الاسعاف ببيان الحق حال الاختلاف للشيخ عبيد الجابري حفظه الله...

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئاتأعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهوحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران/102]
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء/1]
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب/70، 71]
أمابعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشرالأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أمابعد:
فيا معاشر المسلمين، نتحدث إليكم في موضوع مهم، ومهم جداً، وذلكم لأنه من خلاله - إن شاء الله - تعرض قواعد وأصول يستعملها أهل السنة في التعامل مع من يخالفهم، وسواء كان الخلاف في أصول الدين أو فروعه؛ لأنه من المتقرر بمقتضى دلالةالكتاب والسنة أن العبرة هو بما دل عليه الدليل، وهذا الدليل على الحكم إما آية منآي التنـزيل الكريم، أو حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما أحسن ما قالهرابع أمراء المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ( لو كان الدين بالرأي، لكانباطن الخف أولى بالمسح من أعلاه ))، فإذا تقرر هذا أيها المسلمون، فإن حديثنا معكمفي هذا الموضوع الذي بانت لكم عظيم مكانته وأهميته من خلال هذا العرض اليسير، فإنالحديث فيه يتضمن أموراً عدة:
الأمر الأول: أن الأصل في الإنسانية هو خالصالتدين لله - سبحانه وتعالى -، وحسن إتباع رسله، وهذا ما دل عليه الدليل الصريح منالكتاب الكريم، ومن سنة نبينا صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى -كَانَ النَّاسُأُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَوَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَااخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِمَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَآَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْيَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [البقرة/213]
وفي صحيح مسلم من حديث عياضبن حمار المجاشعي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
(( قال الله - تعالى-:وإني خلقت عبادي حنفاء، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن ذكر الله، وأمرتهم أنيشركوا بي ما لم أنزل به عليهم سلطاناً، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحللت لهم )).
فيتلخص لدينا من هذه الآية وهذا الحديث، وما هو في معناهما من آي التنـزيل الكريم، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ما يأتي:
أولاً: أن الله - سبحانه وتعالى - أرسل رسله، وكذلك أنزل كتبه لرد الناس إلى الصواب من أمر دينهم، بعدما اختلفوابغياً بينهم.
الثاني: في قوله - تعالى -: ( فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوالِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) إلى آخر الآية وهذا تنبيه إلىأنه يجب على المسلم حال الاختلاف أن ينظر إلى الحق، وبه يزن ما يرد عليه من الاقوالوالأعمال ،( فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَالْحَقِّ بِإِذْنِهِ) . ويتبع هذا تنبيه آخر وهو: أن الاجتماع والاتفاق على ما أنزلالله - سبحانه وتعالى - في كتبه على رسله هو سبيل النجاة، وسبيل الفلاح، وسبيلالسعادة في الدنيا والآخرة، وما عدا ذلك من أقوال المختلفين فليست بشيء، بل فيالآية ما يشعر بذم المختلفين الذين خالفوا الحق، وركبوا الباطل، بعد ما بَين لهمالحق، ألم تسمعوا إليه - سبحانه وتعالى - في هذه الآيةفَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَآَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْيَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .
الثالث: هو أن الآية والحديث، وكذلكم ماهو في معناهما مشعر بأن الدعاة إلى الله على بصيرة هم الذين يجندون أنفسهم ويبذلونكل ما آتاهم الله - سبحانه وتعالى - من العلم والعمل والقوة والقدرة والوقت كييردوا الناس إلى الأمر الأول، السمت الأول، وهو ما اختاره الله لعباده من الهدىودين الحق.
يوضح هذا ما أخرجه أحمد ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عبد رب الكعبةعن ابن عمرو - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال( إنه لم يكن نبي قبلي قط إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وأن ينذرهم شرمايعلمه لهم، وإن أمتكم هذه قد جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرَها بلاء وأمورتنكرون... )) الحديث.
وكان وهب بن كيسان - رحمه الله - إذا قعد لأصحابه لا يقومحتى يقول لهم: ((اعلموا أنه لن يصلح آخر هذا الأمر إلا ما أصلح أوله )) قال أصبغ بنالفرج لمالك - رحم الله الجميع - ومالك هو راوي هذا الأثر عن شيخه وهب بن كيسان - رحمه الله -: ماذا يريد؟ قال: يريد بادئ الدين أو التقوى.
ومما جاء في معنىحديث ابن عمرو من الشواهد على صدق ما قاله وهب بن كيسان - رحمه الله -، قوله صلىالله عليه وسلم ( خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ))
وعلىما أفادته الأحاديث المتواترة في هذا الباب، أجمع أهل العلم والإيمان بدءً منالصحابة، فأئمة التابعين، فمن بعدهم، أجمعوا على أنه يجب الأخذ بما دل عليه الدليلمن كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلكم قول ابن عباس - رضي الله عنهما-( والله ما أظن أحداً أحب إلى الشيطان هلاكاً مني اليوم)) فقيل: وكيف؟قال: (( تحدث البدعة في المشرق أو المغرب، فيحملها الرجل إلي، فإذا انتهت إليقمعتها بالسنة، فترد عليه )). ومن قبل قال الفاروق رضي الله عنه ( إياكم وأهلالرأي، أعداء السنن، أعيتهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحفظوها،فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا )).
ومن أقوال التابعين ما أخرجه الدارمي عن الشعبي - رحمه الله - قال: (( إياكم والمقايَسَة، فوالذي نفسي بيده لإن أخذتم بالقياسلَتُحِلُّنّ الحرام ولَتُحَرِّمُنّ الحلال، فما بلغكم عن من حفظ من أصحاب محمد صلىالله عليه وسلم فخذوا به - أو قال - فاحفظوه ))
وكان الإمام مالك - رحمه الله - يقول: (( السنة سفينة نوح، من ركبها نجا ))
وقال عبد الله بن شَوْذَب الخراساني - رحمه الله -: (( إن من نعمة الله على الأعجمي والحدث إذا تنسكا، أن يُواخيا صاحبسنة فيحمِلُُهما عليها )) فقوله: (تنسك) يعني تعبّد لله - سبحانه -، وهذه الكلمة فيعرفنا اليوم كلمة بمعناها وهي: إلتزم.
الأمر الثاني: الذي يتضمنه حديثنا معكممعاشر المسلمين والمسلمات في الرأي، الكثير منكم - لاسيما طلاب العلم-، لا يخفىعليهم ما تواتر عن السلف الصالح من الصحابة وأئمة التابعين، ومن بعدهم من أهلالقرون المفضلة الثلاثة التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، ماتواتر عنهم في ذم الرأي وأهله.
أقسام الرأي:
وقد ثبت لدينا بالاستقراء أنالرأي أقسام ثلاثة:
أحدها: رأي الفقيه العالم الراسخ في العلم، الناصح للأمة حينتنـزل به نازلة، فلا يجد ما يَحُلُّها من الدليل لا من الكتاب، ولا من السنة، ولامن الإجماع، يبذل وسعه فَتُعْوِزُه الحِيَل، فيرى أنه لا بد من رأي في هذه المسألة،فيصيب رأيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا الصنف من الرأي شاهده ما أخرجهالبخاري وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه عرضت عليه قضية امرأة تٌوفي زوجها قبلالدخول عليها، فقال: أقول فيها برأيي، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي،والله ورسوله بريئان منه، أرى أنها لها الصداق والميراث، وعليها العدة، فقام رجلفقال: أشهد على رسول الله لقضى في امرأة منا بمثل ما قضيت يا ابن مسعود. فكبر رضيالله عنه فرحاً أن أصاب برأيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا الرأيأيها السامعون من المسلمين والمسلمات محمود، وصاحبه محمود، أولا: لأنه بذل وسعهواجتهد، وثانياً: عمد إلى الرأي حينما لم يجد دليلاً، وثالثاً: أن رأيه هذا وافقالسنة، وهذا من توفيق الله - سبحانه وتعالى - .
القسم الثاني: هو رأي الفقيهالمجتهد الناصح للأمة الذي تنـزل به نازلة كذلك، فيجتهد فيها رأيه، فلا يصب سنةرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الفقيه محمود ومشكور، ويثنى عليه بما يثنى بهعلى أهل العلم والإيمان، ولكنّ رأيه غير مقبول؛ لمخالفته سنة رسول الله صلى اللهعليه وسلم ، ويصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فلهأجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد )) ، فهو عند من يعرف قدر العلماء المجتهدينالفضلاء محمود، مغفور له خطؤه إن شاء الله، معذور فيما أخطأ فيه، مأجور علىاجتهاده، ولهذا فإن أهل هذا الصنف من الرأي لا يشنع عليهم العلماء، ولا يثرِّبونعليهم، بل يحفظون كرامتهم، ويصونون أعراضهم، ويعرفون لهم السابقة بالفضل وجلالةالقدر، وإن كانوا لا يتابعونهم على ما أخطئوا فيه، لما هو متقرر عندهم أنه لا يسوغمتابعة المخطئ على خطئه ما دام قد تبين له أن الدليل على خلاف ذلكم الرأي وذلكمالاجتهاد.
القسم الثالث من أقسام الرأي: هو رأي أهل الهوى الضلال، الذين جعلواعقلهم إماماً يحكمون به على النصوص، ولا يجعلون عقولهم تابعة للنصوص، فهذا الرأي هوالذي حذر منه الأئمة، وشنعوا على من يقول به؛ لأنه في هذا الرأي تعطيل للنصوص وعدمالعمل بها والركون إلى أقوال الرجال، وكان الإمام أحمد - رحمه الله - يذم الرأيبصفة عامة ويقول: (( عجت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان )) وكذلكمتواتر عن أئمة العلم والإيمان ذم هذا الصنف من الرأي، وذم أهله، والتشنيع عليهم،فمن ذلكم قول مفضل بن مُهَلْهَل - رحمه الله -: (( لو كان صاحب البدعة يحدثك في أولأمره بالبدعة لحذرته ونفرت منه، ولكنه يحدثك في بُدُوِّ مجلسه بالسنة، ثم يدخل عليكمن بدعته فلعلها تلزم قلبك فمتى تفارق قلبك )).
وقال مصعب بن سعد - رحمه الله -: (( لا تجالس مفتوناً،؛ فإنه لن يخطئك منه إحدى اثنتين، إما أن يفتنك فتتابعه، أويؤذيك قبل أن تفارقه )).
ومن هذا القبيل في ذم الرأي الذي هو مجرد قياس ومحضاجتهاد مباينة للنصوص، قول مالك - رحمه الله - ( أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجلتركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم )). وقال أيوب السختياني - رحمهالله -( قال لي أبو قلابة: يا أيوب احفظ عني أربعاً:
1- لا تقل في القرآنبرأيك
2- وإياك والقدر - يعني لا تخاصم فيه ولا تجادل -
3- وإذا ذكر أصحابمحمد صلى الله عليه وسلم فأمسك
4- ولا تمكن أهل الأهواء من سمعك فيِقرُّوا فيهما شاءوا -أو قال: - ينبذوا فيه ما شاءوا ))
وكان ابن سيرين وتلميذه أيوبالسختياني وغيرهما من الأئمة إذا دخل عليهم أهل الأهواء تركوا المجلس، بل قال قائل السلف: إني لا أحب أن أسمع منه القرآن. فقيل له: وكيف؟ قال: أخشى أن يدخل علي فيهما ليس منه.
.............................................يتبع
 
الأمر الثالث الذي يتضمنه حديثنا معكم: الأصل في التعامل مع المخالفين.
وهذا الأصل له فروع عدة:
الفرع الأول: أن أهل السنة ينظرون إلى المخالفة والمخالف، فلا يقبلون المخالفة بحال، بل يعنفون على من أظهر المخالفة،ورفع بها عقيرته، وصدع بها ولجلج، وإن كان عندهم من الفضلاء، ولنأخذ على ذلكم بعضالأمثلة، فنبدأ بخير الأمة بعد محمد صلى الله عليه وسلم وهم أصحابه، في صحيحالبخاري أن عبد الله بن مغفل رضي اللع عنه رأى غلاماً قريباً له يحذف بالحصى، فقال: لا تفعل، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الحذف. - يقال الخذف كذلك- ويقول: (( إنها لا تقتل صيداً ولا تَنْكأ عدواً وإنما تفقع العين وتكسر السن )) فأعاد الغلام، فأعاد له، في الثالثة أو الرابعة قال: لا أكلمك أبدا.
انظروا كيفشدد عليه (لا أكلمك أبداً، أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلموتفعل).
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال( لاتمنعوا إماء الله مساجد الله )) فقال ابنه بلال: والله لأمنعهن. قال الراوي: فسمعته يسبه سباً ما سب به أحداً قبله.
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قيل له: يقول أبو محمد الوتر واجب. قال: كذب أبو محمد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلميقول( خمس صلوات كتبهن الله على عباده في اليوم الليلة... )) الحديث أخرجهالطيالسي والسجستاني وأحمد والبغوي في شرح السنة وهو حديث صحيح بمجموع طرقه، والنقلعنهم رضي الله عنهم في هذا الباب متواتر في الاستنكار على من أظهر خلاف سنة رسولالله صلى الله عليه وسلم، هذه النظرة للمخالفة، وأما المخالف فإنه عندهم أحد رجلين:
الأول: رجل هو على خير وعلى سنة وعلى هدى، لكنه أخطأ في أمر من الأمور، فإنهكما يردون مخالفته ولا يقبلونها فإنهم يحفظون كرامته، وقد تقدم هذا.
الثاني: همأهل الهوى من المبتدعة الضلال، فإن أهل السنة يقفون معهم أولاً برد بدعهم وبشدة،ثانياً إذا كانت لأهل السنة الصولة و الجولة ورجحان الكفة والقوة، فإنهم يشددون علىالمبتدعة النكير ويجلبون عليهم بخيلهم ورجلهم إهانة لهم وإغلاظاً وإذلالاً، حتىيحذرهم الناس ويتوقوهم، وإذا كانت الكفة للمبتدعة والصولة لهم والقوة بأيديهم، فإنأهل السنة يكتفون برد البدع والمحدثات، ولا يرضونها أبداً.
وقد دل الدليل القاطععلى هذا المسلك، وهذا المنهج الذي ينتهجه أهل السنة مع مخالفيهم من أهل البدع، فمن ذلكم:
ما أخرجه البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليهوسلم تلا هذه الآية: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) حتى بلغ ( وَمَايَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران/7] فقال: (( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء بتأويله، فأولئك الذين سمى الله،فاحذروهم )). وفي مقدمة صحيح مسلم وشرح السنة للبغوي من حديث أبي هريرة رضي اللهعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم بما لمتسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم )).
وفي هذا الباب ما صح عنه صلى اللهعليه وسلممن طرق عدة: (( وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها فيالنار إلاواحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: الجماعة )) فسرها ابن مسعود رضي الله عنهفقال: (( الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك فإنك حينئذ الجماعة )) وحذر صلى الله عليه وسلم من الخوارج وأمر بقتلهم وقتالهم، وأخبر أنهم (( شر قتلى تحت أديم السماء )) ووصفهم أوصافاً من انطبقت عليه فهو منهم في كل زمان ومكان، فقال: ((سفهاءالأحلام حدثاء الأسنان، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية )) وقال: (( تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم )) إلى غيرذلك مما هو متواتر في الخوارج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا مشى أئمةالهدى والإيمان والعلم والدين، فحذروا من دعاة الهوى والضلال والبدعة.
من ذلكمما أخرجه الذهبي في الميزان وغيره من كتبه عن عاصم الأحول قال: كنا في مجلس قتادة،فذكر عمرو بن عبيد فوقع فيه، قلت - القائل هو عاصم الأحول - : ما أرى أن يقع أهلالعلم بعضهم في بعض، فالتفت إليّ - الملتفت قتادة - فقال: أما تدري يا أحول أنالرجل إذا ابتدع بدعة يجب أن يذكر ليحذر.
وعلى هذا تتابع الأئمة كذلكم، فإنه مامن زمان ولا مكان يرفع أهل الهوى ودعاة الضلالة ألوية البدع إلا وينبري لها علماءالسنة فيردونها بالدليل.
ومن فروع هذا الأصل أن أهل السنة حينما يردون علىمخالفيهم يردون عليهم:
أولاً: بالعلم الذي يجلي الحق، ويبين ما خالفه، وليس ذلكمن قبيل المهاترات والسباب والشتائم، بل قاعدتهم: قال الله وقال رسوله وقالالصحابة، وهم في ذلكم مقتفون متبعون.
وثانياً: أنهم ليس لهم هدف ولا غرض في هذاالمخالف في ذاته، فلا شأن لهم في طوله وقصره، ونسبه وأوصافه الخلقية، بل إنمايتكلمون في هذا المخالف لما أظهر وقرر وصدع به من إفساد الدين على عبادالله.
ومن هنا بالإضافة إلى ما تقدم من قول قتادة، فإن من نظر في كتب الجرحوالتعديل وجدها ملأى بهذا التشنيع على دعاة الفساد في منهجهم و معتقدهم، فيقولونمثلاً: عمرو بن عبيد قدري معتزلي، ويقولون في واصل بن عطاء: شيخ المعتزلة في زمانه،وفي بشر بن غياث المريسي: رأس فتنة القول بخلق القرآن، وهكذا، فإنهم يتكلمون فيالمخالف لهم من أفراد وجماعات، ومقصودهم بهذا حماية الأمة في دينها، حتى لا يفسدعليها هؤلاء الضالون المضلون ما عرفوه من دين الله - سبحانه وتعالى - وورثوه من شرعمحمد صلى الله عليه وسلممن طريق أصحابه، ثم من طريق أئمة التابعين، ثم من طريق منبعدهم، كالأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المحترمة، والسفيانين، والحمادين، والأوزاعي،والليث بن سعد، وغيرهم من أئمة السنة، فإنهم مجندون أنفسهم للذب عن سنة رسول اللهصلى الله عليه وسلم وعن أهلها، وكذلك يناصرون السنة، ويناصرون أهلها، لا يخافون فيالله لومة لائم، لكن كما قدمت إذا ظهر لهم أن هجر المبتدعة والكلام في رجالبأعيانهم يجلب عليهم مفسدة أكبر، يكتفون برد البدع المحدثة.
الفرع الثاني: الأصلهو هجر المبتدع زجراً له، فلا يكلم ولا يؤاكل ولا يشارب ولا يناكح ولا يجالس، هذاهو الأصل وقد سمعتم الأحاديث في ذلك، فإياكم وإياهم، هذا قول رسول الله صلى اللهعليه وسلم وهذا الهجر موكول إلى العلماء الكبار والأئمة المطاعين، فهم الذين يملكوندعوة العامة والخاصة إلى هجر المخالف، وأما سائر الناس، أفراد الناس، فإنهم لهمالهجر الوقائي، فمن خشي إنساناً يضر به في دينه ودنياه، فله مفاصلته والبعد عنه إلاإذا ترتبت مفسدة، فلو تكلم الشيخ عبد العزيز - رحمه الله - وهو شيخ إسلام، أو الشيخمحمد بن عثيمين - رحمه الله - وهو شيخ إسلام عندنا كذلك معلنا هجر إنسان ما، فإنهيسقط ولا تقوم له قائمة، لما هو معلوم عند الخاصة والعامة، ولا عبرة بمن شذ فيمكانة هؤلاء الأشياخ وعظيم قدرهم، وسابقة فضلهم على أهل الإسلام........................................يتبع
 
النظر في كتب الضلال:
وهاهنا سؤال، وهو ضمن هذا الأصل، وهو النظر في كتب الضلال، ومنها مايسمى اليوم بالكتب الفكرية، فهي صنف من أصناف الكتب المضللة، ما الموقف الذي يجبعلى المسلم حيال هذه الكتب؟
إن هذه الكتب ليست على وتيرة واحدة، لا في محتواها،ولا في أسلوبها، ولا في دعوتها إلى الضلالة، فهي تختلف، ومن هنا كذلك يختلف الناظرفيها، وتحرير هذا، أن كتب هؤلاء الضلال الضالين المضلين أصناف ثلاثة:
أحدها: ماكان محضاً في الضلالة، وليس فيه من الحق شيء أو فيه نزر يسير مغمور بأضعاف مضاعفةمن الباطل، فهذا لا يحل النظر فيه إلا لعالم متمكن، ومقصوده أن يرد على هؤلاءالضلال من كتبهم؛ لأن أهل الضلال لا يقبلون الاحتجاج عليهم إلا ما احتوته كتبأسلافهم وأئمتهم، فلو جلست إلى رافضي فقلت له: قال شيخ الإسلام ابن تيمية، قالفلان، قال فلان، من ذوي المكانة العظيمة عندك لما هو عليه من السنة، فإنهم لايقبلون ذلك، بل من وقاحتهم يقعون في أعراضهم أمامك، لكن حينما تقول لهم: قالالكليني، قال فلان، قال فلان، من أئمتهم، فإنك تقيم الحجة عليهم وتبهتهم، لاسيماحينما تحيلهم إلى الجزء والصفحة، أو تنقل لهم نقلاً تحفظه مع الإحالة.
ومن أمثلةهذا كتب الرافضة المعنية في بيان أصولهم، كالكافي وأصوله للكليني.
الثاني: ماكان خليطاً فيه حق وباطل، وسنة وبدعة، وهدى وضلالة، فهذا الصنف لا يحل النظر فيهإلا لعالم متمكن عنده أهلية لتمييز الحق من الباطل والصحيح من السقيم، والهدى منالضلالة، والبدعة من السنة، فهذا لا بأس عليه، وإن كان استغناؤه بكتب أئمة السنةأولى وأحوط لدينه وعرضه وأسلم له.
ومن أمثلة هذا الكشاف للزمخشري، فإنه يحويالاعتزال المدسوس الماكر، لأنه معتزلي جَلْد، ويدس اعتزاله بما لا يدركه إلاالفطناء النبلاء الحذاق، في كتابه الكشاف، ولهذا قال بعض العلماء: إنا نستخرجإعتزاليات الزمخشري بالمناقيش، والكتاب مفيد في النحو و الصرف، واللغة، والبديع، والمعاني ولذا ينقل منه هذه العلوم كثير من علماء السنة.
الثالث: ما خلا من البدعوالمحدثات؛ لأن صاحبه لا يهمه إلا أنه يؤلف كتاباً لينتفع مادياً فقط، همه أن يؤلفكتاباً يقرأه الناس وهو يستفيد منهم منافع دنيوية، إما حسية وإما معنوية، كأن يؤلففي الزكاة ما يوافق أهل السنة ولم يخلطه بخليط، هذا الأمر فيه واسع، وإن كنا لناموقفان حيال هذا وغيره، فالذي ندين الله به أنه لا يجوز نشر كتب الضلال من أصحابالكتب الفكرية وغيرهم قديماً وحديثاً بين الخاصة والعامة؛ لأن العامة لا يفرقون،ولا يعرفون الناس، فمن نشر بينهم كتاباً فكرياً أو من الكتب القديمة التي ورثتهاالكتب الفكرية اليوم، فإنه يجني على الأمة، ومن ضل بسببه وكان له قصد في ذلك فإنعليه مثل إثمه، وأما الاقتناء فكما سلف بيانه، فإنه يفرق بين الاقتناء والنشر، فأيكتاب يحوي من الضلالة ما يحوي فاقتناؤه بالنسبة لمن يحسن النظر وعنده أهلية التميز،هذا لا بأس به، وإن كان الأولى عدم ذلك، وأما النشر فإن من نشر كتب الضلال، ومنهاالكتب الفكرية اليوم، وعلى رأسها كتب سيد قطب، وكتب أبي الأعلى المودودي، وحسنالبنا، وغيرها من الكتب الفكرية، فإنه يعين على إفساد السنة والإضراربأهلها.
الفرع الثالث: أن من أضر الناس في دينهم أو دنياهم، استحق العقوبة بقدرما يضر الناس به، وبسط هذا عند شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - بعنوان: قاعدة شريفة، ذكر في هذه القاعدة ما يروي الغليل ويشفي العليل من التصدي للمخالفينومعاقبتهم بما يقدر عليه، ونحن لا نقدر إلا على الرد العلمي المؤصل على الكتاب
والسنة، وهذه القاعدة الشريفة في الجزء العاشر من مجموع الفتاوى، وبالتحديد في
صفحة 373، وهذا الأمر مجمع عليه عند أهل السنة، ويظهر لمن تأمل تلكم القاعدة،وكان متجرداً للحق، طالباً له، أن هجر العاصي والمبتدع، ليس له أمد ولا حد، بل أمدهحين يقلع عما هو فيه من معصية أو بدعة.
وهذا من الأدلة عليه:
هجر النبي صلىالله عليه وسلم كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم لما تخلفوا عن غزوة تبوك، هجرهمخمسين ليلة حتى أنزل الله توبتهم، وكان كعب رضي الله عنه يقول( والله ما بي أنأموت أو يموت رسول الله وأنا على تلك الحالة )) خشي رضي الله عنه أن يموت علىالضلالة.
ومن هنا يعلم أن تحديد الهجر مطلقاً بثلاثة أيام خطأ فاحش، وإن قالقائل كيف تصنعون بما أخرجه الشيخان من حديث أبي أيوب رضي الله عنه ( لا يحل لمسلمأن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام )) فالجواب: لقد أبان أئمتنا الجمع بين هذا الحديث، وبين ما دلت عليه قصة كعب وصاحبيهرضي الله عنهم من أن هجر العاصي والمبتدع ليس له أمد حتى يقلع عما هو فيه من معصيةالله.
قال أهل العلم: إن حديث أبي أيوب هو في الهجر في حق الصحبة، فمن عاتب أخاهفإنه لا يزيد في الهجر على ثلاثة أيام.
ونختم هذا الحديث ببيان أمر وإن كان قدسبقت الإشارة إلى بعض أفراده.
هذا الأمر: أنه من قواعد أهل السنة الحكم علىالمخالفة بما يدل عليه الشرع، فما دل الشرع على أنه كفر قالوا هذا كفر، ما دل علىأنه فسق ليس مخرج من الملة قالوا هذا فسق، وما دل على أنه مجرد خطيئة قالوا خطيئة،وكذلك التفريق بين البدع، وأن منها المكفرة، كوحدة الوجود والتجهم والرفض. والمفسقة، كالتمشعر، ومنها ما دون ذلك كالذِّكر الجماعي، وهذا مبسوط في دواوين أهلالسنة التي عنيت بتدوين السنة دعوة إليها، وكذلك تدوين البدع و بيانها، تحذيراًمنها، فأهل السنة لا يجاوزون دلالة الشرع.
ومن قواعدهم أنهم يفرقون بين الفعلوالفاعل، والقول والقائل، فرب خطيئة هي كفرية أو فسقية أو بدعية أو مجرد معصية، ولايحكمون على من صدرت منه هذه الخطيئة بأنه كافر أو مبتدع أو فاسق أو عاصي، لماذا؟لأنه إما لم تجتمع فيه الشروط، أو لم تنتفي عنه الموانع.
ويتبع هذا تفريقهم بينالحكم على سبيل العموم، والحكم على سبيل التعيين، فعلى سبيل العموم مثلاً يقولون: تارك الصلاة كافر، تارك الزكاة بخلاً مع الإقرار بها فاسق، وجاحدها كافر،... وهكذا،وأما تعيين صاحب هذه المخالفة، فإنهم ينظرون فيه إلى أمرين:
الأمر الأول: دلالةالشرع على مخالفته، هل هي كفرية أو فسقية أو غير ذلك؟
الأمر الثاني: انطباقالوصف على المعين هل ينطبق عليه الوصف أو لا؟ وكيف ينطبق الوصف عليه؟ باجتماعالشروط وامتناع الموانع. وهذا له عندهم شروط، منها: التكليف، والتكليف يشمل البلوغوالعقل، ومنها العلم بمخالفته بأنها بدعية أو فسقية أو كفرية.
وهذه الشروط جمع أكثرها شيخ الإسلام الثاني عندنا في هذا العصر، وأعني به الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - في كتابه النفيس النافع الماتع (القواعد المثلى) فمن أراد مزيد التفصيلوالبسط فليراجعه، فسيجد فيه ما يروي الغليل ويشفي العليل - إن شاء اللهتعالى-
هذا ما يسر الله جمعه وتحريره في هذه المسالة.
وصلى الله وسلم علىنبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين.
كتبه عبيد بن عبد الله بن سليمانالجابري
المدرس بالجامعة الإسلامة سابقا

 
أعلى