل أن يعترض معترض، فليهدأ قليلاً وليفكر فيما يصنعه الإنسان مثلاً، هل يسمى الإنسان خالقه؟ لا، لايزال الرب تعالى هو الخالق وإن كان الإنسان صنع هذا الشيء وأنشأه. أعود فأقول بأن الله جل وعلى لم يخلق الخلق مباشرة وإنما خلق "القوانين" التي تتحكم في عملية الخلق والتطور والطبيعة والفيزياء والفللك. أو إن شئت، خلق نظاماً عاماً فيزيائيا وبيولوجياً وكيميائيا يجب أن تخضع له الأشياء الموجودة في هذا الكون. هذا النظام أو القوانين هو ما نحاول نحن البشر أن نكتشفه من خلال العلوم والمعارف المختلفة. فالله تعالى قد وضع نظاماً بيولوجيا معيناً، وهذا النظام متطور (ديناميكي وغير ثابت ودليل على عبقرية فذة غير مسبوقة ولا يمكن محاكاتها) يأخذ بعين الإعتبار الظروف المحيطة لينتج الحياة الملائمة لهذه الظروف إذا ما توفرت عناصر أولية لابد منها. وهذه العناصر الأولية من السعة والشمول بحيث أنها من الممكن أن تتكيف مع محيط متباين الجوانب ومتعدد الصفات. فمن قال لك أن الغازات السامة لا يكون عندها حياة؟ هناك أنواع من البكتيريا تعيش قريبة من البراكين وفي محيط مشبع بغازات الكبريت. إن الرب تعالى خلق القانون، والقانون هو من يتحكم في عملية الخلق من خلال معطيات معينة.
تقول: وما هو هذا القانون؟ أعود وأقول هذا هو هدف العلم، الإكتشاف والمعرفة. ألم يقل الرب جل وعلى للملائكة (إني جاعلٌ في الأرض خليفة)؟
هذا بدوره يطرح سؤالاً أكثر جدية وإلحاحاً، ما هو الهدف من كل هذا؟
أنا لا اتصور أن كل هذا بلا هدف أو غاية أو غرض. الأمر الذي نحن فيه ونعيشه ونراه أعقد من أن يكون صدفة. ببساطة، هو شديد التعقيد. نعم، هو نتاج ملايين السنين من التطور وإختيار الأصلح، ولكنه لا يزال شديد التعقيد عن أن يكون صدفة. وإن كان الإصرار على "الصدفة" لايزال مطروحاً، فإن السؤال التالي هو: ومن أنشأ نظام التطور وإختيار الأصلح من البداية؟ فالحياة تحتاج إلى شيئين أساسيين هما: الوجود المادي (Hardware)، والعملية المنظمة لهذا الكيان .(Software) من أنشأ هذا الـ Software ، هذا البرنامج (DNA) الذي يتحكم بنا نحن البشر من بداية الحياة إلى الممات؟ الأمر أعقد من أن يكون صدفة.
قد يعترض معترض هنا، وقد إعترضوا بالفعل، بأن تشابه القصص التي أوردتها الديانات مع بعض الأساطير للحضارات الوثنية القديمة مسألة تضعنا أمام إشكالية حقيقية في مسألة التصديق بنزول الوحي.
فأقول: نعم، هي لا تجبرنا على التصديق بنزول الوحي ولكنها أيضاً لا تعني بالضرورة نفي الوحي.
هناك كتاب ممتع سوف أنقل منه هنا. الكتاب هو: دين الإنسان - بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، فراس السواح، دار علاء الدين للنشر، دمشق، الطبعة الثالثة 1998، ص 55 وما بعدها:
[بعد أن يؤكد الكاتب بأن المعنى اللغوي الأصلي لكلمة "الأسطورة" هو الخط أو الكتابة وإن إستخدامها في القرآن بمعنى قصص الأولين مكتوبة، يتحدث المؤلف عن مميزات الأسطورة، فيقول]:
1- الأسطورة هي شكل من أشكال الأدب الرفيع، فهي قصة تحكمها قواعد السرد القصصي من حبكة وعقدة وشخصيات وما إليها.
2- هي قصة تقليدية، بمعنى أنها تحافظ على ثبات نسبي وتتناقلها الأجيال بنصها عبرة فترة طويلة من الزمن طالما حافظت على طاقتها الإيحائية بالنسبة إلى الجماعة.
3- ليس للإسطورة زمن. أي أنها لا تقص عن حدث جرى في الماضي وانتهى، بل عن حدث ذي حضور دائم. فزمانها والحالة هذه زمن ماثل أبداً لا يتحول إلى ماض.
4- تتميز موضوعات الإسطورة بالجدية والشمولية، فهي تدور حول المسائل الكبرى التي ألحت دوماً على عقل الإنسان، مثل الخلق والتكوين وأصول الأشياء والموت والعالم الآخر وما إلى ذلك من قضايا صارت وقفاً على الفلسفة فيما بعد.
5- يلعب الآلهة وأنصاف الآلهة الأدوار الرئيسية في الإسطورة، فإذا ظهر الإنسان على مسرح الأحداث كان دوره مكملاً لا رئيسياً.
6- لا يُعرف للإسطورة مؤلف.
7- تتمتع الإسطورة بقدسية وبسلطة عظيمة على عقول الناس ونفوسهم.
8- ترتبط الإسطورة بنظام ديني معين لأنها ليست نتاج خيال فردي معين أو حكمة شخص بل إنها ظاهرة جمعية تعبر عن تأملات الجماعة وحكمتها وخلاصة ثقافتها.
إنتهى النقل.
أقول أنا فرناس: إذن القصص المقدسة ذات التشابه الإسطوري مع ديانات أخرى قديمة لابد وأن تكون "رمز" لشيء ذو حضور دائم له معنى إيحائي للجماعة وفي نفس الوقت تقدم الأجوبة لأسئلة ملحة للجماعة. أنظر لهذه المقارنة:
قصة موسى: صراع بين الخير والشر وإنتصار الخير.
قصة لوط: كما هو أعلاه مع إضافة العنصر الأخلاقي و إضافة القدرة الإلهية للتدمير.
قصة يوسف: كما هو أعلاه في قصة موسى.
قصة نوح: كما هو أعلاه مع إضافة القدرة الإلهية للتدمير.
حوار الملائكة مع الله في قصة الخلق: بيان علم الرب.
قصة هود: صراع بين الخير والشر.
قصة ابراهيم: الصراع الداخلي للفرد وإفرازاته على المجتمع وضرورة الهجرة (بالمعنى الروحي أو الجسدي).
قصة داود: أن جنود الله هم الغالبون وإن امتحنهم الله قبل ذلك.
قصة سليمان: إن الله يمتحن العباد مهما كانت مراتبهم.
وبإمكاني الإستمرار عل هذا. إذن غرض الوحي القصصي ليس التاريخ وإنما الرمز أو العبرة أو الدرس، وفي الحقيقة بإمكاننا الإثبات، ومن القرآن ذاته، بأن السرد ليس تاريخياً بالمعنى المتعارف عليه لمصطلح "التاريخ" وإنما الدرس أو العبرة هي المركز والمحور. فإذا كانت "العبرة" و "الرمز" هي المقصودة من القصص المقدسة سقط بالضرورة "التفسير الحرفي" للحدث وبقي "التفسير الرمزي". وهذا لايكون دليلاً على نفي الوحي.
إشكالية أخرى تقع في مسألة "المشيئة". فمن وجهة نظر البعض أنه" :إما أن تؤمن بأن الكون يسير وفق قوانين الطبيعة، وهنا تتعطل إرادة الله في خرق هذه القوانين لتسيير شؤون الكون وهو مايسمى بالعلم. أو أن تؤمن بأن الكون يسير وفق إرادة الله فإن أراد الله شيء فإنما يقول له كن فيكون. وأن ما طرحته أنا من تصور (خلق القانون إبتداءاً) هو محاولة توفيق بين الإيمان والعلم وهي محاولة أشبه بمحاولة جمع الشيء ونقيضه في آن واحد".
والجواب على هذا الإعتراض هو القول بأن "المشيئة" متحققة بالضرورة لأننا نتاج هذا القانون ابتداءاً، ونعيش ونموت في محيطه اضطراراً. هذا واضح. فمثلاً لعبة "الشطرنج" وقوانينها، هو مثال جيد ولكن مع فوارق جوهرية يجب أن تؤخذ بالحسبان) مثلاً أنت حر في لعبك من عدمه أو توقفك عن اللعب أو حتى الإتفاق على قانون مخالف، ولكننا في هذا الكون هل نحن كذلك؟). فالقانون في لعبة الشطرنج هو الذي يحدد النتائج بواسطة تقييدك جبراً بقيود لازمة تحدد تحركاتك، ولأنك تتبع هذه القوانيين (جبراً أو طوعاً على حسب المثال المطروح) فإنك بالضرورة، أكرر بالضرورة، قد حققت مشيئة من وضع هذا القانون ابتداءاً. إذن أين التناقض؟
لنأخذ مثالين ثم نستقرء (extrapolate) النتائج على باقي الأمثلة التي ممكن أن تُطرح.
ممكن أن يقال بأن "المرض من الله والشفاء من الله".
ماذا نعني بهذه العبارة بالضبط؟
إما أن يكون الله قد تدخل مباشرة في عملية المرض وبالتالي محاولة طلب الشفاء عن طريق غيره جل وعلى أصبحت غير مجدية لأنها تعارض "المشيئة" بالضرورة. أو أن المرض كان نتيجة لقانون الخلق بكافة آلياته المعقدة (بكتريا، فيروسات، فطريات، طفيليات، ملوثات كيميائية، ملوثات إشعاعية، آليات نفسية، قصور جيني...الخ) وبالتالي فإن الشفاء لا يتم إلا عن طريق فهم هذا القانون وتوظيفه لصالح المريض.
من الواضح، ومن التجربة العملية اليومية، أن الخيار الثاني هو الخيار الأمثل والأقرب إلى الصواب. ولكن "مشيئة" الرب جل وعلى قد تحققت في مرضنا وشفائنا لأننا كنا خاضعين في المرض والشفاء لهذا القانون الذي خلقه الرب تعالى ابتداءاً.
إذن، المرض من الله والشفاء من الله، عبارة صحيحة ولكن على هذا المفهوم الذي شرحته، وفي كل الأحوال يجب أن نتجنب أسباب الداء، وإن مرضنا نطلب الدواء.
لننظر إلى هذا الخبر:
"الحارث بن الحارث بن كلدة الثقفي، كان أبوه طبيباً في العرب حكيماً، وهو من المؤلفة قلوبهم، معدودٌ فيهم. وكان من أشراف قومه (......) روي أن رسول الله (ص) أمر سعد بن أبي وقاص أن يأتيه ويستوصفه في مرض نزل به، فدلَ ذلك على أنه جائز أن يُـشَاوَر أهل الكفر في الطب إذا كانوا من أهله".
الإستيعاب في معرفة الأصحاب، أبن عبد البر القرطبي، ج 1، ص 348، دار الكتب العلمية 1995
فإذا كان كما يقول البعض بأن "الله هو الشافي" بما تعني هذه العبارة حرفياً، فكيف نفسر هذا الخبر مع وجود نبي موحى إليه؟
مثال ثاني. الفقر من الله والغنى من الله. حسنٌ. أنا أطلب الرزق من الله، كما يطلبه مئات الملايين من البشر غيري، فمَن مِن هؤلاء المئات من الملايين البشر أمطرت عليهم السماء ذهباً، أو نهض صباحاً من فراشه ليجد تحت مخدته قوت يومه؟
هؤلاء الناس لا يطلبون معجزة، بالتأكيد لا. هذا ما قرأته منذ أيام قليلة ماضية:
"قال الله تعالى ((وإن من شيء إلا عندنا خزائنه)) [سورة الحجر، 21]، إعلم أن "عندية" الحق تعالى ليست بظرف مكان قطعاً، ولا هي ظرف زمان مختص. بل هي ظرف ثالث وهو أمر نسبي لا وجودي. والنِسب أمور عدمية ثابتة الحكم معدومة العين".
محي الدين بن عربي، كتاب "المعرفة"، ص 36
إذن ما معنى سؤالنا الله تعالى الرزق؟ هو، وفي نظري الشخصي، طلبٌ بإلهامنا أفضل الطرق للتصرف لكسب الرزق. أفضل الطرق للعمل من خلال هذا القانون الكلي الشامل.
إذن النتيجة الحتمية لكل هذا هي أننا خاضعون بالضرورة للمشيئة من خلال خضوعنا الجبري "للقانون". وهذا ليس "جبراً" بالمناسبة بالمعنى "الكلامي" للكلمة، فموضوع الجبر والإختيار مختلف تماماً عما أناقشه الآن ولا علاقة به.
إذن أنا أقول بأن الله جل وعلى خلق "القانون" ابتداءاً. هذا "القانون" هو المسؤول عن كافة العمليات والظواهر التي حدثت في الماضي وتحدث الآن وسوف تحدث في المستقبل. ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، نظرية الإنفجار الأعظم والذي يحاول العلماء من خلال هذه النظرية تفسير وجود الكون.
حتى أكون واضحاً في هذه النقطة بالذات، سوف أضرب مثال. أليس الله جل وعلى يعلم الغيب "المستقبل"؟
الإجابة لابد وأن تكون بـ "نعم".
الآن، كم مرة شاهد الكثيرون منا مكوك الفضاء الأمريكي لحظة إطلاقه؟ أنا متأكد أنه عدة مرات على شاشات التلفزيون. والكل يعرف بأن مسار هذا المكوك معروف مسبقاً وبواسطة حسابات بسيطة يمكن عملها من خلال الفيزياء الكلاسيكية وما يُعرف بفيزياء "المقذوفات". وأن المكوك في كل إطلاق يتم مراقبة مساره لإحتمال أن يحيد عن هذا المسار.
نظرياً، التنبؤ بالمستقبل هو: أن يوافق الحادث القادم في الزمن الأخبار السابقة عليه.
فكيف أمكننا نحن البشر أن نتنبأ بمسار المكوك أول مرة لشيء سوف يحدث في المستقبل؟
الجواب هو: بسبب معرفتنا بالفيزياء وقوانينها؟
هذه القوانين، الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية ضمن أخرى كثيرة، هي المخلوقة إبتداءاً، وهي التي تتحكم في الكون وظواهره المختلفة، وهي ما نحاول أن نكتشفه ونفهمه، وهي من خلالها تتحقق "المشيئة. ولا يزال الرب تعالى هو الخالق المتعالي فوق خلقه، و مشيئته متعالية أيضا فوق مشيئة خلقه، ولكن "إرادته" تعالى تفرض نفسها من خلال "قوانينه" التي خلقها ابتداءاً.
إعتراض آخر. من الممكن أن يقال بأنه "دينياً" الكون وما فيه لابد وأن يسير بإرادة الله، ووضع "القانون" في محل الرب جل وعلى لم يقل به أي دين موحى به على الإطلاق. ولكن "علمياً"، ومع فصل المعتقدات الدينية عن موضوع النقاش، يصبح الكلام عن "القانون" منطقياً.
وللإجابة على هذا الإعتراض يجب أن نعرف أولاً بأنه عندما نقول "دينياً" فإننا في الأغلب الأعم نستقرء تفاسير "بشرية" لنصوص مقدسة. وبسبب هذه التفاسير البشرية بالذات اختلفت الفِـرق والمذاهب في جميع الأديان. هناك صحابيان على الأقل قالوا بأن "النص حمال أوجه". وإذا أردت الدليل على ذلك الخلاف في النص المقدس ذاته فقط قل لي: هل الإنسان مخير أم مسير من وجهة نظر النصوص القرآنية؟ أقول لك من الآن، إن تبنيت وجهة نظر معينة وإستشهدت بآيات من القرآن الكريم، أنا سوف أتبنى خلافها وأستشهد لك بآيات أخرى. فأين هي الحقيقة إذن؟
ثانياً، القول "علمياً" بأن الكون يسير وفق قوانين ثابتة، أقول نعم، لا خلاف هنا. أنا فقط، أتصور أن الله تعالى هو المنشئ الأول لهذه القوانين. لا أكثر ولا أقل. وبذلك ينتفي التعارض. ويمكن بالتالي مزج العقيدة السماوية مع الكشف العلمي وقوانينه.
نقطة أخيرة هنا.
قد يستشهد البعض بالمعجزات كدليل على القدرة الإلهية من المنظور الديني وبالتالي رد فكرة "القانون" إبتداءاً.
وهذا في الحقيقة دليل عليهم. بدليل أن من له القدرة على خرق القانون فهو من باب أولى يستطيع تغييره أو حتى إنشاءه أول مرة. اليس كذلك؟
ولكن قضية "المعجزات" هي نقطة خارج نطاق نقاشنا على كل الأحوال. فالمعجزة لا تحدث كل يوم، ولا ينبغي لها ذلك. آخر معجزة حدثت من زمن بعيد جداً (ضع التاريخ الذي يناسب معتقدك أو معتقد الآخرين)، هذا كل شيء.
في تصوري أن أهم إعتراض لما طرحته أنا أعلاه هو: هل الرب تعالى بعد خلق "القانون" لا يتدخل في عمل هذا القانون؟
مرة أخرى أقول، هذا رأي شخصي مبني على المشاهدة والتجربة اليومية، لا أدعي أن ما أقوله هو "الحقيقة" بل هو "رأي"، ومع تقرير ما أثبتهُ أنا مراراً أعلاه من إثبات "المشيئة" و "القدرة" ونفي "العجز" عن الرب جل وعلى، أقول في جواب هذا الإعتراض:
الجواب ذو شقين، الأول هو "هل يملك الرب تعالى المقدرة على أن يتدخل في القانون بعد خلقه؟". والثاني، "هل يتدخل الرب تعالى فعلاً بهذه القوانين؟".
أما في جواب السؤال الأول فأقول: نعم يملك القدرة. إذا أردت "المعجزات" كدليل، فليكن. ولكن، وببساطة، من يملك إنشاء القانون أول مرة يملك بالضرورة القدرة على التدخل فيه بالتعديل أو حتى الإلغاء. وبهذا المفهوم فقط نستطيع أن نفسر المعجزات.
أما الشق الثاني من الإعتراض فجوابه هو: لا، لا يتدخل الرب تعالى بهذه القوانين بعد خلقها (ولنستثني المعجزات هنا). الدليل هو لو كان الرب تعالى يتدخل بهذه القوانين، لم تعد أصلاً تحمل إسم "القوانين" لأننا نفقد القدرة، بالضرورة، على "التنبؤ" بواسطتها. مثلاً، لو كان الرب تعالى يتدخل بقوانين الحركة مثلاً، لكانت قوانين الحركة التي تصلح للتنبؤ بمسار جسم ما اليوم مساءاً، لا تصلح للتنبؤ بذلك المسار غداً. ولو كان الدواء الذي يصلح لمرض ما اليوم، لا يصلح غداً إذا تدخل الرب تعالى في خصائص الدواء. وهكذا إذن، إذا تدخل الرب تعالى بتلك القوانين فإنها تفقد صفة "الثبات" المؤدي إلى القدرة على التنبؤ بواسطتها، وهذا غير مشاهد على أرض الواقع.
الخلاصة هي أنه لا حدود "لإرادة" الله، و"مشيئته" متحققة بالضرورة، وهو خالق الكون بما فيه من خلال خلقه "القانون" ابتداءاً، وله القدرة على التدخل بهذا "القانون" متى ما شاء تعالى، ولكنه لا يفعل ذلك والدليل هو المشاهدة والتجربة العملية.
فرناس
ملاحظة: هذه المقالة هي في الأصل مجموعة ردود لي على موضوع ذو محاور عدة تم نقاشها على الشبكة الليبرالية الكويتية، وقد رأيت في تلك الردود قيمة فكرية جعلتني أعيد كتابتها على شكل مقالة.