ولاية المرآة... وحديث أبي بكرة

Fernas

عضو مميز
ولاية المرآة... وحديث أبي بكرة
بقلم: محمد عابد الجابري



بعد الحوار الإذاعي الذي ذكرته في المقال السابق، والذي كان موضوعه تعيين قاضية في قطر عربي، وقد أفتى خلاله أحد المشاركين فيه بعدم جواز ذلك، مستندا إلى حجج لا أصل لها ولا فصل لا في الدين ولا في العقل، بعد هذا الحوار ببضعة أيام أعلن مفتي جمهورية مصر العربية عن جواز رئاسة المرأة للدولة ما دامت الدولة المعنية ليست دولة "الإمامة العظمى" التي تشمل جميع المسلمين. والظاهر أن المفتي بنى فتواه على الواقع التالي، وهو أن الفقهاء اختلفوا في هذه المسألة، ولكن معظمهم يقولون بحصر عدم جواز إمامة المرأة في "الإمامة العظمى" (نقول "معظمهم" لأن هناك منهم من يجيز ذلك). والمفهوم من هذا أن إمامتها تجوز فيما دون الإمامة العظمى، أي في رئاسة الدول القطرية الإسلامية، ما دامت الدولة الإسلامية الجامعة لم تقم بعد.

هذا النوع من التبرير جار على طريقة الفقهاء، بمعنى أنه مستمد من داخل الفقه كما هو موروث. أما إذا أردنا تجاوز هذا الموروث والقيام ببحث جديد فسيكون علينا أن نتكلم عن أبي بكرة ونستأنف فحص الحديث موضوع النقاش.

1- أما الرجل فهو في الأصل من عبيد الطائف: "قيل هو ابن مسروح، مولى الحارث بن كلدة ... وأُمه: سُمية، جارية الحارث بن كَلَدَة أيضاً، وهو أخو زياد بن أبيه لأُمه". وعندما أراد النبي عليه السلام فتح الطائف تحصن أهلها بحصونهم فامتنع على المسلمين اقتحامها، فحاصرها النبي عليه السلام، ونادى : "أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر"، فخرج منهم نحو ثلاثة وعشرون رجلاً، تدلى منهم شخص بحبل معلق في بكرة (حلقة، كما في البئر)، فقيل له أبو بكرة، وقد أعتقه النبي مع زملائه العبيد الذين التحقوا بالمسلمين. وكان ذلك في شعبان من السنة الثامنة للهجرة. ومما يذكر في سيرته أن عمر بن الخطاب جلده في الشهادة على المغيرة بن أبي شعبة بالزنى. كانوا أربعة شهود، منهم أخوه زياد. فلما اختبر عمر هؤلاء الشهود نفى زياد أن يكون قد رأى "المرود في المكحلة" فخلى سبيله، واستتاب عمر الثلاثة الباقين فتاب اثنان ورفض أبو بكرة "فجلده عمر حد قذف"، "وكان لا يقبل شهادته".

2- أما الحديث المنسوب إليه سماعه عن النبي عليه السلام فقد ورد في عدة صيغ:

- في البخاري (4317-6945): "عن أبي بكرةَ قال: «لقد نفَعني اللهُ بكلمةٍ سمعتها من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أيامَ الجمل بعدما كِدتُ أن ألحقَ بأصحابِ الجمل فأُقاتلَ معهم. قال: لما بلغَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن أهل فارسَ قد ملَّكوا عليهم بنتَ كِسرَى قال: لن يُفِلحَ قومٌ ولوا أمرَهُم امرأة». والمقصود بـ "أيام الجمل": الحرب بين طلحة والزبير وعائشة من جهة وعلي بن أبي طالب من جهة أخرى، وكانت عائشة على هودج على جمل فسميت تلك الحرب بـ"حرب الجمل" وقد جرت سنة 36 هجرية. يقول أبو بكرة المتوفى سنة 52 هـ إنه كان على وشك الالتحاق بالطرف المناوئ لعلي بن أبي طالب، والقتال معهم غير أنه تذكر –كما قال- ما سمعه عن النبي(ص) قبل 28 سنة! وهو لم يحدث بهذا الذي سمعه إلا زمن الحسن البصري الذي توفي 110هـ. أي في وقت تجند فيه كثير من رجال الإسلام -الذين قبلوا الوضع الذي فرضه معاوية بعد تنازل الحسن بن علي له- إلى تحذير الناس من الانخراط في الفتن.

- واضح، إذن، أن هذا الحديث ذو مضمون سياسي وبالتالي فنحن نضعه لهذا السبب وحده بين قوسين. على أن مما يستوجب مضاعفة القوسين عليه وروده بألفاظ أخرى تستهدف المرأة استهدافا أكثر مما تستهدف الفتنة. من ذلك ما ورد في مستند ابن حنبل (20068) من أن أبا بكرة قال : "إنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بشير يبشره بِظَفَرِ جندٍ له على عدوّهم، ورأسه في حجر عائشة رضي الله عنها، فقام فخَرً ساجداً، ثم أنشأ يسائل البشير، فأخبره فيما أخبره أنه ولي أمرهم (من هم؟؟) امرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن هلكت الرجال إذا أطاعت النساء، هلكت الرجال إذا أطاعت النساء ـ ثلاثاً ـ».

- وتمتد رواية أبي بكرة عبر الزمان والمكان لتكون مناسبةُ سماعه الحديثَ المذكور شيئا آخر تماما. فقد روي عنه أنه قال: "ذكرتُ بلقيس عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لاَ يُفْلِحُ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأةً».

- ومما يكشف الغطاء عن الطابع السياسي لحديث أبي بكرة حول ولاية المرأة، روايته لأحاديث عديدة ذات طابع سياسي صريح، منها قول الراوي: "كُنْتُ مَعَ أَبي بَكْرَةَ تَحْتَ مِنْبَرِ ابنِ عَامِرٍ وِهُوَ يَخْطُبُ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَقَالَ أَبُو بِلاَلٍ: انْظُرُوا إِلَى أَمِيرِنَا يَلْبَسُ ثِيَابَ الفُسَّاقِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: اسْكُتْ سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: مَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ الله في الأَرْضِ أَهَانَهُ الله". ومنها ما روي عن الأحنف بن قيس قال: ذهبت لأنصر هذا الرجل (علي بن أبي طالب)، فلقيني أبو بكرة فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل، قال: ارجع، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا التقى المسلمان بسيفهما، فالقاتل والمقتول في النار. فقلت: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه". (مسلم 2888). ومنها أن النبي عليه السلام قال بمناسبة شهر ذي الحجة: "فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه". ومنها الحديث الذي يقول فيه النبي، عليه السلام، –حسب رواية أبي بكرة- "لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض".

والواقع أن كثيرا من الأحاديث التي نسبت روايتها إلى أبي بكرة تكتسي طابعا سياسيا واضحا. وقد عبر بعضهم عن هذا الطابع بقوله كان أبو بكرة "يكره الفتنة بين المسلمين، ولا يرى التحرك إليها مع إحدى الطائفتين، بل يؤثر العزلة في هذا". وواضح أن هذه الأحاديث وما أشبهها، بما في ذلك حديث "«لاَ يُفْلِحُ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأةً"، هي من الصنف المعروف بأحاديث الترغيب والترهيب التي يتساهل أهل الحديث فيها، وليست من صنف أحاديث الأحكام التي يتشددون في نقد روايتها وتطبيق مقاييسهم في التعديل والتجريح عليها.

3- هناك جانب آخر يضعف من حديث أبي بكرة عن ولاية المرأة، ويتعلق بمسألة توافق أو عدم توافق تاريخ تنصيب امرأة على عرش فارس مع تاريخ سماع أبي بكرة الحديث موضوع النقاش عن النبي عليه السلام. تجمع مصادرنا على أن المرأة المشار إليها هي بوران دخت BourAn-dokht بنت كسرى أبرويز. وهناك اضطراب كبير في مصادرنا حول تاريخ تنصيبها، فالطبري والبلاذري وابن كثير يتحدثون عنها ضمن أخبار فتح فارس على عهد عمر بن الخطاب في السنة الثالثة عشرة والرابعة عشرة، وبما أنها لم تحكم سوى سنة وأربعة أشهر فإن تنصيبها ملكة سيكون قد تم بعد وفاة النبي عليه السلام (سنة 11)، الشيء الذي يطعن في الصحة التاريخية للحديث موضوع النقاش. على أن هناك رواية أخرى تفيد أنها أدركت النبي حيا وأنها أهدت إليه هدية وقبلها.

هذا بينما ذهب مؤرخون آخرون (الواقدي) إلى أن تاريخ ولايتها كان في شعبان من السنة الثامنة للهجرة. وحسب هذه المصادر فإن أبا بكرة قد التحق بصفوف المسلمين عند حصار الطائف (في شهر شوال من نفس السنة). وهنا تضيق المسافة بين تنصيب بوران وإسلام أبي بكرة لتصبح بضعة أيام. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا سؤال مضاعف: هل وصل خبر تنصيبها إلى النبي عليه السلام خلال هذه المدة القصيرة؟ وهل كان أبو بكرة، المسلم الجديد، خلال تلك الأيام في وضع يمكنه من رواية الحديث عن النبي؟

أمام هذه الشكوك لا يسعنا إلا أن نقرر أن التاريخ لا يحسم في شأن صحة حديث أبي بكرة حول ولاية المرأة. والأهم من هذا كله هو أن موقف القرآن من المرأة لا يزكي من قريب ولا من بعيد حديث أبي بكرة هذا. أضف إلى ذلك أحاديث متعددة ترفع من شأن المرأة ويشهد لها القرآن بالصحة.

يبقى بعد ذلك كله معنى قول بعضهم : أجمع الفقهاء في كل عصر على عدم جواز ولاية المرأة القضاء والإمامة؟

يتعلق الأمر هنا بمعنى قولهم: "أجمع الفقهاء" وبالتالي بمعنى "الإجماع" عند الأصوليين.

 

بوسند

عضو ذهبي
شكرا لك أخي فرناس على نقل هذا المقال ..


يبقى بعد ذلك كله معنى قول بعضهم : أجمع الفقهاء في كل عصر على عدم جواز ولاية المرأة القضاء والإمامة؟

يتعلق الأمر هنا بمعنى قولهم: "أجمع الفقهاء" وبالتالي بمعنى "الإجماع" عند الأصوليين.

[/SIZE][/FONT][/RIGHT]


هنا توقف الجابري عند عقبة الإجماع و لم يستطع الإفلات منها ..

و يبدو لي أن هناك عقبة أخرى ..

و هي ..

اتفاق اهل السنة على عدالة الصحابة ..

بمعنى أن يستحيل على صحابي تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه و سلم ..

!!
 

IMSE

عضو فعال
مع احترامي لشخص هذا الكاتب فهو بكل تأكيد لم يكون أفضل من علماء الحديث و علماء الرجال و على رأسهم العلامة الألباني رحمهم الله جميعا، و أنا متأكد إن الأمور التي ذكرتها لم تكن لتفوت عليهم. فلنرى ما قالوا هم في هذا الحديث:
خلاصة الدرجة: صحيح - المحدث: البخاري - المصدر: الجامع الصحيح - الصفحة أو الرقم: 7099

خلاصة الدرجة: احتج به ، وقال في المقدمة: (لم نحتج إلا بخبر صحيح من رواية الثقات مسند) - المحدث: ابن حزم - المصدر: المحلى - الصفحة أو الرقم: 9/360

خلاصة الدرجة: صحيح من غير طريق مبارك عن الحسن - المحدث: ابن القيسراني - المصدر: ذخيرة الحفاظ - الصفحة أو الرقم: 5/2726

خلاصة الدرجة: [أشار في المقدمة أنه صحيح الإسناد] - المحدث: عبد الحق الإشبيلي - المصدر: الأحكام الصغرى - الصفحة أو الرقم: 482

خلاصة الدرجة: إسناده صحيح أو حسن - المحدث: ابن حجر العسقلاني - المصدر: فتح الباري لابن حجر - الصفحة أو الرقم: 13/60

خلاصة الدرجة: صحيح - المحدث: الزرقاني - المصدر: مختصر المقاصد - الصفحة أو الرقم: 813

خلاصة الدرجة: صحيح - المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم: 2262

خلاصة الدرجة: صحيح على شرط البخاري - المحدث: الوادعي - المصدر: الصحيح من دلائل النبوة - الصفحة أو الرقم: 177
 

Fernas

عضو مميز
هنا توقف الجابري عند عقبة الإجماع و لم يستطع الإفلات منها ..

!!

أهلاً عزيزي بو سند

لي عودة اليوم مساءاً للتعقيب على مداخلتك. ولكنني أتركك الآن مع هذا النقل أدناه.

فرناس
 

Fernas

عضو مميز
الإجماع ... سلطة السلف والتقليد
بقلم: محمد عابد الجابري​



جميع ما ذكرناه في المقالات السابقة من الشك في إمكان قيام الإجماع ظل سائدا في جميع العصور الإسلامية، منذ قيام البحث الأصولي مع الشافعي، على الأقل، إلى اليوم. وكان الشك في إمكان قيامه يرجع –وما زال- إلى صعوبة بل استحالة اجتماع جميع مجتهدي الأمة الإسلامية للتداول في مسألة لا نص فيها والإفتاء فيها بحكم شرعي. وفضلا عن أن المواصلات لم تكن تسمح بذلك، فإن المشكلة تبقى مطروحة على مستويين: مَن سيتولى جمع المجتهدين في الأمة الإسلامية وهي دول لا دولة واحدة، وكيف يمكن تجاوز المذهبية الفقهية، خصوصا المرتبطة منها بميدان العقيدة (السنة، الشيعة، الخوارج ...)!

يمكن أن يتصور المرء –كما فعل المرحوم محمد الخضري- أن يطلب "إمام المسلمين" الفتوى ممن تحقق "من استكماله الشروط التي تلزم في المجتهد"، وذلك "بأن يجمعهم في حاضرته فيسألهم عما يريد، أو بأن يكتب إلى كل منهم فيستطلع رأيه، ويكون ذلك بطريقة يقتنع بها الجمهور ويعتمد صحتها فيتلقاها عنهم". ومع أنه اقترح هذا التصور عام 1905، والخلافة العثمانية ما تزال قائمة اسميا على الأقل، مما يجعل إمكانية تحقيق هذا الاقتراح قابلا للتطبيق، من جهة وجود "إمام للمسلمين" نظريا على الأقل، فإنه لم يفُتْه أن ينبه إلى أن الإجماع بهذا المعنى لم يقم به السلف، ولم يحصل في أي عصر من عصور الإسلام. يقول: "للسلف عصران متمايزان: أولهما عصر الشيخين أبي بكر وعمر بالمدينة : المسلمون أمرُهم جميعٌ، وفقهاؤهم معروفون، وإمامهم شورى لا يستبد دونهم بالفتوى ويمكنه استطلاع آرائهم جميعا فيسهل أن نتصور إجماعهم. ويبقى السؤال، وهو: هل أجمعوا فعلا على الفتوى في مسألة عرضت عليهم وهي من المسائل الاجتهادية؟ ويمكن الجواب على ذلك بأن هناك مسائل كثيرة لا يعلم فيها خلاف بين الصحابة في هذا العصر، وهذا أكثر ما يمكن الحكم به. أما دعوى العلم بأنهم جميعا أفتوا بآراء متفقة والتحقق من عدم المخالف فهي دعوى تحتاج إلى برهان يؤيدها. أما بعد ذلك العصر، عصر اتساع المملكة الإسلامية وانتقال الفقهاء إلى أمصار المسلمين ونبوغ فقهاء آخرين من تابعيهم لا يكاد يحصرهم العد، مع الاختلاف في المنازع السياسية والأهواء المختلفة، فلا نظن دعوى وقوع الإجماع إذ ذاك مما يسهل على النفس قبوله، مع تسليم أنه وجدت مسائل كثيرة في هذا العصر أيضا لا يعلم أن أحدا خالف في حكمها" (الخضري ص 278).

وإذن فـ "الإجماع" في حقيقته التاريخية يرجع في نهاية التحليل إلى القول إنه : "كانت هناك مسائل كثيرة لا يعلم فيها خلاف" بين السلف. وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك فعلا، فمن أين استمد هذا "الأصل" كل تلك السلطة التي يعطيها له الأصوليون والتي أبرزنا بعض مظاهرها في المقالين السابقين؟

الواقع أن الجواب الحقيقي عن هذا السؤال يكمن في نوع تلك السلطة نفسها. لقد كان الأصوليون جميعا يعلمون ويؤكدون أن العصر الوحيد الممكن قيام الإجماع فيه، بصورة من الصور، هو زمن الصحابة. ومع ذلك فقد تحدثوا عن الإجماع وكأنه يقع فعلا في كل عصر، كما طرحوا مسائل تتعلق بعلاقة إجماع أهل عصر بإجماع أهل عصر آخر، فكان منهم من اشترط في صحة الإجماع في عصر انقراض أهل العصر السابق الذين أجمعوا، وكان منهم من قال بعدم جواز الإجماع على فهم أو تأويل أو حكم يخالف الفهم والتأويل والحكم الذي وقع عليه إجماع سابق الخ (انظر المقال الأول في هذه السلسلة).

تلك مسائل تنتمي إلى "الفقه النظري" والجدل "الكلامي" (نسبة إلى علم الكلام). هذا واضح، ولكن واضح كذلك أنها تعبر مباشرة عن سلطة تَحكمُ العقلَ الذي يطرح مثل هذه المسائل ويناقشها وينظر فيها ملتمسا الحلول لها! وليس هناك من اسم يمكن إطلاقه على هذا النوع من السلطة غير "سلطة السلف"! وليس المقصود هنا سلفا معينا، بل أي سلف، لأن المسائل التي طرحها الأصوليون لم تكن تتعلق بعصر معين، كعصر الصحابة، بل لقد اهتموا أكثر بالعلاقة بين إجماع أهل عصر بإجماع أهل عصر آخر لاحق، دون تحديد. وبالتالي فالمقصود بـ "سلطة السلف" هنا هو: سلطة جميع العصور السابقة، سلطة الماضي، سلطة " العادة" بتعبير الغزالي ...

ولعل هذا ما جعل بعض كبار الفقهاء ممن كانت ظروفهم تمكنهم من التحرر من "سلطة السلف"، كابن حزم مثلا، يشنون هجوما صريحا وقاسيا على هذا النوع من "الكلام في الإجماع".

يرى ابن حزم أن "الإجماع" لا يكون إلا عن نص، إذا كان المقصود اعتباره أصلا من أصول التشريع. "وذلك النص إما كلام منه عليه السلام فهو منقول ولا بد محفوظ حاضر، وإما فعل منه عليه السلام فهو منقول أيضا، وإما إقراره، إذ علمه فأقره ولم ينكره فهو أيضا حال منقولة محفوظة" (الإحكام ج4 ص131). وأما الإجماع الذي يقول به معظم الأصوليين وهو"أن يجتمع علماء المسلمين على حكم لا نص فيه، لكن برأي منهم أو بقياس منهم على منصوص"، فهذا في نظر ابن حزم "باطل"، ولا يمكن البتة أن يكون إجماع من علماء الأمة على غير نص من قرآن أو سنة" (نفسه 129)، لأن مثل هذا الإجماع إذا تحقق، فإنه "لا يخلو من أربعة أوجه لا خامس لها: إما أن يجمعوا على تحريم شيء مات رسول الله (ص) ولم يحرمه، أو على تحليل شيء مات رسول الله (ص) وقد حرمه، أو على إيجاب فرض مات رسول الله (ص) ولم يوجبه، أو على إسقاط فرض مات رسول الله (ص) وقد أوجبه. وكل هذه الوجوه كفر مجرد و"إحداث دين بُدِّل به دين الإسلام" (نفسه 139). ثم يضيف موضحا معنى الإجماع عنده فيقول : "إن أحكام الدين كلها من القرآن والسنن لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما وحي ثبت في المصحف وهو القرآن، وإما وحي غير مثبت في المصحف وهو بيان الرسول (ص)". وبناء على ذلك فالإجماع قسمان: إجماع متيقن وهو ما لا يشك فيه أحد من أهل الإسلام وهو يخص ما هو منصوص عليه من العبادات كالصلاة والصيام والزكاة والمعاملات كمسائل الإرث وتحريم أكل الخنزير الخ، وإجماع الصحابة على شيء سمعوه عن النبي أو شهدوه يفعله أو عرفه عنهم من لم يشاهد النبي. "فهذان قسمان للإجماع لا سبيل أن يكون الإجماع خارجا عنهما" (150).

وواضح أننا هنا أمام فهم خاص للإجماع يتجاوز جميع المناقشات والخلافات التي شغلت الأصوليين بصدده من قبل. فالإجماع عند ابن حزم هو الإجماع المنقول عن النبي، وبعبارة أخرى "لا إجماع إلا عن توقيف" أي إلا على ما وقف عليه الصحابة من النبي.

وبنفس المنطق يرفض ابن حزم أيضا "التقليد". وبذلك ينسف مفهوم الإجماع من أساسه، باعتباره قائما على سلطة السلف كما بينا. بل إنه يذهب في هذا الميدان مذهبا بعيدا عن "المألوف" فيحرم تقليد الأئمة أصحاب المذاهب الفقهية والكلامية، يقول : "لا يحل لأحد أن يقلد أحدا، حيا ولا ميتا، وكل أحد له من الاجتهاد حسب طاقته"، وحتى الرجل العامي لا يحل له أن يقلد المفتي، ولا يجوز القول بأن الشريعة تسمح بذلك بل إن "من ادعى (جواز) تقليد العامي للمفتي فقد ادعى الباطل، وقال قولا لم يأت به نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، وما كان هكذا فهو باطل لأنه قول بلا دليل" (نفسه ج1 ص 66-67). وهكذا فإذا طلب العامي من المفتي حكم الله في مسألة من المسائل فإن على هذا الأخير أن يعرض عليه ما هو منصوص عليه في الشرع مما يتصل بتلك المسألة، ثم يطلب منه أن يجتهد بنفسه في طاب الحكم الذي ينشده. على ابن حزم لا يمنع تقليد العامي للمفتي فحسب بل يمنع تقليد أئمة المذاهب أيضا. يقول : "وليعلم كل من قلد صاحبا (من الصحابة) أو تابعا (من التابعين) أو مالكا أو أبا حنيفة أو الشافعي أو سفيان أو الأوزاعي أو أحمد (= ابن حنبل ) أو داوود (=الأصبهاني ) رضي الله عنهم، أنهم يتبرءون منه في الدنيا والآخرة" (ج1 ص100).
 

Fernas

عضو مميز
إستكمالاً لقضية "الإجماع" والذي طرحة الزميل بو سند أود أن أضيف هذا النقل أيضاً ولنفس المؤلف.

فرناس



قراءة سياسية لأصل "الإجماع"
بقلم: محمد عابد الجابري​



انتهينا في المقالات السابقة إلى أن ما يؤسس مبدأ الإجماع كـ"أصل للتشريع" هو سلطة السلف والتقليد، أي ما عبر عنه أبو حامد الغزالي بـ "العادة". والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو التالي : من أين جاءت سلطة السلف هذه وما طبيعتها؟

يقول علال الفاسي، وهو من أبرز رجال "السلفية الجديدة" في المغرب، في معرض رده على الذين طعنوا في إمكان قيام الإجماع، يقول : "والحقيقة أن الإجماع ذو أصل أصيل في الدين". وآيات القرآن وأحاديث النبي صريحة في مشروعية العمل بما وقع عليه الإجماع من المؤمنين. ولكن استعمال الإجماع بعد وفاة النبي (ص) في تثبيت طريقة اختيار الخليفة وفي طريقة الحكم الشورى هو الذي شكك الشيعة ومن انحدر منهم من المعتزلة في أمر الإجماع وحجيته. فحينما توفي النبي (ص) ولم يخلف وصية بمن يخلفه أدت الروح الإسلامية المبنية على التشاور بين المؤمنين إلى قيام الأمة بواجبها في حفظ النظام وحماية البيضة، فاجتمع العارفون في السقيفة وتبادلوا الرأي والدليل، وأجمعوا بعد ذلك أمرهم على مبايعة أبي بكر، ثم وقع إجماع الأمة على قبول ما فعلوه وصار الصدّيق خليفة للرسول غير منازع من أحد (…). وهكذا نجد أن الإجماع أدى أعظم خدمة للإسلام، إذ فتح باب الاجتهاد والشورى وسهل مواصلة العمل الذي قام به عليه السلام. ولكن العصر الأول كان يمتاز بالتشاور في كل ما لا نص فيه، فكان أهل الحل والعقد يشتركون في وضع أسس تاريخية واجتماعية لمصدر الإجماع الشرعي. فلما انحرف المسلمون عن نظام الخلافة والشورى واقتبسوا من الفرس نظاما يقوم على أساس الحكم المطلق الوراثي، الأمر الذي أثار كثيرا من الانتقاد الذي أعلنه المجتهدون وقادة المسلمين، فكان لا بد من تقييد النظر لحماية السلطة المطلقة الصاعدة، وقد أصاب ذلك، فيما أصاب، فكرةَ الإجماع الحقيقية كما فهمها المسلمون الأولون، وأَحدَث حولها خلافا بَعُدَ بها عن محيطها الأصلي. فالإجماع كما يتحدث عنه منذ القرن السادس عبارة عن اتفاق الناس في كل بقعة من بقاع الأرض، وذلك بالطبع ما لم يفهمه المسلمون الأولون وما لا تدل عليه نصوص الكتاب والسنة" (علال الفاسي. مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها. ص115-116).

نحن هنا أمام ثلاثة أفكار رئيسية :

1) إن الإجماع ولو أنه "أصل أصيل في الدين" (لم يقل أصل من أصول الدين)، فإن أمره يرجع تاريخيا إلى حادثة سياسية، وهي اجتماع الصحابة لاختيار خليفة للنبي عليه السلام بعد وفاته.

2) إن العصر الأول، عصر الصحابة، عصر بناء الدولة الإسلامية، قد امتاز بالتشاور في كل ما لا نص فيه، وأنه من خلال عملية التشاور هذه "كان أهل الحل والعقد يشتركون في وضع أسس تاريخية واجتماعية لمصدر الإجماع الشرعي"، بمعنى أن "الإجماع" كأصل من أصول التشريع إنما يجد مصدره في التاريخ والمجتمع، لا في أي شيء آخر، وأنه إنما يعني من الناحية العملية: التشاور في كل ما لا نص فيه.

3) إن تحول الحكم في الإسلام بعد "العصر الأول" إلى "الحكم المطلق الوراثي" قد أدى إلى "تقييد النظر" والقضاء على "التشاور" وبالتالي على المضمون الحقيقي لفكرة الإجماع.

لا شك أننا هنا أمام تأويل موضوعي تاريخي لنشأة فكرة "الإجماع" وتطورها، ولا نظن أحدا من المفكرين يعارض اليوم النتائج السياسية التي يفرضها هذا التأويل والتي يعبر عنها علال الفاسي نفسه حينما يدعو الدول الإسلامية "أن تجعل من أنظمتها الديمقراطية الحديثة سبيلا لبعث الشورى الإسلامية وتحقيق معنى الإجماع الإسلامي لأول مرة". ويصيف : "إن الاستبداد الذي أصاب نظام الحكم الإسلامي هو الذي حول التطور في تنظيم الشورى والإجماع إلى مجادلات فارغة في حجية الإجماع وإمكان وقوعه وعدم ذلك" (نفسه 117-118).

إن هذا يعني، بعبارة أخرى، أن كل المناقشات والخلافات والاعتراضات التي عرفها تاريخ الفقه الإسلامي حول "الإجماع" كانت نتيجتها الملموسة، ولربما الوحيدة، هي تمييع فكرة الإجماع وبالتالي إقرار الاستبداد. ولا يعني هذا أن الفقهاء قد أرادوا ذلك واختاروه، بل إن تغلب الاستبداد و"انقلاب الخلافة إلى ملك عضوض" كما يقولون، هو الذي أدى إلى ذلك.

هذه القراءة السياسية قد يقبلها المؤرخ فضلا عن السياسي. غير أن الباحث الإيبيستيمولوجي (الفاحص لأسس المعرفة) لا يستطيع أن يقف عند حدود القبول، بل هو يتساءل ويتفحص ويستنتج. وفي هذا الصدد لا بد من القول إن تمييع فكرة الإجماع لفائدة الاستبداد في "الحاضر"، حاضر الفقهاء في كل عصر وجيل، قد جعل الأنظار تتجه بـ "الإجماع" إلى الماضي، إلى "السلف" لتجعل منه ليس فقط المؤسس لـ "الإجماع" كـ "أصل" تشريعي، بل أيضا كخاصية لـ "المدينة الفاضلة" التي مورس فيها وحدها. والنتيجة هي استبداد "مدينة السلف"، هذه المتخيلة، بعقول الفقهاء، مما أضاف إلى الاستبداد الجائر القائم في "الحاضر" استبدادا آخر "فاضلا" ماضيا، فكان الاستبداد الذي عانى منه العقل البياني استبدادين : استبداد الحكام بالسياسة، واستبداد السلف بالمعرفة، ومن دون شك فإن الوقوع في الثاني إنما كان بسبب الهروب من الأول، بسبب عدم القدرة على مواجهته والتصدي له.

ونحن إنما قلنا "العقل البياني" ولم نقل "العقل الفقهي" لأن سلطة "الإجماع" قد امتدت إلى الحقول البيانية الأخرى من نحو وبلاغة وكلام ...

لنستعرض بعض مظاهر هذه السلطة" خارج التفكير الفقهي لنر إلى أية درجة كان هذا "الأصل"، وربما ما يزال، من أقوى السلطات المرجعية في الحقل المعرفي البياني ككل.

لقد تبنى علماء العربية، من لغويين ونحويين وبلاغيين، الهيكل الصوري لـ"علم أصول الفقه" فجعلوا من النص (=السماع، النقل) والإجماع والقياس، الأصول الثلاثة الأساسية في علوم اللغة، كما جعلوا، شأنهم في ذلك شأن الأصوليين الفقهاء، من الاستحسان والاستصحاب الخ، أصولا مكملة. وهكذا فبالنسبة لـ "الأصل" الذي يهمنا هنا -الإجماع- نجد ابن جني الذي كان من أكبر "المتكلمين"، في أصول النحو يعقد بابا بعنوان : "باب القول في إجماع أهل العربية متى يكون حجة" يقول فيه : "اعلم أن إجماع أهل البلدين (الكوفة والبصرة) إنما يكون حجة إذا أعطاك خصمك يده ألا يخالف المنصوص والمقيس على المنصوص. فأما إن لم يعط يده بذلك فلا يكون إجماعهم حجة". ومع أن ابن جني يربط العمل بـ "إجماع أهل العربية" بموافقة "الخصم" (صاحب الرأي المخالف)، على التقيد بالنص وما قيس عليه، فإنه يعود فيجعل سلطة الجماعة -جماعة النحاة- ملزمة في كل الأحوال. يقول : "إلا أننا مع هذا الذي رأيناه وسوغناه لا يسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة التي طال بحثها وتقدم نظرها وتتالت أواخر عن أوائل، وأعجازا عن كلاكل" (ابن جني، الخصائص،. ج1. ص 189).

واضح أن ابن جني يؤكد هنا على عدم جواز مخالفة "إجماع" النحويين، وهو المقصود بـ "الإجماع"، عندما يتعلق الأمر بالإجماع في العربية. وهذا مأخوذ من علماء أصول الفقه الذين ناقشوا المسألة وقرروا أن المقصود بـ"الإجماع" هو إجماع "المجتهدين" وليس إجماع عامة الناس. ويؤكد ابن جني هذا المعنى في سياق آخر: جواز أو عدم جواز الاقتداء بالنحويين -أي تقليدهم مثلما يقلد الناس المجتهدين في الفقه- فيقول : "ولما كان النحويون بالعرب لاحقين، وعلى سمتهم آخذين، وبألفاظهم متحلين، وبمعانيهم وقصودهم ملمين، جاز لصاحب هذا العلم (…) أن يرى فيه نحوا مما رأوا ويحذوه على أمثلتهم التي حذوا، وأن يعتقد في هذا الموضوع نحوا مما اعتقدوا في أمثاله" (ج1. ص 189 ).

نعم هناك من النحاة من استغنى عن "أصل الإجماع"، غير أن احتفاظهم بالأصول الأخرى جعل فكرة "الإجماع" التي حاولوا إخراجها من الباب تعود إليهم من النافذة. فأبو البركات ابن الأنباري الذي جعل أصول النحو ثلاثة لا غير: نقل، وقياس، واستصحاب حال، (لمع الأدلة في أصول النحو)، لم ينتبه –ربما- إلى أن مفهوم "استصحاب الحال" يحمل نفس المعنى الذي فسر به الغزالي فكرة "الإجماع" : معنى العادة.

***

وبعد، فيقول مثل مغربي، ولعله عام، "معزة ولو طارت"، وأصل هذا المثل أن رجلين في الصحراء رأيا حيوانا أسود بعيدا عنهما، فقال أحدهما هو: غراب، بينما قال الآخر: بل هو معزة. وتشاحنا وتعصب كل لرأيه. ولما طار ذلك الحيوان واتضح أنه غراب، قال الرجل الآخر: "معزة ولو طارت". فصار مثلا.

نحن لسنا من هذا النوع من البشر. كل ما نريد هو تجنب الوقوع في الخلط بين المعزة والغراب بسبب السواد، ويما بسبب ضعف البصر كذلك. ولذلك قلنا في مستهل المقال الأول من هذه المقالات حول الإجماع ما يلي: "غرضنا في هذا المقال -وفيما يليه في الموضوع نفسه- هو إلقاء بعض الأضواء على مفهوم "الإجماع" كما ناقشه العلماء الأصوليون، عسى أن تُـنبِّه هذه "الأضواء" من يحتج بـ "الإجماع"، من غير المختصين وعن غير علم، إلى ضرورة عدم التسرع في الاحتجاج به لإثبات حكم أو نفيه".

عدم التسرع معناه: عدم الاستسلام للعادة، أقصد العادة الفكرية التي تحكمها "الأفكار المتلقاة" التي وصفناها في مقال سابق بأنها "عوائق معرفية". والمبتلون بالعوائق، مهما كانت، معذورون على كل حال.
 

Fernas

عضو مميز
أسئلة الإجماع
بقلم: محمد عابد الجابري​



غرضنا في هذا المقال -وفيما يليه في الموضوع نفسه- هو إلقاء بعض الأضواء على مفهوم "الإجماع" كما ناقشه العلماء الأصوليون، عسى أن تُـنبه هذه "الأضواء" من يحتج بـ "الإجماع"، من غير المختصين وعن غير علم، إلى ضرورة عدم التسرع في الاحتجاج به لإثبات حكم أو نفيه.

معروف أن الإمام الشافعي قد تصدى لمعالجة حالة الفوضى في الإفتاء وإبداء الرأي التي خلفتها الفتن التي عرفها المجتمع الإسلامي منذ مقتل عثمان، فكتب رسالته الشهيرة وضع فيها ضوابط لفهم "بيان القرآن"، وحصر أصول التشريع في الإسلام في خمسة: القرآن والسنة والإجماع والقياس. وإذا كان القرآن والسنة يحملان معهما حُجِّيَّتَهما (عبارة أطيعوا الله وأطيعوا الرسول تتكرر في القرآن) فإن الإجماع والقياس لا يحملان معهما ما يبرر اتخاذهما أصلين للتشريع، ولذلك كان لا بد من إثبات حجيتهما شرعا. وقد بذل الأصوليون، منذ الشافعي إلى اليوم، جهودا كبيرة من أجل تقنينهما وضبطهما، ولكن النتيجة في نهاية الأمر كانت وما تزال جملة من الآراء، مختلفة ومتشعبة ومتضاربة.

- لقد اختلفوا في تعريفه، وفي تأسيسه (=إثبات حجيته، أي كونه أصلا)، وفي قبوله، وفي إمكان انعقاده، وفي كيفية حصوله، وفي تحديد زمنه الخ… وهكذا فمنهم من منح "الإجماع" من القوة الإيبستيمولوجية، قوة التأسيس على الصعيد النظري، ما لم يمنحوه لأي "أصل" آخر، بل لقد أسسوا عليه جميع الأصول الأخرى. و"الإجماع" كما يقول الغزالي "أعظم أصول الدين" وكيف لا يكون كذلك وهو "الذي يحكم به على كتاب الله تعالى وعلى السنة المتواترة "(المستصفى ج1، ص 167): فالقرآن كما هو بين أيدينا اليوم وكما كان في كل عصر من العصور الإسلامية الماضية، هو نفسه القرآن كما جاء به الرسول، لا تغيير ولا تحريف، دليل ذلك "إجماع الصحابة"، على صحة وكمال المصحف الذي تم جمعه وإقراره بصورة نهائية كنص وحيد في عهد عثمان. فلولا هذا الأصل -الإجماع- لما أمكن تأسيس صحة النص القرآني المتداول بين الناس تأسيسا أصوليا. وكذلك الشأن في "السنة المتواترة"، فالتواتر، في الحديث أو في غيره من الأخبار، إنما يؤسسه الإجماع: اتفاق عدد كبير من الناس لا يتصور اجتماعهم على الكذب.

أما بالنسبة لقوة الإجماع فهي واضحة من المرتبة التي خصه الشافعي بها إذ جعله الثالث بعد القرآن والسنة، وقبل القياس (الاجتهاد) الذي وضعه في المرتبة الأخيرة. وهذا يعني أن الإجماع هو الذي يؤسس الاجتهاد. وقد اعتمد الأصوليون هذا الترتيب عندما أرادوا إثبات حجية الاجتهاد وذلك لأنهم لم يجدوا سبيلا إلى ذلك غير "الإجماع" ("إجماع" الصحابة على الاجتهاد واستعمال القياس). وكما يؤسس الإجماع الاجتهاد يحكمه أيضا. ذلك أن سلطة الإجماع لا تقف عند حدود تأسيس "النص" تأسيسا أصوليا، بل تتعدى ذلك إلى مضمونه. فليس ما أجمع عليه السلف من القراءات والروايات هو وحده الصحيح، بل إن ما أجمعوا عليه على صعيد الفهم والمعنى هو وحده الصحيح كذلك. ذلك أن الإجماع "كما يكون (…) على حكم في واقعة يكون على تأويل نص أو تفسيره وعلى تعليل حكم النص وبيان الوصف المنوط به" (عبد الوهاب خلاف ص 53-127). ومما يتبين منه أهمية "الإجماع" عند الأصوليين قول بعضهم إن الإجماع "حجة غير قابلة للنسخ"، باعتبار أن النسخ إنما يتصور بنص من كتاب أو سنة، والحال أن الوحي والسنة قد انقطعا بوفاة الرسول.

هذا من الناحية النظرية. أما في مجال التطبيق فـ"الإجماع حول الإجماع" يتحول إلى آراء مختلفة متعارضة وأحيانا متناقضة.

- من ذلك اختلافهم حول تحديد علاقة الإجماع الذي قد يتم في عصر، حول مسألة من المسائل، بالإجماع الذي قد يحصل في المسألة نفسها في العصر أو العصور التالية. وهكذا فبما أنهم يتصورون "الإجماع" في الغالب على أنه "اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر على حكم شرعي"، فقد طرحوا مسألة جواز أو عدم جواز قيام إجماع في عصر من العصور التالية يخالف ما سبق أن أجمع عليه أهل العصور السابقة، فـذهب كثير منهم إلى أن إجماع أهل كل عصر حجة على من بعدهم، بينما قال الظاهرية : إجماع الصحابة وحده حجة دون غيرهم من إجماع أهل العصور التالية. أما الإمام مالك فقد نقل عنه "أن إجماع أهل المدينة وحده حجة"، فلم يوافقه معظم الأصوليين وقد رد عليه الغزالي بأن المدينة لم تجمع "جميع العلماء لا قبل الهجرة ولا بعدها، بل مازالوا متفرقين في الأسفار والغزوات والأمصار" (المستصفى ج 1 ص 187)، وبالتالي فالإجماع ليس مخصوصا بهم.

- ولم يقف الأصوليون عند التساؤل عن جواز قيام إجماع يخالف إجماعا سابقا بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فتساءلوا: هل يمكن قيام إجماع في عصر ما حول مسألة معينة، بعد أن استقر الخلاف حولها في العصر السابق؟ قال الإمام مالك والأشعري والغزالي والجويني بعدم جواز ذلك (فواتح الرحموت على هامش المستصفى ج 2، ص 226). وإلى هذا الرأي ذهب المعتزلة كذاك : يقول أبو الحسين البصري "اعلم أن أهل العصر إذا اختلفوا في المسألة على قولين متنافيين فإنه يتضمن اتفاقهم على تخطئة ما سواهما، فلا يجوز لمن بعدهم إحداث قول آخر" (المعتمد في أصول الفقه، ج 2، ص 505)..

- وأكثر من ذلك ذهب بعضهم إلى الحكم بمنع "اتفاق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول"، وقد برر بعضهم ذلك بأنه "لو جاز أن يجتمع أهل العصر الثاني على خلاف ما اجتمع عليه الأولون من جواز الأخذ بكل واحد من الرأيين، لجاز اتفاق أهل العصر الأول على قول، واتفاق أهل العصر الثاني على قول خلافه، فلا يستقر إجماع" (نفسه، ج 2، ص 517 - 519 ).

- أما مسألة ما إذا كان من الجائز إحداث تأويل جديد لنص من النصوص أو لدليل من أدلة الشرع، بعد "إجماع" على تأويل معين، فالرأي السائد هو أن ذلك لا يجوز إلا بشرطين : "الأول أن لا يكون ملغيا لما أجمع عليه -من التأويل- والثاني ألا يكون السلف قد نصوا على بطلان التأويل الثاني، فإذا فقد أحد الشرطين لم يجز" (الخضري، أصول الفقه، ص 266 ).

- ومن المسائل التي أثاروها ما اصطلحوا على تسميته بـ "الإجماع السكوتي"، وذلك كأن يقول أحد المجتهدين برأي في مسألة ويسكت الباقون فلا يعترضون عليه. وقد اختلف الأصوليون في ذلك : "ومحل النزاع أن يكون السكون قبل استقرار المذاهب وأن تمضي مدة التأمل بعد الفتوى أو القضاء وأن لا يكون هناك خوف يمنع الساكت من إبداء رأيه. وأكثر الحنفية يعتبرون الإجماع السكوتي هذا إجماعا قطعيا يعمل به في كل مجال، بينما رفضه الشافعي وكثير من المتكلمين"، وقال الجبائي إنه إجماع بشرط أن ينقرض العصر الذي ظهر فيه هذا الرأي" (نفسه ص267). وفي هذه المسألة بالذات، مسألة "انقراض العصر"، نجد من يقول بأن الإجماع لا يعتبر إلا بعد انقراض العصر الذي تم فيه.

تلك بعض المسائل التي أثارها الأصوليون حول علاقة الإجماع بالزمن، علاقة إجماع محتمل في عصر، بإجماع محتمل في عصر تال. وإنما قيدنا حديثنا هنا عن الإجماع بـ"الاحتمال" لأن حديث الأصوليين فيما سبق كان مبنيا على افتراض أن معنى "الإجماع" معروف ومحدد ومتفق عليه. في حين أن الأمر خلاف ذلك. فقد قال الإمام مالك إن "الحجة في إجماع أهل المدينة فقط" كما ذكرنا قبل، وذهب داود وشيعته من أهل الظاهر إلى أنه لا حجة في إجماع من بعد الصحابة" (المستصفى ج1، ص189)، كما ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى أبعد من ذلك فأعلن أن "من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس قد اختلفوا"، وقال: كيف يجوز للرجل أن يقول: «أجمعوا؟». إذا سمعتهم يقولون: «أجمعوا» فاتهمهم. وقال الأولى أن يقال: "ما أعلم فيه اختلافاً». (أعلام الموقعين. ج2 ص 498). أما النظام المعتزلي الذي انفرد بآراء خاصة فلا غرابة، بعد الذي ذكرنا، إذا عارض في حجية الإجماع، بدعوى أنه عبارة عن كل قول قامت حجته وإن كان قول واحد" (المستصفى ج 1، ص 173)، بمعنى أنه ليس هناك إجماع للفقهاء أو المجتهدين، وإنما الإجماع هو تسليم الجميع بكل قول يستند إلى تبرير شرعي صحيح. وفي هذا قلب للمواقع، كما لا يخفى: فبدلا من جعل الإجماع حجة على صحة الرأي، تصبح صحة الرأي هي التي تستدعي الإجماع.

ولما كان الأمر كما ذكرنا فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو التالي: لماذا التمسك بمقولة "الإجماع" وما الذي يمنح هذه المقولة ما لها من سلطة على العقول؟
 
أعلى