العلمانية...مفهوم إسلامي أصيل
دائماً، وعند الهجوم على المبدأ العلماني من جانب معارضيه، يكون إستعراض نشأة العلمانية في أروبا وصراعها مع الكنيسة هو الحجر الأساس والمحور الذي يرتكز عليه هؤلاء. ومن خلال هذا الإستعراض التاريخي للعلمانية يتوصل مهاجميه، وهم من المتعاطفين مع الحركات الإسلامية بالدرجة الأولى، إلى أن العلمانية كانت ردة فعل على سلطوية الكنيسة في المجتمع الأروبي آنذاك، وبما أن الإسلام مُبرأ من هكذا سلطوية، أو على الأقل هكذا يقول مهاجمي العلمانية، فإن المبدأ العلماني لا يصلح للمسلمين تحديداً، وإنما ما يصلح لهم الآن هو ذلك النظام الإسلامي السياسي والذي صلح لمجتمع الصحابة من بعد وفاة النبي (ص) إلى الفترة التي سوف يختارها محدثك لك.
هكذا نتيجة تحتوي، حتماً، على إدعاء مضاد من جانب هؤلاء وهو أن "النظام السياسي الإسلامي"، والذي صلح لهذه الامة في الماضي، هو ما سوف يدفعها بالضرورة للخروج من مأزقها السياسي والحضاري والإنساني. وعند هذه النقطة بالذات، ودائماً وبلا إستثناء أنا أعرفه، تنتهي المقالة أو يكون الفصل الأخير من الكتاب أو نهاية المقابلة الإذاعية أو تكون آخر حلقة من السلسلة التلفزيونية أو أصبح محدثك على موعد مهم ويريد المغادرة فوراً.
الغريب والمثير للدهشة أن الأغلبية الساحقة من المسلمين غدت مقتنعة تمام الإقتناع بأن "النظام السياسي الإسلامي" هو السبيل الوحيد للخلاص. ولكن، وعندما تسألهم سؤال يتيم وحيد، ومن خلال ثورة إنفعالهم وحماسهم في مهاجمتهم للعلمانية والدعوة للنظام السياسي الإسلامي، عندما تقاطعهم متسائلاً:
وما هو النظام السياسي الإسلامي ونصوصه في الكتاب الكريم والسنة الصحيحة؟
يكون الجواب، وتقريباً دائماً وبلا إستثناء، إتساع حدقة العين من الدهشة، وعدم توقع السؤال، والإكتشاف الشخصي المفاجئ بأنه لا يملك الإجابة، اللهم إلا كلمة يتيمة وهي "الخلافة"، وكفى الله المؤمنين القتال!
هذا يوحي، وأحياناً يقنع الطرف المتحمس لـ "النظام السياسي الإسلامي"، بأن دليل وجود هذا النظام هو فقط مهاجمة النظم الأخرى وبيان عوارها ومنها العلمانية، لا أكثر ولا أقل. ويغدو الأمر أكثر صعوبة على الإجابة والإقناع، من طرف مُحدثك، عند الإصرار على طلب الدليل من القرآن الكريم والحديث الشريف الصحيح الخالي من العلل. ولكن عندما يكون محدثك على قدر لا بأس به من الثقافة ويبدأ بالحديث عن بعض الخلاف الفقهي في تنصيب الخليفة وصلاحياته وأهل الحل والعقد ومدى إلزام الشورى للخليفة وإمكانية عزله من عدمه ضمن أمور أخرى، سوف يكتشف فجأة، وأحياناً من خلال إبتسامة لاحت على وجهك وأحياناً أخرى من خلال شرح بسيط تقوم به، أن ما كان يشرحه ويحاول إقناعك به ليس إلا محاولة إستقراء قام بها الفقهاء لمرحلة ما بعد وفاة النبي (ص) وإعتبار هذا الإستقراء هو جزء أصيل من التشريع الإسلامي، ولكن تبقى الحقيقة التي لا مراء فيها وهي: غياب النص. بمعنى، كيفية تمام بيعة أبي بكر الصديق، أصبحت مصدراً للتشريع الإسلامي. كيفية تمام إستخلاف عمر، أصبحت مصدراً للتشريع الإسلامي. كيفية إنتهاء موضوع الشورى وإستقراره على عثمان، أصبحت مصدراً للتشريع الإسلامي. كيفية إستقرار المسلمين على علي، أصبحت مصدراً للتشريع الإسلامي. ويغيب عن كل هذا الكم من الأحداث التاريخية والإستدلال الفقهي الذي تم من خلاله، نقطة جوهرية مهمة وهي أن كل هذه الأفعال من الصحابة تمت في غياب كامل من النص المُنظم لمثل هذه الأمور. ببساطة لم تكن أفعالهم أو ردود أفعالهم تلك إلا إجتهاد منهم على شأن من شؤون دنياهم.
القارئ الكريم سوف يكون متوقعاً، أو أصبح مقتنعاً الآن، بأنني سوف أنكر وجود أي منظومة سياسية إسلامية وبأنني سوف أطرح أدلتي على ذلك.
ولكنني سوف أخيب ظنه هنا، لأنني، وعلى عكس التوقعات، أنا أقول بأنه يوجد نظام سياسي إسلامي أصيل وصالح لكل زمان ومكان حتماً.
هذا النظام هو: العلمانية.
العلمانية على أنها فصل الدين عن الدولة والسياسة. ونعم هي مبدأ إسلامي أصيل مارسه الصحابة أنفسهم من أول يوم توفي فيه النبي (ص) وإلى ما شاء الله.
لنتفق أولاً على مبدأ مهم، ولا أعتقد أصلاً أن أي مسلم سوف يخالفني فيه، ولكنها الذكرى التي تنفع المؤمنين.
قال الله تعالى في سورة المائدة: (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلامَ دينا). إذن، وبشهادة الرب تعالى، قد كمُلَ الدين وتمت النعمة. وكمال الدين وتمام النعمة يستدعيان بالضرورة إستيفاء التشريع نصاً. إذ كيف يستقيم تمام الدين مع غياب نص في أمر من أمور التشريع والتي تدخل في أطار الدين وتنظيمه وأحكامه؟ هذا لا يستقيم عقلاً. إذن، إذا غاب النص عن أمر من الأمور فإنه بالضرورة لا يكون داخلاً في إطار الدين، ومن يقول غير هذا فإنه يدعي ضمناً عدم كمال الدين ولا تمام النعمة وهذا بخلاف منطوق الآية الكريمة. وأنا لا أعرف من يقول خلاف هذا. بل في الحقيقة، كل الخلاف السني الشيعي هو على مسألة "النص" من عدمه، وكل الخلاف المذهبي بين المذاهب هو "النص" وتأويله. فـ "النص" هو الحجر الأساس وبه مدار الدين وعليه الإعتماد ومنه الدليل وبذكره الإحتجاج وبواسطته الحكم.
إذن، إذا غاب النص في القرآن الكريم أو الحديث الشريف الصحيح الخالي من العلل عن أمر من الأمور فإنه، وبالضرورة، لا يدخل تحت مظلة الدين ولكنه يدخل تحت المبدأ الإسلامي الرائع والذي نص عليه النبي (ص) في قوله الشريف: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم).
إذا وضح هذا المبدأ فكل ما علينا عمله في المسألة السياسية الإسلامية هو حصر هذه النصوص، هذا إن وُجدت، ثم تحديد ما هو داخل في شأن الدين وما هو داخل في شأن الدنيا. وبالتالي معرفة الحدود التي يجب أن يقف عليها الإنسان ولا يتعداها في الموضوع السياسي الإسلامي.
هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى هناك طريق ثاني أكثر سهولة وأيسر عرضاً ومقارنة، ألا وهو العرض التاريخي لما حدث بعد وفاة النبي (ص) وكيفية تعامل الصحابة مع الشأن السياسي المطروح. وبما أن هؤلاء قد عاصروا نزول الوحي وشهدوا التشريع وآياته وآلياته والشارع وكيفية تطبيقه للتشريع وإنفاذه، فإن دراسة تعامل الصحابة مع الشأن السياسي سوف يعطينا الدليل على وجود النص المنظم من عدمه. أليس هذا بديهياً؟!
لنضع الآن بعض التساؤلات عن ما حدث بعد وفاة النبي (ص) ولنرى هل يكون إجابة هذه التساؤلات هو دليل على وجود النص أم على غيابه.
بعد وفاة النبي (ص) وقف الحباب بن المنذر في سقيفة بني ساعدة مخاطباً الأنصار ومشيراً إلى أبي بكر وعمر ومن معهما قائلاً: "يا معشر الأنصار أملكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه فأجلوهم عن هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم". هل صرخة الأنصار "منا أمير ومنكم أمير". وهل قول عمر "إقتلوا سعداً قتل الله سعداً". وهل قول سعد بن عبادة لعمر وقريش عامة ما قال في السقيفة. وهل السبب الذي نقله الطبري في بيعة الأوس لأبي بكر. وهل قول العباس لعلي "إبسط يدك أبايعك ليقولوا عم رسول الله بايع إبن عم رسول الله". وهل غياب بني هاشم عن أحداث السقيفة وعدم دعوتهم. وهل خطبة أبي بكر في السقيفة. وهل قول أبي بكر "وددت أني كنت سألت رسول الله لمن هذا الأمر فلا ينازعه أحد ووددت أني سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب". وهل قول عمر "إن بيعة أبي بكر كانت فلتة". وهل إمتناع بني هاشم ومن معهم من بيعة أبي بكر. وهل إمتناع سعد بن عبادة من بيعة أبي بكر وعمر من بعده ثم هجرته من المدينة حتى قتلته "الجن" كما قيل لنا. وهل طرق إختيار الخلفاء الأربعة المختلفة جملة وتفصيلاً وأحداثاً. وهل حمل أبي بكر لبضاعته على كتفه متوجهاً إلى السوق بعد يوم واحد من إستخلافه. وهل كيفية وأسباب تنازل الصحابة لبعضهم البعض في قضية الشورى بعد مقتل عمر. وهل قول العباس لعلي في أمر الشورى "لا تدخل معهم". وهل قول علي لقومه من بني هاشم في الشورى "إن أطيع فيكم قومكم، لم تؤمروا أبداً". وهل قول العباس له "إحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر". وهل الست سنوات الأخيرة من حياة عثمان. وهل أحداث قتل عثمان. وهل قول أم المؤمنين عائشة "لو إنطبقت هذه على هذه لو تم الأمر لصاحبك". وهل قولها قبل ذلك "إقتلوا نعثلاً فقد كفر". وهل قتل الصحابة بعضهم البعض وإراقة دماء بعضهم البعض على الخلافة وليجري معها دماء المسلمين أنهاراً. وهل معركة الجمل ومقدماتها وأحداثها. وهل معركة صفين ومقدماتها وأحداثها. وهل تلك المطولات من الرسائل بين علي ومعاوية. وهل قول معاوية "والله ما قاتلتكم لتصلوا أو لتصوموا وإنكم لتفعلون ذلك، ولكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم". وهل قتل عمار ونفي أبي ذر. وهل سب علي على المنابر. وهل قتل الصحابة والتابعين. وهل التراتيب الإدارية وتدوين الدواوين وتأريخ التاريخ. وهل تاريخ الخلفاء عدا الأربعة الأوائل. وهل إستخلاف يزيد بن معاوية ومقدماته. وهل صلح الحسن وشروطه. وهل دس السم له وقتله. وهل خروج الحسين بن علي بنسائه وأطفاله للعراق وسببه ومن ثم قتله. وهل المغيرة بن شعبة وتقلبه بين الفريقين. وهل عمرو بن العاص وولايته لمصر وخراجها. وهل معاوية بن أبي سفيان وقتاله علياً. وهل قميص عثمان الذي يضرب به المثل. وهل رفع المصاحف على الأسنة. وهل خديعة الحكمين. وهل قول سعد بن أبي وقاص للوليد بن عقبة بن أبي معيط: "والله ما أدري أكستَ بعدنا أم حمقنا بعدك"، فرد عليه عقبة: "لا تجزعن أبا إسحاق، إنما هو المُلك، يتغداه قوم ويتعشاه آخرون". وهل نكبة مالك وسجن أبي حنيفة. وهل وهل وهل، إلا هي بعينها العلمانية وفصل الدين عن الدولة وشؤون الدنيا؟؟!!
وهل هذا كله دليلٌ على وجود نص مُنظم أم على غيابه؟؟!! وهذا السؤال هو للمنصفين الذين يسعون وراء الحقيقة وليس همَهم الخلاف وإثبات المستحيل وإنكار الواضحات.
يا سبحان الله، وهل قوله (ص) "أنتم أعلم بشؤون دنياكم" في حادثة تأبير النخل، وهل نزوله (ص) عن رأيه في حوادث متعددة لصالح رأي أصحابه، وهل رفض الأنصار إعطاء تمر المدينة لبعض الذين جاءوا يوم الخندق على رغم طلب النبي (ص) منهم ذلك، وهل قولهم له يوم بدر "أرأيت هذا المنزل، أمنزلٌ أنزلكه الله أو هو الرأي والحرب والمكيدة؟"، وهل الخلاف على الخروج أو البقاء في المدينة يوم أحد، وهل أحداث الحديبية، وهل آيات العتاب، وهل عدم إستخلافه (ص)، على الأقل صراحة حتى لا يعترض معترض هنا وعلى هذه الجزئية بالذات، هل عدم إستخلافه (ص)، هل عدم إستخلافه (ص)، هل عدم إستخلافه (ص)، وعذراً للتكرار ولكنني أرى حاجة للتكرار هنا وفي هذا السؤال بالذات لأنه سوف يخرج بعض السنة والشيعة ليسطر لنا أحاديث هي موضع خلاف إما بين مذهبه هو أو عند الفريق الآخر هذا بالإضافة إلى أن هذا السؤال وحده حجة مشرقة بينة لمن أراد الإنصاف والحقيقة، أعود وأقول هل عدم إستخلافه (ص) لأي أحد من بعده إلا دليلٌ ساطعٌ باهرٌ لكل مسلم بأن الحكم والسياسة هو أمر من أمور الدنيا ونحن أعلم بها كما قال لنا عليه السلام.
إذا لم يكن كل هذا هو فصل الدين عن الدولة وشؤونها فما يكون فصلهما؟؟!!
ومن هذا المنطلق أنا أختلف مع كل من يقول بأن العلمانية، بمفهومها فصل الدين عن الدولة وشئونها، هي بضاعة أروبية. لا، على العكس، هي بضاعة إسلامية مئة بالمئة فهمها صحابة النبي (ص) تماماً وطبقوها بحذافيرها، والدليل ما سطرته أعلاه وهو غيض من فيض ونقطة من بحر وحبة من كثيب، ولكنها غابت عن فهوم من تلاهم عندما أصروا على أن يعتبروا أفعال أصحاب النبي (ص) ومواقفهم ومصالحهم وحبهم وكرههم وطموحهم وتشريعهم لدنياهم هو مصدراً أصيلاً للفقه الإسلامي ومن ثم يصرون على إلزامنا بها.
نعم، لقد فهم الصحابة ذلك جيداً وطبقوه في حياتهم العملية تماماً، فلماذا لا نحتذي حذوهم، ونشرع لدنيانا كما شرعوا هم لدنياهم. فكمال الدين وتمام النعمة قد بلغا ذروتيهما بوفاة النبي (ص). وبلغت ذروتها بتركه إستخلاف أي أحد من بعده، وحاشا لله ولرسوله أن يكونا تركا ذلك سهواً. ولم يبين لنا الشارع كيفية الإستخلاف ولا آلياته ولا حدوده. وقد كمل الدين وتمت النعمة وهلك من هلك عن بينة وحيي من حيّ عن بينة وكمل التشريع نصاً. فإذا غاب النص عن موضوع معين كان هذا من أمور دنيانا ولنا الحق فيه في تصريفه كما نشاء. وقد غابت السياسة، بمعناها المعاصر والحديث عن النص، أليست هذه هي العلمانية؟؟!!
فرناس