روايات

النهايات عبدالرحمن منيف

إنه القحط.. مرة أخرى!
وفي مواسم القحط تتغير الحياةوالأشياء, وحتى البشر يتغيرون, وطباعهم تتغير, تتولد في النفوس أحزان تبدو غامضةأول الأمر, لكن لحظات الغضب, التي كثيرًا ما تتكرر, تفجّرها بسرعة, تجعلها معادية, جموحًا, ويمكن أن تأخذ أشكالاً لا حصر لها. أما إذا مرَّت الغيوم عالية سريعة, فحينئذ ترتفع الوجوه إلى أعلى وقد امتلأت بنظرات الحقد والشتائم والتحدِّي!
وحين يجيء القحط لا يترك بيتًا دون أن يدخله, ولا يترك إنسانًا إلاَّ ويُخلّففي قلبه أو في جسده أثرًا. وإذا كان المسنّون قد تعودوا, منذ فترة طويلة, لفرط مامرَّ بهم من أيام قاسية, على سنوات المُحْل وعضّة الجوع, وكانت المخاوف تملأ قلوبهمحين يفكّرون فيها, فالكثيرون غيرهم لا يقدرون على مواجهتها بالتصميم نفسه, لأنالكميات القليلة من الحبوب التي توضع جانبًا, بإصرار قوي أول الأمر, لتكون زادًا فيأيام الجوع لا تلبث أن تتسرّب أو تختفي, كما يتسرّب ماء النبع أو كما يجفّ المجرى. وتبدأ بعد ذلك محاولات البحث المضني عن خبز اليوم, وخلال هذا البحث تتراكم الأحزانوالمخاوف لتصبح شبحًا مرعبًا تظهر آثاره في وجوه الصغار, وفي سهوم الرجال وشتائمهم, وفي الدموع الصغيرة التي تتساقط من عيون النسوة دون أسباب واضحة!
إنَّه القحطمرة أخرى. وها هو ذا يسوق أمامه أشياء لا حصر لها, ولا يعرف أحد كيف تتجمع هذهالأشياء وكيف تأتي. فالفلاحون الذين كانوا يحملون سلال البيض وينزلون بها إلى أطرافالمدينة, ويتجرأون بعض الأحيان ويصلون إلى وسط الأسواق المليئة بالبشر, والرعاةالذين كانوا يأخذون أجر سنة كاملة بضعة خراف, وكانوا يسوقونها في بداية فصل الربيع, ومعها الحملان الصغيرة, وكانوا يضعونها على صدورهم لأنها ولدت لتوّها, لكي يبيعوهافي المدينة, ثم أولئك الباعة الماكرون الذين يحملون على دوابهم العنب والتينوالتفاح, ويحملون موازينهم البدائية ومعها قطع الحجارة المصقولة التي تعوّدوااستعمالها أوزانًا, ويبالغون أول الأمر في الأسعار التي يطلبونها إن كل هؤلاء إذاجاءوا في مواسم القحط يجيئون بهيئات مختلفة شديدة الغرابة: كانت ملابسهم ممزقةوغريبة الألوان, وعيونهم مليئة بالحزن والخوف, أمَّا أصواتهم القوية الصاخبة فكانتتنزلق إلى الداخل, وبدلاً عنها تخرج من الصدور أصوات غير واضحة, حتى إنهم كانوايضطرون إلى إعادة ما يقولون بضع مرات, بناء على الأسئلة الفظة التي يوجّهها لهمأصحاب الدكاكين في المدينة, والذين لم يكونوا ينظرون إلى وجوه هؤلاء الناس قدر ماينظرون إلى الأيدي أو إلى تلك الصرر الصغيرة المربوطة بإحكام في أطراف الملابس التييضعونها على أجسادهم أو على رؤوسهم. كان هؤلاء إذا جاءوا في مثل هذه السنين لايبيعون البيض والفاكهة والزيتون والخراف, وإنما يحاولون شراء أقصى ما تسمح بهنقودهم القليلة من الدقيق والسكر. حتى الرعاة الذين كانوا شديدي النزق ويبالغون فيالمقابل الذي يطالبون به ثمنًا للخراف, وكانوا يفضّلون العودة مرة أخرى ومعهمدوابهم, دون شعور بالأسف لأنهم لم يبيعوا ولم يشتروا حتى هؤلاء يتحولون في مثل هذهالسنة إلى رجال متردّدين متوسّلين, لأنهم يريدون التخلص من الدواب الضعيفة المسنّة, إذ أصبحوا يخافون خوفًا حقيقيًّا أن تموت بين لحظة وأخرى من الجوع والعطش.
أماالباعة الذين تعوّدوا المجيء في كل المواسم, حاملين من كل موسم ثماره, وفي بعضالأحيان للتجول والفرجة, فلم يعُد أحد يراهم يحملون شيئًا في هذه المواسم, وكأنَّهممجموعة من القنافذ تكورت وهرّبت أشياءها إلى باطن الأرض!
لو اقتصر الأمر علىهذه المظاهر لما أثار استغرابًا, لأنَّ العلاقة بين المدينة وما يحيط بها هي منالقوة والاستمرار بحيث لا يمكن لأحد أن يميّز بسرعة التغير المفاجئ الذي أخذ يتكون, لكن مع تلك المظاهر كانت أشياء أخرى كثيرة تحصل. فالتجار الذين تعوّدوا على تقديمالقروض الصغيرة للفلاحين, واستيفائها أضعافًا مضاعفة في المواسم, اتخذوا موقفًا, بدا, أوّل الأمر, مليئًا بالشروط والتعنت, ثم ما لبثوا أن امتنعوا
تمامًا, وافتعلوا لذلك أسبابًا وخصومات. أما الذين استمروا في تقديم بعض المساعدات, فقدرفضوا أن يكون سدادها في المواسم القادمة, وأصرّوا على شروط جديدة. أصرُّوا على أنتسجّل أقسام كبيرة من الأراضي التي يمتلكها الفلاحون بأسمائهم وأسماء أبنائهم, وفيمحاولة لإثبات حسن النية قالوا الكلمات التي يقولها الدائنون دائمًا: (الدنيا حياةوموت, والإنسان لا يضمن نفسه في اليوم الذي يعيش فيه, فكيف يضمن حياة أولاده الصغاربعد موته?). كانوا لا يكتفون بذلك, كانوا يضيفون: (وكما قال الله عزَّ وجل في كتابهالكريم: إذا تداينتم بدَيْن إلى أجل مسمًّى فاكتبوه ولْيكتُبْ بينكم كاتبٌ بالعدل
والفلاحون الذين قابلوا إصرار هؤلاء الدائنين بإصرار أقوى, ورفضوا تسجيلالأراضي, أول الأمر, اضطر الكثير منهم إلى استخراج الحليّ الذهبية والفضيَّةالقديمة, والتي جمعت خلال فترات طويلة سابقة, وقدّموها عوضًا من الطحين والسكر وبعضأمتار من الخام. وفي وقت آخر وافق بعضهم على التنازل وقدّم الأراضي والبساتين التيطلبها الدائنون. ومع كل صفقة جديدة كانت أثمان الأرض في القرى تتراجع, وكان التجاريزدادون تصلبًا ولا يوافقون إلاَّ بشروطهم, وبعد أن تتم جميع الإجراءات!
ومعالقحط تأتي أشياء أخرى أيضًا: تأتي الأمراض الغامضة, وتعقبها الوفيات. كان الكباريموتون من الحزن, والصغار تنتفخ بطونهم وتصيبهم الصفراء ثم يتساقطون. وإذا كانالناس قد تعوّدوا على الموت, ولم يعد يخيفهم كما كان الأمر في أوقات أخرى, برغم أنهيتسبب كل الأوقات في تفجير آلاف الأحزان والأحقاد القديمة, فإنَّ حالة أقرب إلىالانتظار اليائس كانت تحوم فوق كل بيت وتسبح في دم كل مخلوق. حتى الدواب في حواكيرالبيوت, أو في أطراف البساتين, كانت تسيطر عليها حالة من العصبية واليأس.
وفيهذي السنين, ومع الجوع والموت, تأتي أفواج لا حصر لها من الطيور. ومثلما كانتالغيوم الخفيفة العالية تمرّ مسرعة, كذلك كانت الطيور. فقد كانت أفواجها تعبر في كلالأوقات, حتى في الليل العميق, عالية صائتة, وكأنَّها ذاهبة إلى الموت أو إلى مجهوللا تعرف متى أو أين سيكون.
كان الناس ينظرون إلى الطيور نظرة مليئة بالحزنوالأسى. تمنوا لو كانت قريبة, أو لو تتوقف قليلاً, لعلهم يظفرون بعددٍ منها يعوّضهمعن الجوع الذي يهدّهم, لكن الطيور تواصل طيرانها المتعب لعلّها تصل إلى مكان ما. والناس لا يتوقفون عن النظر والحسرة, ويتوقعون شيئًا ما, لكن هذا الشيء لا يحصلأبدًا, لأن أسراب الكركي والوز البري, وعشرات الأسراب من الطيور الأخرى واصلترحلتها المجهدة دون توقّف. أما أسراب القطا والكدري فقد بدأت تظهر بين فترة وأخرى. والفلاحون الذين تعلموا أن هذا النوع من الطيور لا يترك أماكنه الصحراوية, ويقتربمن المناطق المزروعة, إلاَّ إذا عضّه الجوع وأضناه العطش. ولم تعد واحات الصحراء أوالخوابي المتناثرة في أماكن عديدة تحوي قطرة ماء, فقد لاحظوا أن هذه الطيور بدأتتتخلى عن الحذر والخوف, أول الأمر, مدفوعة بغريزة البقاء, فتندفع إلى أي مكان لعلهاتلتقط بضع حبات أو قطرات من الماء.
إنَّها المأساة نفسها تتكرّر مرة أخرى أمامعيون الفلاحين, وهم قد تعوّدوا الصبر والانتظار, وتعوّدوا أكثر من ذلك أن يبدواالتشاؤم والتحفظ, وكانوا يردّدون إذا سئلوا عن المواسم والزراعة: (المواسم لا تعنيالأمطار التي تأتي فقط, وإنما أمور أخرى كثيرة). فإذا حصلت لجاجة في السؤال كانوايختصرون كل شيء بالكلمات التالية: (المواسم تعني ما يقسمه الله وما يتركه الطير), لأنهم في أعماقهم يخافون كل شيء, يخافون انحباس المطر في الشهور التي يجب أن يسقطفيها, أما إذا جاء مبكرًا ونما الزرع وارتفع شبرًا أو شبرين عن الأرض, فكانوايخافون أن يأتي مطر غزير بعد ذلك الانقطاع, وعندها تغرق الأرض وتنمو الأعشابالطفيلية ويفسد أو يقلّ الموسم. فإذا جاء المطر هيّنًا متفرقًا, وفي الأوقات التييجب أن يأتي فيها, فإنَّ الخوف يظل حتى الأيام الأخيرة من أيار, حين تشتد الحرارةفجأة وتحرق كل شيء, فتخيب الآمال وتتراجع الوعود التي أعطاها الرجال للنساء بأثوابجديدة, وللفتيان الذين تجاوزوا سن البلوغ وأصبحوا يطمحون إلى الزواج إن جاءتالمواسم الجديدة بالخير. إن هذه الوعود تتراجع يومًا بعد آخر لأن (الشوبة) جاءتوقضت على كل شيء!
إنَّ أحدًا لا يحب أن يتذكر أيام القحط. أما إذا جاءت قاسيةجارفة, وإذا تكرر مجيئها سنة بعد أخرى, فالكثيرون يفضّلون الموت أو القتل ثم الرحيلعلى هذا الانتظار القاسي, وآخرون يندفعون إلى حالة من القسوة والانتقام لا يتصورهاأحد فيهم, بل ويستغربها هؤلاء الناس أنفسهم في غير هذه الأوقات, وفي غير هذهالظروف. وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن ينتقم من الغيوم أو ممّن يرسلها, فلا بدَّأن تكون هناك ضحايا من نوع آخر. فالأزواج الذين أبدوا من السماحة الشيء الكثير, ولميتعودوا الشتيمة أو الضرب, كانوا مستعدين لأن يغيّروا هذه العادات بسهولة, ودونشعور بالذنب. كانوا لا يتردّدون في أن يضربوا ويصرخوا لأتفه الأسباب. والذين كانوايبدون المرح ويظهرون التفاؤل, يتحولون فجأة إلى رجال قساة بوجوههم وتصرفاتهم. وحتىأولئك الذين كانوا شديدي الإيمان ويَعدّون كل ما تأتي به السماء امتحانًا للإنسان, لا يلبثون أن يصبحوا ضحايا وأكثر الناس شتيمة وتجديفًا, حتى ليستغرب مَن عرفهم منقبل كيف كان هؤلاء الناس يخزنون في صدورهم هذا المقدار الهائل من الشتائم والأفكارالخاطئة المحرمة!
هكذا كان القسم الأكبر من الناس في تلك السنة القاسيةالطويلة. وإذا كان لكل قرية ولكل مدينة في هذا العالم ملامحها وطريقتها في الحياة, ولها أسماؤها ومقابرها, وإذا كان لكل قرية ومدينة مخاتيرها ومجانينها, ولها نهرهاأو نبع الماء الذي تستقي منه, وفيها مواسم الأعراس بعد الحصاد, فقد كان للطيبةأيضًا حياتها وطريقتها في المعاش, وكان لها مقبرتها وأعراسها, وكان في الطيبةمجانينها أيضًا. لكن هؤلاء المجانين لا يظهرون دائمًا ولا يتذكرهم الناس في كلالأوقات, وإن كان لهم حضورهم وجنونهم الخاص, بحيث كانوا كبارًا وأقوياء في أوقاتمعينة, وكانوا حمقى وشديدي الغرابة في أوقات أخرى.
وكان للطيبة دائمًا أعراسهاوأحزانها. كانت الأعراس, في أغلب الأحيان, بعد الحصاد, وكانت الأحزان حين ينقطعالمطر وتمحل الأرض. وإذا كانت الأعراس تعني بعض الناس, ولبعض الوقت, فإنَّ الأحزان, وفي سنوات المحل, تعني جميع الناس, وتمتد فترة طويلة.
الطيبة مثل أي مكان فيالدنيا, لها أشياؤها التي تفخر بها. قد لا تبدو هذه الأشياء خطيرة, أو ذات أهميةبالنسبة لأماكن أخرى, لكنها بالنسبة للطيبة جزء من الملامح التي تميزها عن غيرها منالضيع والقرى. وهذه الأشياء تكوَّنت بفعل الزمن, وبفعل الطبيعة القاسية, كما لميحصل في أماكن أخرى. فإذا كانت الأصوات العالية تميز سكان عدد كبير من القرى, حتىلتبدو أصوات الفلاحين عالية الجرْس صلبة المخارج, وبعض الأحيان سريعة, وتتخللهامجموعة من الحِكَم والأمثال, كما هي العادة لدى الكثير من الفلاحين في أنحاء عديدةمن العالم, نظرًا للعادة وللمسافات التي تفصل الناس بعضهم عن بعض في الحقول, أو حينيضطرون للمناداة على الحيوانات الضالة, أو على تلك التي تذهب بمزاجها الغريب إلىأماكن بعيدة أو مجهولة, أو ربما للبعد الذي يفصل البيوت بعضها عن بعض, وما يحيط بهامن الحواكير والبساتين الصغيرة التي تزرع فيها أنواع عديدة من الخضراوات - فإن هذهالأسباب, وغيرها كثير, خلقت طبيعة معينة, وجعلت الناس في الطيبة يتكلمون بطريقةخاصة, حتى ليظن مَن يسمع الحديث ولا يفهم طبيعة الناس أو علاقاتهم, أنَّهميتعاركون, أو أن الخلاف بينهم وصل إلى درجة من الحدة, لا بدَّ أن تعقبه أمور أخرى!
لو اقتصر الأمر في الطيبة على ذلك لما عني شيئًا, خاصة بالنسبة للفلاحين أوالذين يعرفون طبائعهم. لكن إذا ترافق مع ذلك النسق الخاص من الحديث الذي تعوّده أهلالطيبة, حيث يلجأون في أكثر الأحيان إلى الاستطراد والتذكر, ويسرفون في رواية القصصوالتاريخ, فإنه لولا هذه الصفة لما ظهرت تلك الطبيعة الخاصة, ولما ظهرت تلك الخشيةالتي تميّز البشر في ذلك المكان, وما يحيط به من قرًى وضياع, وقد تصل إلى المدينة, أو بعض أطرافها أيضًا!
كان أهل الطيبة يعرفون كيف يديرون الحديث بتلك الطريقةالعجيبة التي تجعل الأمور ذات أهمية شديدة. وهذه الميزة التي يتوارثها الأبناء عنالآباء, تجعلهم في نظر الكثيرين نوعًا خاصًّا من الناس, وتجعلهم أكثر من ذلك قادرينعلى التأثير في الآخرين, وربما إقناعهم. ولا يمكن تفسير هذا الأمر على أنه ضرب منالاحتيال أو التملُّق, كما لا يمكن أن
 
يُعَدّ دليلاً على نزعة شريرة, ولكنها العادةبتكرارها الدائم, ثم تلك الليالي الطويلة, ليالى السمر والأحاديث السائبة, ثمالتحديات, وما تجرّ إليه, وليالى الصيف أو الشتاء, في البيادر أو إلى جانب النبع, وحول المواقد. لقد كانت الأحاديث تجري سريعة شجيّة وأقرب ما تكون إلى الحلم. وكانالذين لا يحسنون المشاركة في أحاديث من هذا النوع, لا يلبثون أن يصبحوا بشرًامختلفين إذا وُجدوا بين أناس آخرين, عندئذ يبدأون بإعادة ما سمعوا ويردّدون القصصالتي رويت في الطيبة, ثم يضيفون إليها ما شاؤوا من الخيال, فتبدو وكأنَّها أقرب إلىالذكاء والمهارة, فتثير من الإعجاب بمقدار ما تثير من الحسد.
وابن الطيبة, كبيرًا كان أم صغيرًا, يعرف كيف يسمع, وإن كان الصغار, بشكل خاص, أكثر قدرة علىالإصغاء, ولربما ردَّدوا فيما بينهم أو في أنفسهم, ما سمعوا مرات كثيرة, حتى تترسخفي الذاكرة الأشياء فلا تضيع ولا تنسى, يضاف إليها أفكار وأمثال تَرِد عفو اللحظةوتمليها الظروف
الطارئة التي يواجهونها. إنَّهم يلجأون إلى ذلك كله لكي تبدوأحاديثهم أكثر تشويقًا وأكثر أهمية!
والطيبة التي تعتمد على المطر والزراعة, وعلى ذلك الشريط الضيق من الأرض الذي ترويه العين, تحسّ في أعماقها خوفًا دائمًا أنتأتي سنوات المُحْل. وإذا كانت تستعد لذلك بحرص شديد, بتربية بقرة أو اثنتين في كلبيت, وبتربية عدد من رؤوس الغنم, فإنَّها في سنوات المحل لا تستطيع أن تطعمأبناءها, ولذلك تسرف فيما تعطي للرعاة, وتحاول أن تتخلص من الدواب الباقية بذبحهاأو بيعها. وبرغم أن عدد الرعاة في الطيبة أقل بكثير من القرى الأخرى, فإنَّ رُعاتهامن البراعة بحيث يحسدهم الكثيرون, فالراعي الذي يسرح بغنم عشرة بيوت, ويعرف كيفيتصرف في كل الفصول, وإلى أين يذهب- هذا الراعي, برغم غيابه الطويل في الفلاة, يظهرفجأة في سنوات المحل, ويمتلك دالّة على أصحاب الغنم السابقين, بحيث ينام ويقوم فيأي بيت يريد دون شعور بالحرج أو التردُّد. أمَّا المزايا الخفية التي يمتلكهاالرعاة ولا تظهر للناس في المواسم الجيدة فلا تلبث أن تظهر في سنوات القحط. فهميرابطون في مداخل القرية, ويتحوّل قسم منهم إلى الصيد, لكن العادات التي اكتسبوهافي الرعي لا تفارقهم. وأهل الطيبة الذين يمتازون بقدرة خارقة على الحديث, يدركون أنالرعاة فقدوا هذه الميزة لكثرة ما عاشوا مع الحيوانات في البراري, لكنهم يعرفون كيفيستطيع هؤلاء أن يتجاوزوا الصمت بتلك الأغاني العجيبة التي يردّدونها في الفلاة, ويعرفون أيضًا كيف يستعملون تلك الآلات الخشبية, والتي لا يحسن استعمالها غيرهم, فيمواسم الأعراس والحصاد, وربما في حالات الحزن أيضًا.
بهذه الطريقة, وبمعرفةالأماكن التي تعيش فيها الحيوانات, يصبح الرعاة في مواسم الجفاف أُناسًا لا غنىعنهم, لكنهم في أغلب الأحيان لا يتقنون الصيد, وليست بينهم وبين الصيادين مودة. فهملا يتخلون عن الغناء أو عن تلك الآلات الشيطانية, كما يحبّ المسنون أن يسمّوها, ويحتالون كثيرًا من أجل إبداء براعتهم في كل الأوقات, خاصة إذا تجمع الناس, وكانتهناك ضرورة من نوع ما!
الطيبة بداية الصحراء. من ناحية الشرق البساتين والنبعوالسوق بعد ذلك, وعند الأفق, تبدأ سلسلة الجبال. ومن ناحية الشمال والغرب تمتد سهولفسيحة, يتخلّلها بين مسافة وأخرى بعض الهضاب. وهذه السهول تزرع بأنواع كثيرة منالحبوب. كانت تزرع بالحنطة والشعير والكرسنة والبرسيم وبعض أصناف البقول, وفيالأماكن القريبة من البلدة ترتفع مساكب الخضرة, قريبًا من الأشجار المثمرة. أما منناحية الجنوب فكانت الأرض تشحب تدريجيّا, وتخالطها الحجارة الكلسية, وتبدأ تُقفِرذراعًا بعد آخر حتى تتحول في بداية الأفق إلى كثبان رملية, وبعد ذلك تبدأ الصحراء.
في المواسم الجيدة تخضرّ الطيبة وتعبق من كل جهاتها, وتمتلئ بالورد والنباتاتالعجيبة الألوان والأشكال في بداية الربيع. حتى الجهة الجنوبية التي تبدو في أواخرالصيف متجهمة قاسية, لا يعرف الإنسان ولا يستطيع أن يفسر كيف كانت قادرة على أنتقذف من جوفها كل هذه الكنوز, وكيف كانت تشد أهل الطيبة في بداية الربيع لكي يذهبواأفواجًا لالتقاط الثمار العجيبة المخبوءة في بطن الأرض, وما يخالط ذلك المهرجان منالذكريات عن أيام كانت فيها الحياة أكثر روعة وخصبًا. إن هذه البلدة تتصف بمزاياوصفات ليست متاحة لكثير من القرى المجاورة. حتى الرعاة الأغراب الذين كانوا يحلمونبالوصول إلى المراعي الخصبة, لا يجرؤون على الاقتراب كثيرًا من مراعي الطيبة, ولايتجاوزون حدًّا معينًا, لأنهم يعرفون طباع أهل الطيبة وما يتّصفون به من حدة, وماقد يرتكبونه من حماقات إن اعتدى غريب على رزقهم أو حياتهم.
هذه الأمور يعرفهاويتصف بها كل من عاش في الطيبة, ويعرفها أيضًا الذين عاشروا أهلها. وإذا كانت بعضالقرى قادرة على أن تقذف من جوفها أبناء كثيرين, وترميهم في أنحاء الأرض كلها, وتفقد بعد ذلك كل صلة بهم, فإنَّ الطيبة تختلف كثيرًا, لأنها تولّد في نفوس أبنائهاحنينًا من نوع لا ينسى. وحتى الذين سافروا وابتعدوا كثيرًا, كانوا يردّدون دونانقطاع اسم الطيبة, ويحنون إلى أيامها الماضية, ويتمنون لو عادوا إليها ذات يومليعيشوا ما تبقَّى لهم من العمر. والذين لا يذهب بهم التفكير والخيال هذا المذهب, كانوا يفكّرون في العودة إليها بين فترة وأخرى, وهناك يقضون أيامًا جميلة, ويتذكّرون كل ما حصل في سنوات سابقة, ويمرون على كل البيوت, ويجلسون في مقهى السوقومقهى النبع, ويعبّون الهواء بقوة وشهوة لعله يمنحهم قوة تمكّنهم من مواجهة الأيامالمقبلة والاستمرار في الحياة الجديدة التي بدأوا يحيونها في أماكن أخرى!
وإذاكان الناس يفضلون, في بعض الأوقات, تذكّر الأيام الجميلة من الماضي, فإنَّ الأيامالقاسية يصبح لها جمال من نوع خاص. حتى الصعوبات التي عاشوها تتحول في الذاكرة إلىبطولة غامضة, ولا يصدقون أنهم احتملوا ذلك كله واستمروا بعد ذلك!
هذا الوفاءالذي يكنّه أهل الطيبة لبلدتهم لا يقتصر على شيء دون غيره, ولا يقتصر على المقيمينوحدهم, فالذين سافروا طلبًا للرزق أو الدراسة, وعاشوا في أماكن بعيدة, لا يكتفونبأن يرسلوا الطحين والسكر والرسائل وبعض الحاجات الأخرى إلى البلدة. إنهم يأتونلقضاء وقت غير قصير في الطيبة أيضًا, خاصة بعد أن يعجزوا عن إقناع أقربائهم بالسفرإليهم.
صحيح أن هذه الفترات التي يقضونها في الطيبة تسبّب لهم ألمًا عميقًا, وتولد في النفوس أحزانًا لا يعرفون كيف يكتمونها, خاصة حين يرون المياه وهي تشحّوتكاد تنقطع من النبع, ويرون المجرى وقد جفَّ, ثم يتملكهم شعور بالاختناق حينيسمعون أصوات الفؤوس وهي تهوي على الأشجار الجافة. فإذا أضيفت إلى ذلك أخبار الذينرحلوا وغيَّبتهم الأرض من الأصدقاء والأقرباء, الصغار والكبار, فإنَّ الحزن يتحوّلإلى حالة عصبية, ويأخذ الحديث مجرى جديدًا. يبدأ القادمون, برغم صغر سنهم, يلومونالكبار, ويوجهون لهم كلمات التقريع:
- قلنا لكم مئات المرات: هذه الأرض لا تطعمحتى الجرذان, وأنتم, هنا, تتشبثون بها, وكأنَّها الجنة. اتركوها, ارحلوا إلىالمدينة, هناك يمكن أن تجدوا حياة أفضل من هذه الحياة التي تعيشونها ألف مرة!
وحين يصمت المقيمون, خاصة من المسنّين, ويتطلّعون بحزن إلى وجوه الذين يتكلمون, يتراءى لهم, للحظات, أنهم لم يروا هذه الوجوه, ولم يعرفوها من قبل. ويتراءى لهم فيلحظات أخرى أن الكلمات التي يسمعونها قالها أناس غيرهم, أو أن المدينة أفسدتهمتمامًا وجعلتهم يتكلمون مثل هذا الكلام. وتمتد في أذهان المسنين صور لا نهاية لها, صور الطيبة في كل الفترات, حين كان العشب ينبت على الصخور وعلى سطوح المنازل, وحينكانت الينابيع تتفجر من كل مكان, كانوا يتذكرون ذلك ويعبّون أنفاسًا عميقة وكأنَّهميتنفسون رائحة الخصوبة تتولد من كل الكائنات, ليس من البشر وحدهم, وإنما أيضًا منالحيوانات والجماد. يتذكرون كل شيء, ويتذكرون أكثر مذاق الأطعمة التي كانوايأكلونها فيتحرّك اللعاب في أفواههم!
وبرغم أن الأبناء الذين هجروا الطيبة منذوقت طويل, واستقرّوا في المدينة البعيدة, لا يعنون ما يقولونه تمامًا, أو لا يقصدونإليه, فإنَّ تلكالصعوبات التي كثيرًا ما تتكرر, تحملهم على أن يقولوا كل شيء, وتحملهم أكثر على أن يفكروا بهذه الطريقة. ومع ذلك, وبالرغم منه, فإنَّ هؤلاء فيمواطنهم الجديدة لا يكفّون عن ذكر الطيبة, والحديث عن مزايا موهومة لا تتمتع بها أيبلدة أخرى في المنطقة كلها. كان هؤلاء الأبناء لا يكتفون بالحديث, فإنَّ تعلقهمبالطيبة يدفعهم في حالات كثيرة, وفي لحظات الشوق المذكِّرة, لأن يفعلوا أشياء لاحصر لها ولا تخطر ببال: كانوا يقيمون أفراحهم في الطيبة, يجدّدون هذه الأفراح فيالطيبة, يبعثون أبناءهم خلال فصول الصيف, لكي يعيشوا مثلما عاشوا حين كانوا صغارًا. وحين تأخذهم النشوة يدعون أصدقاءهم لقضاء بضعة أيام في هذه البقعة الرائعة: (فيالطيبة السماء قريبة, شديدة الصفاء, والليالي هناك مليئة بنشوة لا تجدونها في أيمكان آخر من هذا العالم. أما الفواكه, أما الألبان, كالجبنة حين تكون طازجة, والزبدة حين تقطف, والدجاج والخراف الصغيرة وهي تشوى على نار الحطب... أما هذهالأشياء وأخرى وغيرها في الطيبة, فلا يمكن أن يكون لها مثيل. ثم هناك الصيد. الصيدوفير, فالحَجَل والأرانب, وحتى الحيوانات المتوحشة التي انقرضت في معظم البقاع, يمكن أن توجد في بعض الأودية العميقة المحيطة بالطيبة. والينابيع الغزيرة, إنالينابيع, إذا كانت أمطار تلك السنة وفيرة, تتفجّر من شقوق الأرض, وتتدفّق من تحتكل صخرة. ومياه هذه الينابيع باردة نقية, حتى إن الإنسان لا يشبع حين يشرب من تلكالمياه).
هكذا كانت الأحاديث تجري. أما إذا جاءت فاكهة الطيبة إلى المدينة, فيسلال صغيرة, فكان هؤلاء الأبناء لا يملّون أبدًا من تقليبها والنظر إليها. كانوايفضلون أن يقدّموها إلى ضيوفهم, وأن يتحدثوا عنها. أما إذا جرى الحديث عن أجبانالمدينة وألبانها, فكثيرًا ما كانت وجوه هؤلاء الأبناء تتغير, تمرق مثل ومضات خاطفةمظاهر القرف والذكرى في وقت واحد, ويتصورون للحظات أنهم غير قادرين على أن يتذوّقواشيئًا من الطعام غير ذاك الذي يأتي من الطيبة!
أشياء كثيرة تتولّد في النفوس, في نفوس المقيمين والراحلين, وهذه الأشياء من التداخل والتعقيد بحيث لا يستطيع أحدأن يفسرها.
صحيح أن الطيبة, مثل أماكن أخرى كثيرة, شحيحة الأرض, قليلة المياه, لكن فيها شيئًا يجذب الإنسان ويشدّه إليها شدّا محكمًا. وإذا بدأ المسنّون الحديث, في السهرات الطويلة خلال الصيف, فإنَّهم يتحدثون بلغة تروق كثيرًا لهؤلاء الذينأتوا من المدينة. (قبل سنين كثيرة كانت الجبال المحيطة بالطيبة خضراء مثل البساتين, لكن الأتراك, وهم يبنون سكة الحديد, ثم وهم يسيّرون القطارات, لم يتركوا شجرة إلاَّوقطعوها. كانوا يريدون أخشابًا, ولا يهمّهم من أين. والأشجار التي لم يستطيعواالوصول إليها, التي كانت في المعاصي وفي قمم الجبال, أحرقوها وهم يرحلون. أماالجبال التي ترونها عارية الآن من المدينة البعيدة وحتى الطيبة, فقد رأيناها خضراءحين كنا صغارًا. كان الفارس يضيع في الغابات الكثيفة التي تملأ السهول القريبة منالطيبة).
مثل هذه الأحاديث توقد في الأذهان صورًا لا نهاية لها, وأبناء الطيبةالذين سمعوها مرات كثيرة, كان يروق لهم أن يدفعوا المسنين لاستعادتها مرات ومرات, خاصة وهم يستقبلون ضيوفًا من المدينة. كانوا يريدون, بطريقة غامضة, أن يثبتوا ميزةخاصة لبلدتهم. وهذه الميزة, وإن كانت لا تظهر بالوضوح الذي يشتهون في الوقت الحاضر, فإنَّها تكمن في مكان ما, ولا بدَّ أن تظهر. ويضيفون بمكر وغموض: (ليس هناك أفضل منأن يقضي الإنسان أيامه الأخيرة في هذه البلدة المباركة). وبالمكر نفسه, يدفعونالمسنّين لأن يتحدّثوا عن الأعمار. وهذا الحديث الذي يروق لبعض الرجال, كان يزعجالنساء ويدفعهن إلى المقاطعة, وبعض الأحيان إلى الاستفزاز, لكن لا يكاد الحديث يأخذمجرى جدّيًّا مرة أخرى, حتى يتحدث المسنّون عن نقاوة الهواء وعذوبة الماء, ويتحدثواعن فوائد النوم المبكر واليقظة المبكرة, ثم نوع الأكل الذي يأكلونه, ويعزون الأمراضالجديدة والموت المبكر والمفاجئ, الذي يداهم المدينة, إلى مجموعة من الأسباب لميألفوها ولم يسمعوا بها من قبل!
وأحاديث السهر تبدأ دون منطق وبلا نظام, وقديتخللها بعض الألعاب البريئة. وتلك الأمور تجري عفوًا للحظة, وبلا تخطيط سابق. ومهما تشعّبت وتباعدت, ومثلما بدأت بالغابات والأشجار والينابيع, فلا بدَّ أن يجريالحديث أيضًا عن أيام القحط والصعوبات التي عاشتها الطيبة خلال تلك السنين. وإذاكانت اللذة والأيام الرائعة المليئة بالخصب تحرّك المشاعر, فإن المصاعب التي عاشهاالبشر وتغلبوا عليها تحرك مشاعر أخرى, مشاعر تزخر بالقوة وبعظمة من نوع خاص, حتىأبناء الطيبة الذين سمعوا هذه الأحاديث مرات كثيرة, يلذّ لهم أن يسمعوها من جديد, وفي كل مرة تبدو لهم جديدة مليئة بالبطولة والعبر: (كنا نأكل الأعشاب وجذورالنباتات. كنا نأكل الجرابيع. حتى الجراد الذي كثيرًا ما كان يأتي في سنوات المحل, أو الذي يسبّب المحل, كنا نأكله. صحيح أن الحياة آنذاك كانت في منتهى القسوةوالصعوبة, لكن الرجال في تلك الأيام كانوا رجالاً, كانوا أقوياء وقادرين علىالاحتمال والصبر, وكانوا قادرين على أن يأكلوا الصخر. أما رجال هذه الأيام...). ويبتسم بعض المسنّين, ويتذكر الآخرون. وينظرون بعضهم في وجوه بعض, وبعضهم في وجوهأبنائهم, ثم في وجوه الضيوف!
هذا جزء مما تعنيه الطيبة في ذاكرة أبنائها. أماإذا جاء القحط فلا يبقي أحد من أهل الطيبة, سواء كان يعيش فيها أو كان بعيدًا عنها, إلاَّ ويحس بمرض من نوع ما, ولا يلبث هذا المرض أن يتحول إلى هاجس ثم إلى كابوس. وبرغم أن الأبناء البعيدين لا يحتاجون إلى مَن يحرّضهم لكي يجيئوا أو يبعثوا إلىالبلدة بكل ما يستطيعون, فإنَّ هذه المساعدات لا تقوي على مواجهة الكرب والوقوف فيوجه المصائب التي تتوالى بسرعة. فحين يبدأ النبع يتراخى والساقية تضمر, ثم تجف فينهايتها, يصبح المجرى مثل حيّة ماتت لتوّها وبدأت تتخلى عن قشرتها. وفي هذه الأوقاتتبدأ الأشجار بالذبول, ثم الجفاف. كانت أشجار المشمش أولى الأشجار التي تموت, ثمتبدأ بعد ذلك الأشجار الأخرى. وتبور مواسم الجوز والزيتون, وتصبح الطيبة كالحةقبيحة, ويغلب عليها لون الصفرة. ومن ناحية الجنوب, بدل الفقع والكماء والحميضوالأنواع الكثيرة من الفطر, تبدأ عواصف الرمال تهبّ لتغطي كل شيء, وتخيّم على سماءالطيبة موجة من الغبار الممرض, وتتكاثر أفواج الذباب والغربان على الفطائس وعلىبقايا البراز, وتتحوَّل الأصوات إلى دويّ مكتوم ينذر بشؤم ما. وفي هذه السنين لابدَّ أن يموت عدد كبير من الناس. ولا بدَّ أن تحصل أشياء لم يقدّرها الكثيرون!
لا تقتصر هذه الحالة على البشر, إذ تمتد إلى الحيوانات والطيور, فالحيواناتالتي كانت تملأ منطقة شاسعة حول الطيبة وتسرح بلا مبالاة ورخاوة, وتقضي جزءًا مننهاراتها في سكينة أقرب إلى الدعة من الشبع والامتلاء, لا تلبث أن تتحول إلىحيوانات نزقة شديدة الجفلة كثيرة الحركة, بحثًا عن شيء تأكله, ثم تتحوّل إلىالشراسة والعناد, فتبدو هائجة, ويمكن أن تتصرف بجموح يصل درجة الأذى. وأخيرًايضربها الهزال والمرض, وفي هذه الحالة يتراكض أصحابها بعصبية لكي يتخلصوا منهابالذبح أو البيع.
أما الطيور التي تعبر سماوات كثيرة متجهة إلى حيث تجد رزقها, فقد كانت تعبر سماء الطيبة بسرعة ودون أن تتوقف, وكأنَّها بغريزة غامضة, ومنذ أزمانموغلة في القدم, وبتوارث فذ, تعرف كيف تتجاوز الطيبة وإلى أين تذهب, عدا تلك الطيورالصحراوية القاسية الملعونة, فقد كانت تترك أماكن كثيرة في هذا العالم وتتجه إلىالطيبة أو قريبًا منها, وتبدأ من هناك معركتها الأزلية مع البشر وبقايا الحب وقطراتالماء.
وإذا كان لكل مدينة وبلدة وقرية جنونها ومجانينها, فإن جنون الطيبةأنواع كثيرة, لكن نوعًا خاصًّا, أكثر من غيره, يظهر في سنوات الجفاف. وهذا النوعيطغى على غيره ويكاد يكون الوحيد. إنه جنون الصيد. حتى الذين لا يمارسون هذهالهواية, وينظرون إليها نظرة تتراوح بين الزراية والرفض, ويفسرونها على أنها أقربإلى الغفلة ورغبة الكسل, فإنَّهم يكتشفون فجأة في أنفسهم حنينًا موجعًا لأن يصبحواصيادين بشكل ما. قد تدفعهم إلى ذلك الرغبة لتأمين الرزق, أو لطرد الطيور الجارحةوالانتقام منها, لعل بعض الحبوب تبقي وتنبت في السنة التالية, أو لعل تلك الحبوبتتفتح عن بعض أوراق خضراء تأكلها الحيوانات الجائعة. وربما كان الدافع إلى ذلك كلهالرغبة في الانتقام من عدوٍّ ما!
كان مجانين الطيبة في هذه السنة أكثر عددًاوأكثر صخبًا من أي سنة سابقة. حتى في سنة المجاعة الكبيرة, التي أعقبت الحرب, لميظهر مثل هذا العدد, ولم تظهر مثل هذه الحالة. إذ ما كاد موسم الصيد يبدأ حتى أخرجهؤلاء المجانين البنادق القديمة من مخابئها, مسحوا عنها الغبار, نظَّفوها جيدًا, وبدأوا يضعون الخطط ويتحدثون. لم يكتفوا بذلك, ابتدعوا وسائل صيد جديدة, وتفنَّنوافي تحضير الخرطوش واختراعه. ولكي ينتقم أولئك المجانين, المصابون بهذا المرض منذوقت طويل, من أيام ماضية, حين كانوا سخرية أهل الطيبة, لجأوا إلى المكر والدهاء, فلم يتركوا أحدًا إلاَّ وأغروه بالصيد. وأكَّدوا أن هذه الطريقة وحدها يمكن أن تنقذالبلدة. ولكي ينجحوا في لعبتهم حتى النهاية وزّعوا على الكثيرين, مجانًا, عددًا منالخرطوش الذي يصنعونه بأيديهم وبوسائلهم البدائية, واتخذوهم مساعدين لهم في تحضيركل ما من شأنه أن يسهل مهمتهم, وقالوا بصوت واضح: (ليس أسهل من الصيد, ولكي يصبحالإنسان صيَّادًا يجب أن يمارس الصيد, تمامًا مثلما يتعلم السباحة). والذين استمعواإليهم بانتباه لم يصدقوا آذانهم, أول الأمر, لكن الإغراء الخفي الماكر جرّالكثيرين, فيومًا بعد يوم كان مجانين آخرون ينضمّون إلى مجانين البلدة, وكانالوافدون الجدد يمتلئون زهوًا حين تصيب طلقاتهم طيرًا من الطيور, وبين عشية وأخرىيتحولون إلى مهووسين لا يعرفون الراحة والهدوء إلاَّ بالقتل والركض وراء الطيور منمكان إلى آخر.
 
هكذا بدأت اللعبة أول الأمر, وهي وإن بدأت صغيرة خفية, فقد أثارتحنق عدد كبير من المسنين, ومن الذين ينظرون إلى الصيد على أنه وسيلة للرزق والحياة.
لقد كانت اللعبة أقرب إلى العبث ولا تناسب الرجال الذين يقدّرون مسؤولياتهم, ويجب أن ينشغلوا بالهموم الكبيرة التي أخذت تزداد يومًا بعد آخر. لكن اللعبة تكبروتتسع كل يوم. والذين أبدوا بعض التردّد ما لبثوا أن تراجعوا, خاصة حين أخذوايشاهدون طيور القطا محمولة بالعشرات. أما حين يقلبونها ليتأكدوا من كمية اللحم فيهافكانوا يقولون بصوت عال: - ضعيفة.. نعم إنها أضعف من أي سنة سابقة!
ولكييتأكدوا من أن ما يقولونه هو الحقيقة, كانوا يقلّبونها مرة أخرى, ويشدّون علىصدورها. وبهذه الحركات الإضافية, وبضغط الأصابع على اللحم الطري, كانت مواقفهمتتغير ويحسّون برغبة مغرية. أمَّا حين يبدأون بعدّها فكان التردّد يتراجع مع كل رقمجديد, لكن دون إعلان, ودون كلمات, ويكون كل واحد منهم قد اتخذ قرارًا داخليًّا أنيبدأ اللعبة!
والمسنّون الذين صرخوا بغضب, وعدُّوا هذا الهوس نوعًا من الفتنةأو الجنون, ولا يليق بالرجال في مثل هذه المحنة القاسية, ما لبثوا أن تراجعوا. صحيحأنهم لم يفعلوا ذلك سريعًا وبشكل علني, لكن اعتراضاتهم بدأت تقل وتتراجع يومًا بعدآخر, وبدأت كلماتهم تأخذ طابعًا ليّنًا أقرب إلى النصح:
- اذهبوا إلى المدينةواعملوا هناك. أما أن تنتشروا في هذه الأرض الغبراء, وأن تتشردوا بين الجبالوالصحراء, من أجل طيور جائعة, وليس فيها سوى العصب والريش, فإنَّ ذلك مضيعة للوقت.
وحين يهزّ الشباب رؤوسهم إشارة إلى أنهم سمعوا ما قاله المسنّون, دون أن تعنيالإشارة موافقة أو رفضًا, كان بعض المسنّين يضيف:
- إذا جاءت المصائب فإنَّهاتجيء مرة واحدة!
وتستمرّ اللعبة تكبر, ويستمر الشباب في ترتيب لوازم الصيدلليوم التالي: يهيّئون الخرطوش, ينظّفون البنادق, يصنعون قطعًا من القماش الملونالملئ بالثقوب لاستدراج الطيور والاحتيال عليها. وحين يرى المسنّون ذلك, ويجدون لدىالشباب إصرارًا لا يتزعزع, كانت لهجة الكثيرين تصبح أكثر حنوًّا وخوفًا:
- هذاالبارود يأكل الأخضر واليابس, يجب أن تحذروا!
ويرقب المسنّون بعناية الطريقةالتي يُصنع بها الخرطوش ليتأكّدوا من أن الشباب يفعلون ذلك دون ما خطإ. فإذاتأكَّدوا كانت كلمة وحيدة تتكرر بلا انقطاع:
- كل البلاء من المجنون الكبيرعساف!
عسّاف الرجل الذي يعرفه أهل الطيبة كلهم, نساءً ورجالاً, كبارًا وصغارًا, هو نفسه عساف الذي يبدو غامضًا ومجهولاً بالنسبة للجميع, وقلما يراه أو يجلس معهأحد.
بين الأربعين والخمسين, طويل مع انحناءة صغيرة, ضامر لكنه قوي البنية, أعزب لأسباب يختلف فيها الناس كثيرًا. قيل إنه كان يريد ابنة عمه, لكن أباها رفض (لأن عسافًا بلا عمل ولا يستطيع أن يعول نفسه, فكيف إذا تزوَّج وجاءه أولاد)? وقيلإن الفتاة رفضت وهدَّدت أن تحرق نفسها إن هم أجبروها على الزواج به, وتعللت بغرابةالطبع والقسوة. وحين سئلت أمها, في وقت متأخر, أبدت استنكارها الشديد, وقالت إنحذاء ابنتها يعادل رأس هذا المتشرد الذي يعيش في البراري والمغارات, ووصفتهبالمجنون أيضًا. ولو حاول أي إنسان التحري عن أسباب أخرى لوجد الكثير. إن هذهالقضية التي شغلت الطيبة وقتًا ما انتهت بصمت وهدوء, ولم تعد تشغل أحدًا. أما ماخلّفته من نتائج فاسم جديد لعساف: أبو ليلى. وبعض الذين استمروا يبدون اهتمامًابهذا الأمر, تحوَّل لديهم هذا الاهتمام مع الأيام إلى نوع من الطرافة والسخرية, خاصة وأن عسافًا يرفض الإجابة عن أي سؤال له علاقة بهذا الموضوع. وهكذا تعوَّدالناس أن يكون عساف بهذا الشكل, ولو ظهر بشكل آخر لبدا غريبًا!
منذ كان صغيرًاشغلته قضية الصيد, وهذه القضية كبرت عامًا بعد عام ما دام عساف يكبر. وإذا كانتبسيطة وبدائية حين كان صغيرًا, ويفعل ما يفعله الصبيان في مثل عمره, فقد كان أكثرهمولعًا وتعلقًا. أما حين مات أبوه, فقد استغرق في هذه الهواية الخطرة. لم يعد يكتفيبما يفعله الصغار. كان يقلد الكبار ويذهب حيث يذهبون, وكان يحاول باستمرار ابتداعوسائل جديدة للصيد. ونتيجة لهذا الوضع فقد اكتسب عادات خاصة أقرب إلى الغرابة. كانيقضي وقته في البساتين, بدأ التدخين في سنّ مبكرة, أصبح كثير التفكير والتأمل في كلما حوله من طبيعة وبشر وحيوانات, وكان في أغلب الأحيان بعيدًا عن الناس, أما حينيكون بينهم فالصمت سلاحه تجاه الآخرين.
ظلَّ يتطور بهذا الشكل, وحين ماتت أُمه, تغيّرت طباعه أكثر من قبل, فبدل أن يعود إلى البلدة ويصبح مثل الآخرين, يزرع ويحصدويستقر, فقد اشترى بندقية صيد من النوع القديم. وبدا الأمر غريبًا أن يكون فتًى فيالثالثة عشرة يقلد الكبار ويلاحق الطيور التي لا يفكّر فيها مَن كان في عمره, وأنيقضي وقته كله خارج البلدة وحيدًا ينتقل من وادٍ إلى آخر ومن جبلٍ إلى آخر.
إنأجزاء كبيرة من حياة عساف بعد ذلك مجهولة, وحتى لو أراد هو نفسه أن يستعيد حياته, فلن يتذكر إلاَّ الشيء القليل, لن يتذكر أحداثًا كبيرة أو مهمة, سوى تلك التي لهاعلاقة بالصيد: أين ضرب الذئب? وكيف ضربه? كم مرة اضطر للنوم في المغارات خوفًا منالموت بردًا, بعد أن سقط الثلج وتراكم بكثافة ليسد الطرق ويجعل الحركة صعبة? ويتذكرعدد المرات التي رفض أن يضرب إناث الحجل لأنها كانت تسوق أمامها أفراخها الصغيرة. إن هذه الذكريات وما يشبهها لا تعني أحدًا غيره, وحتى لو أراد أن يتحدث فإنَّ حديثهيبدو غامضًا متداخلاً, ولا يستطيع أحد أن يتابعه! هذا النوع من البشر يتحول يومًابعد آخر إلى حالة من الغرابة والانطواء, ويصبح بطبيعته أميل إلى الابتعاد عن الناسأو الاهتمام بهم, كما أن له عالمه الخاص وهمومه التي لا يشاركه فيها الآخرون. أماطريقته في التعبير فتكون قاسية فظة, وقد تؤذي إذا لم تفهم هذه الطبيعة ويحسنالتعامل معها.
والطيبة, التي عرفت أنماطًا كثيرة من البشر, تعوّدت على عساف كماتعودت على هذه الأنماط, ولم يعد مظهره الرثّ أو صمته, وحتى الشتائم التي يطلقها فيبعض الأحيان, إذا حاصره أحد وانهالت عليه الأسئلة والاستفزازات, لم تعد هذه الأمورتثير حرجًا أو خصومات, إذ ما تكاد تبدأ حتى تأخذ شكلاً ساخرًا أوَّل الأمر ثمضاحكًا في النهاية. وعساف الذي تعوَّد على هذه الحياة كان يجد صعوبة كبيرة في أنيغيرها. وفي المرات القليلة التي كان يضطر فيها إلى استبدال بعض من ملابسه يفعلأشياء لا تخطر على بال ولا يفعلها أي عاقل. فحين يبلي حذاؤه ويكون مضطرًّا لشراءحذاء جديد, لا يستطيع أن يستعمل الحذاء الذي يشتريه مباشرة; فكان يدخل عليه تعديلاتكبيرة, تفسده في بعض الحالات. كان يلجأ إلى قصّ الجلد عند الأصبعين الصغيرين, وكانيضرب الحذاء ضربات قوية بعد أن يضعه في الماء. ولو سأله أحد عن ذلك لما كان لديهشيء يقوله, حتى هو لا يعرف لماذا يفعل ما يفعله. ولو اقتصر الأمر على الأحذية لهانوفُهم, لكنه كان يفعل بملابسه شيئًا مماثلاً, كان يمزق السراويل في مواضع كثيرة, وفي تلك المواضع يخيط عددًا من الرقع الملونة, وفي بعض الأحيان قطعًا من الجلدالطري. إن هذا شأن من شؤونه, ولا يستطيع أحد أن يناقشه أو يقنعه بغير ذلك. أما فيأيام الأعياد, وحين يكون مضطرًّا إلى أن يمر على معظم بيوت الطيبة, كما هي العادة, فكان لا يغيّر شيئًا في مظهره, كما تعوَّد الناس أن يفعلوا, وقد يبالغ فيلبس أسوأما في غرفته الصغيرة, وهي الغرفة الوحيدة التي بقيت له بعد أن باع البستان أوَّلالأمر, ثم باع بعد ذلك جزءًا من الدار, ولم يبق إلاَّ على الغرفة الداخلية وحاكورةصغيرة.
هكذا تعوَّد أهل الطيبة على عساف, ونتيجة الألفة والاستمرار, لم يعديثير تساؤلاً أو استنكارًا. الشيء الوحيد الذي أثار اهتمام الناس ذات يوم, ولميستمر هذا الشيء طويلاً, أن عسافًا اقتنى كلبًا. ولقد بالغ كثيرًا, حين سئل عنالكلب, في الحديث عن أهميته وأصله, وبالغ أكثر من ذلك في تحديد المبلغ الذي دفعهثمنًا له. وقد قيل مرات كثيرة إن عسافًا وجد الكلب ضائعًا, ربما من صياد غريب, فجاءبه. وتجرأ بعض الناس في الطيبة وقال إن عسافًا سرقه! وعساف الذي سمع بعض ما يقولهالناس, كان يبتسم دون اهتمام, ويطبطب على ظهر الكلب بمودة, ويقول له: (اسمع ما يقولالهبل). وخلال هذه الفترة قضى عساف وقتًا أطول مما تعوَّد في البيت, وقضى بعد ذلكأسبوعين في الطيبة, لم يخرج خلالهما إلى الصيد. وقد فسّر الأمر بالخوف . فالذينقالوا إنه سرق الكلب, كانوا متأكدين من ذلك أكثر من ذي قبل, لأن الأمر لو كان لهسبب آخر لما خشي عساف الخروج إلى الصيد واصطحاب كلبه معه. أمَّا الذين قالوا إنعسافًا وجده, فقد كانوا على يقين أن الكلب سيعود إلى أصحابه حالما يخرج من الدارويصبح حرًّا, ولن يستطيع عساف أن يفعل شيئًا لو هرب الكلب وعاد إلى أصحابه! أماالحقيقة فهي أن عسافًا لا يثق إلاَّ بما يفعله, ولا يتأكد إلاَّ إذا فعل الشيءبنفسه, ولذلك, وبعد أن رافق صيادين جاءوا إلى الطيبة من مكان بعيد, ونتيجة للجهدالذي بذله معهم, ولأنه دلّهم على أماكن مناسبة للحجل, ثم تنازل لهم عن الطيورالخمسة التي اصطادها, أعطوه ذلك الكلب. لكن عسافًا لم يكن واثقًا بالكلب ثقة كافية, وقد أجهد نفسه لفترة طويلة لكي يدرّبه, فأثار بذلك سخرية أهل الطيبة. ومن جملة مافعله عساف في هذه الفترة, إضافة إلى المدة التي قضاها في البيت, أنه ربط الكلب بحبلوبدأ يتجول به في الأماكن القريبة, واشترى له كمية من (الحامض حلو), وحاول أن يعلمهعادات جديدة. والناس الذين رأوه يجرّ الكلب بالحبل ضحكوا طويلاً وأبدوا سخريةمريرة:
- انظروا.. المجنون يربط كلب الصيد!
- لا أحد يدري مَن يصيد لمَن, أو مَن يساعد مَن!
لم يكتفوا بذلك وإنما انضموا إلى الذين اتهموه بسرقة الكلب, ولو لم يكن الأمر كذلك لما فعل ما يفعله الآن!
- سبحان الخالق! ربما ولدتهماأُم واحدة . انظروا إنه يشبهه تمامًا.
إن ذلك كله من تاريخ الطيبة الأقرب إلىالنسيان. فبعد أن أصبح عساف والكلب متلازمين, بدت صورتا الاثنين واحدة, وتجرأ بعضالخبثاء, وقالوا إن هناك شبهًا قويًّا بين عساف والكلب, من حيث ضخامة الأنف وكبرالأذنين, ومن الصوت المكتوم الأقرب إلى الغرغرة. طبيعي لم يستطع أحد أن يقول هذاالكلام مباشرة لعساف, أو في أثناء وجوده, لكن أحدًا لا يسمِّي الكلب إلاَّ عسَّافا, ولا أحد ينظر إليه إلاَّ تلك النظرة!
إن الطيبة مثل كل القرى والبلدان الأخرىالتي تشبهها, من حيث القسوة والسخرية ورغبة التندر واختلاق بعض الأكاذيب, وفياغتياب الناس أيضًا, خاصة إذا كان هؤلاء مثل عساف. إذ ما يكاد يظهر في غبش الصباحالأول ويراه أحد حتى يمتلئ وجه مَن يراه بابتسامة أقرب إلى السخرية, ويسأله تلكالأسئلة عن الصيد والكلب, وعن العجائب التي يراها في البرية! أمَّا إذا طالتالسهرات وامتلأت بالأحاديث, فلا بدَّ أن يتبرع أحد ويقول شيئًا ساخرًا:
- رأيتاليوم عسافًا يحمل الكلب على ظهره!
ويقول آخر والضحكة تملأ حلقه:
- رأيتاليوم عسافًا الحقيقي يحمل البندقية ويصيد.. ولا بدَّ أن يكون هو الصياد وليس هذاالكذوب.
ويقول ثالث:
- أطلق عساف النار على ديك حجل فلم يصبه, وأصاب الكلب, ولذلك فهو كلب أعور!
إن شيئًا ما حصل في وقت من الأوقات, لكن طريقة الطيبة فينقل الأخبار تختلف عمَّا يجاورها, إذ لا بدَّ أن يكون في أي قصة يرويها أحد من أهلالطيبة مقدار من الصحة. فعين الكلب المطفأة كانت هكذا منذ اليوم الأول الذي وصلالكلب إلى الطيبة. وإذا كان عساف قبله هكذا ولم يسأل كيف عورت عينه أو متى, فقد قالذات يوم إن ذلك ربما وقع في الصيد, ولم يضف شيئًا. أما الطيبة فروت ذلك على أنه وقعلعساف, ومع ذلك الكلب. وإذا كان عساف اضطر إلى حمل الكلب ذات مرة, فقد فعل ذلك بعدمعركة مريرة بين كلبه وذئب, وكاد عساف ذاته يموت خلال تلك المعركة. أما الكلب فنُهشفي أكثر من موضع, ولو تُرك لمات! أما حديث البندقية التي يزعم بعض أهل الطيبة أنهرأى الكلب يحملها ويصيد بها فلا أساس له البتة, وإنما هو وهم وحسد; لأنَّ الكلب, وبعد تدريب طويل, كان يساعد في حمل قسم من الصيد, كأن يحمل ديكًا من الحجل بينأسنانه!
والطيبة التي تحب الفكاهة والسخرية, مثل غيرها من القرى, في أوقاتالراحة والفرح, تتغير كثيرًا أيام الأحزان, وتتغير أكثر أيام تشحّ الأمطار وتأتيسنوات المُحْل. تصبح بلدة أقرب إلى السواد, تغطّيها الظلمة عند الغروب, وتمتد فوقهاموجة من الصمت والأحزان, وتبدو لياليها طويلة ساكنة, عدا أصوات الكلاب المشرّدةالجائعة, وطلقات تائهة في بعض الأحيان. وفوق الطيبة, في مثل هذه الأيام, تنتشررائحة ثقيلة منذرة, لكن لا يميز تلك الرائحة إلاَّ من عرفها أو تنشّقها ذات يوم!
وفي هذه الأيام تتغيّر أشياء كثيرة!
هذه السنة ليست مثل أي سنة سابقة. هكذابدأت منذ الأيام الأولى للشتاء. فلم تهطل الأمطار المبكرة التي تنتظرها جميع القرىالواقعة على أطراف البادية, والتي تبشر بموسم خصب, وتحمل معها أعدادًا لا حصر لهامن النباتات البرية, ويُقال إن تلك النباتات تنزل من السماء مع المطر. هذه السنةجاءت برياح باردة شديدة القسوة ولم تجئ بالأمطار. وأهل الطيبة الذين تعوّدوا علىاستقبال مثل هذه الشتاءات الباردة لم يستغربوا ولم يتبرموا, لأنهم ما زالوا فيأوَّل الشتاء, ولأنَّ أيام الخير أمامهم لا تزال كثيرة وطويلة. لكن المسنّين الذينخبروا دورات الطبيعة, وعرفوا بشائر الخير من نذر القحط, دخل الخوف قلوبهم: كانخوفًا أقرب إلى الحزن, وارتفعت في ذاكرتهم أيام مثل هذه الأيام, ثم جاءت بعدهاالمصائب والأمراض وأخيرًا جاء الموت. ومع ذلك كتموا مشاعرهم في صدورهم وصمتوا. أمَّا الرجال الآخرون, الأصغر سنًّا والأقل درايةبالمواسم والطبيعة, فقد نظرواإلى السماء بتساؤل, وداخلهم الشك فيما يعرفون من أمور. وحين سألهم الصغار إن كانالكماء والفطر والحميض والخبيز وعشرات النباتات البرية الأخرى, ستأتي هذه السنة, نظروا إلى الصغار بارتياب, وكأنَّ مثل هذه الأسئلة تحمل لهم امتحانًا عسيرًا, واكتفوا بإجابات غامضة, أقرب إلى التحدي:
- الشتاء في أوّله, وأنتم مرضى بشيءلم نعرفه عندما كنا في أعماركم. أنتم مرضى بالأسئلة التي لا جواب لها!
والصغارالذين لم يكتفوا ولم يقتنعوا بإجابات الآباء, ذهبوا إلى الأمهات وأمطروهن بأسئلة لاتنتهي: (متى نذهب إلى التشوّل للفقع)?), (متى نذهب إلى الكماء?), (هل سنجد كمياتكبيرة من الفطر هذه السنة, كما وجدناها في السنة الماضية?). وإذا كان الأبناء, فيمثل هذه السن, لا يجرؤون على مناقشة الآباء أو الإلحاح بسؤالهم, فإنَّهم علىالأمهات أكثر جرأة وأكثر إلحاحًا, والأمهات بطريقة غامضة, وتتميّز بمكر خفي, يحاولنبكل الوسائل أن يصرفن الأبناء عن مثل هذه الأسئلة, لكن الوعود تبقي قائمة, والرؤوستشتعل بعشرات الرغبات والأحلام. أما إذا نظرت النسوة في وجوه الرجال, خاصة المسنين, فكنَّ يقرأن في تلك الوجوه مصاعب الأيام القادمة وآلامها التي لا يمكن أن تُنسى!
هكذا بدأ الشتاء في هذه السنة. وإذن كان كل يوم يأتي ولا يأتي المطر, يحمل معهمزيدًا من العصبية للذين يذهبون إلى الحقول, وينظرون إليها بحزن, وقد تحجّرت التربةمن البرودة, وعبثت بها العصافير الموسمية التي تأتي بأعداد كبيرة وتخلق في الجودويًّا لا ينقطع منذ الفجر وحتى الغروب, ولا ترهب هذه العصافير الفزاعات السوداءالتي تُنصب في أماكن عديدة من الحقول. إن كل يوم يمر يحمل نذيرًا جديدًا, ويضيفخوفًا جديدًا في قلوب الرجال, وهمًّا ثقيلاً أقرب إلى الحزن في قلوب النساء. أماحين يعصف الجو وتعربد الرياح الباردة, فإنَّ انتظارًا ممضًّا يشبه حد الموسى يسيطرعلى البلدة: (هل ستحمل هذه الرياح المطر? هل سينبت الزرع بعد هذا الجفاف الطويل? وإذا جاءت قطرة أو قطرتان, فمَن يضمن المطر في آذار ونيسان?). وتهوّم في الرؤوسأسئلة من نوع آخر: (ما دام الموسم قد انتهى, فقد كان على الله أن يبعث لنا بالأمطارالموسمية المبكرة. لو جاءت تلك الأمطار لأخرجت لنا البرية شيئًا نأكله ويعوضنا عنالتعب والموت, لكن الموسم انتهى, وآذار لم تبقَ فيه إلاَّ أيام وينقضي دون قطرةمطر, ولا أحد يعرف كيف ستكون الحياة بعد ذلك!).

 
وفي نهاية آذار تمامًا هطلالمطر. كان مطرًا غزيرًا استمر يومين متواليين. وخلال هذين اليومين تغيّرت وجوهالناس وتصرفاتهم, حتى الذين لا علاقة لهم بالزراعة مباشرة بدوا أكثر فرحًا, وفي بعضالأحيان أقرب إلى الخفة في التعبير عن ذلك الفرح, وتجرأ الكثيرون وقالوا: (موسم هذهالسنة, خاصة بالنسبة للصيفي, سيكون أحسن من جميع المواسم التي شهدناها من قبل). لكنالذين يزرعون, والذين عرفوا دورات الطبيعة, لم يتكلموا ولم يتفاءلوا, كانوا ينتظرونشيئًا آخر. وفي هذه الأيام, وبعد أن أشرقت الشمس وملأت الكون في اليوم الثالث, مالبث الذين امتنعوا عن الزرع في بداية الموسم, أن حرثوا الأرض على عجل,
واستعانوا بكل الوسائل, لكي يضمنوا لأنفسهم زرعًا وفيرًا مثل غيرهم!
لكنمطر آذار بغزارته وجنونه لا يمكن أن يقنع المسنّين ولا يرضيهم. إن لهؤلاء مزاجًايختلف عن غيرهم, وهذا المزاج ربما كوّنته الطبيعة والأيام الطويلة والمخاوف, وربمايتولّد لأسباب غامضة مجهولة! وقد تكون له علاقة بالأرض ذاتها, إذ يشعر أي واحد منهؤلاء بأن كل يوم جديد يقرّبه أكثر فأكثر من الأرض. وما دام الأمر هكذا, فإنَّأمنية خفية تدفعه لأن يتمنى أرضًا من نوع ما يمكن أن تستقبل لحمه وعظامه, ويحس بنفسالخفاء أن هذا الجفاف الذي تسرّب عميقًا إلى الأرض, ثم تلك الرخاوة اللزجة التي جاءبها مطر آذار, لا يناسبان, ويتمنى لو أنه لا يغادر الحياة في مثل السنة القاسية. وحتى لو بلغ اليأس مبلغًا كبيرًا في قلوب المسنّين وأصابهم الغمّ والسأم من هذهالدورة العاتية للطبيعة, فقد كان كل واحد منهم يريد أن يموت موتًا كريمًا لائقًا, أن يموت في الوقت الذي أنهي كل ما يجب أن يفعله في هذه الحياة, وأن يغادر الدنيابهدوء وسلام, دون جلبة, ولكن باحترام يناسب عمره. أما أن يموت مثلما يموت الصغار, أو مثلما تموت الدواب, بطريقة مفاجئة, ودون إنذار من أي نوع, فإن موتًا مثل هذايدفعه إلى شعور عميق باليأس!
ومثلما توقّع المسنّون حصلت الأمور بعد ذلك: فالزرع الذي اهتزَّ في أعماق التربة من الأمطار الغزيرة التي سقطت في نهاية آذار, ما لبث أن شقَّ الأرض وبدأ ينمو. كانت الزروع بنموّها الزاهي, رغم المسافاتالمتباعدة فيما بينها, نتيجة لهجوم العصافير وتقليب المحاريث, كانت بنموها قويةواثقة, وما كادت شمس نيسان تحتضنها بالدفء حتى انتعشت وتحرّكت أكثر من قبل. وإذاكان الفلاحون, بتفاؤل موهوم, يردّدون بإصرار أن ما يحتاجون إليه مطرة أو مطرتين فينيسان, الأولى في النصف الأول, والثانية في نهايته, ثم مطرة أخيرة في منتصف أيار, رغم هذا التفاؤل الذي يحاولون من خلاله أن يقنعوا أنفسهم قبل أن يقنعوا غيرهم, فقدكانت مثل هذه الأمنيات مستحيلة, لأن السنة من بدايتها كانت تنذر بالقحط. قال هذاالمسنّون في داخلهم, وقال هذا عساف بصوت عال وأمام جميع الناس. ولو أن أحدًا سألعسافًا عن السبب الذي يدعوه لأن يقول مثل هذا القول, لم يكن يملك جوابًا واضحًا أومقنعًا. كان يكتفي بأن يقول:
- انتظروا, هذا ما أقوله, وسوف ترون كل شيءبعيونكم!
والناس حين يسمعون هذا الكلام من عساف تتملكهم العصبية ويصبحون سريعيالغضب, وأقرب إلى التحدِّي, لكن في قرارة أنفسهم يحسون أن ما يقوله هذا المجنون لايشبه الكلام الذي يقوله غيره. إن فيه شيئًا من الحقيقة, حقيقة خفية غامضة, وربمامرتبطة بأمر لا يعرفونه.
ومثلما أحسَّ المسنّون, ثم توقعوا, بدأت كلمات التحذيرتتسرب من أفواههم, ثم كلمات الخوف, وفي وقت لاحق قالوا بوضوح شديد:
- ستكون هذهالسنة من أصعب السنين التي مرّت على الطيبة!
وبعد لحظات من التفكير والتذكرالحزين يضيف أحد المسنّين:
- لا أتذكر أن سنة مثل هذه مرّت على الطيبة من قبل.
ومثلما توقع المسنّون, ومثلما قال عساف حصل كل شيء بعد ذلك!
في هذا الغمّالذي يلفّ الطيبة من كل جوانبها, ويزداد يومًا بعد آخر, كان عساف لا يهدأ ولايستريح, إذ ما يكاد يعود بعد الغروب, حاملاً معه عشرات الطيور, حتى يبدأ يدقّ بعضالأبواب. كان يختار تلك الأبواب بعناية, ويفكّر في ذلك من قبل طويلاً. كان مع كلطلقة ينوي حتى قبل سقوط الطير: (أنت لأُم صبري), (وأنت لداود الأعمى), (وأنت لسعيدالذي لا يتقن في هذه الدنيا سوى إنجاب البنات)!
هكذا كان يفعل وهو يطاردالطيور. وحين يدق الأبواب, ولكي لا يخلق ذلك الخوف الغامض المتربص في كل القلوب, والذي يعلن عن نهاية صديق أو قريب, كانت الكلمات التي يطلقها عساف في الهواء وقبلأن يفتح له الباب:
- أنا عساف, جئت لأمسي عليكم!
وقبل أن يسمع الكلمات التيتنهال عليه, يكون قد ألقى بعض الطيور ومشى!
كان يفعل ذلك كل ليلة, ولا يبقيلنفسه إلاَّ طيرًا, وفي بعض الأحيان لا يبقي شيئًا. وحالما ينتهي من هذه المهمة, وعلى ضوء فانوس صغير يبدأ بتحضير خرطوش اليوم التالي. يبدأ مهمة لا تعرف التعب أوالتوقف, ولا يكاد يأكل لقمة في نهاية السهرة حتى يغط في نوم عميق. وفي هذا النوميرى أحلامًا لا حصر لها, كانت تتراءى له آلاف الصور: كيف كانت الطيبة وكيف هيالآن?! ويسأل نفسه: لماذا تصبح الحياة أكثر صعوبة يومًا بعد آخر?! أما حين تظهر لهصور الأشجار والطيور, ثم صورة الماء الجاري دون توقف, وصورة الربيع يغطي مساحات لانهاية لها, فكان يرى كل شيء يطير. كانت السماء تمتلىء بالطيور, وكان الصيادون لايصيدون إلاَّ في المواسم والطيور التي يجب أن تُصاد. ثم تظهر له صور الذين ماتوا, أمَّا حين يبدأ المطر بالسقوط ويخاف أن توحل الأرض وتمنعه من العودة فكان يركض, وعند ذلك يفزع ويستيقظ من نومه وقد امتلأ خوفًا أن يكون الوقت قد فاته. وحين يحسبرائحة الغبار تملأ جو الغرفة يفرك عينيه لكي يتأكّد من الوقت. كانت له ساعة فيداخله لا تخطئ. لم تخطئ مرة واحدة طوال هذه السنين, لا تخطئ في الصيف ولا فيالشتاء. حتى الذين كانوا يأتون إلى الطيبة من المدينة, ويستعدون كثيرًا من أجل رحلةالصيد مع عساف, وينصبون الساعات المنبّهة, ويصدرون الأوامر الصارمة إلى المسنّينلكي يوقظوهم في الوقت المناسب, لئلا يتركهم عساف ويمشي, بحجة أن الشمس ستشرق ويضيعاليوم, ولكي يكونوا في (المقوس) عند الشروق, حتى هؤلاء كانوا يخطئون وعساف لا يخطئولا تخطئ ساعته!
وعساف الذي تعوّد خلال فترة طويلة أن يخرج إلى الصيد وحيدًا معكلبه, كان يجد صعوبة في أن يردّ الذين يطلبون الخروج معه, خاصة من الضيوف, أو فيسنة من سنوات القحط. كان يتمنى لو يبقي وحيدًا, لكن ماذا يستطيع أن يفعل وقد أمْحلتالأرض وابتعدت الغيوم ولم يعد عند الناس شيء يأكلونه? حتى أماكن الصيد التي خبأهالنفسه في فترات سابقة, وكان يردّد لنفسه بإصرار أنه لن يترك أحدًا يصِلها, ولن يدلأحدًا عليها, لا يستطيع أن يمتنع طويلاً في إخفائها, لكن كان ينبه بتأكيد حازم:
- لا تقتلوا الإناث, إنَّها رزقنا الباقي!
وحين لا يكون متأكدًا أنهم فهمواجيدًا يضيف:
- الإناث, إناث الحجل, صغيرة ولونها واضح.
أما إذا سألوهمزيدًا من التوضيح والمعلومات فكان يقول:
- ديك الحجل, مثل بعض الرجال, جبان.
وينظر في وجوههم ويضحك, ثم يتابع:
- إنه يخاف على نفسه كثيرًا, وهو بلونزاهٍ, ملوَّن أكثر من الأنثى, ويطير قبلها!
ويهزّون رؤوسهم دلالة المعرفة, لكنعسافًا يخاف هؤلاء الصيّادين, ويكره الجبناء والخبثاء منهم, ويخاف أكثر من ذلك أنيأتي يوم لا تجد الطيبة طيرًا تصيده. كان يقول بصوت ملئ بالأسى:
- هذه الطيورلنا, اليوم أو غدًا, وستبقي لنا إذا حافظنا عليها. أما إذا قتلناها كلها, إذاطاردناها كثيرًا, فسوف تنتهي أو تبحث عن مكان آخر.
ويصرخ بعصبية وقد تراءت لهالأرض خالية تمامًا من طيور الحجل:
- اسمعوا, إذا انتهت هذه الطيور وجاءت سنةمن سنوات المحل, وإذا ظلَّت الحكومة تكذب سنة بعد سنة ولا تبني السدّ, فتأكّدوا أنأهل الطيبة سيموتون على بكرة أبيهم. أنا متأكد من ذلك, فهل يستطيع ابن حرّة أن يقتلالبشر والطيور?
هكذا كان الحديث يجري في بداية كل رحلة. ورغم ذلك يضطر عسافلقيادة قافلة الصيادين إلى أماكن الحجل, لكنه يلجأ إلى المكر أغلب الأحيان: كانيقودهم إلى الأماكن الصعبة, إلى الأماكن البعيدة والخطرة, وكان يعرف أن التعب أوالخوف إذا دخل قلب الصياد يفقده كثيرًا من قسوته ويجعله رحيمًا. هكذا كان يفعل فيبداية الموسم. أما إذا قست الحياة على الطيبة أكثر من قبل وحاصرها الجوع وبدأ يفتكبها, فكان يتردّد في أن يتجاوز كثيرًا من القيود التي كان يفرضها على نفسه وعلىالآخرين, لكنه يتألم, يشتعل بالشتائم ويرتكب الكثير من الحماقات. كان يقول لنفسهلكي يبرّر هذه الخطيئة التي تعذّبه: (إذا لم يأكل الناس الحجل فسوف تأكله بنات آوىوالذئاب, وحتى لو نجا بعض هذه المخلوقات الملعونة, فسوف يأتي الرعيان لكي يلتقطواالبيض. ويجب ألاّ يموت أهل الطيبة).
إن له فلسفة خاصة تكوّنت مع الأيام ومنالتجارب, حتى لو أراد أن يقول بضع كلمات لكي يفسر ما يدور في عقله فلن يستطيع. أماإذا سأله أحد لماذا يفعل هذا الشيء, ولماذا لا يفعل ذاك, فكان يشعر بالحيرة والعجز. كان يقول:
- هذه هي طريقة الصيد, هكذا يفعل الصياد!
ولا يضيف شيئًا آخر!
بهذه الطريقة كان يتعامل مع الصيد, وبهذه الفلسفة الغامضة يتصرف, ويريد منالآخرين أن يتصرفوا. فإذا جاء موسم الطيور المهاجرة يشعر بغبطة داخلية عميقة. كانيقول بصوت عال واضح النبرات, ويريد من كل إنسان أن يسمعه:
- ليشمّر كل واحدمنكم عن زنده, وليثبت الصياد نفسه!
كان يقول مثل هذا الكلام لكي يضلِّلالصيادين الآخرين ويصرفهم عن الحجل. وهؤلاء الصيادون الذين تعبوا كثيرًا من الحجل, وحفيت أقدامهم وهم يتسلقون الصخور العالية أو وهميهبطون الأودية السحيقة, كانوا فيقرارة أنفسهم يقبلون هذا الكلام ويوافقون عليه, وفي نطاق التبرير يقولون لأنفسهمولبعضهم:
- ما دام شيخ الصيادين, عساف, يقول هذا فيجب أن نصدّقه وأن نتبعه!
وكي لا يترك الأمر مكرًا مجردًا, كان يسبقهمإلى أماكن الطيور المهاجرةوممراتها, وكان لا يبخل عليهم بأي معلومات تساعدهم وتمكّنهم من صيد أوفر. وهمبتقدير غامض يندفعون, يذهبون حيث يريد, إلى الأماكن التي يحددها وفي الأوقات التييحدّدها. بهذه الطريقة يضمن أن بعض طيور الحجل لا تزال حية في المعاصي. كان يقوللنفسه بثقة: (حالما تشعر بالأمن وبابتعاد أصوات الطلقات لا بدَّ أن تنزل إلىأماكنها وتعيش مرة أخرى بسلام. ومرة أخرى ستفقس وتبدأ الفروخ الجديدة تملأ الجبالوالوديان)!
صحيح أن عسافًا في أعماقه يدرك أن كل حيوان وكل طير يعرف كيف يدافععن نفسه وإلى أين يذهب, إلاَّ أنه حين يرى الصيادين الأغرار يزدادون قسوة ورعونة, ويخرقون كل قاعدة, كان يقول لنفسه بألم: (يقتلون الناس بهذه الطريقة. والحجل يعرفكيف يختفي ). ويضيف بعد فترة صمت طويلة: (حين طاردوا الغزلان وقتلوها كلها أصبحتالصحراء مثل قبر كبير, لا ترسل إلاَّ الغبار والموت, ويجب أن يكون أهل الطيبة أذكىمن غيرهم فلا يقتلوا كل شيء).
كان الحجل, في مثل هذه السنين, وبغريزة غامضة, حتى بالنسبة لعساف نفسه, يعرف كيف يختفي , حتى ليبدو وكأنه انقرض نهائيًّا, ولنيأتي شروق أو غروب في يوم من الأيام القادمة ويسمع صوته مثل دجاجات تائهة في سفوحالجبال الشرقية. عند ذاك كان الصيادون, حتى الأغرار العنيدون, يتحولون. والذي يساعدكثيرًا في هذا التحول المفاجئ أن طيور الصحراء, خصوصًا القطا, تبدأ بالاقتراب يومًابعد آخر من الطيبة, وباندفاعها الأرعن بحثًا عن الحب والماء تعرّض نفسها للهلاك, حتى الأولاد الصغار, في أوقات معينة, وبتلك الوسائل البدائية التي يملكونها, يستطيعون الاحتيال عليها واصطياد عدد منها!
لكن تبقي قوة الحياة هي الأقوى, إذيتحول القطا, هذا الطائر الإبله, شيئًا فشيئًا إلى طائر جنّي, وبرغم الجوع والعطشفإنَّ قوة أخرى تسيطر عليه وتوجهه. فالقطا الطائش الذي يمكن أن يقتل بالعشراتوالمئات في بداية الموسم, والذي لا يميز الصياد من الفلاح, لا يلبث أن يصبح طيرًاحذرًا. والصيادون الذين يبدون نوعًا من الترفع في بداية الموسم, ويصفون القطابعشرات الأوصاف الرديئة, يصفونه بقسوة لحمه وغبائه, وبانعدام اللذة نهائيًّا فيصيده, حتى هؤلاء يجدون أنفسهم يومًا بعد آخر وقد انساقوا إلى ملاحقته. وفي هذهالفترة, ولتبرير هذا السلوك, يقولون بصوت عال فيه تلك الكبرياء التي تميّز الصيادينالمغرورين:
- ضُرب وتنكّح, وأصبح أكثر حذرًا من الطيور الأخرى.
ويضيف بعضهؤلاء بثقة كبيرة:
- إن صيده الآن أصعب من صيد الحجل!
هكذا تبدأ الدورةتتغير. والطيبة التي تعيش أيامًا صعبة مريرة, وتبحث عن طريقة لتواصل الحياة, تتغاضىعن أشياء كثيرة, بما فيها رعونة الشباب واندفاعهم إلى الصيد بهوس لم يتعوده أحد ولميكن يميزهم من قبل.
- هذا الجنون الذي يملأ عقولكم لا بدَّ أن يقضي على الصيدكله.
وبكلمات قاسية, وفيها ذلك النزق الذي يميزه, يضيف:
- الأيام الصعبة لمتأتِ بعد, وعلينا أن نستعد لتلك الأيام!
فإذا سمع كلمات السخرية والتحدي, وإذااتهموه أنه يريد التهرب, كان بانفعال يجيب:
- إذا وفّرتم الخرطوش, إذا كنتمأكثر عقلاً وصبرًا, فالقطا سيصل إليكم, ولن تحتاجوا لأن تذهبوا إليه!
لكنالشباب لا يسمعون, وتظل دوافع مشؤومة وقوية تدفعهم لأن ينتقموا, لأن يتباروا. وتحديات مثل هذه تدفع الطيبة ثمنها. فالطيور التي كانت تهجم برعونة في بدايةالموسم, لا يلبث الخوف أن يتملكها, وتبدأ البحث عن أماكن أخرى, أو تغير مواعيدمجيئها وهربها. بكلمة; تغيِّر هذه الطيور طريقة حياتها, وتصبح الحياة لكل مخلوقأكثر قسوة وأكثر صعوبة. حتى عساف نفسه, الذي كان يعود بأعداد وفيرة من الطيور, يبدأيواجه الصعوبة نفسها التي يواجهها الصيادون الأغرار, ويبدأ صيده يقل, ويصبح الصيدعملاً مضنيًا وأقرب إلى المغامرة.
لكن عسافًا لا يهدأ ولا يتوقف!
بدأت إذنالأيام الصعبة القاسية. ومثلما اختارت الطيبة أن تكون في هذا الموقع من العالم, علىأطراف البادية, فقد اختارت الصيد والشجاعة, وعرفت كيف تتحمَّل كل ما يواجهها منمكاره وصعاب. وإذا كانت المجاعات تفرّق عادة بين الناس, وتجعل كل إنسان يبحث لنفسهعن طريقة يؤمِّن بها خبزه, فإنَّ المجاعات والأحزان تقرِّب بين الناس في الطيبة, وتجعلهم أُسرة واحدة وجسدًا واحدًا. وما عدا تلك الفئة الصغيرة التي جاءت من مكانبعيد, واختارت الطيبة سكنًا لها, وظلَّت تعمل وتتصرف بروح الغرباء وخوفهم, رغم ماقدَّم لها أهل الطيبة, فإنَّ البشر إذا واجهوا المصاعب بروح من التعاون والمشاركة, تبدو هذه المصاعب أقل قسوة, ويمكن التغلُّب عليها. وبهذه الطريقة الفذة المليئةبالبطولة الصامتة, لم يترك أحد يموت دون أن تقدم إليه أقصى المعونات, وأغلب الأحيانبشكل خفي لا يدركه أحد. فالأُسر الكبيرة العدد, والتي لا تقوي على مواجهة الحياة, كانت تفتح أبواب بيوتها, في ساعة من ساعات الليل أو النهار, ويُرمى داخلها بكمية منالحنطة أو قليل من السكر والشاي والصابون. والناس الذين فقدوا كل ما يملكون ثمنًاللبذار, ثم ثمنًا لبعض الأشياء التي اشتروها من المدينة, كان هؤلاء يجدون مساعدة لاتيسر للذين هم أكثر قدرة منهم. حتى المقعدون وذوو العاهات, قد تكفَّل بهم عدد منالشباب, وكانوا يقدّمون لهم الأكل المطبوخ, وغالبًا ما يكون حساء من الطيور أوالهريسة. أمَّا النساء الأرامل فقد كنَّ في هذه الفترة موضع رعاية كبيرة.
 
لكن الطيبة التي تستطيع أن تطعم أبناءها أجزاء من لحمها لا تقوي على مواجهة مثل هذهالمصائب سنة بعد أخرى بصدرها المكشوف وإمكاناتها المحدودة. وبرغم أن المسنِّينحذّروا كثيرًا من الإسراف, وطلبوا من كل بيت أن يقتصد ما وسعه الاقتصاد, وأنيَعُدَّ الأيام التي لا تزال الطيبة تعيشها الآن أيامًا رخية, وبعدها ستأتي المصائبالكبيرة كثيفة متلاحقة, فإنَّ الطيبة ظلت تعيش على أمل غامض, وظلت تنتظر شيئًا ما, لكن هذا الأمل لم يتحقق كما توهَّمه الكثيرون, وأصبح الانتظار طويلاً ممضًّا!
والأبناء في المدن البعيدة لم ينتظروا صرخات الاستغاثة وإنَّما بادروا إلىتقديم كل ما يستطيعون. بعثوا بكميات من الحنطة والشعير, وبعثوا بالعدس والسكروالشاي والصابون, وبعثوا أيضًا يطلبون أن يأتي عدد من الأهل والأصدقاء, لينزلواعندهم في المدينة. وأهل الطيبة, خصوصًا الذين تقدَّموا في العمر, لا يقوون علىالاستجابة لمثل هذه الطلبات, ولا يتصورون أنفسهم يرحلون تاركين غيرهم للموت جوعًاوعطشًا. إن مجرد تصور شيء مثل هذا يولِّد في النفوس خجلاً لا يستطيعون احتماله, ولذلك لا يجيبون عن مثل هذه الرسائل, ولا يلبونها. والأبناء الذين رحلوا, وظلوا علىصلة مع البلدة يعرفون جيدًا أن ما يطلبونه أقرب إلى المستحيل, ولن يستجيب إليه أحد, ولذلك بالغوا أول الأمر في إرسال كل ما يستطيعون, ثم بدأوا يتوافدون إلى البلدة, للزيارة أول الأمر, ثم للمشاركة بطريقة ما من أجل الوقوف في وجه هذا الكرب القاسي, لعلهم يستطيعون عمل شيء, أو أن يتعلموا شيئًا. كانت الزيارات تمتد أيامًا وتتكرّرفي أوقات متقاربة, كما لا تقتصر على المشاركة الوجدانية أو الرغبة في تعذيب النفس, وإنما كانت ترافقها أشياء كثيرة: كميات إضافية من الحنطة والشعير, أثواب من الخام, وكانت تأتي معها الوعود والكلمات الكبيرة. وإذا كانت تلك الوعود أقسى الأشياءوأصعبها لكل إنسان في الطيبة, فقد أصبحت في هذه السنة عذابًا لا يطيق أحد أنيتحمله. (لم يبق إلاَّ القليل ويبدأ بعد ذلك بناء السد. والسد إذا قام لن تعطشالطيبة ولن تجوع. هكذا قال لنا الرجال المهمُّون في العاصمة), وقالوا أيضًا: (إنهقبل نهاية الخريف, وقبل موسم الأمطار, ستبدأ الآلات تشق التربة وتدفع أمامهاالصخور, وسوف يأتي مئات العمال والمهندسين, وسترون ذلك بأعينكم!).
وأهل الطيبةالذين يقبلون الأشياء التي تأتي ويوزعونها بعدالة مفرطة, كانوا يسمعون كلماتالمدينة الكبيرة, ويسمعون عن السد الترابي الذي سينشأ قريبًا من الطيبة, ليجمعالمياه التي تتدفق سيولاً جارفة في بعض المواسم, ثم تنتهي إلى باطن الأرض. ولا أحديعرف كيف تغور هذه المياه أو إلى أين تذهب, ولا تبقي من تلك السيول غير تلك الكمياتالكبيرة من الحصى والمجاري العميقة التي جرفت أجزاء من الأراضي والبساتين! ولا تبقيأيضًا سوى الكلمات الكبيرة والوعود!
كان أهل الطيبة يسمعون ذلك بصمت حزين, ولايدرون أيكذبون أبناءهم أو أولئك الرجال الرابضين هناك في الأبنية الكبيرة المغلقة? كانوا يقولون لأنفسهم: (لقد قيل لنا مثل هذا الكلام مرات كثيرة, وتنقضي السنوات, سنة وراء سنة, ولا شيءيتغير). وأهل الطيبة الذين تعوَّدوا نسيان السد والطريقوالكهرباء في مواسم الخير, ولم يفكِّروا يومًا واحدًا أن يحصلوا على مثل هذهالخيرات, فإنَّهم في مواسم القحط يتذكرون كلّ شيء, يتذكرون هيئات الرجال الذينأتوا, والكلمات التي قالوها, ويتذكرون أن بعض الذين جاءوا زائرين مع أبناء لهم إلىالطيبة في سنوات سابقة, سنوات الخصب والمواسم الطيبة, وذهبوا إلى الصيد أيضًا فيالمناطق المحيطة بالبلدة, ورجعوا وقد امتلأوا بنشوة, وتصرفوا في لحظات معينة مثلالأطفال, وبدوا صادقين- إن بعض هؤلاء أصبح في المدينة البعيدة كبيرًا مهمًّا, بحيثلا يذكر اسمه إلاَّ كما تذكر أسماء الأنبياء والأولىاء. إن هؤلاء لم يعودوايتذكَّرون الطيبة, ونسوا أصدقاءهم, وانتهى الأمر. والطيبة تعض على جراحها في مواسمالقحط والجفاف. أما في مواسم الخير فلا تكف عن أن تبعث بسلال المشمش في بدايةالموسم, ثم بسلال العنب والتين في نهايته, وبين الموسمين تبعث اللبن والجبن والبيضوالخراف الصغيرة أيضًا, ولا تنتظر شيئًا من المدينة. تبعث الطيبة كل هذا برضا أقربإلى الحبور. ويتصور الآباء والأمهات, وهم يبعثون بالسلال وأكياس اللبن في السيارةالصغيرة التي تذهب في الصباح الباكر, أنَّهم لا يقومون بواجب فقط, وإنما يحسّونبالمرارة والحزن إن تأخَّروا عن موعد سيارة الموظفين, أو إن لم يستطيعوا قطف التينفي الوقت المناسب! والطيبة التي لم تتنكر ولم تتغير, وظلَّت وفية لكل شيء فيها ولكلإنسان عاش فيها أو مرَّ بها في يوم من الأيام, خلقت هذا الوفاء الفذ في أبنائها, والذي لا يوجد مثيل له فيما جاورها من القرى, ولا يوجد أيضًا في القرى البعيدة.
في هذه السنة القاسية الملعونة جاء عدد كبير من أبناء الطيبة, جاءوا دون طلبودون إيعاز من أي نوع, وما كادت أرجلهم تطأ أرض الطيبة, وعيونهم تلامس بيوتها, حتىأحسُّوا بالحزن العميق, ولاموا أنفسهم كثيرًا على أنَّهم تأخروا حتى هذا الوقت, وشعروا بتأنيب الضمير حتى قارنوا حياتهم في المدينة بحياة الناس في الطيبة. لكن هذاالحزن وهذا الندم تراجعا بسرعة ليحل مكانهما الرغبة القوية في أن يفعلوا شيئًا, لعلَّ الطيبة تنجو هذه المرة, ولعلها تحيا وتستمر إلى أن يُبنى السد, أو يقع شيء مافي المدينة البعيدة, ويصبح من الممكن بعد ذلك مواجهة الطبيعة القاسية دون انتظارللوعود الكاذبة أو للمطر الإبله الذي يأتي سنة وينقطع سنوات.
نزع الذين وصلوالتوّهم ملابس المدينة, ولبسوا مثلما كانوا يفعلون حين كانوا في البلدة قبل سنوات. وخلال اليوم الأول مروا على أكثر بيوت الطيبة, وسألوا عن الرجال والنساء, وحزنواكثيرًا على الذين ماتوا, وفكّروا في أمور واقتراحات كثيرة, وقرَّروا بينهم وبينأنفسهم عدة أمور, إن هم عادوا إلى المدينة مرة أخرى. لم يكتفوا بذلك, بل وزعوا ماجاءوا به, وكتبوا رسائل عديدة إلى أقرباء وأصدقاء في المدينة البعيدة وفي المهجر. وفي الليل سهروا طويلاً يفكّرون ويتكلمون, لكنهم كانوا يحسون في أعماقهم بالمرارةتكوي لهاتهم مع كل كلمة يقولونها, لأنَّهم لم يكونوا متأكدين من شيء!
وإذا كانتالطيبة كثيرة الصبر والتسامح, وتغفر للغرباء مثلما تغفر لأبنائها, فإنَّها تعرفالغضب في مواسم الجفاف, وهذا الغضب الذي قد يأخذ شكلاً هينًا في بعض الأوقات يتحولفي النهاية إلى جنون لا يطيقه ولا يتصوّره أحد.
قال أحد القادمين, وكان شابًّايدرس في مكان بعيد:
- الناس هناك لا يفعلون كما تفعلون أنتم هنا, إنَّهم, هناك, يحوّلون الكلمات إلى قوة. قوة منظمة ومحاربة, ويجب أن نفعل مثلهم شيئًا عاجلاً قبلأن يلتهمنا الموت.
قال رجل مسنّ, وهو يقلب شفتيه باستنكار, ويقلب نظراته بينالأرض والسماء:
- وماذا تريدنا أن نفعل?
وقبل أن يجيب الشاب تابع الرجل:
- يجب أن تعرف, لا أحد يستطيع مقاومة الحكومة. علينا أن نكون عقلاء ونفكِّرفيما نستطيع عمله.
قال الشاب بعصبية:
- القحط إذا جاء تنامون سنةً كاملة, وإذا لم يجئ ترسلون الدعاء والرسائل ولا شيء غير ذلك, وبهذه الطريقة لن تبقيالطيبة!
قال والد ذلك الشاب:
- الطيبة, يا ولدي, باقية, لقد مرَّت سنواتصعبة كثيرة مثل هذه, تحمَّل الناس تلك السنوات وعاشوا بعد ذلك, وظلَّت الطيبة.
ردَّ الشاب بسخرية:
- الموت والحياة في مثل هذه الظروف متساويان. انظرواإلى الأرض والأشجار والدواب. وانظروا في وجوه البشر, إن كل شيء يموت, وإذا جاءت سنةمثل هذه السنة فلن يبقي شيء!
كان يمكن لهذا الحديث أن يستمر وأن يتطوّر لكن حيندخل الضيوف, الذين جاءوا عصر ذلك اليوم, إلى المضافة, تغيَّر الجو فجأة.
في عصرذلك اليوم, في نهاية فصل الصيف تقريبًا, جاء أربعة من الضيوف, جاءوا مع أصدقاء لهممن أهل الطيبة, جاءوا في سيارتين, إحداهما سيارة جيب والأخرى فولكس فاكن صغيرةرمادية. وعلى الرغم من أن أبناء الطيبة, المقيمين والراحلين, يتميَّزون برهافة الحسودماثة الخلق, ويعرفون كيف يعضُّون على جراحهم بصمت ويكتمون أحزانهم بصبر عجيب, حتىيخطئ الكثيرون في فهمهم أو تحديد مشاعرهم, فإنَّ الكثير من المتاعب والمشاكل التييريدون بحثها والحديث فيها حين يخلون لأنفسهم, يتركونها جانبًا, ويتحدَّثون بطريقةمختلفة حين يأتي الضيوف. والمسنُّون الذين تعوَّدوا على كتم مشاعرهم وانتظارالأوقات المناسبة للحديث, يختلفون عن الرجال الأصغر سنّا, إذ يُصاب هؤلاء بنوع منالحمى ولا يقوون على كتم الأفكار والمشاعر التي تملأ صدورهم, خاصة في موسم مثل هذاالموسم.
كانت هناك رغبة لأن يتحدث بعض الرجال للمرة الأخيرة, أمام الضيوف. وإذاكان الكثيرون من أهل الطيبة قد انتظروا بصبر فارغ مجيء الأبناء من المدينة, لكييتحدّثوا للمرة الأخيرة, في أمر السد, متى يجب أن يقوم وماذا فعلوا من أجل قيامه, وأنهم لم يعودوا قادرين على الانتظار أكثر مما فعلوا, وإذا صبروا وتحمَّلوا السنينالماضية بصمت فلن يستطيعوا بعد اليوم احتمال ذلك, وسوف يلجأون إلى وسائل جديدةلإقناع الكبار هناك في المدينة, بمدى القدرة التي يمتلكونها.
إذا كان أهلالطيبة قد انتظروا طويلاً, فقد خاب ظنُّهم تمامًا حين رأوا عصر ذلك اليوم سيارتينغريبتين تدخلان الضيعة. أمَّا حين تعانق الآباء والأمهات مع أبنائهم العائدين, فقدطغت للحظات قوة الحب على قوة العتاب, وجاشت الدموع في العيون وغلبت جميع المشاعرالأخرى. ونتيجة ذلك تراجعت الأفكار والكلمات الغاضبة لتحل مكانها مشاعر المودةوكلمات الترحيب. والضيوف الذين لم يروا الطيبة قبل هذه المرة, لم يروا فيها شيئًامختلفًا, ولم يحسوا بذلك الدوي الداخلي الذي يولّده الجفاف. أمَّا حين قابلتهمالابتسامات الواسعة والترحيب الحار فقد أحسُّوا بدفء داخلي وحسدوا هؤلاء الناس علىهذا الرضا الذي يمتلكونه!
بهذه الطريقة تأجَّلت أُمور كثيرة وحلَّت أخرىمكانها. فالأشياء التي حملها الأبناء من المدينة وُزِّعت بعناية, واختلى بعضالمسنِّين لينصحوا بعضهم بعضًا أن يتصرفوا بحكمة, ولكي يطلبوا من الشباب احترامالضيوف مثلما تعوَّدوا دائمًا, دون إثارة لأي أحزان أو مشاكل. وقالوا في أنفسهم: (سيبقى الضيوف يومًا أو يومين ثم يرحلون, وبعد ذلك سوف نقلب الدنيا على رؤوس هؤلاءالأبناء العاقّين, الذين لا يعرفون شيئًا في الدنيا سوى إرسال بعض الحاجات في مواسمالجفاف, وكأن الطيبة أصبحت مأوى للمتسوّلين والجياع, ويجب أن تبقي كذلك). أماالوعود الكثيرة عن المياه التي ستتدفق طوال أيام السنة, أمَّا عن الأسماك التيستزرع في البحيرة, عن القنوات التي ستمتد إلى مسافات بعيدة, فقد انتهى الأمر كله, ولم يبق إلاَّ صدى الكلمات يتردّد كل بضع سنين, شفقة أو حسرة على هذه البلدة التيتموت يومًا بعد يوم.
هكذا كانت الساعات الأولى, وهكذا كانت مشاعر
 
الناس, وأبناء الطيبة الذين أحسُّوا بغريزتهم أن كل شيء قد تغيَّر في البلدة, وأن الأيامالتي يعيشها أهلها من القسوة إلى درجة لم يكونوا يتصورونها, ورأوا التغيُّراتالعميقة التي دخلت في كل شيء يلمحونه. شعروا أنهم أذنبوا كثيرًا, وأن أي كلمات تقالالآن لا بدَّ أن تكون عاجزة ولا تعبِّر عمَّا تفيض به قلوبهم. ولأنَّ الضيوف قدأتوا, ولأنَّهم تعوَّدوا على شكل معين من التصرفات, فقد فهموا من النظرات, منالإشارات, وحتى من لمسات الأيدي, أن الطيبة تغلي ولا بدَّ أن تنفجر بشكل أو آخر, لكن هذه المشاعر تُركت جانبًا, لأنَّ الضيوف بدا لهم كل شيء غريبًا وطريفًا!
أمَّا حين انعقد مجلس السمر فقد تركَّز الحديث على الصيد, لأنَّ الضيوف جاءوالهذه الغاية. وما دام الضيوف يريدون هذا, فإنَّ هذا ما حصل!
وأهل الطيبة الذينكانوا قادرين على التحدِّي والغضب في أوقات معينة, كانوا قادرين أيضًا على الصبر, ويلجأون إلى كل الوسائل لمواجهة الجوع والموت. وحين يُذكر الصيد وسيلة لمواجهةالمجاعة, وإنقاذ ما يمكن إنقاذه, تتردّد كلمة واحدة, وكأنَّها كلمة السر: أين عساف? ودون عناء كبير يتبرع الكثيرون لمناداته, لإحضاره. وفي غمرة الحزن والجوع والتحدِّيومواجهة الموت, ومن أجل التغلُّب على الحزن والجوع والموت, تفلت كلمة ساخرة, أقربإلى الدعابة. يقول أحد الحاضرين, ليتغلب على المناقشة الحادة التي بدأت ولا يعرفكيف ستنتهي:
- نريد عسافًا, احضروا عسافًا حيًّا أو ميتًا!
دخل عساف عصبيّامخطوف الوجه, وبغمغمة لا تكاد تُفهم, ألقى التحية, وجلس قريبًا من الباب. وأهلالطيبة الذين تعوَّدوا على عساف, وقبلوا جنونه, رفضوا بكثير من الإصرار أن يصطحبكلبه معه إلى سهراتهم وإلى مجالسهم. وهذا الرفض الذي آذي عسافًا كثيرًا, قابله برفضأشد قسوة وأشد إصرارا, حتى انتهى الأمر إلى ذلك الاتفاق الضمني بأن يدخل عساف إلىالمجلس دون أن يصافح أحدًا, وأن يبقي كلبه قريبًا من الباب. وإذا كان عساف قدقَبِلَ هذه الشروط مكرهًا, فإنَّ علاقته بمجالس البلدة وأحاديثها قليلة إلى درجة أنالناس لا يرونه إلاَّ نادرًا. أما إذا جاء ضيف إلى البلدة من أجل الصيد, فقد كانأوّل الذين يجب دعوتهم وحضورهم هو عساف. وعساف الذي لا يحب حضور المجالس, يكرهأيضًا هؤلاء الضيوف, ويًعُدُّهم, في أغلب الأحيان, ثقلاء شديدي البلادة والخور, لكنمثلما علّمته الطيبة, كان مضطرًّا إلى مصاحبتهم وإلى مجاملتهم, ومن أجل ذلك كانيتحمَّل الكثير!
في هذه الأمسية, وحين أتوا بعساف, أحسَّ أن الأمر غير عادي. أمَّا حين جلس قرب الباب وأجلس كلبه إلى جانبه, فقد سمع أكثر من صوت يدعوه إلى صدرالمجلس, وإزاء رفضه, نهض واحد من أبناء الطيبة القادمين مع الضيوف, ومدَّ يدهيحيِّي عسافًا بحرارة أول الأمر, ثم يسحبه بقوة لكي يغيِّر مكانه. استمر الأمر بعضالوقت, بين القبول والرفض, إلى أن اقترح أحد المسنِّين انتقال عساف وبقاء الكلب حيثكان.
إن في حياة كل إنسان لحظات من الخصوبة لا يدركها, ولا يعرف متى أو كيفتأتيه أو كيف تنفجر في داخله. إنَّها تندفع فجأة, تعربد مثل الرياح أو مثل الأمطارالغزيرة المفاجئة, وتطغى على كل شيء, ومثلما تأتي فجأة تنتهي كذلك, وكأنَّها مياهغارت لتوّها في أرضٍ رملية عطشى!
هذه اللحظات لا يخطط لها أحد ولا يدبرها أحد, حتى لو أراد. وعساف الذي جاء مكرهًا, ليلتقي ببعض الوجوه التي لم يرها من قبل, وقدلا يراها مرة أخرى بعد أن تغادر الطيبة, والذي أغضبته كلمة أحد المسنِّين حين طلبمنه أن يُبقي كلبه عند وصيد الباب, وجد نفسه فجأة في عالم من الوجد وأقرب ما يكونإلى التجلِّي, إذ ما كاد يُسأل عن الصيد, وعن عدد الطيور التي صادها ذلك اليوم, وكيف كان الموسم بصورة عامة, حتى أحسَّ بالاختناق, وتمنَّى لو أنه لم يأتِ, وتمنَّىأكثر من ذلك لو يستطيع مغادرة المجلس. لكنه كان يعرف أهل الطيبة, يعرف مقدار الودالقاسي الذي يكنُّونه له, ويحس أن رابطة عمرها مئات السنين تربطه بكل ما حوله منأرض وبشر وأشجار ومياه, وأن هذه الرابطة تكون أشد وأقوى حين تمر سنة صعبة مثل هذهالسنة التي تمر على الطيبة.
كان مصممًا, أول الأمر, ألاّ يتكلم, فإذا حاصروهبالأسئلة, ولم يجد مجالاً للهرب, فلا أقل من بضع كلمات يقولها, لكن فجأة امتلأبشعور الألفة والتحدِّي معًا, وأحسَّ أن قلبه يخفق بضربات سريعة أكثر مما تعوّد حينيكون في مثل هذا الموقف, وقرَّر أن يفعل شيئًا لم يفعله من قبل.
يتذكّر هونفسه, ويتذكّر كل مَن كان موجودًا, أنه لأول مرة في حياته, قرَّر أن يخوض معركة لميخض مثلها من قبل, رغم ما يُقال دائمًا من أن حياته منذ بدأت معركة متصلة, إذ ماكادت الأسئلة تنهال عليه, وكلها عن الصيد, حتى صرخ بتحدِّ:
- تعال... تعال ياحصان!
وانتفض الكلب فجأة, ومثل حية ملساء, انسل ليجلس عند أقدام عساف.
كانتالحركة مفاجأة, لم يتوقعها أحد, وللحظات خيَّمت الدهشة وعمَّ الذهول. والمسنّونالذين يملكون, أغلب الأحيان, الحق بالأمر والنهي, أحسُّوا أن صوت عساف, وهو يدعوكلبه, غير مألوف, ولا يمكن مقاومته. تبادلوا النظرات فيما بينهم, ونظروا إلى عساف, لكن لأول مرة في حياتهم الطويلة الحافلة يكتشفون في عينيه بريقًا قاسيًا وحشيًّا, ودون وعي أو إرادة, تراجعت كلمات الاعتراض لتحل مكانها هزات الرؤوس تعبيرًا عنالأسف وشيء من العتاب.
لم ينتظر عساف, اعتدل في جلسته, أجال نظرة طويلة في وجوهالناس الذين خيَّم عليهم الصمت, وبطريقة مليئة بالمحبة والحنان معًا, امتدَّت يدهإلى الكلب, مسَّد على ظهره أكثر من مرة, ودون أن ينظر إلى أحد, وكأنَّه يخاطب نفسه, بدأ:
- ماذا تظنُّون يأهل الطيبة? هل تظنّون أن هذه السنة مثل السنين القاسيةالتي مرَّت عليكم? هل تظنون أنَّكم ستواصلون الحياة حتى تأتي الأمطار مرة أخرى? إنمَن يظن ذلك أقرب إلى الجنون.
توقف لحظة. عبَّ نفسًا عميقًا من سيجارته, وتطلعفي وجوه الرجال مرة أخرى, ثم تابع:
- قلت لكم ألف مرة: لم يبقَ بيننا وبينالموت إلاَّ ذراع, وهذه الذراع هي الصيد الذي نستطيع أن نوفره حين تأتي الأمطار مرةأخرى. قلت لكم مئات المرات وأنتم لا تسمعون هذا الكلام, وبدل ذلك تزدادون حماقةيومًا بعد يوم. قلت لكم:
 
اتركوا إناث الحجل للسنوات القادمة, إنها رزقنا الباقي. قلت لكم: وفّروا الخرطوش ولا تُفزعوا الطير, وعندها سيأتي إليكم بدل أن تذهبواإليه, لكنكم يومًا بعد آخر تزدادون عنادًا وتحدّيًا. قلت لكم: انقلوا من النبعحِمْل حمارين أو ثلاثة حمير وارموا بها في الخوابي القريبة, ثم اربضوا هناك حتىتأتي الطيور, فامتلأت وجوهكم بالابتسامات الساخرة, وقلتم: عساف انهبل, لأنه يطلبمنا أن نبذر ما تبقَّى لنا من الماء ونرميه في الصحراء. والآن تأتون بهؤلاءالأفندية وتتظاهرون بالنبل والكرم وتطلبون من عساف أن يصطحبهم إلى الصيد, وأنيجعلهم يصيدون! ماذا يستطيع أن يصيد هؤلاء أو غيرهم ما دمتم ملأتم الدنيا بالطلقاتالمجنونة تبذرونها في الهواء, حتى لم يبق طير من طيور السماء أو حيوان من حيواناتالأرض إلاَّ وسمع عددًا لا حصر له من الطلقات?
وحرَّك يديه بطريقة يائسة, وتطلّع في وجوه الضيوف, ثم تابع بلهجة جديدة:
- يا سادة, كان الحجل يصل إلىأبواب البيوت. كانت الغزلان والأرانب تملأ السهل كله. كانت ممرات الترغل كثيرة إلىدرجة أن عسافًا نفسه يحتار إلى أين يذهب وأي الممرات يفضّل. هكذا كان الأمر فيالأوقات السابقة, وأهل الطيبة بدل أن يحافظوا على هذه النعمة, لم يتركوا أي ابنعاهرة ولمسافة ألف كيلو إلاَّ ودلُّوه على الطيبة. اعذروني, أنا لا أقصد أي واحدمنكم, أنتم على عيوننا وعلى رؤوسنا, لكني أقصد الصيادين الآخرين الذين يأتون من كلمكان, وكأن ليس في الدنيا سوى الطيبة, وهؤلاء الذين يأتون لا يعرفون سوى شيء واحد: القتل. كانوا يقتلون كل ما تقع عليه أعينهم. كانوا يقتلون إناث الحجل قبل ذكورها, لأن الذكور وهي تجفل وتطير من الخوف, كانت تخلّف في قلوب هؤلاء الصيادين خوفًاكبيرًا, وبعد أن يستعيدوا شجاعتهم تطير الإناث فيضربونها. والشيء نفسه يفعلونهبالغزلان والأرانب وكل الحيوانات الأخرى, وحين يعودون محملين بالصيد الكثير لايكتفون بأن يعودوا إلى هنا مرة أخرى. إنهم يدلّون أصدقاءهم وأصدقاء أصدقائهم, إلىعاشر جدّ, ويحضرون معهم أنواعًا من السلاح لا يتصورها عقل ولا يقاومها صخر. وبهذهالطريقة, وسنة بعد أخرى, أقفرت الطيبة. والآن تريدون من عساف أن يستولد لكم الطيوروالحيوانات ولا أعرف أي عفاريت أخرى? ماذا يستطيع عساف أن يفعل? هل هو مسيح جديد? هل هو الذي يبيض ويفقس?).
ومن جديد امتدَّت يده لتستقرَّ على ظهر الكلب, وينظرإلى الوجوه التي اعترتها الدهشة وخيَّم عليها الصمت:
- لم يخلق الصيد للأغنياءأو الذين يقتلهم الزهق والشبع. لقد خلق للفقراء, وللذين لا يملكون خبز يومهم. وعسافالذي قضى حياته كلها في البرية لا يصيد في مواسم الخير إلاَّ ما يملأ معدته ومعدةهذا الحيوان. أمَّا في مواسم الجفاف, ولكي لا يموت الناس في الشوارع, فيمكن أن يكونالصيد حلاً, كما هو الحال ونحن نستبدل بخبز القمح خبز الشعير, لكن لا أحد يفهم فيالطيبة وفي غيرها من المدن والقرى. إن الإنسان في هذه الأيام يمتلك روحًا شريرة لاتمتلكها الذئاب أو أي حيوانات أخرى, ولهذا السبب نواجه اليوم الجوع, وسيكون الجوعغدًا أشد وأصعب. إنَّني أرى ذلك كما أراكم الآن. وإنَّني أخاف من الغد أكثر مماأخاف اليوم الذي أعيش فيه. هذا ما صنعناه بأيدينا!
وبطريقة أقرب إلى الفظاظةواليأس تحرَّك عساف يريد أن ينهض ليمشي. وإذا كان كلامه قدخلق جوّا متوترًا, شديد الحرج, خاصة لأهل الطيبة تجاه ضيوفهم, فإنَّ حركة غير عادية سرت في الجميع. كانت حركة سريعة غامضة, وفيها ذلك الاحتجاج اللذيذ الذي يشيع الاعتراف الضمني بأنما قاله ذلك المجنون هو الحقيقة ذاتها, ولا يمكن لأحد أن ينكرها أو يتنكر لها, وأنما قاله كان يجب أن يُقال!
قال نعيم, وقد جاء مع الضيوف من المدينة, وتحدَّثمعهم كثيرًا عن الصيد في الطيبة, وعن عساف ومقدرته الفائقة في الصيد, وتحدّث أيضًاعن غرابة طبعه, قال ليخفف من كلام عساف:
- ما قلته, يا عم عساف, هو الحقيقة, لكن أنت تعرف أي جنون يعيش في قلب الصياد!
قال أحد الضيوف, بلهجة مستسلمة, وكأنَّه يدافع عن نفسه:
- لقد انقطع الصيد في كل المنطقة, وليس في الطيبةوحدها!
ولأول مرة يقهقه عساف, كما لم يفعل ذلك في حياته إلاَّ مرات قليلة, وقالبصوت مليء بالسخرية:
- ومَن قال إن الطيبة وحدها يسكنها المجانين?!
ولكيتفهم كلماته جيدًا أضاف:
- لقد وصل الجنون إلى كل مكان. وهذه الأسلحة الجديدةما كان لها أن توجد, حتى لو صنعها بعض المجانين في الأماكن البعيدة, ما كان لها أنتصل, أو أن تستعمل في الصيد. إنَّها تقتل كل شيء, ولا تبقي شيئًا!
ومن جديد عادإلى لهجة السخرية:
- إذا كانت المناطق الأخرى تنعم بالمياه والخضرة, وتحصل علىما تريده دون عناء, لأنَّ منها الحكام والعسكر, فإنَّ الطيبة بلدة مسكينة, إذاأمطرت الدنيا وجدت لقمتها, وإذا أمْحَلت مات الناس جوعًا!
ومرة أخرى تغيَّرتلهجته:
- فيما مضى, قبل سنوات كثيرة, كنا نحارب الجوع ونتغلب عليه بالطيور التيتأتي, بالحيوانات التي تقترب من البلدة, وكنا نقاوم الجوع حين نأكل الجرادوالجرابيع, أمَّا هذه الأيام فلم يبقَ شيء. فإذا استمرت الحال هكذا فلن تمضي فترةقصيرة حتى تصبح الطيبة مأوى للبوم والوطاويط!
قال ضيف آخر بلهجة خجولة وهويستعرض صورة الطيبة:
- سمعت أن سدًّا سيُبنى عندكم, وأن هذا السد سيروي مساحاتواسعة, أليس كذلك?
قال أحد المسنِّين:
- مثلما سمعت, يا ولدي, سمعنا. الفرقبيننا وبينك, أننا سمعنا هذا منذ وقت طويل, ولقد قال لنا ذلك الكبار في المدينة, لكن مَن يدري!
وضحك الرجل بنوع من السخرية وهزَّ رأسه بأسف.
قال مختارالجهة الشرقية:
- اتركوا الآن هموم القرية. المهم أن ترتبوا مشوارًا مناسبًاللصيد, وهؤلاء الكرام لن ينسوا الطيبة, ولن يوفروا أي جهد من أجل إقناع المسؤولينلبناء السدّ بسرعة!
وتحوَّل الجو فجأة. هجم أحد القادمين على عساف, وقبَّله علىرأسه, وقال بطريقة مغرية:
- ستكون قائد الحملة يا بطرس, وسوف نعود بصيد وفير
 
غدًا!
قال أحد المسنِّين مازحًا:
- يجب أن تصيدوا صيدًا كبيرًا. إن الصيدوحده يمكن أن ينقذ الطيبة من الموت!
وتحلقت المجموعة, بمَن فيهم الضيوف, حولعساف, وبدأ الإعداد لمشوار الغد.
قال عساف ليؤكِّد اتفاق الليلة الفائتة:
- لو ذهبنا إلى الحجل فسوف نرجع بأيدٍِ فارغة. قتلوا الحجل لمسافة ألف كيلو. أمَّاالكدري فقد تنكّح, أصبح يخاف من الرجال والأشباح, ويطير من مسافات بعيدة. لذلك يجبأن نذهب إلى أقصى مكان, وما دام معنا سيارات فسوف تطيّر كل مجموعة للأخرى.
توقفقليلاً وأجال عينيه في الوجوه حوله. كانت العتمة تملأ كل شيء, ولا تبيّن من خلالهاسوى برقات سريعة للعيون أو توهج السجائر المشتعلة حين تمصّها الشفاه, قال عساف وهويتحرّك:
- أنتم وحظّكم, أنتم وشطارتكم!
في غبشة الليل المتأخر كانت رياحناعمة تملأ الكون وتخلّف نوعًا من البرودة اللذيذة, والرجال الذين انحشروا فيالسيارتين, كانوا أميل إلى الصمت والتأمل. صحيح أنهم تبادلوا بعض الأحاديث السريعة, لكنها كانت في مجملها للتغلب على الصمت والسأم, وفي محاولة لخلق تحريض متبادل, وبدافع الأمنيات قبل أي شيء. وعساف الذي جلس في سيارة الجيب, وكانت في المقدمة, كانشديد الصمت, ولم يجب عن الأسئلة التي وُجِّهت إليه إلاَّ بكلمات قليلة, كان يكتفيبأن يقول:
- اصبروا وسوف نرى!
بين فترة وأخرى, ولأن عسافًا هو الذي يعرفالطريق, كان يحدّد ويصدر الأوامر:
- يمين.
- يسار.
- مرة أخرى إلىاليسار!
والسائق الذي يستجيب بطاعة ودون اعتراض, كان يخطئ بعض الأحيان, فبدل أنيستدير إلى اليسار, كما طلب منه عساف, كان يستدير إلى اليمين, لكن ما يكاد يفطن إلىخطئه حتى يستدير بقوة ليأخذ الاتجاه الصحيح. والسيارة الخلفية, التي كانت تسير علىمسافة بعيدة نسبيًّا, لتتجنب الغبار الكثيف المتطاير من الجيب, كانت ترى في كلحركة, في كل التفاتة, مفاجأة أو صيدًا, وكانت تتوقع باستمرار شيئًا. لكن عسافًاالذي عرف هذه الأرض بشكل جيد, كان هادئًا. وحين سأله أحد الجالسين في المقعد الخلفيإن كان الوقت قد حان لإعداد البنادق, أجاب بعصبية:
- الصبر مفتاح الفرج. اصبر!
- ألا يحتمل أن نجد أرنبًا أو ذئبًا?
- وهل بقيت أرانب?
- أتصور أن هذهالأرض أرض أرنب!
- لا تتصور!
وانقطع الحديث مرة أخرى. لم يكن يسمع خلال هذاالصمت سوى الدويّ الصاخب لسيارة الجيب, ولم تكن ترى إلاَّ المساحة التي يولدهاالنور القوي المنبعث من أضوائها.
إنَّها إحدى المرات القليلة التي يتوغل أبناءالطيبة وضيوفهم إلى هذه المسافة البعيدة في الصحراء. ومع كل ميل جديد تتغير طبيعةالتربة ويتغير الهواء. فالمنطقة المحيطة بالطيبة متنوعة التضاريس, متفاوتة أشدالتفاوت, إذ تبدأ ببعض الصخور السوداء, وكأنَّها حدود الطيبة من هذه الناحية, ثمتليها الكثبان الترابية التي تتخللها بعض الصخور الكلسية, ثم الأرض الحصبة الشديدةالتنوع. وتتساوى في هذه الأرض قطع الحجارة الصغيرة مع التربة. وتظل هكذا, مع تفاوتبسيط, مسافة طويلة, حتى يقطعها وادٍ, وهذا الوادي يصبح خلال فصل الشتاء مجرًىللسيول والأمطار, ولا يكاد الإنسان يتجاوزه, وينعطف فجأة ناحية الغرب, ولمسافة ميلأو اثنين, حتى تبدأ الصحراء تظهر.
تبدأ الصحراء أوّل الأمر بخجل, وكأنَّهاتكوَّنت في التو واللحظة, إذ ما تزال تحمل بعض ملامح الأرض التي تجاورها, لكنتدريجيًّا تتغير الأرض, لتصبح نسيجًا واحدًا متشابهًا وأقرب ما تكون إلى راحة اليد, من حيث الاستقامة, مع التواءات صغيرة ومتفرقة, وكثبان رملية تظهر وتغيب, بين فترةوأخرى.
حين بدأت الصحراء, قال عساف بصوت واضح:
- الذين على الشبابيك يمكنأن يملأوا بنادقهم. هنا يمكن أن نجد أرنبًا ضائعًا لم تصله بعد طلقات المجانين!
وبطريقة آلية, شديدة الاستجابة, سُمعت أصوات البنادق وهي تُفتح, ثم سمعت أصواتالخرطوش وهي تستقر. قال عساف, وهو يلتفت إلى الخلف, ويكلم الرجل الذي جلس في وسطالمقعد الخلفي:
- حين نصل إلى مكان الصيد الحقيقي سوف تجلس مكاني ... هنا!
سأل نعيم, وهو يسوق السيارة, وقد شعر بالخوف أن يتخلَّى عساف عنهم في هذهالصحراء الرهيبة:
- وأنت, يا عم عساف?
لأول مرة, منذ بداية الرحلة, ابتسمعساف, ونظر إلى السائق, ثم إلى الرجال الذين يجلسون في المقعد الخلفي. كانت بدايةأضواء الفجر تنتشر بهدوء وتتسرب إلى داخل السيارة. وبعد أن تملَّى من وجوههم قال:
- أنا وكلبي على الأرض, وأنتم في السيارة.
سأله أحد الثلاثة, وكان جالسًافي الخلف:
- وكيف سنصيد?
قال عساف بسخرية:
- السيارة هي التي تصيد!
ولما أحسَّ أن أحدًا لم يفهم كلامه أضاف بلهجة مختلفة:
- بعد أن طاردالصيادون الطير وأتعبوه, بدأ يخاف من كل شيء, ولا يمكن أن يُصاد الآن إلاَّبالسيارة.
توقف قليلاً, تطلع حواليه, وقال بلهجة جديدة:
- حين ترون رفًّامن الكدري أو القطا يجب أن تغيروا عليه بأقصى سرعة, وقبل أن يطير كله, قبل أنيبتعد, يمكن أن تأخذوا منه بعض الطيور!
سأل نعيم, ومقود السيارة يضطرب بين يديهحين أمسك البندقية:
- وأنت يا عم عساف?
نظر إليه عساف نظرة مشجعة وأجاب.
- لا تخف, سنبقي أنا والكلب على الأرض, والذي يفلت منكم, الذي يطير باتجاهيويقترب, سوف يكون نصيبي!
بعد فترة من السير, ولما أحسَّ عساف أنه وصل المكانالمناسب, نظر إلى الأفق نظرة دائرية واسعة ليتأكَّد. وبحركة من يده, مع غمغمة غيرواضحة, طلب من نعيم أن يقف. ظنَّ الجميع أن عسافًا رأى صيدًا, لأنَّ الوقفة السريعةالتي وقفها نعيم خلقت شعورًا قويّا بالمفاجأة, لكن عسافًا وهو يفتح الباب, ويطلب منالكلب النزول, قال بهدوء وكأنَّه يلقي موعظة:
- يجب أن نبقي في دائرة, وهذهالدائرة قد تتسع وقد تضيق, لكنها تبقي دائرة, والطير لن يبعد كثيرًا. ما عليكمإلاَّ أن تعرفوا كيف تساعدون بعضكم بعضًا, ويجب أن يفهم جماعة السيارة الثانية هذا.
بعد قليل وصلت السيارة الثانية, ووقفت بهدوء إلى جانب الجيب, ولكي لا يترك عسافالأمر غامضًا, قال بصوت عال:
- سنبقي أنا والكلب على الأرض, وأنتم, كل في اتجاهتطاردون الطير, والكدري في مثل هذا الوقت لايخاف وهو بطيء الطيران, ويمكن أنتصل السيارة إلى وسط الرف ولا يطير, وإذا كنتم صيادين فسوف يكون الصيد
 
كثيرًا!
وأضاف كأنَّه يخاطب نفسه:
- أعتقد أن أحدًا غيرنا لم يصل هذا المكان منذفترة طويلة, وما دام الطير غير مضروب فإنَّه لا يجفل, وسيكون الصيد كثيرًا!
قالأحد أبناء الطيبة:
- الأفضل أن تبقي معنا يا أبا ليلى, السيارة واسعة ويمكن أننتصيد على مراحل.
- الأفضل أن أبقي على الأرض.
توقف لحظة ثم أضاف:
- والأخ يجلس هنا.
وأشار إلى الشخص الذي يجلس في وسط المقعد الخلفي, يطلب منه أنيتحوَّل ليجلس مكانه!
وبعد فترة صمت قصيرة, ولكي لا يترك مجالاً لأي مناقشة, تابع:
- الأفضل أن تكونوا في السيارات, وأن تساعدوا بعضكم بعضًا: كل سيارةتطيّر للسيارة الثانية, وأنا على الأرض, لأنَّني بهذه الطريقة أعرف كيف أصيد!
وخلال بضع دقائق, وبتوضيحات عديدة ومتزايدة, خاصة من أبناء الطيبة الذينيرافقون الضيوف, وبمشاركة قصيرة, لكنها حاسمة وشديدة الوضوح من عساف, تمَّ الاتفاقعلى كل شيء. وقبل أن تتحرك السيارتان, كل واحدة باتجاه, مدَّ نعيم إلى عساف بعلبةمن الخرطوش, وأطفأ أنوار السيارة.
وبدأت رحلة الصيد!
هواء الصباح الطرييملأ الكون بنعومة خائفة أقرب إلى اللذة الراعشة, وهذه اللذة تتسرب إلى العظاممباشرة. أمَّا المدى الفسيح, بلا نهاية, فيولد رهبة خاصة لا تولدها إلاَّ حالاتولحظات معينة في الكون والطبيعة. الصحراء المترامية, بذلك اللون الرصاصي في غبشالصباح, لا يماثلها إلاَّ البحر. أمَّا الشعور بالضآلة والانتهاء, ثم الاندماج مرةأخرى, فلا يتولد إلاَّ في عصف الرياح المجنون وفي الأمطار الغزيرة التي تبدأ لكي لاتنتهي. وشعور الظلمة الذي يلف كل شيء, ويجعل المخلوق, خاصة إذا كان بشرًا, ضئيلاًمتلاشيًا, فإنَّه يطغى على الإنسان في الصحراء أكثر مما يطغى في أي مكان آخر, حتىليشعر الإنسان أنه متروك ووحيد, إلى درجة لا تخطر على باله. ومن شعور الوحدة يتولّدالخوف والرهبة والانتظار ورغبة التخفي والصراخ والاتحاد مع شيء ما وآلاف المشاعرالأخرى التي تعجز عنها كل الكلمات.
حتى في الأوقات التي يكون الإنسان معالآخرين, يحس أنه في الصحراء وحيد, وأنه يواجه عدوًّا أقوى منه آلاف المرات. وهذاالعدو لا يمكن أن يقاوم, لكن من الضروري مصادقته, أو الاحتيال عليه, والإذعان إلىشروطه.
هكذا كان شعور الصيادين وهم يواجهون هذا العالم لأول مرة. حتى الذينجاءوا برغبة لا تقاوم للصيد, وضمن أي شروط, داخلهم الخوف واستقرت في قلوبهم رهبةغامضة, (ماذا لو ضعنا?), (ماذا لو غرزت السيارات في الرمال الصاخبة الملعونة?), (وهذه الطيور, ألم تجد مكانًا غير هذا المكان البائس لتعيش فيه?).
وفي مثل هذهالظروف يصبح الإنسان, مهما امتلك من القوى, ومهما عربدت فيه التحدّيات, أقرب إلىالضآلة. يتمنى لو كان أكثر عقلاً ولم يدخل هذه التجربة. حتى الصيد في هذا المكانالفسيح الموحش له طعم مختلف, يصبح أقرب إلى المغامرة الخطرة يمارسها الإنسان برغبةإثبات القدرة والتأكُّد من الوجود, أكثر مما تحمل من لذة المطاردة والانتظاروالانقضاض. ففي الصحراء يمتلك صفات تنفجر في داخله فجأة. يمتلك صفات التواضعومحاولة التعرُّف والصبر. ويتطلع إلى كل ما حوله بحيرة أقرب إلى التساؤل.
أمَّاإذا انفجرت رفوف الكدري كما تنفجر القنابل بين الأرجل, فإنَّ الإنسان نفسه يصبحمخلوقًا آخر يتحوّل فجأة إلى إبله يطارد ظله, إلى إنسان يعارك نفسه ويريد أن يقضيعليها قبل أن يقضي على الغير, فيغادرهالخوف وتزول منه الرهبة ويتحوّل بين لحظةوأخرى إلى وحش من نوع خاص. فإذا تجاوز هذه اللحظة, ومضى عليها زمن طويل, فإنَّهينظر إليها بنوع من الإعجاب يصل حد الغرور, ويتساءل بزهو: (هل دخلت هذه التجربةوخرجت منها سالمًا?). (هل يشبه صيد الصحراء أي صيد آخر في الكون?).
هكذا بدأتالرحلة. وأي محاولة لاستعادة تلك اللحظات تقف عاجزة بائسة أمام هذا الملكوت الشامخالذي يملأ كل شيء.
فالسيارتان حين بدأتا الحركة تملَّك كل مَن فيهما خوف مفاجئ, ولم يستطع أي إنسان من البشر السبعة الذين كانوا محشورين فيهما أن يقول شيئًاذكيًّا أو أن يتصرف تصرفًا واضحًا مقصودًا.
كانت حركة السيارتين بطيئة أولالأمر, وبلا اتجاه. وكان السائقان, وكل واحد في أي من السيارتين, ينظر إلى الآخرين, ينظر إلى الذين حوله وينظر إلى السيارة الأخرى, ولقد امتلأ بمشاعر الخوف والانتظار, وتملكته في لحظات معينة مشاعر الندم أنه جاء إلى هذا المكان, وإلى هذا النوع منالصيد. وبرغم أن المسافة بين السيارتين لم تكن بعيدة. ولا تزيد على بضع مئات منالأمتار, فإنَّ حالة أقرب إلى العجز سيطرت على الجميع في الوقت الذي ظلَّ فيه عسافمزروعًا في الصحراء وشبحه يبتعد ويختفي كل لحظة. أمَّا كلبه الذي كان واضحًا خلالبعض الوقت, فقد أخذ يبتعد ويصغر حتى تلاشى تمامًا!
في إحدى اللحظات العمياء, وعلى غير انتظار, انفجر رفّ من الكدري. بدا في عتمة النور الأولى أشبه بالطيورالأسطورية. كان لانفجاره دوي هائل, وظلَّ هذا الدوي وقتاً طويلاً, لا يملأ الآذانوالعيون فقط, بل أيضًا يستقر في القلوب ويسيطر عليها. أمَّا الطلقات الخائرةالمرتجفة التي توالت, الواحدة بعد الأخرى, فلم تخلف شيئًا سوى موجة من الدخانالأزرق تلاشى تدريجيًّا مع رياح الصباح.
إنَّها المفاجأة الأولى. وإذا كان كلواحد من الصيادين الذين كانوا في سيارة الجيب, والذين التقوا بهذا الرفّ, قد امتلأإصرارًا وتملكته مشاعر الخيبة, فقد قال الجميع كلمات بائسة لتبرير الفشل. أمَّاصيادو السيارة الأخرى فنظروا بحسرة وحقد, وقرَّروا في أعماقهم ألاّ يكونوا خائبينبهذا المقدار. والكلمات العرجاء التي تبادلها ركاب السيارة الجيب, فيما بينهم, لتبرير هذه الخيبة, قابلتها شتائم وتحديات من ركاب السيارة الأخرى!
إنَّهاالتجربة الأولى. ومثل كل التجارب الفاشلة, وفي جميع المجالات, يتولّد في الإنساننوع من الإصرار أقرب ما يكون إلى الرعونة, إذ ما كاد ذلك الرفّ يتلاشى في الأفقمبتعدًا حتى أسرعت السيارتان معًا, وخيَّم التحفّز الحذر على الجميع. امتدت البنادقأكثر من السابق, وبرقت العيون بالحقد.
وأبناء الطيبة الذين عرفوا أنماطًا كثيرةمن الصيادين, وكانوا شديدي الحذر والدقة في أن يطلقوا أي كلمات أو أوصاف لتقييمالصيادين الآخرين, كانوا متأكّدين من شيء واحد: مَن لا يعرف الصحراء, مَن لم يرَهذا الطير, لا بدَّ أن يُصاب بالخيبة بعد الرحلة الأولى. لم يقولوا هذا الكلاممباشرة, لكنَّهم كانوا واثقين بهذا الاقتناع, خاصة وأن أغلب الضيوف الذين جاءوا, وادَّعوا كثيرًا, وأسرفوا في الحديث عن الطيور التي صادوها, وعن الأماكن التي ذهبواإليها, أثبتت التجربة شيئًا مختلفًا. إذ كثيرًا ما ادَّعى الصيادون أن جبال الطيبةأقسى من أي جبال رأوها, وأن حجل الطيبة ملعون إلى درجة أنهم لم يروا حجلاً آخرمثله. كانوا يقولون ذلك حين يصعدون إلى الجبال. أمَّا إذا ذهبوا إلى ممرات الترغل, وعادوا بصيد قليل, فكانوا يعزون ذلك إلى أسباب وهمية وأقرب إلى الغباء. الآن, فيهذه الصحراء الفسيحة, هذا الطير الذي يرونه ينفجر أمامهم ويثير استفزازهم, لايعرفون أي أكاذيب يمكن أن يقولوها لتفسير هذه الخيبة! ولكنها عادة من عاداتالصيادين, حين يندفعون برعونة زائدة إلى التحدي, ثم إلى التبرير, وأخيرًا إلىالكذب!
بعد الرفّ الأول طار رفّ ثان. ومثلما واجهت سيارة الجيب عددًا من الرفوفوطار بعضها حول السيارة, وكأنَّه كان داخل قفص ثم انفلت فجأة, فإنَّ السيارة الأخرىقابلت عددًا مماثلاً, وربما أكثر قليلاً. وإذا كان لصيادي هذه السيارة بعضالمعاذير, حول ضيق الشبابيك, وعدم إمكانية التحرُّك بسهولة, فإنَّ صيادي سيارةالجيب كانوا أقل قدرة على التبرير.
كانت السيارتان, وهما تبحثان عن دائرةلتدورا فيها, تمتلئان بنوع من الحرج أقرب إلى الخجل, وفي بعض اللحظات أقرب إلىالخوف. فبعد أكثر من ساعة, وبعد أن طارت عشرات الرفوف من الكدري, وكانت الحصىلةثلاثة طيور في الفولكس فاكن, وطيرين في سيارة الجيب, تملكت الجميع رغبة في توسيعقطر الدائرة, في محاولة لاكتشاف مجال
 
واسع والعودة بصيد أوفر. كانوا يشعرون بنوع منالخجل, وكان كل واحد متأكدًا أنهم لو عادوا إلى عساف بهذه الحصىلة, بعد كل الطلقاتالمجنونة التي ملأت الفضاء, فسوف يسخر منهم. وهذا الشعور لم يقتصر على ركاب سيارةواحدة, أو على واحد من الصيادين فقط. كان شعورًا ضمنيًّا صامتًا, لم يستطع أحد أنيقوله, لكن كل واحد تصرَّف بدافع منه وتحت تأثيره. حتى الرغبة أو الكلمة, التييقولها أي واحد في الذهاب إلى هذا المكان أو ذاك لم تكن تجد اعتراضًا من أحد. كانالجميع يمتلئ خوفًا, خاصة وأن كل واحد قدَّر أن عسافًا قد اصطاد مئات الطيور!
وعلى الرغم من قوة هذه المشاعر وسيطرتها الغامضة, فإنَّ مشاعر أخرى كانت ترفعرأسها بين لحظة وأخرى: الخوف من الصحراء, والتيه في هذا البحر القاسي الذي ليس لهبداية وليس له نهاية!
حين ارتفعت الشمس في السماء بضعة أذرع, وارتفعت معهاالحرارة وارتفع الغبار, شعر الجميع برغبة اللقاء مرة أخرى, مهما بدا هذا اللقاءقاسيًا مريرًا, خاصة وأن عسافًا كان قد نبَّههم إلى أن الكدري مع تقدم النهار يرحل, وأنه يذهب إلى أماكن بعيدة بحثًا عن الماء والطعام. وأن الصيد خلال النهار منالصعوبة وعدم الجدوى إلى درجة كبيرة.
وبطريقة غامضة مليئة بالتردُّد, بدأتالسيارتان تتجهان إلى منتصف الدائرة. وإذا كان لكل مكان في الدنيا دائرة, ولهامنتصف, فإنَّ الصحراء ملعونة إلى درجة الرجم, لأنَّ كل ذرة منها دائرة, ولأنَّ كلمكان منتصف الدائرة. ومع ذلك, وبمعرفة أبناء الطيبة باتجاه الريح, وتذكّرهم أنريحًا غربية كانت في بداية الرحلة, بدأت الدائرة تضيق تدريجيًّا, وبعد ساعة منالبحث, ومن النظر المدقق, رأت سيارة الجيب زوالاً بين السواد والزرقة, ودون تردُّدقال أحد أبناء الطيبة:
- عساف... ذاك هو عساف!
وبلهفة أقرب إلى الوجد, ودونتساؤل أو انتظار, اتجهت السيارة نحوه, وبعد دقائق كانت السيارة الأخرى قد وصلت.
كان عساف منبطحًا على الرمل, والكلب قريبٌ منه, وكانت البندقية ملقاة إلىجانبه, وكأنَّها لا تعنيه. كان يعبث بالرمل ويبتسم ابتسامة خفيفة, أمَّا الطيورالتي اصطادها فقد كوَّمها مثل تل صغير إلى جانبه, وكانت مناقيرها باتجاه واحد...
حين نظروا إلى تل الطيور أُصيبوا بذهول حقيقي, كانت بالنسبة لهم تلاًّمستحيلاً, رقمًا مستحيلاً. أمَّا حين بدأوا بإنزال الطيور من السيارتين فقد نظرإليها عساف بدهشة أقرب إلى الاستغراب, لكنه بسرعة لملم دهشته, وقال بطريقة أبويةللتخفيف عنهم:
- الصيد في السيارة يحتاج إلى التعوُّد, والرفوف التي كانت تطيرمن عندكم كانت تأتي إلى هنا!
أمَّا حين سأله أحد الضيوف عن عدد الطيور التيصادها فقد قال بتواضع:
- حوالى العشرين, لم أعدّها.
ولم يسأل عن العدد الذيصادوه, كان همَّه الأساسي أن يتأكّد إذا قابلوا رفوفًا كثيرة أم لا? وإذا كانتقريبة أم بعيدة, وهل ضُربت من قبل أم أنها طارت بعد أن وصلوا إليها?
عند هذاالحد كان من الممكن أن تنتهي رحلة الصيد. ولو ترك الأمر لأبناء الطيبة أو لعسافلاقترح أن يعودوا, وإلى جانب صخرة في الوادي الذي اجتازوه يمكن أن يستريحوا, وأنيأكلوا, وكان من الممكن أن يقال إن هذا الصيد كافٍ, وسوف تنظّم رحلة صيد ثانية, فيمرة أخرى. لكن الأمور, في أغلب الأحيان, تسير بطريق لا يقدره الإنسان ولا يتوقعه. وإذا كان الضيوف هم الذين يحكمون, وهم الذين يقرّرون, فإنَّ أهل الطيبة امتلكواخلقًا رفيعًا بحيث لا يمكن أن يفصحوا عمَّا يريدونه مباشرة. وعساف الذي قال مجاملةولكي يبعد أي إمكانية للبقاء:
- الصيد انتهى, فمنذ الآن وحتى الغروب, لن نجدرفًّا واحدًا, وإذا وجدنا أي رفّ فسوف يطير من مسافة بعيدة, ولا يمكن لأي إنسان أنيأخذ منه طائرًا واحدًا.
وبعد أن تبادل أبناء الطيبة النظر فيما بينهم, ومععساف, نظروا في وجوه الضيوف, ثم اقترح أحدهم اقتراحًا وجد هوًى عند الضيوف دونتردُّد:
- يمكن أن نذهب الآن حيث يريد عساف, وبعد أن نتغدى ونستريح نقوم بمشوارصغير قبل الغروب, وبعدها نعود إلى الطيبة.
لم تكن الجلسة, في الوادي, تحت ظلالالصخور, مريحة, إذ رغم رطوبة المكان, كانت ريح الصحراء شديدة اللفح والحرارة, وكانتتحمل معها, بين فترة وأخرى, ذرات من الرمال تسفّ وتتكوّم على المنحدرات الواطئة, غير المنتظمة, والتي تشكل مجرى السيول أيام الشتاء.
في هذه الجلسة, والتي شربخلالها الجميع, وتحدّثوا عن أشياء لا حصر لها, كان عساف في البداية أقرب إلى الصمت. وفي المرات القليلة التي تكلم فيها, تحدّث بشكل غير مفهوم, وكأنَّه يحدّث نفسه. أماعندما سُئل عن الحيوانات التي صادها, وفي أي أماكن, فقد اكتفى بأن يقول:
- مافائدة الحديث عن الأشياء الماضية, ما دام الإنسان غير قادر الآن على أن يصطاد أيحيوان?!
وحين ألحُّوا عليه أن يحدِّثهم عن أكثر مرة صاد فيها, وعن عدد الطيوروالأرانب التي صادها, قال بحدّة:
- لا تنظروا إليّ كوحش, أنا إنسان, نعم إنسانمثلي مثلكم, وليس بيني وبين أي مخلوق عداء من أي نوع. فإذا كانت الطيور والحيواناتتغريني وأُطاردها, فلأنَّني أشعر بحاجة أكثر مما أشعر بلذة. وحتى لو كانت هناك لذة, فإنَّها لا تصل بالإنسان إلى حدود الإبادة والفتك. حتى الذي يرغب في امرأة, ويريدأن يعتصرها بين يديه إلى الأبد, فإنَّه غير قادر على أن يفعل ذلك بلا حدود. أمَّاإذا كان أحمق, وإذا فعل شيئًا لا يناسب الطبيعة البشرية, فلا بدَّ أن ينتهي بشكلما. وأنا... عساف الذي لا يعرفه أهل الطيبة إلاَّ تائهًا في البراري, ولا يلاحقإلاَّ الطيور والحيوانات, أنا عساف الفهد, لا أرغب في الصيد لمجرد القتل ولا أصيدأكثر ممّا يجب إلاَّ في الأوقات الضرورية.
كان يريد أن يتحدث أكثر, وبطريقةأفضل, لكنه لم يستطع. أمَّا الأفكار التي دارت في رأسه وملأت عقله وهو مستلق علىجنبه, وكلبه بقربه, فقد كانت كثيرة إلى درجة لا يستطيع أن يحاصرها, أن يقولها. وحتىلو أراد أن يتكلم فإنَّ كلماته تبدو غامضة فجة, وقد لا يفهمها أحد. وحين شرب كأسًاجديدة وامتلأ نشوة شعر بأنه يستطيع أن يتكلم بشكل أفضل, خاصة وأن الآخرين قد تكلموادون أن يطلب منهم أحد ذلك, ودون أن يكون لكلامهم أي معنى أو ضرورة. لقد تكلموا بتلكالطريقة الفخمة المليئة بالأكاذيب, والتي لا يتقنها إلاَّ المتعلمون وأبناء المدن. فكَّر أكثر من مرة في أن يصرخ, أن يضحك بسخرية, لكنه ابتلع أكثر ما كان يريد أنيقوله, واكتفى بأن ينظر إلى الوجوه, وأن يراقب التصرفات.
كان عساف في ذلك اليومحزينًا إلى درجة لا يتذكر معها أنه حزن بهذا المقدار, وشعر بأن ثقلاً أقرب إلىالصخرة يجثم على صدره. وإذا كان قد تعوّد أن يصدر الأوامر إلى الصيادين الأغرار, وأن يقودهم في المسارب الضيقة ويتقدّمهم في المعاصي, ليثبت لهم بطريقة ما أنهم مازالوا بحاجة إلى وقت طويل لكي يتعلموا معنى الصيد, وأن يتصرفوا بطريقة مليئةبالحكمة والذكاء, ويميزوا بين الطيور التي تُصاد وتلك التي يجب أن تُترك لتعيش, إذاكان قد تعوَّد ذلك ومارسه بمكر, ولأسباب غامضة في بعض الأحيان, فلقد كان في هذااليوم أقرب إلى الاستسلام واليأس, وكان مستعدًّا لأن يفعل ما يريده الآخرون.
لوأن عسافًا تماسك في لحظة معينة, لو أنه رفض بإصرار, مثلما تعوّد, الاستجابة إلىرعونة الشباب وخفتهم, لو أن الحزن فارقه واليأس لم يسيطر عليه, لو أن الخمرة لمتتصاعد أبخرتها القوية الحادة إلى الرؤوس في هذا اليوم الصيفي, لو أنَّ المكان كانغير هذا المكان, لما حصل شيء. لكن قوة خفية, أقرب إلى البلاهة, ولعلَّها حكيمةبمقدار لا يدركه عقل الإنسان, هي التي قرَّرت كل شيء!
فقبل أن ينتصف النهار, وبعد أن استراحت القافلة أكثر من ساعتين بدا الزمن لضيوف الطيبة الذين أتوا منالمدينة, شيئًا مختلفًا عمّا يحسّه أهل الطيبة, ومًن عاش في مثل هذه الأماكن. إذ ماكاد أحدهم يقترح العودة إلى الصيد, حتى استجاب الآخرون بسرعة وسهولة. وكأنَّهماتفقوا على ذلك من قبل. وعساف الذي نظر إلى أبناء الطيبة نظرة تساؤل, وجد في عيونهؤلاء استسلامًا حائرًا, وبدا أنهم غير قادرين على اتخاذ أي قرار, وأنهم يمثلوندورًا أقرب إلى الحماقة, ويستجيبون لأي رغبة يطلبها هؤلاء الأفندية.
بعد تردُّدلم يطل, نهض عساف وبلهجة مليئة بالسخرية والتحدِّي, قال يخاطب كلبه:
- لا يتعلمالإنسان إلاَّ بالتجربة, أمَّا الحيوانات فإنَّها تتعلم أشياء كثيرة ثم تورّثها إلىأولادها وحًفًدتها, وبهذه الطريقة تدافع عن نفسها وتواصل الحياة. أمَّا الإنسان...
وضحك بسخرية, وبلا مناقشات طويلة اختار عساف مكانًا جديدًا, قال ليقنع نفسه:
- قد لا تكون الطيور هناك مضروبة, وقد نجد بعض الأشواك تستظل بها, ونحن وماقُسِم لنا!
وبالطريقة نفسها, وبالإصرار نفسه, حين وصل إلى المكان الذي يراهمناسبًا للصيد, أوقف السيارة وأنزل كلبه, ثم نزل.
لم يتكلم هذه المرة أي كلمة, لم يكرز بأي موعظة. أمَّا حين قال أحد أبناء الطيبة بصوٍت عالٍ لينبّه الجميع:
- سنلتقي هنا بعد ساعة وأقصى حد ساعتين, لأنَّ الطريق إلى الطيبة طويل, ويجب أننصل مبكرين.
حين قال الرجل هذه الكلمات, هزَّ عساف رأسه دلالة الموافقة, ولوَّحبيده بطريقة دائرية, وقد فُهمت تلك الحركة على أنَّه سيبقى في منتصف الدائرة, وفهمتعلى أنَّها تحية.
الشمس تنزلق من السماء مثل رصاص مصهور, والرمل أكثر سخونة منالجمر, حتَّى الكلب وهو ينقل أقدامه تصدر عنه أصوات ضعيفة أقرب إلى الاستغاثة أوالاحتجاج, أو
 
كأنَّه يمشي على أشواك حادة أو زجاج مكسور. وحين أقلعت السيارتانبسرعة خلفتا وراءهما سحابة كبيرة من الغبار, لفَّت عسافًا فبدا جزءًا من الصحراءالممتدة بلا انتهاء. أمَّا الكلب فقد عوى احتجاجًا وركض لمسافة وراء إحدىالسيارتين, ثم عاد ببطء.
وإذا كانت الطبيعة بجبروتها غير المحدود, في البحاروالمحيطات, على قمم الجبال وفي أعماق الأودية, في الأصقاع المتجمدة وفي ظلمةالغابات- إذا كانت الطبيعة في كل هذه الأماكن تنذر بالتحول وتبعث بإشارات من نوعما, بأن ذلك العنفوان الداخلي لم يعد يقوي على الاحتمال وسوف يقلب جلده في اللحظةالتالية, فالصحراء الغامضة القاسية الموحشة المفاجئة تتجاوز قوانين الطبيعة لتثبتهذه القوانين. فلم تمض ساعة حتى جُنَّت الدنيا: هبَّت ريح قوية عاصفة غيَّرت كلشيء. كانت الزوابع تدفع الكثبان الرملية وتسفّها كما تفعل الرياح بالأمواج, فتتدحرجالرمال بسرعة كما لو أنها كتل من القطن الهش أو بقايا أوراق محترقة, حتى إن الإنسانما أن يستدير قليلاً ليتَّقي هذا الجنون المفاجئ حتى يمتلئ حلقه وتمتلئ عيناه بذلكالجمر الصغير الناعم وكأنَّه سقط من نار لا تعرف التوقف أو الانطفاء.
إن ما حصلفي ذلك اليوم الصيفي, في أعماق الصحراء, وعلى مسافة غير قصيرة من الطيبة, لا يمكنأن يستعيده أحد دون أن يبكي. فالخوف الذي ملأ الدنيا خلال تلك الساعات كان من القوةوالذهول إلى درجة أن لا أحد يستطيع أن يتذكر ما حصل. حتى الكلمات تبدو باهتة عاجزة, ولا تعبِّر عن أي شيء. وأبناء الطيبة الذين كانوا يعرفون بغريزتهم طبيعة الصحراءوقسوتها, من رائحة الهواء, من لمعان السماء القاسي, من الزوابع التي تجاوزت الواديوعبرت السهل كله حتى وصلت إلى الطيبة... إن هؤلاء لم يصدقوا الهول الذي يرونه أمامعيونهم. إنَّه شيء لم يشهدوا مثله طيلة حياتهم. والضيوف الذين أصابهم الهلع, والذينفقدوا القدرة على التصرُّف, تحولوا إلى مجموعة من الدمى المتوسلة الباكية. كانوايريدون شيئًا واحدًا: ألاّ يموتوا!
وفي غمرة الخوف يفقد البشر القدرة علىالتصرُّف, فبدل أن يوقفوا السيارات وينتظروا, كانت العواصف الرملية القاسية هي التيتحرّكهم, هي التي تقودهم. وفي المرات القليلة التي توقفوا فيها وجاءت الزوابع حاملةالرمال الساخنة, صرخوا برعب, وشعروا بالموت يطبق على رقابهم. ودون انتظار وبدوافعغريزية حاولوا الهرب. وإذا كانت الجيب قد ظلت محتفظة بقوتها وقدرتها على السيطرة, فإنَّ السيارة الأخرى بدت مثل سلحفاة ضالة لا تعرف إلى أين تذهب أو متى تموت. وحينقال أحد أبناء الطيبة بأنَّ الأمر أصبح خطيرًا إلى درجة تتطلب بقاء السيارتين معًا, فقد شعر الجميع بنوع من الراحة. ولم يكتف سائق الفولكس فاكن بأن يبقي قريبًا, بلأصرَّ على أن يمشي قبل الجيب, وعلى مسافة أمتار قليلة منها.
انتظار الموت فيهذه الصحراء أصعب من الموت آلاف المرات. فالموت هنا لا يأتي فجأة, لا يأتي متنكرًا, ولا يأتي بسرعة ويقضي على كل شيء, وإنَّما يكشر عن أنيابه في البداية ثم يقف علىشبابيك السيارات, وبين لحظة وأخرى يعربد, يصرخ, يلطم الوجوه, يسفّ حفنة من الرمالفي الأفواه والعيون. وبعد أن يمل من هذا المزاح يتراجع قليلاً, ليُقعي مثل ذئب, انتظارًا لجولة أخرى. والجولة الأخرى لا تنتظر طويلاً, إذ تصعد مثل البخار مسرعةجارفة قوية, فتولد يبوسة في الحلوق, هلعًا في العيون, انتظارًا آخر قاسيًا ممضًّا, بالخشونة الكاوية نفسها, بالجبروت نفسه الذي لا يعرف التراجع, يدقّ الشبابيك مرةأخرى دقّات قوية متواصلة.
وبين انتظار وانتظار يموت الإنسان, يموت ألف مرة, يفقد الثقة, تتلاشى إرادته, يسقط, ينهض, يترنح, يمتلئ حلقه بأدعية خائفة لا يعرفكيف أتت, يصرخ دون صوت, ينظر في وجوه الآخرين ليرى وجهه, يتذكّر, يقاوم, ينهار, يسقط. يموت مرة أخرى, ينهض من الموت, يتأمل الأمتار القليلة التي يمكن أن تُرى عبرالشبابيك, يلامس حبات الرمل المتسربة في كل مكان, يملأ حلقه بجرعة ماء ويستبقيهالأطول فترة لعلَّها تمدّه بمزيد من القوة على المقاومة, على الصمود, يفقد القدرةعلى الحديث, يفقد القدرة على ابتلاع الماء, يتحوّل الماء إلى ملح, يتحول الزبد إلىزبد, يريد أن يصرخ, أن يموت تمامًا, يريد أن تنشقّ الأرض فجأة وتبتلعه, يريد ماءً, ظلاًّ, وينتظر!
حتى الزمن في الصحراء يكتسب معنى آخر, يتحوّل إلى ذرات صغيرة, الثانية, والدقيقة هي كل الزمن. ثم يبدأ ذلك الزمن بالتفتت إلى ما لا نهاية, كالصحراء بلا نهاية, ويطبق كالخيط المبلول القاسي, يشدّ دون توقف على الرقبة, يحزّها لكن دون أن يقطعها أو أن يبقيها, ويظل هكذا موتًا مؤكّدًا منتظرًا ساخرًامؤجّلاً, فيحسّ الإنسان بالاختناق, وتتصاعد ضربات القلب, وترتفع درجات الحرارة, ويتحوّل لون الوجوه إلى الزرقة, ولا يستطيع الواحد أن ينظر إلى الآخر خوف الانفجارأو العويل.
والحرارة المنبعثة من الأرض أو المنزلقة من شمس السماء المتوحشة لاتترك للإنسان لحظة من التوازن والتفكير. فالظلمة حين تطبق تجعل الإنسان يحس بضآلةٍمتناهية, ويتضاعف رعبه مئات المرات.
فبعد انتظار طويل طويل, لعل الريح تهدأوتصبح الرؤية ممكنة, بدت الشمس تميل نحو الغروب, لم يرها أحد تفعل ذلك, لم يرها أحدتنزلق مثلما تفعل في البحر, لكن من النور الباهت المتداخل مع ذرات الرمال, من ذلكالانكسار التدريجي في الحرارة, يتولّد شعور بأن الشمس أخذت هذا السمت بعد أن ظلّتمثل حبل المشنقة فوق الرؤوس طوال ساعات النهار.
أي حوار في مثل هذه اللحظاتمستحيل, لأن الصراعات داخل قلب كل إنسان كانت من الكثافة والتناقض إلى درجة يمكن انتولد الشيء ونقيضه, وتدفع الإنسان لأن يفعل الشيء ونقيضه. فالحرارة المنبعثة منالشمس, والتي كانت أشد الأعداء, بدت حنونًا مضيئة حين أخذت الشمس ذلك الميل منذرةبالانتهاء. أمَّا النور الوهاج الذي كان ينفجر من كل الأشياء خلال ساعات النهاركلها, فقد أصبح حلمًا ضائعًا والظلمة تطبق تدريجيًّا. والرياح التي كانت تحدّدالاتجاهات, ويمكن أن تقود الإنسان إلى مكان معين, تحوَّلت في ظلمة المساء الأولىإلى عويل ولطمات عمياء.
إنه الموت ولا شيء غيره, هكذا قال كل واحد في نفسه. والإنسان في لحظات اليأس المطلقة حين يوافق على كل شيء, حتى على الموت, فإنَّهيريده صاعقًا كاملاً نهائيّا, أما ذلك العري الحاد الفاضح في كل شيء, الدمار الذييفتّت الخلايا بقسوة تشبه النهش, فإنَّ هذا النوع من الموت لا تمتلكه سوى الصحراءفي الليل, وفي فيضان الرياح الذي لا يعرف التوقُّف أو الراحة.
هذا هو الإنسان, ذلك المخلوق الضئيل المتلاشي, في مواجهة قوة غاشمة لا تدمّره ولا تتركه!
قالأحد أبناء الطيبة بصوت مخنوق:
- الله يساعدك يا عساف.
قال الذي جلس إلىجانب السائق مكان عساف:
- صحيح, أين عساف?
وغاصت الكلمات في الأفواه مرةأخرى, وخيَّم الصمت, لكنه ذلك الصمت المدوي الذي ينفجر في كل لحظة, في كل شيء, والذي تسمع ولولته في كل الخلايا.
في وقت ما, ولا أحد يمكن أن يحدّد متى كانذلك الوقت, وكم من الزمن قد مرَّ, بدأت الريح تتراجع, وبدأ عصف الرمال يخف شيئًافشيئًا, وإن ظلّت السماء مكتنزة بذلك السواد الثقيل القاهر, وحين بدأ سائق السيارةالجيب يشعل الأضواء ويطفئها, فقد بدت حركة ذكية مليئة بالمعاني. قال الجالس إلىجانبه:
- لا بدَّ أن يرانا أحد ويأتي لإنقاذنا!
قال ابن الطيبة الذي يجلسفي المقعد الخلفي وراء السائق:
- يجب أن تشغل السيارة وتدور عدة مرات لعلَّعسافًا يرانا أو نراه فنذهب إليه أو يأتي إلينا!
دون مناقشة ودون تساؤل, بدأتالسيارة تدور مثل حيوان مربوط. وبين لحظة وأخرى, كان السائق يشعل النور ويطفئه, لعلَّ شيئًا يحصل وتكون فيه النجاة.
قال ابن الطيبة:
- إذا وجدنا عسافًايمكن أن ينقذنا ونعود إلى الطيبة بسهولة, أما إذا لم نجده...
وسكت. تطلعت إليهالعيون دون أن تراه. وإذا كانت الظلمة قد خلقت خوفًا من نوع جديد, وإذا كان الشعوربالنجاة بدا مثل خفقات قلب مريض, فإنَّ هذه الكلمات انفجرت داخل السيارة وكأنَّهانهاية كل شيء!
يقول الذين وصلوا عصر اليوم التالي في ثلاث سيارات, إحداهمالسلاح البادية, وعثروا على السيارتين, إنهم وجدوا أغلب الرجال بين الحياة والموت. كان عدد منهم فاقدًا الوعي, وكان الآخرون في حالة من الإعياء الشديد. أمَّا سيارةالفولكس فاكن فقد انغرزت إطاراتها الخلفية في الرمال وأصبحت في حالة من الإنهاك إلىدرجة أنها لم تعُدْ قادرة على الحركة, ووجدوا الحبل الذي حاولت الجيب استعمالهلسحبها قد تقطّع في عدة مواضع, أمَّا كمية المياه التي كانت في السيارتين فقد نفدتتمامًا, ولم تبقَ إلاَّ أوان فارغة يخشّ فيها الرمل, ويقول هؤلاء إنهم لو تأخرواساعة أو أقل لمات جميع مَن كان في السيارتين. أمَّا حين بدأوا يرشّون على وجوهالرجال الماء, وبدأوا يكلمونهم, لم يستطع أي من الرجال السبعة أن يتكلم كلامًاواضحًا, كانت غمغمات أقرب إلى أصوات الحيوانات. ولقد بكى اثنان من الرجال السبعة, أحدهما من أبناء الطيبة, ولم تعرف أبدًا أسباب ذلك البكاء, وهل كانت تعبيرًا عن فرحأو عن شيء آخر!
وبعد بضع دقائق, ورغم الإلحاح في السؤال عن عساف, لم يستطع أحدأن يجيب.

 
لكن قائد الرجال الذين كانوا في السيارة العسكرية قال بلهجة لا تقبلالمناقشة:
- ابقوا في أماكنكم, لا تتحركوا أبدًا, وسوف نجد عسافًا.
قال أحدرجال البادية وكأنَّه يطمئن الجميع:
- لا بدَّ أن يكون قريبًا, وسنجده!
وبخفة متناهية قفز إلى البيك آب, دون أن يحس أحد, مختار المنطقة الشرقية, وأخذمكانًا حصينًا قريبًا من القمرة, وأمسك بالحديد الأمامي بقوة.
كانت الصحراءالممتدة بصفرتها المائلة إلى زرقة مثل حلقة لا أفق لها ولا نهاية. وحين انطلقتالسيارة بدوي مفاجئ صرخ الذي بكى من الضيوف, وركض وراءها, ثم سقط على الأرض وأخذبالعويل, وحتى حين حُمل وأُعيد إلى السيارة وأُعطي قطرات من الماء, ظلَّت دموعهتتساقط دون توقف, ثم غطَّى وجهه بيديه وأجهش, وظلَّ كذلك فترة طويلة.
كان الحشدالكبير ينتظر, وكان الأمل لا يزال قويًا في العثور على عساف. وإذا كان الصمت, فيحالات كثيرة, أفضل وسيلة للتعبير, فقد ظلَّت أسئلة الرجال الذين جاءوا من الطيبةبلا إجابة, وإن كانت إجابتها واضحة قوية في الوجوه, في الحركات, في الشفاهالمتشقّقة المفطورة. أمَّا حين سقطت بعض الدموع فقد كفَّ الجميع عن الكلام. وانشدّتالعيون إلى كل الاتجاهات لعلَّها ترى بشرًا أو زوالاً, وكان أمل واحد, مثل نسمةباردة, يخفق في كل صدر, وارتفعت ابتهالات لا تخطر على بال ولا نهاية لها, وكانتأقرب إلى التمتمة وتشبه الدعاء, أن يكون عساف حيًّا وأن يجدوه.
لقد انبثقت فيتلك اللحظات آلاف الصور في أذهان الرجال الذين ينتظرون. وتلك الصور, وإن بدتمتداخلة مضطربة, وأقرب إلى الحلم, فإنَّ صورة عساف كانت أشدها وضوحًا وأكثرهابياضًا: حين كان يعود بعشرات الطيور ويوزّعها بمهارة لا تخطئ. حين كان يمزّق بعضالمواضع من أحذيته وثيابه. حين كان يجمع الخرطوش الفارغ من الصيادين الأغرارويتأمله بعناية ثم يحضره بعناية أكثر ليستعمله في اليوم التالي ويتأكّد بنفسه منقوته. ثم لمَّا تخلَّى نهائيًّا عن الخرطوش المصنوع من الورق المقوي واستعاض عنهبخرطوش النحاس, وكيف كان يحتفظ ببعض هذه الخراطيش في جيب جلدي صغير لصقه على صدره, كيف كانت الطلقات تبدو شديدة اللمعان ولا يستعملها, كما يقول ويؤكِّد, إلاَّ (لقتلالوحوش) - إن هذه الصور, وعشرات غيرها, تمرّ في هذه اللحظات مثل شريط طويل, وكلإنسان متأكّد أنَّ عسافًا ستنشقّ عنه الأرض وينفجر فجأة كما تنفجر الطلقة. وأهلالطيبة الذين تعوَّدوا على عساف وغياباته التي قد تطول يومين أو ثلاثة, حين تحاصرهالثلوج أو يفيض الوادي, إذا كانوا قد تعوَّدوا عليه وألِفوا كل شيء يصدر عنه, فقدكانوا متأكّدين تمامًا من شيء واحد: سينفجر عساف بينهم, وأن السيارة حين تعود يائسةمثقلة بالخيبة والحزن ستجده وسط المجموعة, يتحدّث بتلك الطريقة المبهمة, الحافلةبالأصوات غير المفهومة, عن رياح البارحة وعن جنون الطبيعة وغدر الصحراء, ويجب أنيضيف في النهاية: الإنسان أقوى من الطبيعة, ويعرف كيف يروّضها أو يحتال عليها!
كانت الأفكار والصور تتلاحق, وكانت النسمات الطرية التي بدأت تهب مع ميلانالشمس نحو الغروب تولد أملاً يقوي كل لحظة, وتولد يأسًا يقوي كل لحظة. وفي خضمالأفكار والصور, ومع كل نسمة جديدة كانت العيون تدور, والصمت يقوى, إلى أن جاءت تلكالصرخة المفاجئة المدوية:
- هذه هي السيارة!
لحظات قاسية من التوتر أقسى منأي لحظات أخرى وأشد عذابًا من عمر بأكمله. لم يبقَ أحد في مكانه, حتى أولئك الرجالالمتعبون, والذين لفَّت على رؤوسهم الخرق المبللة, شعروا بنوع من التحدِّي والقوة, فمَن لم يستطع النهوض والركض مع الآخرين تجاه السيارة, تحرَّك في مكانه أو غيَّرجلسته ليشهد عسافًا وهو ينزل.
كانت وجوه الرجال وهي تطل من فوق شديدة القسوةوالصرامة, وللحظات والسيارة تقترب ثم تتوقف, تأكَّد الجميع أنهم لم يجدوا عسافًا. لقد غمرته الرمال وابتلعته الأرض ولم يبقَ منه أثر, لكن فجأة, والمختار يمسك الحديدالأمامي, ويهزه بعصبية أول الأمر, ثم يصرخ ويشير إلى الخلف.
ترك الرجاليستديرون حول السيارة. التفت بصلابة وبطء, حتى إذا نظروا ورأوا عسافًا هكذا, صرخ, كان صراخه أقرب إلى الشتيمة:
- راح عساف ... ونحن الذين قتلناه. راح الغالي.
كان منظرًا مفجعًا مليئًا بكآبة خرساء وأقرب إلى عدم التصديق.
كان عساف فيقاع البيك آب, كان هناك, كان يابسًا متخشبًا وقد تقلَّصت عضلات وجهه وبدت على أطرافالشفتين ابتسامة هي مزيج من الألم واليأس والسخرية, وبدا كأنَّه يريد أن يتكلم! وحين استمر المختار في الهياج ثم البكاء, واتضحت الصورة حادة نازفة متجبرة, سمعتأصوات نشيج مكتوم, وتساقطت الدموع. كان لسقوط الدموع رنين قوي موجع وكأنَّه نهايةلفترة طويلة من الزمان!
كيف يمكن للبشر أن يصمتوا بهذا المقدار ولهذه الفترةالطويلة? كيف يستطيعون نسيان جميع الكلمات والأصوات التي بدأوا الحياة بها وهمينقذفون من الأرحام?
كيف, كيف يمكن ذلك?
طوال الطريق الذي استمر أكثر منساعتين, ظلُّوا صامتين!
والمختار الذي ظلَّ واقفًا في مكانه, قابضًا بقوة علىحديد القمرة, وناظرًا إلى الأمام باستمرار, طلب من قائد السيارة العسكرية التابعةلقوة البادية, بكلمات متلجلجة, لكن واضحة أيضًا, أن يذهب الجميع إلى بيته. حصل ذلكحين توقَّفت السيارة في مدخل الطيبة, وحين بدت جموع الناس وهي تنتظر, وتحاول أنتعرف أي شيء حصل.
قال المختار, في الظلمة التي تخيّم على كل شيء, ولا يستطيعالإنسان أن يميِّز الآخرين إلاَّ من أصواتهم:
- تعالوا إلى بيتي, هنالك سوفنلتقي.
وبطريقة خفية حافلة بالحنان والعذوبة والخوف والتقديس, حُملت جثة عسافإلى الداخل. وُضعت في صدر المضافة, ووضع إلى جانب الرأسفانوس, وقريبًا من يدهاليمنى وضعت البندقية, وبحركات آلية, كأنَّها رُتِّبت منذ وقت طويل, وبعد أن تمَّذلك بهدوء وإتقان, طلب المختار من الجمع أن يجلسوا.
الصمت, الصمت, ولا شيء غيرالصمت, وما عدا النظرة الثقيلة الحافلة بالحزن, والمرتسمة على تلك الوجوه الملهوفةالمتسائلة, فإنَّ الطيبة من أعجب الأماكن وأكثرها غرابة, لا تستطيع أن تفضح عواطفهابسهولة, وحتى لو أرادت أن تقول شيئًا فإنَّها كثيرًا ما تقول ذلك الشيء بطريقتهاالخاصة, والتي قد لا تبدو مألوفة أو مفهومة!
لم يتجرأ أحد أن يسأل المختار, أمَّا رجال البادية الذين ساعدوا في حمل الجثة, فقد قال العريف الذي يقودهم:
- سوف نذهب ونجهز التقرير لرفعه غدًا صباحًا.
ودون انتظار تحرَّكت السيارة, وغادرت المكان!
والمختار الذي كان بادي العصبية, ومحمرّ العينين, والذي كانيتحرَّك في بعض الأحيان حركات طائشة لا تعني شيئًا, كان يقاوم في نفسه ذلك الكابوسالذي لا يطيق أن يحتفظ به ولا يقوي أن يعبِّر عنه. وهو إذ كان قد برع في كل الأوقاتعلى أن يدير الحديث, وأن يتكلم بطريقة لا يحسنها غيره في الطيبة, والذي كان يوصفبأنَّه قادر على أن يرشّ على الموت سكرًا, ويقدم أصعب الأمور وأكثرها مشقة, بأيسرالوسائل وأكثرها قبولاً, بدا تائهًا ضائعًا خائفًا, وبدا شديد العصبية بحركات يديهووجهه. أمَّا حين انتظم مجلس الطيبة, كما لم يحصل ذلك من قبل, ووسط الصمت القاسيالذي خيَّم على كل شيء, انفجر صوت المختار, دون أن يطلب إليه أحد, ودون مقدّمات منأي نوع:
- هذا عساف... إنه أمامكم, انظروا إليه.
وهزَّ رأسه بلوعة, دون أنيلتفت, ثم تابع بلهجة يخنقها البكاء:
- عساف الحصان, عساف الغيمة, أبو الفقراء, الذي لا ينام ساعة في الليل من أجل أن تعيش الطيبة وتبقى... عساف الذي يحب الجميع, ويقتل نفسه حتى يستمرّ الناس... عساف زينة الرجال, ترككم الآن, ترككم وحيدينتحاربون (...) العسكر والجراد, ولا أحد يعرف أي قوي أخرى, وماذا سيحصل!
كاد أنيواصل, خاصة وأن كلماته نزلت إلى قلوب الرجال وكأنَّها السكاكين الملتهبة, فحركتالرؤوس ودفعت حبات من الدموع لكي تتساقط بصمت, لكن فجأة تغيّرت أفكاره واضطربت:
- ما فائدة الكلمات الآن? يمكن أن نكرز من هذه اللحظة وحتى يوم القيامة, لكن كليوم يسقط منا الرجال, وتسقط البيوت فوق رؤوسنا وتقطع الأشجار بأيدينا, ولا يتغيّرشيء!
قال رجل مسنّ يريد أن يغيِّر الموضوع:
- حتى هذه الساعة لا أصدّق أنالرجل مات.
قال المختار:
- انتظر, وسوف ترانا, واحدًا بعد آخر, نهوي علىوجوهنا وتطمرنا الرمال, وقد لا نجد مَن ينقّط في حلوقنا قطرة ماء.
وقَهقَهَالمختار بطريقة تختلط فيها السخرية بالنشيج, وبالحزن الكاوي, ثم أضاف:
- تمامًاكما حصل مع هذا الحصان!
قال رجل وهو يصوِّب عينيه إلى عساف ولا يرفعهما:
- لكن كيف مات? كيف حصل ما حصل?
قال المختار وهو يغيِّر جلسته, لأن الموضوع يحتاجإلى بعض الحركات والإشارات, ولكي يخلق في نفوس الناس التأثير المناسب:
- اسمعوا, كدنا نعود, يئسنا من البحث, درنا في كل مكان, بحثنا في كل الأمكنة التيتصوّرنا أنَّ عسافًا ذهب إليها, خاصة وأن السيارات لم تذهب بعيدًا, ومقبل, الذييعرف الصحراء شبرًا شبرًا, قال إن هذه هي أماكن الصيد, وعساف باعتباره صيادًا يعرفأين يذهب, ولا يمكن أن يذهب أبعد من ذلك. بحثنا, بحثنا, وقائد البادية, وقف أكثر منمرة على ظهر قمرة السيارة وتطلع في كل الاتجاهات مستعملاً ذلك المنظار الذي يرىالإبرة من مسافة طويلة, لكن لا شيء. ومقبل, الذي يملك عيون صقر, تطلع في كلالاتجاهات, ولكن لا شيء. كدنا نعود. كنا متأكّدين أن عسافًا دُفن تحت الرمال ولايمكن لأحد أن يراه. لكن فجأة بدأ مقبل يخبط قمرة السيارة بقوة.
توقَّفتالسيارة, نزل القائد, ونزل السائق, ومقبل ظلَّ ينظر باتجاه معين. بدا متردّدًا أوّلالأمر, لكن فجأة صرخ:
- يجب أن نتجه إلى الناحية اليسرى, لأنَّني أرى نسرًا, لست متأكِّدًا تمامًا, ولكني رأيت نسرًا يحوم, وما دام هذا الطير يعلو وينقضّ بهذهالطريقة فلا بدَّ أن هناك شيئًا!
وقبل أن يكمل مقبل كلامه, وضع القائد المنظارالمقرّب على عينيه, حيث أشار مقبل, وهزَّ رأسه دلالة الشك أوّل الأمر, ثم بدامتأكّدًا, وبسرعة طلب من السائق أن يتوجه ناحية اليسار.
لمسافة كبيرة بدت الأرضمثل راحة الكف, لا شيء أبدًا. والنسر الذي لم يكن يرى أوّل الأمر, بدا مثل نقطةسوداء في الفضاء البعيد, كان يصعد ويهبط. وحين رأيناه أوّل مرة, غاب ثانية. تصوّرناالأمر كله وهمًا, وأن مقبلاً لم يرَ شيئًا, لكن والسيارة تتجه حيث يريد, والسكونيخيِّم على كل شيء, والأرض خاوية لا تظهر شيئًا أبدًا, بدا على مسافة بعيدة زوال. قال مقبل بتأكُّد جازم:
- (هذا النسر حطَّ على شيء, ويجب أن نصله لنتأكّد!).
وأسرعت السيارة, وتعلَّقت عيوننا حيث يشير مقبل, وفي كل دقيقة نقترب أكثر فأكثرحتى تأكِّدنا من وجود النسر. كان من مسافة بعيدة يبدو جالسًا مثل رجل. كان بسوادهالقاتم شديد الوضوح, وترتفع قامته شيئًا فشيئًا ما دمنا نقترب. وحين أصبحت المسافةبيننا لا تزيد على مئات الأمتار طار. بدا ضخمًا مهولاً, وبان البياض في لونه إلىجانب السواد.
ومع كل خطوة تقتربها السيارة, حيث كان النسر يربض, بدت لنا الصورةأكثر وضوحًا وقسوة مما كنا نتصور.
كان عساف مدفونًا في الرمل, لم يكن يظهرإلاَّ رأسه, وفوق الرأس تمامًا كان الكلب رابضًا, وكان الجزء الأكبر من جسد الكلبمدفونًا بالرمل أيضًا, لكن بطريقة غريبة للغاية: كان يشكل سياجًا حول جسد عساف, خصوصًا رأسه. كان يحتضنه.
ولما وصلنا رأينا كل شيء واضحًا.
قال مقبل بثقة:
- عساف مات قبل الكلب, ولا بدَّ أن بعض الطيور, ربما هذا النسر أو غيره, أحسَّتوعرفت بذلك, وجاءت لتأخذ نصيبها منه, لكن الكلب, وفي محاولة لحماية عساف صارعها حتىصرعته. انظروا إلى الدماء المتجمدة فوق رأس الكلب, لقد مزَّقته بمناقيرها لتصل إلىعساف, وفيما هو يدافع عن نفسه, وعن عساف, تهشَّم, ولا بد أن يكون قد مات من العطشأو من النهش).
قال مقبل ذلك وامتدَّت يده إلى الرمال تزيحها وتسحب جثة عساف. الجثة مدفونة بالرمل تمامًا. المطرة فارغة, وعساف يقبض على البندقية بقوة, ولا بدَّأن يكون قد قام وسقط عدة مرات, لأنَّ يده اليسرى ملتوية ومزرقّة. ومن حسن حظه أنهسقط على وجهه, لو كان في وضع آخر لأَكَل النسر عينيه وهشِّم وجهه, والكلب حين رأىعسافًا يسقط نام فوقه: لا بدَّ أنه حاول إنقاذه بشكل أو بآخر, لكن العاصفة كانتأقوى من الاثنين!
بهذه الطريقة انتهى عساف.
سكت المختار, وضع يديه تحتصدغيه, كأنَّه يحاول أن يمنع رأسه من السقوط أو كأنَّه يتذكر. وخيِّم صمت ثقيل. وبصوت مختلف تمامًا, صوت من عالم آخر, أضاف:
- كان بودِّي لو حملنا الكلب معنا, كان يستحق ذلك, لكن لم أجرؤ على طرح الفكرة, بدت لي لا تناسب الموقف ولا يمكن أنيفهمها أحد. أمَّا حين حملنا الجثة ووضعناها في البيك آب, فقد ظللت على الأرض لبعضالوقت, وكنت أنظر إلى الكلب. لم أستطع أن أرفع نظري عنه, لكن قائد السيارةالعسكرية, قال بصوت عصبي, وإن كان فيه بعض القسوة: (لم تنته مهمتنا بعد, علينا أننصل إلى الجماعة...). ولما
 
صعدت إلى السيارة ومررت إلى جانب الجثة, نظرت إليهابإمعان, بدا لي وجهه شديد الحزن, ولا أعرف كيف سمعت صوت عساف, سمعته يقول: (والكلب...?! هل تتركون الكلب?) وبسرعة, وبخوف اقتربت من الجنديين اللذين كانا فيمقدمة السيارة, ولم أستطع أن أنظر بعد ذلك إلى الخلف. كنت خائفًا, كنت خائفًاتمامًا من أن أرى عسافًا, أو أن أسمع كلماته, وسيطر عليّ الخوف أكثر عندما مالتالشمس إلى المغيب, وتصوّرت الذين ينتظرون, وتصوّرت الطيبة والبشر ولا أعرف أي أحزانأخرى).
قال أحد المسنّين, وقد بدت في لهجته رنَّة حزن لم يتعوّدها الكثيرون:



كان من الواجب أن تهيلوا عليه التراب لكي لا تأكله الطيور!

رد المختاربعصبية:
-
كان الواجب أن نأتي به.

قال الرجل المسن:
-
لا يمكن أن تحملالحيوانات حين تموت, لكن الأكرم لها أن يُهال عليها التراب.

هزَّ المختار رأسهوقد بدت عليه علائم الحزن الشديد والندم, ولم يتكلم.
قال صاحب الفرن:
-
أعجب شيء في هذه الدنيا العلاقة بين الإنسان وما حوله من أشياء, من حيوانات وأشجاروبيوت وأنهار, حتى الصحراء التي لا تبعد كثيرًا عن الطيبة يتعلّق بها الإنسان فيحالات كثيرة, لأنَّ فيها نجاته, ولولا ذلك لما ذهب عساف إلى هناك. كان يريد أن يخلصالطيبة, ويخلّصني أنا بالذات, لأنَّ الأرغفة القليلة التي أصبحت تخرج من الفرن لمتعد تكفي أحدًا.

قال رجل ظلَّ صامتًا, لكن دمعة سقطت حين بدأ يتكلم:
-
فيالطيبة, كما في أي مكان آخر من هذا العالم, ما يحتاج إلى تغيير هو الإنسان.

وصمت لحظة, جفَّف دموعه التي كانت تتساقط دون إرادة على خدّيه وأضاف:
-
لوأننا فهمنا ما كان عساف يقوله لكانت حالنا الآن أفضل.

قال أحد المسنّين:
-
لقد رحل عساف, ذهب ولن يعود.

توقَّف قليلاً, ابتسم بحزن وكاد أن يتابع, لكنواحدًا آخر قال بعصبية:
-
أغلب الأحيان تأتي الأشياء متأخرة!

قال شاب صغيرلم يفطن أحد لوجوده طيلة الوقت:
-
إذا ظلَّت الطيبة تنتظر المطر, ولا تفعلشيئًا سوى انتظار المطر, فسوف يموت الجميع كما مات عساف, وربما أسوأ!

قالالمختار:
-
أكبر ظلم لعساف أنَّنا تركناه يحارب وحده, حتى الكلب كان أحسن منا, لقد حاول إنقاذه, ونحن لم نفعل.

قال أحد الرجال:
-
والله الأكثر ظلمًا أننترك البشر, أمَّا الكلب فانظروا, هذه هيالدنيا! وتنهَّد بحزن ثم أضاف:

-
كنتأعرف أنَّ عسافًا يريد أن يموت, وأنه سيقتل نفسه بشكل ما, إذا لم يكن في هذه الرحلةففي رحلة غيرها, إذا لم يكن في الصحراء فتحت أكوام الثلج, وأنتم تتذكرون حياتهكلها, تذكرون كم مرة ضاع وكم مرة بحثنا عنه.

كان يريد أن يواصل الحديث, لكن أحدالمسنّين قال فجأة:
-
يستغرب الإنسان أنه في حالات كثيرة لا يمكن التفريق بينالحيوانات والبشر. وربما كانت الحيوانات أفضل من بشر كثيرين. لكنَّني منذ جاء هذاالكلب إلى الطيبة تشاءمت وقلت لا بدَّ أن يقتل هذا الكلب.

قال المختار بحدة:
-
الكلب لم يقتل عسافًا, نحن الذين قتلناه.

-
لا يهم مَن قتل الآخر, المهمالآن أن عسافًا, الذي يرقد هنا, لا يسمع ولا يحس بوجودنا.

-
قال المختار بحدة:

-
لا, إنه يسمع. نعم إنه يسمع كل شيء, ويفهم كل ما يُقال!

قال أحدالمسنّين:
-
يا أبناء الطيبة, لا تكونوا حمقى أكثر مما يجب. الرجل انتهى الآن, ولا يمكن لأي قوة على الأرض أن تعيده, وليس غير الله قادرًا على ذلك, وإذا أردتم أنتكرموا عسافًا فدعوه نائمًا بسلام, واسهروا حتى الصباح, ومع أول أضواء الفجر نحملهإلى الأرض لنعيده اليها.

وبطريقة أقرب إلى الغموض والتحدي بدأت السهرة. بدأتبنوع من التكريم الذي لم تتعوده الطيبة من قبل, ربما نتيجة للخوف أو لبقايااقتناعات ومواقف تجاه الموت. وبرغم أن شعورًا بالرهبة خيَّم على الجميع, وأن عددًامن الناس, بمَن فيهم الضيوف, كان يتمنَّى لو أن الأمر لم يأخذ هذا الشكل, لكن إزاءإصرار مبهم, وفي لحظة من لحظات الانفعال الشديد, قال المختار بعصبية:
-
يجب أنتبقي معنا يا عساف لتشهد كل شيء.

وأدار رأسه, وعيناه مغمضتان, ويداه ترتفعانبطريقة تحمل معاني لا حصر لها, وتابع كأنَّه يخاطب نفسه:
-
أنت لم تمُتْ, ياعساف, وستبقي معنا.

قال رجل من مكان بعيد:
-
الحياة والموت بمشيئة الله ياجماعة, والآن انتهى كل شيء!

قال شاب بعصبية:
-
عساف لن يموت, وهو الآن أكثرحياة منا جميعًا!

قال رجل مسن:
-
لا تكفر يا ولدي, إن الملائكة ترفرف فوقناالآن.

قال أبو زكور, الذي يبني كل شيء في الطيبة, حتى القبور, وبدا كلامهمليئًا بالذكاء والمكر, لكي يخرج الخوف من القلوب:
-
يا جماعة, الصباح لا يزالبعيدًا, وعلينا واجب ثقيل غدًا, فإمَّا أن تقرأوا القرآن وتتحدثوا, أو ليذهب كلواحد إلى بيته ونعود في الصباح.

قال المختار بعصبية:
-
مَن يريد الذهاب, فالباب مفتوح.

ونظر في وجوه الناس ليرى وقع كلماته وتابع:
-
أما أنا فلنأنام لحظة واحدة, وسوف أسهر في هذه الغرفة, إلى جانب الرجل, حتى يطلع النور ونحملهإلى قبره!

-
أما أنا فلن أنام لحظة واحدة, وسوف أسهر في هذه الغرفة, إلى جانبالرجل, حتى يطلع النور ونحمله إلى قبره!

وبهذه الطريقة العجيبة بدأت سهرة مننوع لم تألفه الطيبة قط. تحدَّث أكثر الموجودين, تحدّثوا عن أشياء كثيرة, حتىالضيوف رووا قصصًا لم يفهمها أهل الطيبة جيدًا.
في تلك السهرة قيلت أشياءوأشياء, وعساف مسجًّى ووجهه مكشوف, والضوء يتراقص على وجهه وعلى وجوه الآخرين فيخلقجوًّا من الغرابة والخوف, والجنون أيضًا, والناس لا يريدون أن يتوقفوا لحظة واحدة.
وإذا كانت هذه الأحاديث قد توالت دون منطق, وربما دون ضرورة واضحة, ودون مغزًىأيضًا, فقد كانت الرغبة تسيطر على الجميع, أن يقاوموا الصمت, أن يقهروه.
تحدّثوا عن الكلاب والغزلان والحمير, تحدّثوا عن فيضان الوادي, وعن جفاف النبع, وتحدّثوا عن عساف وعن البشر, وتجرأ واحد وقال أبياتًا من الشعر, وكاد أحد الرعيانأن يستعمل نايه, لولا أن رجلاً مسنًّا انتزعه منه بقوة ونظر إليه نظرة تختلط فيهاالقسوة بالعتاب!
لا أحد يتذكّر بدقة الأشياء التي قيلت أو مَن قالها, لكن حينتذكر الطيبة, وحين تهجم الأحزان, وإذا جرى الحديث في وقت من الأوقات عن نهاياتالبشر والحيوانات, وحتى الأشجار, فلا بدَّ أن ترتد صورة تلك الليلة العجيبة لتذكّربشيء واحدّ: بالنهاية!
حتى الضيوف الذين تخشَّبوا في بداية السهرة, وتقيّأ واحدمنهم بعد أن نظر إلى الجثة الممدَّدة أكثر من مرة, فإنَّهم بطريقة غريزية أقرب ماتكون إلى حالة من حالات التطهر التي يلجأ إليها الإنسان في أوقات معينة, نسوا كلشيء, أو هكذا أوحوا لأنفسهم, وانساقوا في الدهاليز المظلمة التي قادهم إليها أهلالطيبة, وظلُّوا يسمعون ويتحدثون. لكن الخوف كان يربض في كل حركة, حتى حركة الأجساموهي تستدير لتقاوم التعب والخدر, وحتى السعال الذي يأتي فجأة, ثم قطرات الدموع التيتتساقط دون إرادة, كانت تخلق الخوف والجفلة. ثم جاءت القصص التي قيلت تلك الليلةلتجعل الحزن ملتصقًا بالجلد والعظام, ولتحفر في القلوب مجرى عميقًا لا يتوقف عنالنزف كلما ذكرت الطيبة, وكلما جرى الحديث عن الحيوانات, وحتى عن البيوت حين تتهدم, حتى عن الغبار المتخلف من كل شيء كانت له رائحة خاصة تذكّر بأحزان لا حدود لها ..



النهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــايه
 
أحلام آينشتاين آلان لايتمان


مقدمة

في رواق مقنطر ما تدق ساعة برج ستمرات وتتوقف . يتهاوى الشاب على مكتبه . جاء إلى الدائرة فجرا بعد إزعاج آخر . شعرهغير ممشط و بنطاله فضفاض يحمل بيده عشرين صفحة مجعدة تحوي نظريته الجديدة في الزمنالتي سيرسلها إلى مجلة الفيزياء الألمانية .

تدخل الغرفة أصوات خافتة قادمةمن المدينة تطن زجاجة حليب على حجر . تتقلقل ظلة حانوت في السوق , تتحرك عربة خضارببطء في الشارع , يتحدث رجل وامرأة بنبرتين هامستين في شقة الجوار.

فيالضوء الباهت الذي يتغلغل في الغرفة تبدو المقاعد مظللة و ناعمة كحيوانات ضخمةنائمة .وباستثناء كتب الشاب الذي تتبعثر عليه كتب نصف مفتوحة , تتغطى المكاتبالإثنا عشر بسجلات تركت البارحة مرتبة بأناقة . حين يصل الموظفون بعد ساعتين سيعرفكل منهم أين يبدأ بدقة . لكن , في هذه اللحظة في هذا الضوء الباهت , ليست السجلات التي على المكاتب مرئية أكثر من الساعة الكبيرة التي في الزاوية أو كرسي السكرتيرة قرب الباب كل مايمكن أن يرى في هذه اللحظة هو الأشكال الداكنة للمكاتب و الشكل المحدب للشاب .

إنها السادسة وعشر دقائق وفقاً لساعة الحائط اللامرئية . لحظة بعد لحظة , تتخذ أشياء جديدة أشكالاً . هنا تظهر سلة مهملات نحاسية هناك يبينتقويم على الحائط .

هنا صورة عائلة , علبة مشابك للأوراق , محبرة , قلم حبر . هناك آلة كاتبة , سترة مطوية موضوعة على كرسي .

مع مرور الزمن تبزغ رفوف الكتب التي لايخلو منها مكان من ضباب الليل العالق على الجدران . تحمل الرفوف دفاتربراءات اختراعات . تتعلق إحدى البراءات بالآت حفر مسنناتها محنية بطريقة تقلل الاحتكاك . تقترح أخرى محولاً كهربائيا يحمل فولطاً متواصلاً حين يتنوع تزويدالطاقة .

تصف براءة إختراع آلة كاتبة بلوح طباعة منخفض السرعة يزيل الضجة . إنها غرفة مليئة بالأفكار العملية .

في الخارج تتوهج جبال الألب تحت الشمس . الوقت أواخر حزيران . راكب في نهر آري يفك قاربه الصغير و يندفع تاركاً التياريحمله إلى الشارع غيربرن حيث سينقل تفاحه الصيفي و ثمار العليق * . يصل الخباز إلىمخبزه في السوق , يشعل فرنه الفحمي و يباشر خلط الطحين و الخميرة . يتعانق عاشقانعلى جسر " نيديك" و يحدقان بتمعن إلى الأسفل . يقف رجل على شرفة منزله في " شيفلاوبي" و يدرس السماء القرنفلية . تسير امرأة استحوذ عليها الأرق ببطء في شارعكرام , تحدق إلى جميع الأورقة المقنطرة و تقرأ الملصقات في الضوء الخافت .

في المكتب الطويل الضيق الذي يقع في " شارع شبايشا " في الغرفة المليئةبالأفكار العملية ما يزال موظف براءات الإختراعات الشاب جالساً على كرسيه و رأسهعلى المكتب : في الأشهر العديدة الماضية و منذ منتصف نيسان حلم أحلاماً كثيرة عنالزمن . هيمنت أحلامه على بحثه . أنهكته أحلامه , استتنفذته بحيث أنه لا يستطيع أحيانا أن يميز بين نومه و يقظته . لكن عملية الحلم انتهت. و من بين طبائع الزمنالكثيرة الممكنة المتخيلة في ليال كثيرة أيضا , تبدو إحداهن مغرية . لا يعني هذا أنالأخرى مستحيلة . يمكن أن توجد الأخرى في عوالم أخرى .

يتحرك الشاب علىكرسيه منتظراً مجئ ضاربة الآلة الكاتبة و يدندن بصوت منخفض ألحاناً من سوناتا ضوءالقمر لبيتهوفن .





14 نيسان 1905


افترض أنالزمن دائرة تكرر نفسها, عندئذ يكرر العالم نفسه بدقة وبلا نهاية .

لا يعرف البشر في معظم الحالات أنهم سيكررون حيواتهم . لا يعرف التجار أنهم سيعقدون الصفقة نفسها مرة بعد أخرى . يجهل السياسيون أنهم سيصيحون على نفس المنصة عددا لانهائياً من المرات في دورات الزمن . يسمع الوالدان ضحكة طفلهما بولع و كأنهما لن يسمعاها ثانية . العشاق الذين يمارسون الجنس للمرة الأولى يتعرون بخجل و يندهشون منمنظر الفخذ الريان و الحملة الهشة . كيف سيعرفون أن كل نظرة سرية , كل لمسة , سوفتتكرر ثانية و ثانية و ثانية كما حدث من قبل؟

و كذلك هو الأمر في السوق . كيف يعرف البقالون أن كل كنزة يدوية الصنع , كل منديل مطرز , كل حبة شوكولاتة , كلساعة يد و بوصلة معقدة ستعود إلى دكاكينهم ؟ , يعود البقالون إلى عائلاتهم بعدالغروب أو يشربون البيرة في الحانات و ينادون بمرح الأصدقاء الذين في الأزقةالمقنطرة , يداعبون كل لحظة و كأنها زمردة في إيداع مؤقت . كيف يعرفون أن لاشئمؤقتاً , أن كل شئ سيحدث مرة ثانية؟ لا شئ يعرف أنه سيعود إلى حيث بدأ سوى نملةٍتزحف على حافة ثريا كريستالية.

في المستشفى الذي في شارع غيربرن تودع امرأةزوجها الذي يستلقي في الفراش و يحدقها بنظرة فارغة . انتشر سرطانه في الشهرينالأخيرين من حنجرته إلى كبده و بنكرياسه و دماغه . يجلس طفلاه اليافعان على كرسيواحد في زاوية الغرفة خائفين من النظر إلى والدهما , إلى خديه الغائصين و الجلدالذاوي لرجل عجوز . تقترب المرأة من الفراش و تقبل زوجها بنعومة على جبهته . تهمسمودعة ثم تغادر بسرعة مع الولدين .
إنها متأكدة إنها القبلة الأخيرة . كيف تعرفأن الزمن سيبدأ ثانية أنها ستولد ثانية و ستدرس مرة أخرى في " الجيمانزيو " و تعرضلوحاتها في صالة " فرايبورغ" و ستبحر معه ثانية في بحيرة " زن" في يوم من أيام تموزالدافئة و أنها ستنجب ثانية و أن زوجها سيعمل ثماني سنوات في مجال الأدوية و يرجع إلى المنزل في أحد المساءات بكتلة في حنجرته, سيتقيأ ثانية و يهزل و ينتهي في هذاالمستشفى , في هذه الغرفة , هذا الفراش , هذه اللحظة . كيف تعرف؟

في العالم الذي يكون فيه الزمن دائرة ستتكرر كل مصافحة , كل قبلة , كل ولادة وكل كلمة . وهكذا أيضاً كل لحظة ينهي فيها صديقان صداقتهما , كل مرة تتفكك فيها أسرة بسبب النقود , كل ملاحظة فاجرة في خصومة بين الزوجين , كل فرصة ضاعت بسبب غيرة رئيس , كلوعد لم يُنجز .
 
و تماما كما ستتكرر جميع الأشياء في المستقبل , فإن جميعالأشياء التي تحدث الآن حدثت مليون مرة من قبل. قلة ما من البشر في كل بلدة , تدركبغموض في أحلامها أن كل شئ حصل في الماضي. أولئك هم البشر ذوو الحياة الشقية , يشعرون أن خطب محاكماتهم و أفعالهم الخاطئة و حظهم السيئ كل هذا حدث في حلقة الزمنالسابقة .

يصارع أولئك المواطنون الملعونون أغطية أسرتهم في منتصف الليلغير قادرين على النوم مروعين من معرفة أنهم لايقدرون على تغيير فعل واحد , إيماءةواحدة . ستتكرر أخطاؤهم في هذه الحياة كما في الحياة التي سبقتها . و هؤلاء , ذووالحظ السيئ المضاعف , هم الذين يقدمون الإشارة الأولى على أن الزمن دائرة . ذلك أنهفي كل بلدة , في وقت متأخر من الليل, تمتلئ الشوارع و الشرفات الخالية بأنينهم.





16 نيسان 1905في هذا العالم ..الزمن كمثلدفقة ماء , يزيحه أحياناً بعض الحطام , نسيم عابر. بين فينة و أخرى يسبب إزعاج كونيما انحراف جدول من الزمن عن التيار الرئيسي ليحدث اتصالاً مع التيار الخلفي. حينيحدث هذا فإن الطيور و التربة و البشر العالقين في الرافد المتفرع يجدون أنفسهمفجأة محمولين إلى الماضي.

من السهل تحديد البشر الذين نقلوا إلى الوراء فيالزمن . يرتدون ملابس سوداء غير قابلة للتمييز و يسيرون على أصابع أقدامهم محاولينألا يصدروا صوتاً واحداً ,ألا يحنوا عشبة واحدة . ذلك لأنهم يخافون من أي تغيريحدثونه في الماضي يمكن أن ينتج عواقب و خيمة جداً على المستقبل.

وعلى سبيلالمثال , تتوارى مسافرة في ظلال الرواق المقنطر في شارع كرام وهذا مكان غريبلمسافرة من المستقبل , لكنها هناك . يعبر المشاة , يحدقون و يتابعون السير . تنزويفي زاوية ثم تزحف بسرعة عبر الشارع و تأوي إلى بقعة أخرى مظلمة . إنها مرعوبة منأنها ستثير الغبار , كما يشق شخص اسمه " بيتر كلوسن " طريقه إلى الصيدلية في شارعشبيتال في بعد ظهر 16 نيسان من عام 1905 . كلوسن شخص مسرف في الأناقة و يكره أنتتسخ ثيابه . إذا لطخ الغبار ثيابه سيتوقف و ينفضها بهمة بغض النظر عن المواعيدالمنتظرة . إذا تأخر " كلوسن " يمكن ألا يشتري المرهم لزوجته التي كانت تشكو من ألمساقها طوال أسابيع . في تلك الحالة يمكن أن تقرر زوجة كلوسن وهي في مزاج سيئ الأتنفذ الرحلة إلى بحيرة جنيف . و إذا لم تذهب إلى بحيرة جنيف في 23 حزيران 1905 لنتلتقي بامرأة تدعى كاثرين دي إباني وهي تسير على جدار الشاطئ الشرقي ولن تعرفالمدموزيل دي إيباني على ولدها ريتشارد . و بالتالي لن يتزوج ريتشارد و كاثرين في 17 كانون الأول 1908 ولن ينجبا فريدريك في 8 تموز 1912 . ولن يصبح فريدريك كلوسنأباً لهانز كلوسن في 22 آب 1938 وبدون هانز كلوسن لن يحصل الإتحاد الأوروبي لعام 1979.

المرأة التي جاءت من المستقبل و رميت دون تحذير في هذا الزمان وهذاالمكان و تحاول الآن أن تختفي عن الأنظار في بقعتها المظلمة في شارع كرام تعرف قصةكلوسن و ألف قصة أخرى تنتظر الكشف , معتمدة على ولادات الأطفال , حركة البشر فيالشوارع , غناء الطيور في لحظات معينة ,الموقع الدقيق للكراسي , الريح . تلطأ فيالظلال و لاتستجيب لتحديقات البشر . تلطأ و تنتظر جدول الزمن ليحملها و يعيدها إلىزمنها الخاص.

وحين يجب أن يتحدث مسافر من المستقبل , فإنه لا يتحدث بليوهوه . يهمس أصواتاً معذبة , يتألم لأنه إذا أحدث أدنى تبديل في أي شيء من المحتملأن يدمر المستقبل. في الوقت نفسه , يكون مجبراً على أن يشهد أحداثاً دون أن يكونجزءاً منها, دون أن يغيرها .يحسد البشر الذين يعيشون في زمنهم الخاص , الذينيستطيعون أن يتصرفوا وفق مشيئتهم غافلين عن المستقبل ..جاهلين تأثيرات أعمالهم . لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئا . إنه غاز هامد , شبح , ورقة بلا روح . إنه منفي الزمن .

يمكن أن يعثر على هؤلاء البشر البؤساء القادمين من المستقبل في كل قرية وكل بلدة مختبئين تحت أفاريز الأبنية , في الأقبية ,تحت الجسور , في الحقول المهجورة . ولا يسألون عن الحوادث القادمة و الزيجات المستقبلية و الولادات و التمويلات والاختراعات و الفوائد التي ستجنى . و بدلاً من ذلك يتركون وحيدين و يثيرون الشفقة .






19 نيسان 1905إنه صباح بارد من صباحات تشرينالثاني . سقطت الثلوج الأولى . يقف رجل يرتدي معطفاً جلدياً على شرفة طابقه الرابعفي شارع كرام المطلة على نافورة " تسيرغنا" وعلى الشارع الأبيض في الأسفل . يستطيعالمرء أن يرى في جهة الشرق الأبيض في الأسفل . يستطيع المرء أن يرى في جهة الشرقالصومعة الهشة لكاتدرائية القديس فنسنت , و في جهة الغرب سقف برج " تسوتغلوكاتورم" لكن الرجل لا ينظر شرقاً أو غرباً , بل يحدق نحو الأسفل إلى قبعة حمراء صغيرةمتروكة في الثلج و يفكر: أعليه أن يذهب إلى منزل المرأة في " فرايبورغ" ؟ تمسك يداهالدرابزون المعدني وتفلتانه ثم تمسكانه ثانية ؟ هل يجب أن يزورها ؟ أيجب أن يزورها؟يقرر ألا يشاهدها مرة أخرى . إنها لعوب و ظنون و بوسعها أن تجعل حياتهبائسة . ربما لن تكون مهتمة به على أية حال . و هكذا يقرر ألا يراها ثانية و ينصرفإلى مصادقة الرجال . يعمل بجد في مجال الأدوية حيث نادرا ما يلاحظ وجود مساعدةالمدير. يذهب إلى صالة احتساء البيرة في شارع خوكر في أوقات المساء مع أصدقائه ويشرب البيرة , يتعلم صنع الفونديو*, ثم يلتقي بعد ثلاثة سنوات بامرأة أخرى في محللبيع الألبسة في نيوشاتل . إنها ظريفة . تمارس معه الحب ببطء شديد طوال شهور. بعدعام تأتي لتعيش معه في " بيرن". يعيشان حياة هادئة , يتنزهان على طول نهر " آري " يصادقان بعضهما , يشيخان راضيين .

في العالم الثاني يقرر الرجل الذي يرتديمعطفاً جلدياً أنه يجب أن يشاهد امرأة " فرايبورغ" مرة أخرى . لايكاد يعرفها , يمكنأن تكون لعوب و متقلبة . لكن تلك الطريقة التي يصبح فيها وجهها ناعماً حين تبتسم , تلك الضحكة ,ذلك الاستخدام الذكي للكلمات , نعم , يجب أن يشاهدها مرة ثانية .يذهبإلى منزلها في فرايبورغ , يجلس معها على الأريكة ,يشعر بعد لحظات أن قلبه يخفق , يضعف من مشهد بياض ذراعيها. يمارسان الحب بصخب و شوق . تقنعه بالانتقال إلىفرايبورغ . يترك علمه في " بيرن" و يوظف في مكتب فرايبورغ البريدي. يشتعل حباً بها . يجيئ إلى المنزل ظهراٌ كل يوم .يأكلان , يمارسان الحب, يتجادلان , تشكو أنها تريدمزيداً من النقود , يتوسل إليها , تقذفه بالآنية , يمارسان الجنس مرة أخرى ,يعودإلى مكتب البريد . تهدد بأنها ستتركه لكنها لاتفعل ذلك . يعيش من أجلها و هو سعيدبكمده.

في العالم الثالث يقرر أيضاً أنه يجب أن يشاهدها مرة أخرى . لايكاديعرفها , يمكن أن تكون لعوب و متقلبة . لكن تلك الابتسامة , تلك الضحكة , ذلكالذكاء في في استخدام الكلمات . نعم , يجب أن يشاهدها مرة ثانية . يذهب إلى منزلهافي " فرايبورغ" , يلتقي بها عند الباب , يتناول معها الشاي حول طاولة المطبخ . يتحدثان عن عملها في المكتبة و عن عمله في مجال الأدوية . تقول بعد ساعة إنها يجبأن تغادر لتساعد صديقا , تودعه , يتصافحان . يسافر قاطعاً مسافة الثلاثين كليومتراًإلى بيرن, يشعر بالفراغ أثناء ركوب القطار إلى منزله , يصعد إلى شقته في الطابقالرابع ويحدق نحو الأسفل , إلى القبعة الحمراء المتروكة في الثلج.

إن سلاسلالأحداث الثلاثة هذه تحدث بالفعل متزامنة . ذلك أن الزمن يمتلك ثلاثة أبعاد في هذاالعالم مثل المكان . تماماً كما يمكن أن يتحرك شيء في ثلاث جهات عمودية تتواشج معالأفقي و العمودي و الطولي و هكذا يمكن أن يشارك الشيء في ثلاثة مستقبلات عمودية . يتحرك كل مستقبل في جهة مختلفة من الزمن , و كل من هذه المستقبلات حقيقي . و حينيصل الرجل إلى حافة أي قرار لزيارة المرأة التي في فرايبورغ أو لشراء معطف جديد , ينقسم العالم إلى ثلاثة عوالم كل منها يحتوي البشر نفسهم و لكن بأقدار مختلفةلأولئك البشر . مع مرور الزمن ثمة عدد لانهائي من العوالم.

يستخف البعضبالقرارات مجادلين أن جميع القرارات الممكنة ستُتخذ . في عالم كهذا , كيف يستطيعالمرء أن يكون مسؤولاً عن أفعاله ؟ يعتقد آخرون أن كل قرار يجب أن يؤخذ بعينالاعتبار و يُلتزم به و أنه بدون التزام يحل العماء . إن بشراً كهؤلاء يرضون أنيعيشوا في عوالم متناقضة طالما أنهم يعرفون سبب كل منها .

_________________________________________

* الفونديو fondue :لونمن الطعام السويسري يصنع من الجبن الذائب في النبيذ الأبيض و ينقع فيه فتات
 
الخبز - المغني الأكبر






24 نيسان 1905ثمة زمنان في هذاالعالم : الزمن الآلي و الزمن الجسدي . الأول صلب و معدني كبندول حديدي ضخم يتحركجيئة وذهاباً . الثاني يتقلب و يتعرج كسمكة في خليج . الأول لا يلين , محدد سابقاً . الثاني يتخذ قراره وهو يمضي.

يقتنع كثيرون أن الزمن الآلي غير موجود . حين يمرون قرب الساعة العملاقة في شارع كرام لا يشاهدونها و لايسمعون دقاتها وهميرسلون الطرود في شارع بوست أو يطوفون بين الأزهار في " روزنكارتن". يلبسون ساعاتحول أرساغهم كزينة أو كتجمل لأولئك الذين يقدمون الساعات اليدوية كهدايا . لا يضعونساعات جدارية في منازلهم . بدلاً من ذلك , يصغون لدقات قلوبهم , يشعرون بإيقاعاتأمزجتهم و رغباتهم . يأكل بشر كهؤلاء حين يجوعون, يذهبون إلى أعمالهم في المتجر أوالصيدلية حين يستيقظون من نومهم , يمارسون الحب طوال ساعات النهار . يسخر بشركهؤلاء من فكرة الزمن الآلي. يعرفون أن الزمن يتحرك في نوبات و قفزات , يعرفون أنالزمن يصارع نحو الأمام حاملاً ثقلاً على ظهره حين ينقلون طفلاً مصاباً إلىالمستشفى أو يتحملون تحديقة جار أسيئ إليه . يعرفون أيضاً أن الزمن يندفع مسرعاًعبر حقول الرؤية حين يستمتعون بتناول مع الأصدقاء أو يتلقون المديح أو يكذبون بينذراعي عشيقة سرية.
ثم هناك أولئك الذين يعتقدون أن أجسادهم لا توجد , يعيشونوفق الزمن الآلي , ينهضون في السابعة صباحاً, يتناولون غذاءهم ظهراً و عشاءهم فيالسادسة.يصلون إلى مواعيدهم في الوقت المحدد وبدقة الساعة .يمارسون الجنس بينالثامنة و العاشرة ليلاً, يعملون أربعين ساعة في الأسبوع , يقرأون صحيفة الأحد يومالأحد , يلعبون الشطرنج مساء الثلاثاء. حين تصدر معداتهم أصواتاً ينظرون إلىساعاتهم ليتبينوا إذا حان وقت الطعام ,حين ينسون أنفسهم في حفلة موسيقية ينظرون إلىالساعة التي فوق خشبة المسرح ليعرفوا متى يحين وقت العودة إلى المنزل . يعرفون أنالجسد ليس شيئاً ينتمي إلى السحر الوحشي بل مجموعة من المواد الكيماوية و الأنسجة والدوافع العصبية و يعرفون أن الأفكار ليست أكثر من اندفاعات كهربائية في الدماغ والإثارة الجنسية ليست أكثر من تدفق المواد الكيماوية إلى نهايات عصبية معينة والحزن ليس أكثر من حمض قليل يثبت في المخيخ . باختصار ,الجسد آلة خاضعة لقوانينالكهرباء والميكانيكا نفسها كالإلكترون أو الساعة . هكذا , يجب أن يخاطب الجسد بلغةالفيزياء , و إذا تحدث الجسد فإن حديث عتلات و قوى كثيرة فقط . الجسد شيء يجب أنيؤمر , أن لايطاع .

إذا سار المرء ليلاً على طول نهر " آري" يشاهد دليلاًعلى وجود عالمين في عالم واحد . يحدد مراكبي موقعه في الظلام من خلال إحصاء الثوانيالمندفعة في تيار الماء. ثانية , ثلاثة أمتار , ثانيتان , ستة أمتار . ثلاث ثوان , تسعة أمتار . يخترق صوته الظلمة بمقاطع واضحة و محددة . تحت منصب مصباح على جسر " نيديك" يقف شقيقان لم يشاهدا بعضهما لمدة عام ويشربان و يضحكان . يدق جرس كاتدرائيةالقديس فنسنت عشر مرات . في ثوان , تنطفئ أضواء الشقق التي تصطف في " شيفلاوبي" فياستجابة آلية تامة مثل استنتاجات هندسة إقليدس . عاشقان يستلقيان على ضفة النهرينظران إلى الأعلى بكسل بعد أن استيقظا من نوم لا زمني على الأصوات البعيدة لجرسالكنيسة , مندهشين من أن الليل قد خيم.

حيث يلتقي الزمنان يحل اليأس. حيثينفصل الزمنان تحل القناعة . ذلك أن محامياً , ممرضة , خبازاً , يستطيعون أن يصنعواعالماً بشكل معجز في أي من الزمنين , لكنهم لايستطيعون ذلك في كلا الزمنين . إن كلزمن منهما هو حقيقي إلا أن الحقائق ليست نفسها .








26 نيسان 1905من الواضح بسرعة في هذاالعالم أن هناك شيئاً غريباً : لاتمكن رؤية منازل في الأودية و السهول . يعيشالجميع في الجبال .

في وقت ما في الماضي اكتشف العلماء أن الزمن يتدفق ببطءأكبر كلما ابتعد عن مركز الارض . التأثير ضئيل جدا لكنه يمكن أن يقاس بأدواتحساسيتها مفرطة . حالما عرفت الظاهرة انتقل بعض البشر المتلهفين للبقاء شباناً إلىالجبال . بنيت جميع المنازل على "دوم" و على " ماترهورن" و " مونت روزا " وعلى أراضأخرى مرتفعة . من المستحيل بيع أحياء سكنية في مكان آخر.

لم يرض كثيرون أنيبنوا منازلهم ببساطة على جبل .لكي يحصلوا على التأثير الأكبر بنوا منازلهم علىدعائم. عششت منازل كهذه على قمم الجبال في جميع أنحاء العالم , وتبدو من بعيد كسربطيور سمينة تقف على أرجل طويلة و نحيلة . البشر يتلهفون ليعيشوا فترة أطول شيدوامنازلهم على الدعائم الأعلى . وفي الحقيقة , ترتفع بعض المنازل نصف ميل على سيقانهاالخشبية النحيلة . أصبح الإرتفاع مرتبة . حين يتوجب على شخص أن ينظر من نافذة مطبخهإلى الأعلى ليشاهد جاراً يظن أن جاره لن يصاب بتصلب إلى الأعلى ليشاهد جاراً يظن أنجاره لن يصاب بتصلب المفاصل بالسرعة التي سيصاب هو بها , لن يفقد شعره هو وقت لاحق , لن يصاب بالتجاعيد حتى وقت لاحق , لن يفقد الباعث على الرومانس باكراً مثله . كذلك يميل الشخص الذي ينظر نحو الأسفل إلى منزل آخر إلى اعتبار سكانه منهكين وضعفاء و قصيري النظر . يتباهى البعض أنهم عاشوا حياتهم كلها في الأعلى , أنهم ولدوافي أعلى منزل على أعلى قمة جبل ولم يهبطوا أبداً . يحتفلون بشبابهم في المرايا ويسيرون عراة على شرفاتهم .

 
بين فينة و أخرى يجبر عمل ما ملح البشر علىالهبوط في منازلهم فيفعلون ذلك بسرعة و ينزلون بعجلة على سلالمهم إلى الأرض ويركضون إلى سلم آخر , ثم إلى الوادي في الأسفل , يكملون صفقاتهم و يعودون بأقصىسرعة إلى منازلهم أو إلى أماكن أخرى مرتفعة . يعرفون أنه مع كل خطوة إلى الأسفلتزداد سرعة مرور الزمن و يهرمون قليلاً . البشر الذين على مستوى الأرض لا يجلسونأبداً . يركضون حاملين محفظاتهم أو مشترياتهم .

لم تعد تأبه قلة منالمقيمين في كل مدينة إذا تقدمت في السن بضع ثوان أكثر من جيرانها . تهبط هذهالأرواح المغامرة إلى العالم السفلي لعدة أيام في المرة الواحدة . تسترخي في ظلالأشجار التي تنمو في الوادي , تسبح بمتعة و حرية في البحيرات التي تقع في ارتفاعاتدافئة , تطوف على مستوى الأرض.

نادراً ما تنظر إلى ساعاتها و لا تستطيع أنتقول إن كان اليوم هو الإثنين أو الخميس . حين يندفع الآخرون قربها بسرعة و يسخرون , تبتسم فقط .

مع مرور الزمن , ينسى البشر لماذا المكان الأعلى هو الأفضل . مع ذلك , يواصلون العيش على الجبال ليتجنبوا المناطق الغائصة قدر استطاعتهم , ليعلموا أبناءهم أن يصرفوا الأطفال الآخرين عن الارتفاعات المنخفضة . يتعودون علىبرد الجبال و يستمتعون بعدم الراحة كجزء من تربيتهم , حتى أنهم أقنعوا أنفسهم بأنالهواء الرقيق مفيد لأجسادهم , و متبعين ذلك المنطق مارسوا حميات من أجل التوفير ورفضوا كل شيء إلا الطعام القليل * . و مع مرور الوقت , أصبح البشر رقيقين كالهواء , عجافاً و كهولاً قبل أوانهم .

__________________________________________

*gossamer food :واه ، رقيق







28 نيسان 1905ليس بوسع المرء أن يتنزه في جادة أو يتحدث مع صديق أو يدخل بناء أو يتجولتحت أقواس رواق مقنطر قديم مصنوعة من الحجر الرملي دون أن يلتقي بأداة زمنية. الزمنمرئي في جميع الأمكنة . أبراج الساعات الكبيرة , ساعات اليد و أجراس الكنائس تقسمالأعوام إلى شهور والشهور إلى أيام و الأيام إلى ساعات و الساعات إلى ثوان وكلزيادة في الوقت تتقدم بعد الأخرى في تعاقب تام . ووراء أية ساعة كبيرة معينة ثمةمنصة زمنية شاسعة ترسي قانون الزمن للجميع على السواء.

في هذا العالمالثانية هي ثانية هي ثانية . يخطو الزمن إلى الأمام بانتظام مضبوط وبالسرعةالمنتظمة ذاتها في كل زاوية من المكان . الزمن حاكم لانهائي . الزمن مطلق .

يجتمع كل بعد ظهر سكان بلدة بيرن في الطرف الغربي لشارع كرام . هناك فيالثالثة إلا ربعاً يدفع برج "تسوتغلوكاتورم" الجزية للزمن . عالياً على البرج يرقصالمهرجون , تصيح الديكة , تعزف الدببة على الناي وتقرع الطبل , يوقت الأصواتوالحركات دوران المسننات , التي بدورها يلهمها اكتمال الزمن . في الساعة الثالثةتماماً يدق جرس ضخم ثلاث مرات , يتفحص البشر ساعاتهم , ثم يعودون إلى مكاتبهم في " شارع شبايشا" و حوانيتهم في " السوق" و مزارعهم التي تقع وراء الجسور التي على نهر " آري".

الذين يمتلكون إيماناً دينياً يعتبرون الزمن دليلاً على وجود الله . ذلك أنه من المؤكد أن لا شيء يخلق تماماً دون خالق, لا شيء يمكن أن يكون كونياًدون أن يكون مقدساً . و جميع المطلقات هي جزء من المطلق الواحد . و أينما وجدتالمطلقات يوجد الزمن . وضع فلاسفة الأخلاق الزمن في مركز إيمانهم . الزمن هو المرجعالذي يحكم من خلاله على جميع الأفعال . الزمن هو الوضوح لرؤية الصواب و الخطأ.

في حانوت لبيع الكتان في " شارع أمتهاوس " تتحدث امرأة مع صديقتها . فقدتوظيفتها للتو . اشتغلت عشرين عاماً موظفة في " مجلس الشعب" تسجل المجادلات . ساعدتأسرتها . و سرحت الآن وهي تعيل فتاة ماتزال في المدرسة و تعيش مع زوج يمضي كل صباحساعتين في المرحاض. دخلت مديرتها في صباح ما , وهي سيدة غريبة الأطوار , مزيتةبإفراط , و طلبت منها أن تخلي مكتبها في اليوم التالي . تصغي الصديقة التي فيالحانوت بهدوء و تطوي بأناقة غطاء الطاولة الذي اشترته , تنزع نسالة الكتان عن كنزةالمرأة التي فقدت وظيفتها . تتفق الصديقتان على اللقاء لتناول الشاي في الساعةالعاشرة من اليوم التالي . الساعة العاشرة , بعد سبع عشرة ساعة و خمس و ثلاثيندقيقة من هذه اللحظة تبتسم المرأة التي فقدت وظيفتها للمرة الأولى طوال اليوم , تتخيل في ذهنها الساعة التي على حائط مطبخها تحدد كل ثانية بين الآن والساعةالعاشرة غداً, دون انقطاع , دون استشارة.

و ثمة ساعة مشابهم في منزلصديقتها متزامنة معها . غداً في العاشرة إلا ثلثاً , سترتدي المرأة لفاعها وقفازيها و معطفها و تسير في " شيفلاوبي" عابرة جسر " نيديك" متوجهة إلى " المقهى" في شارع بوست . في العاشرة إلا ربعاً , ستغادر صديقتها منزلها في شارع تسويغاهوس وتشق طريقها إلى المكان نفسه .

ستتقابلان في الساعة العاشرة . ستتلقيان فيالعاشرة .

إن عالماً يكون فيه الزمن مطلقاً هو عالم عزاء . ذلك أنه بينماتكون حركات البشر غير قابلة للرصد , تكون حركة الزمن قابلة لذلك . وبينما يمكن أنيُشك بالبشر , لايمكن الشك بالزمن . و بينما يشرد البشر ينزلق الزمن إلى الأمام دونأن ينظر إلى الخلف . في المقاهي , في الأبنية الحكومية , في القوارب التي في بحيرةجنيف , ينظر البشر إلى ساعاتهم اليدوية و يلوذون بالزمن . تعرف كل امرأة أنه فيمكان ما تكون مسجلة لحظة ولادتها و اللحظة التي قامت فيها بالخطوة الأولى , ولحظةهواها الأول و اللحظة التي ودعت فيها والديها .







3 أيار 1905تخيل عالماً تحكم فيه العشوائية السبب و النتيجة . تارة يسبقالسبب النتيجة وطوراً تأتي النتيجة قبل السبب, أو ربما يكمن السبب دائماً في الماضيبينما تكمن النتيجة في المستقبل , بينما يتشابك الماضي و المستقبل.

تطلمصطبة بندستراس على منظر مدهش : نهر آري في الأسفل و جبال الألب في الأعلى . يقفهناك رجل في هذه اللحظة سارح الذهن , يفرغ جيبيه و يبكي . تخلى عنه أصدقاؤه دون سبب . لم يعد يتصل به أحد , لا أحد يقابله على العشاء أو لشرب البيرة في الحانة, لا أحديدعوه إلى منزله . كان طوال عشرين عاماً الصديق المثالي لأصدقائه .كان كريماً , مهتماً , لبقاً, عطوفاً. ما الذي حدث؟بعد أسبوع من هذه اللحظة يتصرف الرجل نفسه علىالمصطبة بطريقة سخيفة , يهين الجميع , يرتدي ثياباً تفوح منها الروائح , يبخل بماله , لا يسمح لأحد بالمجيء إلى شقته في " لوبنستراس" . ما الذي كان السبب وما الذي كانالنتيجة؟ أيهما الماضي و أيهما المستقبل ؟صدق المجلس في زيوريخ مؤخراً علىقوانين صارمة . يجب ألا تباع المسدسات للعامة . يجب أن تفتش البنوك و المتاجر بحثاًعن المهربات . يجب أن يفتش جميع الزوار سواء الذين يدخلون زيوريخ بالزورق عبر نهر " ليمات" أو بالقطار على خط " سيلينو" بحثاً عن البضائع المهربة . تمت مضاعفة عددأفراد الشرطة المدنية . بعد شهر من تشديد الإجراءات حدثت أسوأ الجرائم في تاريخ
"زيوريخ" . قُتل البشر في وضح النهار في الوينبلاتز , سرقت اللوحات من متحفكنست , شرب الكحول على مقاعد " منسترهوف" . أليست هذه الأفعال الإجرامية موضوعة فيغير موضعها في الزمن ؟ أو ربما كانت القوانين الجديدة فعلاً لا ردة فعل؟تجلس امرأة شابة قرب نافورة في " بوتانشرغارتن", تجيء إلى هنا كل أحدلتستنشق أريج البنفسج , وردة المسك , أزهار العصيفرة القرنفلية الملتفة .

فجأة يحلق قلبها , تحمر خجلاً , تخطو بلهفة , تصبح سعيدة دون سبب . بعدأيام تقابل شاباً و تقع في الحب . أليس الحدثان متصلين ؟ لكن وفق أي اتصال غريب ,وفق أي اتصال غريب , وفق أي اعوجاج في الزمن , وفق أي منطق معكوس؟في هذاالعالم اللاسببي , العلماء عاجزون . تصبح تنبؤاتهم لغواً , تصبح معادلاتهم تبريرات , منطقهم لا منطقاً . يصبح العلماء متهورين و يغمغمون مثل مقامرين لا يستطيعونالتوقف عن المراهنة . العلماء مهرجون ليس لأنهم عقلانيون , بل لأن الكون غير عقلاني , أو ربما ليس لأن الكون غير عقلاني بل لأنهم عقلانيون . من الذي يستطيع أن يحذر فيعالم لا سببي؟الفنانون فرحون في هذا العالم . الغموض هو حياة
 
لوحاتهم وموسيقاهم و رواياتهم . يستمتعون بأحداث لم تكتنه بعد , بحوادث غير مشروحة , باستعادة الماضي.

تعلم معظم البشر كيف يعيشون في اللحظة , و يحتدم الجدلحول أنه إذا أحدث الماضي تأثيراً غير مؤكد على المستقبل فإن الأعمال الحالية يجبألا تقدر أهميتها من أجل نتيجتها . بالأحرى , كل فعل هو جزيرة في الزمن , و يجب أنيحكم عليه بذاته . تريح عائلة عماً يحتضر ليس بسبب الميراث , بل لأنه محبوب في تلكاللحظة . يتم استئجار الموظفين ليس بسبب مجمل أعمالهم و لكن بسبب حسهم الجيد فيالمقابلات . الموظفون الذين يدوسهم . إنه عالم اندفاع , عالم إخلاص , عالم تتحدثفيه الكلمة المنطوقة مع تلك اللحظة فقط , تمتلك كل نظرة معنى واحداً فقط , لا تملككل لمسةٍ ماضياً أو مستقبلاً , و كل قبلة هي قبلة مباشرة .






4 أيار 1905إنه المساء . يجلس أربعة منالإنكليز و السويسريين إلى طاولتهم المألوفة في غرفة الطعام في فندق " سان موريزان " في " سينت موريتز" يلتقون هنا كل عام في شهر حزيران , ليتحدثوا و يستحموا. الرجلان أنيقان يرتديان ربطتي عنق سوداوين و حزامين , المرأتان جميلتان و ترتديانفستاني سهرة . يسير النادل عبر الأرضية الخشبية الرائعة و يتلقى طلباتهم .

تقول المرأة التي تزين شعرها بشريط قماش موشى : " أظن أن الطقس سيكونمعتدلاً غداً. سيكون هذا مريحاً".

يهز الآخرون رؤوسهم و تتابع كلامها : " تبدو الحمامات أكثر إمتاعاً حين يكون الجو مشمساً. رغم أن هذا يجب ألا يهم كماأعتقد" .

يقول الأميرال : " رننيك لايتلي "* فاز بأربع نقاط مقابل نقطةواحدة في دبلن "

يغمز زوجته .

يقول الرجل الآخر : " سأراهن بخمسنقاط مقابل واحدة إذا راهنت " .

تقطع النساء أرغفة العشاء , تدهنها بالزبدةو تضع السكاكين على جانب صحون الزبدة . يثبت الرجال أعينهم على المدخل.

تقول المرأة التي تزين شعرها بشريطة قماشية موشاة : " أحب نسيج أغطيةالطاولات " .

تأخذ منديلها تفتحه ثم تطويه مرة أخرى .

تقول المرأةالأخرى مبتسمة : " أنت تريدين هذا كل عام يا جوزفين ".

يأتي العشاء . طلبواالليلة سرطانات البحر , الهليون , شرائح لحم البقر و النبيذ الأبيض .

تقولالمرأة التي تزين شعرها بشريطة قماشية موشاة وهي تنظر إلى زوجها :

" كيف هوصحنك ؟"

- زيادة قليلة في البهارات كالأسبوع الماضي .

- وأنت أيهاالأميرال كيف شرائحك؟يقول الأميرال بسعادة : " لم يقلبوا أبداً جانباً منالشرائح "
يقول الرجل الآخر : ألم تلاحظ أنك ذهبت كثيراً إلى مخزن اللحوم . لمتنقص كيلوغراماً واحداً منذ العام الماضي أو ربما الأعوام العشرة الأخيرة .

يقول الأميرال غامزاً زوجته : " ربما لا تستطيع أن تلاحظ , بيد أنها تستطيع " .

تقول زوجة الأميرال : " يمكن أن أكون مخطئة , لكن يبدو أن الغرف أكثرتعرضاً للهواء البارد هذا العام ".

يهز الآخرون رؤوسهم و يتابعون تناولسرطانات البحر و شرائح لحم البقر . تتابع كلامها : " دائماً أ،انام بشكل أفضل فيالغرف الدافئة لكن إذا كانت معرضة للهواء البارد أستيقظ مصابة بالسعال ".

تقول المرأة الأخرى : " ضعي الغطاء فوق رأسك " .

تقول زوجةالأميرال: نعم, لكنها تبدو محتارة.

تكرر المرأة الأخرى : " ضعي رأسك تحتالشرشف عندئذ لايزعجك الهواء البارد . يحدث لي طوال الوقت في كريدلوالد . ثمة نافذةقرب سريري . أستطيع أن أتركها مفتوحة إذا غطيت أنفي . وهذا يترك الهواء البارد فيالخارج " .

تتحلحل المرأة التي تزين شعرها بشريطة موشاة على كرسيها , تنزلساقاً عن أخرى تحت الطاولة .

تأتي القهوة . يذهب الرجلان إلى غرفة التدخينو المرأتان إلى الأراجيح على السطح الكبير في الخارج.

يسأل الأميرال: " كيفحال المشاريع منذ العام الماضي ؟يقول الرجل الآخر و هو يحتسي البراندي : " لا تستطيع أن تشكو " .

" و الأولاد ؟"

" كبروا عاماً"

فيالرواق , تتأرجح المرأتان وتنظران في الليل . و يحدث الشئ نفسه في كل فندق ومنزل وبلدة , ذلك أن الزمن يمر لكن لايحدث سوى القليل في هذا العالم . و تماماً كما يحدثالقليل من عام لآخر يحدث القليل من شهر لآخر و من يوم لآخر . و إذا كان الزمن ومرور الأحداث هما الشيء نفسه فهذا يعني أن الزمن لا يكاد يمر مطلقاً . و إذا لم يكنالزمن و مرور الأحداث هما الشيء نفسه , فهذا يعني أن البشر هم الذين لايكادونيتحركون .

إذا لم يمتلك المرء طموحات في هذا العالم فإنه يعاني دون أن يعرف . و إذا امتلك المرء طموحات فإنه يعاني و هو يعرف , و لكن ببطء شديد.

_____________________________________

* رننيك لايتلي : اسم حصانفاصلةيسير آينشتاين و بيسو ببطء في وقتمتأخر من بعد الظهر . إنه وقت هادئ من أوقات النهار . البقالون ينزلون ظلاتحوانيتهم و يخرجون دراجاتهم . تنادي أم ابنتها من شرفة طابق ثان لتجيء إلى المنزل وتحضر العشاء .

كان آينشتاين يشرح لصديقه "بيسو" لماذا يريد أن يعرف الزمن . لكنه لا يقول شيئاً عن أحلامه . سيصلان حالاً إلى منزل " بيسو" .أحياناً يبقىآينشتاين هناك أثناء العشاء و يتوجب عندئذ على " ميليفا" أن تأتي لتحضره حاملةرضيعهما . يحدث هذا عادة حين يكون آينشتاين مهووساً بمشروع جديد كما هو الآن و طوالالعشاء ينتر رجليه تحت الطاولة .

ليس آينشتاين رفيق عشاء جيد .

ينحني آينشتاين باتجاه بيسو الذي هو قصير أيضاً و يقول : أريد أن أفهمالزمن لأقترب من الواحد القديم .يهز بيسو رأسه . لكن ثمة مشاكل يشير إليها بيسو . ليس الواحد القديم مهتماً بالاقتراب من مخلوقاته سواء أكانت ذكية أم لا . و المشكلةالأخرى هي أن هذا المشروع الزمني يمكن أن يكون كبيراً جداً على شخص يبلغ 26 عاماًمن العمر .

من ناحية أخرى , يعتقد " بيسو" أن صديقه يمكن أن يكون قادراًعلى أي شيء.ذلك أن آينشتاين أكمل خلال هذا العام أطروحته في الدكتوراه , أنهى بحثاًعن الفوتونات و آخر عن الحركة البراونية ولقد بدأ هذا المشروع الحالي بالفعلكاستقصاء للكهرباء و المغناطيسية و يتطلب كما أعلن أينشتاين فجأة في أحد الأيامإعادة فهم للزمن . " بيسو" محتار من طموح آينشتاين .

يترك " بيسو" آينشتاينوحيداً مع أفكاره لوهلة . يتساءل ما الذي طبخته " آنا" للعشاء وينظر عبر شارع جانبيإلى قارب فضي يلمع في نهر آري تحت شمس منخفضة . و بينما يسير الرجلان تتكتكخطواتهما بنعومة على الحجر الإسفلتي . عرفا بعضهما منذ أيام الدراسة في " زوريخ".

قال بيسو : " وصلتني رسالة من أخي الذي في روما .سيأتي لزيارتي لمدة شهر. تحبه " آنا" لأنه يطري شخصيتها دائماً".

يبتسم آينشتاين سارح الذهن .

" لن أتمكن من مشاهدتك بعد العمل حين يأتي أخي . هل ستكون على ما يرام ؟"

يسأله آينشتاين : ماذا؟يكرر بيسو : لن أقدر على رؤيتك كثيراً حينيجيء أخي , هل ستكون بخير وحدك؟يجيبه آينشتاين : " أكيد لاتقلق من أجلي " .

كان آينشتاين يعتمد على نفسه منذ أن تعرف إليه " بيسو " . كانت عائلتهتنتقل حين كان طفلاً . إنه متزوج مثل " بيسو" لكنه نادراً ما يذهب إلى أي مكان معزوجته , حتى في المنزل يهرب من " ميليفا" في منتصف الليل و يدخل المطبخ ليدرس صفحاتطويلة من المعادلات التي يريها في المكتب لبيسو في اليوم التالي .

يتفحص " بيسو" صديقه بفضول .

بالنسبة لشخص منطو على نفسه و منعزل , يبدو ذلك الولعبالقرب غريبا.








9 أيار 1905سينتهيالعالم في 26 أيلول 1907 . الجميع يعرفون هذا . و ما يجري في بيرن يجري في جميعالمدن و البلدات .
قبل عام من النهاية تغلق المدارس أبوابها . لماذا الدراسة منأجل المستقبل حين يكون المستقبل قصيراً؟ يلعب الأطفال لعبة الغميضة في أروقة شارعكرام مسرورين من انتهاء الدروس إلى الأبد . يركضون في أرستراس و يرمون أحجاراً فيالنهر و يصرفون نقودهم لشراء النعناع المفلفل و عرق السوس . يسمح لهم أولياء أمورهمأن يفعلوا أي شيء يرغبون به .

قبل شهر من النهاية تتوقف المشاريع . يوقفمجلس الشعب إجراءاته . يصمت بناء التلغراف الفيدرالي في شارع شبايشا و أيضا معملالساعات في " لوبنستراسي" و الطاحونة التي وراء جسر نيديك . ما الحاجة إلى التجارةو الصناعة حين لا يبقى سوى القليل من الزمن ؟يجلس البشر في المقاهيالرصيفية التي في شارع أمتهاوس , يحتسون القهوة ويتحدثون بارتياح عن حيواتهم . التحرر يملأ الجو . في هذه اللحظة تتحدث امرأة عيناها بنيتان مع أمها حول الوقتالقصير الذي أمضياه مع بعضهما حين كانت الأم تعمل خياطة . تخطط الأم و ابنتهاللقيام برحلة إلى " لوسيرن " . سوف يصلحان حياتين فيما تبقى من وقت . على طاولةأخرى يخبر رجل صديقه عن مشرف مكروه غالباً ما مارس الجنس مع زوجته بعد ساعات العملفي غرفة الملابس التابعة للمكتب و هدد بتسريحه إذا سبب هو أو زوجته أية مشكلة . لكنما الذي يخيف الآن ؟رتب الرجل أموره مع المشرف و تصالح مع زوجته , وبعد أنارتاح من ذلك مدد رجليه و طاف بعينيه فوق جبال الألب.

في المخبز الذي يقعفي " السوق" يضع الخباز ذو الإصبع السميكة العجين في الفرن و يغني. في هذه الأياميطلب الناس خبزهم بتهذيب . يبتسمون و يدفعون بسرعة لأن النقود تفقد قيمتها .يثرثرونحول نزهات تمت في فرايبورغ , عن وقت قضوه في الاصغاء إلى قصص أولادهم , عن نزهاتطويلة في منتصف بعد الظهر . لا يبدو أنهم يكترثون بأن العالم سينتهي حالاً لأنالجميع يتقاسمون القدر نفسه . إن عالماً سينتهي بعد شهر هو عالم مساواة.

قبل يوم واحد من النهاية , تضج الشوارع بالضحك. الجيران الذين لم يتحدثواأبداً مع بعضهم يتبادلون التحية كأصدقاء , يتعرون و يستحمون في النافورة . آخرونيغوصون في نهر آري , و بعد أن يسبحوا إلى حد الإعياء يستلقون على العشب الكثيف علىطول النهر و يقرأون الشعر . محام و موظف بريد لم يلتقيا أبداً من قبل, يشبكانذراعيهما و يسيران عبر بوتانشرغارتن , يبتسمان لنبات قرن الغزال و نبات النجمية ويناقشان الفن و اللون . ماذا تعني محطاتهما الماضية ؟ في عالمٍ سينتهي بعد يوم واحدهما متساويان .

في ظلال شارع جانبي بعيد عن نهر آري , يستند رجل و امرأةإلى حائط , يشربان البيرة و يأكلان لحم البقر المجفف. فيما بعد , ستأخذه إلى شقتها . إنها متزوجة من شخص آخر لكنها أرادت هذا الرجل طوال سنوات وسوف تلبي رغباتها فيهذا اليوم الأخير من نهاية العالم .

تعدو بعض الأرواح في الشوارع و تقومبأفعال خيرة لتصحح أفعالها الشريرة التي ارتكبتها في الماضي . و كانت ابتساماتها هيالابتسامات الوحيدة الشاذة .

قبل دقيقة من نهاية العالم يجتمع الجميع علىأراضي متحف كنسنت . يشكل الرجال والنساء و الأولاد دائرة عملاقة و يمسكون أيديبعضهم . لايتحرك أو يتحدث أحد . يخيم صمت مطبق بحيث يستطيع كل شخص أن يسمع نبض قلبالذي يقف على يمينه أو يساره . هذه
 
هي الدقيقة الأخيرة في حياة العالم . في الصمتالمطلق تلتقط نبتة كف ذئب أرجوانية الضوء على الجانب الأسفل من أزهارها , تتوهجللحظة ثم تتلاشى بين الأزهار الأخرى . خلف المتحف ترتجف الأوراق الإبرية للشربينبنعومة حين يتحرك النسيم عبر الأشجار . و بعيداً إلى الخلف , عبر الغابة , يعكس نهرآري ضوء الشمس , يلتوي الضوء مع كل تجعيدة في سطحه . إلى الشرق , ينهض برجكاتدرائية القديس فنسنت أحمر وهشاً , بناؤه الحجري رقيق كشرايين ورقة . وفي الأعلىتبدو جبال الألب المكللة بالثلوج و التي تجمع بين الأبيض و الأرجواني ضخمة و صامتة . تطوف غيمة في السماء . لا أحد يتحدث .

يبدو في الثواني الأخيرة و كأنالجميع قفزوا عن قمة توباز ممسكين بأيدي بعضهم . تقترب النهاية كأرض مقتربة . يهبالهواء البارد , تفقد الأجسام أوزانها . يتثاءب الأفق الصامت أميالاً . وفي الأسفل , يندفع غطاء الثلج الشاسع مقترباً ليغطي تلك الدائرة من اللون القرنفلي و الحياة .








10 أيار 1905الوقت أواخر بعد الظهر . تعشش الشمس لحظة قصيرة في تجويف جبال الألب الثلجي . تندفع أشعة الضوء المائلة والطويلة من الجبال عابرة بحيرة هادئة و ترمي ظلالها على بلدة تقع في الأسفل .

تتألف البلدة من قطعة واحدة و قطع كثيرة . تشكل أشجار التنوب و الشربين وصونوبر الآرولا حداً من جهة الشمال و الغرب , بينما توجد في الأعلى الزنابق , كفالذئب و حشيشة الأسد الألبية . في المراعي التي قرب البلدة يرعى القطيع من أجلصناعة الزبدة و الجبنة و الشوكولاتة . تنتج طاحونة نسيج صغيرة الخيوط الحريرية والشرائط و الملابس القطنية . يرن جرس كنيسة . تملأ رائحة لحم البقر المجفف الشوارعوالأزقة .

و تظهر نظرة متفحصة أنها مدينة من قطع كثيرة . تعيش إحدى الحاراتفي القرن الخامس عشر . هنا , ينضم إلى المنازل المبنية من الحجر الخشن سلالم وشرفات خارجية , بينما تفغر الجملونات العليا أفواهها و تنفتح للريح . تنمو الطحالببين قطع أحجار السقوف المستقيمة , تظهر كنيسة بنوافذ بيضوية الشكل , إيوانات مرصوفةو مسقوفة و تصوينات غرانيتية . يمسك قسم آخر بالحاضر , برواقات مقنطرة تنتظم في كلجادة , درابزونات معدنية على الشرفات , واجهات مصنوعة من الحجر الرملي الناعم .

كل قسم من القرية مثبت إلى زمن مختلف .

في نهاية بعد الظهر , فيهذه اللحظات القليلة بينما الشمس تعشش في التجويف الثلجي الألبي , يستطيع المرء أنيجلس قرب البحيرة و يتأمل نسيج الزمن . فرضياً , يمكن أن يكون الزمن ناعماً أوخشناً , شوكياً أو حريرياً , صلباً أو ليناً . لكن في هذا العالم . لكن في هذاالعالم يحدث أن يكون نسيج الزمن لاصقاً. تعلق مجموعة من البلدات في لحظة ما منالتاريخ ولا تخرج . وهكذا أيضا يعلق الأفراد في نقطة ما من حياتهم ولا يتحررون .

في هذه اللحظة , يتحدث رجل في أحد المنازل التي تقع أسفل الجبل مع صديق . يتحدث عن أيام دراسته في الجمنازيو . تتدلى شهادات الامتياز التي حصل عليها فيالرياضيات و التاريخ على الجدران , تشغل ميدالياته الرياضية و غنائمه رفوف الكتب . هنا , على طاولة , توجد صورة له حين كان كابتن فريق التسييج يعانقه فيها شبان آخرونذهبوا منذ ذلك الوقت إلى الجامعة و أصبحوا مهندسين ومصرفيين و تزوجوا . وفي الخزانةتوجد ثيابه التي تعود إلى عشرين عاماً, بلوزة التسييج , بنطال التويد الضيق علىخصره الان . الصديق الذي كان يحاول طوال أعوام أن يعرف الرجل على أشخاص آخرين يهزرأسه بكياسة و يصارع بصمت ليتنفس في الغرفة الصغيرة .

في منزل آخر يجلس رجلإلى طاولته وحيداً و هي مجهزة لاثنين , منذ عشرة أعوام جلس هنا مقابل والده ولميقدر أن يقول إنه يحبه , بحث خلال أعوام طفولته على لحظة صلة , تذكر المساءات التيجلس فيها ذلك الرجل الصامت مع كتابه , كان غير قادر أن يقول إنه أحبه , لم يقدر أنيقول إنه أحبه . يوجد على الطاولة صحنان , كأسان , شوكتان , كما كان الأمر في تلكالليلة الماضية . يبدأ الرجل تناول الطعام , لايستطيع أن يأكل , يبكي غير قادر أنيسيطر على نفسه . لم يقل أبداً إنه أحبه .

في منزل آخر تنظر امرأة بولع إلىصورة ولدها الشاب المبتسم و المتألق . تكتب له رسالة إلى عنوان طويل مضلل , تتخيلالرسائل السعيدة التي ستتلقاها . حين يقرع ابنها الباب , لاتفتحه . حين يأتي ولدهابوجهه اللاهث وعينيه الزجاجيتين إلى نافذتها و يطلب النقود لا تسمعه . حين يترك لهاولدها ذو المشية المتعثرة رسائل متوسلاً أن يشاهدها ترمي الرسائل دون أن تفتحها . حين يقف ولدها في الليل خارج منزلها تنام باكراً. في الصباح تنظر إلى صورته , تكتبرسائل عبادة إلى عنوان مضلل طويل.

تشاهد عانس وجه الشاب الذي أحبها في مرآةغرفة نومها , على سقف المخبز , على سطح البحيرة , في السماء.

إن مأساة هذاالعالم هي أنه لا يوجد أي شخص سعيد سواه أكان عالقاً في زمن ألم أو متعة . إن مأساةهذا العالم هي أن كل شخص هو وحيد لأن حياة في الماضي لايمكن أن تعاش في الحاضر , إنكل شخص يعلق في الزمن يعلق وحيداً.







11 أيار 1905حين يسير المرء في السوق يرى منظراً عجباً : الكرز الذي في أكشاك بيعالفاكهة مرتب في صفوف , القبعات التي في المتجر مجموعة بأناقة , الأزهار التي علىالشرفات كرتبة في تناسق تام . لا فتات على أرض المخبز , لا حليب مسفوحاً على أرضيةبيت المؤن . لا شئ خارج موضعه .

حين تنتهي حفلة مرحة في مطعم تصبح الطاولاتأكثر ترتيباً مما كانت عليه . حين تهب ريح خفيفة عبر الشارع , يكنس الشارع . و يصبحنظيفاً و تنقل الأوساخ و الغبار إلى حافة البلدة . حين تتكسر أمواج على الشاطئ , يعيد الشاطئ بناء نفسه . حين تسقط الأوراق عن الأشجار , تصطف الأوراق كالطيور فيتشكيل كحرف
v .
حين تشكل الغيوم وجوهاً , تبقى الوجوه . حين ينفث غليونالدخان في غرفة يندفع السخام نحو زاوية الغرفة تاركاً جواً خالياً. تصبح الشرفاتالمطلية المعرضة للريح و المطر أكثر تألقاً مع مرور الزمن . يجعل صوت الرعد أصيصاًمكسوراً يعيد تكوين نفسه , يجعل الشظايا المحطمة تقفز إلى أماكنها المحددة حيثتتلاءم و تلتحم . يزداد الأريج الفواح لعربة قرفة عابرة و لا يتلاشى مع مرور الزمن .

هل تبدو هذه الحوادث غريبة؟يسبب مرور الزمن في هذا العالمنظاماً متزايداً . النظام هو قانون الطبيعة , الميل العالمي, الجهة الكونية . إذاكان الزمن سهماً, يشير السهم نحو النظام . المستقبل نموذج , منظمة , اتحاد , توتير, الماضي عشوائية , فوضى , تحلل , تلاشٍ.

يرى الفلاسفة أنه بدون اتجاه نحوالنظام يفقد الزمن معناه . يصبح الزمن غير قابل للتمييز عن الماضي . يصير تعاقبالأحداث مشاهد عشوائية من ألف رواية .

سيصبح التاريخ غير قابل للتمييز مثلالضباب الذي نجمعه ببطء قمم الأشجار في المساء.

في عالم كهذا يستلقي البشرالذين يعيشون في منازل غير مرتبة في أسرتهم و ينتظرون أن تنفض قوى الطبيعة الغبارعن نوافذهم و ترتب الأحذية في خزائنهم . البشر الذين يعيشون علاقات غير منظمة يمكنأن يقوموا بنزهات بينما تصبح تقاويمهم منظمة , مواعيدهم مرتبة و أرصدتهم متوازنة . يمكن أن توضع الفرشاة , و أحمر الشفاه و الرسائل في المحفظات بإهمال مع وجود قناعةأنها سترتب نفسها آلياً . ولن تحتاج الحدائق إلى أن تشذب و الأعشاب إلى أن تستأصل . تصبح المكاتب أنيقة في نهاية اليوم . الثياب التي على الأرض في المساء تتوضع علىالكراسي في الصباح . الجرابات المفقودة تعاود الظهور .

إذا زار المرء مدينةفي الربيع يرى منظراً عجباً آخر . ذلك أن البشر يمرضون في الربيع من نظام حياتهم .يدمر البشر في الربيع منازلهم بغضب , يتحركون بين الأوساخ ,يحطمون الكراسي , يكسرون النوافذ . في شارع أربر أو أية جادة سكنية يسمع المرء في الربيع أصواتالزجاج المحطم و الصراخ و العويل و الضحك . في الربيع يلتقي البشر في أوقات غيرمنظمة , يحرقون كتب مواعيدهم , يقذفون ساعات يدهم بعيداً, يشربون طوال الليل. يستمرهذا الوضع الهستيري إلى الصيف حين يستعيد البشر أحاسيسهم و يعودون إلى النظام .







14 أيار 1905ثمة مكان يتوقف فيهالزمن . تتدلى قطرات المطر دون حراك في الجو . تتجمد رقاصات الساعات في منتصفالتأرجح . ترفع الكلاب خطومها في عواء صامت . يتجمد العابرون في الشوارع الغبارية وأرجلهم مرفوعة نحو الأعلى كأنها مشدودة بخيوط . تعلق روائح البلح و المانغا والكزبرة و الكمون في الفضاء .

حين يقترب مسافر إلى هذا المكان من أيه جهة , يتحرك ببطء متزايد . يزداد تباعد دقات قلبه , يضعف نفسه , تنخفض حرارته , تبهتأفكاره إلى أن يصل إلى حالة الموت ويتوقف . ذلك أن هذا هو مركز الزمن . من هذاالمكان يتحرك الزمن نحو الخارج في دوائر متحدة , المركز يكون مستقراً في المركز , يجمع السرعة ببطء في أقطار دوائر أكبر . من الذي سيحج إلى مركز الزمن ؟ الآباء والأمهات مع أولادهم و العشاق .

و هكذا , في المكان الذي يتوقف فيه الزمن , يرى المرء الآباء و الأمهات يتشبثون بأولادهم في عناق متجمد لن يتحرر أبداً. لنتتوقف الإبنة الشابة الجميلة ذات العينين الزرقاوين و الشعر الأشقر عن تلكالابتسامة التي تبتسمها , لن تفقد توهج خديها القرنفلي الناعم , لن تنالها التجاعيدأو التعب , لن تصاب بالأذى , لن تنسى ما علمها والداها , لن تعرف الشر أبداً , لنتقول لوالديها أبداً إنها لا تحبهما , لن تغادر غرفتها المطلة على البحر , لن تتوقفأبداً عن لمس والديها كما تفعل الآن.

و في المكان الذي يتوقف فيه الزمنيشاهد المرء العشاق يتبادلون القبل في ظلال المباني في عناقات متجمدة لن تنفكأبداً. لن يزيح المعشوق ذراعيه عن موقعهما لن يعيد سوار الذكريات , لن يسافر بعيداًعن معشوقته , لن يخاطر بنفسه في التضحية الذاتية , لن يفشل في إظهار حبه , لن يغادرأبداً, لن يقع في حب امرأة أخرى , لن يفقد أبداً هوى هذه اللحظة في الزمن .

يجب أن يلاحظ المرء أن تلك التماثيل مضاءة بأضعف لون أحمر لأن الضوء تلاشىفي مركز الزمن و تحولت ذبذباته إلى أصداء في الأودية الواسعة و صغر توتره حتى أصبحمثل التوهج الباهت للحباحب .

أولئك الذين ليسوا هادئين في مركز الزمنيتحركون فعلاً لكن بخطوات متجمدة . يمكن أن يستغرق تمشيط الشعر عاماً , يمكن أنتستغرق قبلة ألف عام. و في الوقت الذي تعاد فيه ابتسامة تمر الفصول في العالمالخارجي . و في الوقت الذي يضم فيه طفل تُبنى جسور. و في الوقت الذي يقال فيهوداعاً تتفتت مدن و تُنسى .

و أولئك الذين يعودون إلى العالم الخارجي ..

ينمو الأطفال بسرعة , ينسون عناق آبائهم و أمهاتهم الذي استمر قروناً والذي , بالنسبة إليهم , استمر بضع ثوان فقط . الأطفال الذين يصبحون راشدين , يعيشونبعيداً عن أمهاتهم و آبائهم في منازلهم الخاصة , يتعلمون طرقاً خاصة بهم , يعانونمن الألم , يشيخون . يلعن الأطفال آبائهم و أمهاتهم لأنهم يحاولون الاحتفاظ بهم إلىالأبد , يلعنون الزمن بسبب تجاعيد جلدهم و أصواتهم الأجشة . هؤلاء الذين أصبحواأطفالاً شائخين يريدون أن يوقفوا الزمن لكن في زمن آخر . يريدون أن يجمدوا أبناءهمفي مركز الزمن .

العشاق الذين يعودون يجدون أن أصدقاءهم رحلوا منذ وقت طويل . في النهاية , انتهت فترات الحيوات . يتحركون في عالم لا يعرفون , العشاق الذينعادوا ما يزالون يتعانقون في ظلال الأبنية إلا أن عناقاتهم تبدو الآن فارغة ووحيدة . حالاً ينسون الوعود التي عمرها قرون و التي بالنسبة لهم استمرت بضع ثوان فقط , حتى بين الغرباء يتبادلون كلمات نابية , يفقدون الهوى , ينفصلون , يشيخون , ويصبحون وحيدين في عالمٍ لا يعرفونه .

يقول البعض من الأفضل عدم الاقتراب منمركز الزمن . الحياة قارب حزن إلا أنه من النبل أن يعيش المرء الحياة و لكن بدونالزمن لا توجد حياة . لا يوافق
 
آخرون . سيفضلون أبدية من القناعة حتى و لو كانتمتوقفة متجمدة , كفراشة حبيسة في علبة .







15 أيار 1905

تخيل عالماً يخلو من الزمن , ليس فيه إلا الصور .

طفلة علىالشاطئ , مسحورة من رؤيتها الأولى للمحيط . امرأة واقفة على الشرفة فجراً شعرهاالمنسدل , ثياب نومها الفضفاضة , شفتاها . القوس المحنية للرواق المقنطر قرب نافورةتسيرغنا في شارع كرام , الحجر الرملي و الحديد . يجلس رجل في مكتبه الهادئ حاملاًصورة امرأة و ثمة نظرة استياء على وجهه . عقاب مؤطر في السماء باسط جناحيه , أشعةالشمس تتغلغل في ريشه . يجلس فتى يافع في صالة فارغة يخفق قلبه كأنه على خشبهالمسرح . آثار أقدام على الثلج في جزيرة شتائية . قارب على المياه في الليل تبدوأضواءه باهتة في المسافة كمثل نجمة صغيرة حمراء في السماء السوداء . خزانة أدويةمغلقة . امرأة تلبد في الدغل , تنتظر قرب منزل زوجها اللامبالي الذي يجب أن تتحدثإليه . مطر خفيف في يوم ربيعي أثناء نزهة هي النزهة الأخيرة التي يقوم بها شاب فيالمكان الذي يحبه . غبار على أسكفة نافذة . طاولة تعرض فليفلة صفراء و خضراء وحمراء .
. قطة تراقب خنفساء على النافذة .فتاة شابة على مقعد , تقرأ رسالة , دموع الفرح في عينيها الخضراوين . حقل كبير مخطط بأشجار و الأرز و التنوب . ضوءالشمس الداخل في زوايا طويلة من خلال النافذة في نهاية بعد الظهر .زجاجة محطمة علىالأرض , سائل بني في الصدوع , امرأة عيناها حمراوان . عجوز في المطبخ يعد الفطورلحفيده , الطفل يحدق عبر النافذة الى مقعد مطلي باللون الأبيض . كتاب مهترئ علىطاولة قرب مصباح باهت . البياض على المياه كموجة تتلاشى تعصف بها الريح . امرأةتستلقي على أريكتها , شعرها مبلل , تمسك يد رجل لن تراه مرة ثانية أبداً, قطارعرباته حمراء على جسر حجري كبير أقواسه بارعة الجمال , نهر في الأسفل , نقاط صغيرةفي منازل بعيدة , ذرات الغبار تعوم في ضوء الشمس خلال نافذة , الجلد الرقيق فيمنتصف عنق , رقيق بما يكفي لرؤية نبض الدم . رجل و امرأة عاريان يغطيان بعضهما , الظلال الزرقاء للأشجار تحت البدر , قمة جمبل و ريح قوية منتظمة , يتراءى الوادي فيجميع الجهات , سندويتشات لحم بقر و جبنة , طفل ينقز من صفعة والده , شفتا الأبملويتان من الغضب , الطفل لا يفهم , وجه غريب في المرآة شائب عند الصدغين . شابيحمل هاتفاً منذهل مما يسمع , صورة عائلة , الأب و الأم شابان و مسترخيان , الأولاديرتدون ربطات العنق و الفساتين و يبتسمون . ضوء بعيد باهت يبدو من خلال أجمة أشجار , اللون الأحمر عند الغروب , قشرة بيضة , هشة, غير محطمة , قبعة زرقاء مغسولة علىالشاطئ . ورود مقطوعة طافية في النهر تحت الجسر و جوسق يرتفع . شعر أحمر لعاشقة , وحشي , شرير وواعد . امرأة شابة تحمل تويجات أرجوانية . غرفة من أربعة جدران ونافذتين و سريرين و طاولة و مصباح و شخصين بوجهين حمراوين و دموع . القبلة الأولى , كواكب عالقة في الفضاء , محيطات , صمت , قطرة ماء على النافذة , حبل ملتف , فرشاةصفراء .








20 أيار 1905إن نظرة إلىالأكشاك المزدحمة في " شارع شبيتال" تروي القصة . يسير البقالون بتردد من كشك إلىآخر ليكتشفوا مااذا يبيع كل كشك . هنا يوجد تبغ , لكن أين بذور الخردل ؟ هنا يوجدشوندر سكري لكن أين سمك البقلاي ؟ هنا حليب الماعز لكن أين الساسفراس ؟ ليس هؤلاءسواحاً في زيارتهم الأولى لبرن . إنهم مواطنو " بيرن " . لا أحد يتذكر أنه اشترىمنذ يومين شوكولاته من حانوت يدعى " فرديناندز " أو لحم بقر من محل " هوف " للموادالغذائية . يجب أن يعثر على كل حانوت و ما يختص به من جديد . يسير كثيرون وفقالخرائط التي ترشدهم من رواق مقنطر إلى آخر في المدينة التي عاشوا فيها طوال حياتهم , في الشارع الذي تنقلوا فيه طوال أعوام . يسير كثيرون حاملين الدفاتر ليسجلوا ماتعلموه بينما يمكث لوهلة في رؤوسهم . ذلك أن البشر في هذا العالم بلا ذاكرات .

حين يحين وقت العودة إلى المنزل في نهاية اليوم يستشير كل شخص كتاب عناوينهليعرف أين يعيش . يكتشف اللحام الذي قام بتقطيع غير جيد في اليوم الأول من عمله أنمنزله يقع في شارع نيغال. السمسار الذي أنتجت ذاكرته المحدودة عن السوق استثماراتممتازة , يقرأ أنه يسكن في شارع بندس . حين يصل كل رجل إلى منزله يجد امرأة وأطفالاً ينتظرون عند الباب , يعرف عن نفسه , يساعد في تحضير وجبة العشاء , يقرأقصصاً لأطفاله . كذلك كل امرأة تعود من عملها تقابل زوجاً و أطفالاً و خوانات ومصابيح و ورق جدران و نماذج من الآنية . في وقت متأخر من الليل لا يبقى الزوج والزوجة حول الطاولة ليناقشا أعمال اليوم , مدرسة أولادهما , رصيد البنك , بدلاً منذلك , يبتسمان لبعضهما ,يشعران بالدم الدافئ و بالألم بين الساقين كما كان يفعلانحين التقيا للمرة الأولى منذ خمسة عشر عاماً. يعثران على غرفة نومهما , يتعثران وهما يعبران, صوراً عائلية لا يتعرفان عليها و يمضيان الليل في الشبق . ذلك أنالعادة والذاكرة تبلدانالهوى الجسدي . بدون ذاكرة , كل ليلة هي الليلة الأولى , كلصباح هو الصباح الأول , كل قبلة و لمسة تحدثان لأول مرة .

إن عالماً بدونذاكرة هو عالم الحاضر . ينحصر وجود الماضي في الكتب و السجلات . يحمل كل شخص كتابالحياة الخاص به من أجل أن يعرف نفسه و هذا الكتاب مليء بتاريخ حياته . يستطيع أنيتعرف على هوية والديه أو فيما إذا ولد غنياً أو فقيراً أو إذا كان جيداً أو سيئاًفي المدرسة أو إذا أنجز أي شيء في حياته , حين يقرأ صفحات الكتاب كل يوم . بدونكتاب الحياة , يصبح المرء صورة عابرة , صورة ببعدين , شبحاً . في المقاهي التي تقعتحت الأشجار المورقة في برونغاسهالدي يسمع المرء صراخا أليماً لرجل قرأ لتوه أن قتلمرة رجلاً آخر و تنهيدة امرأة اكتشفت لتوها أن أميراً خطبها , تباهياً مفاجئاً منامرأة عرفت أنها حصلت على تشريفات عليا من جامعتها منذ عشرة أعوام . يمضي البعضساعات الغسق حول طاولاتهم و هم يقرؤون في كتب الحياة , آخرون يملأون بعصبية صفحاتهاالإضافية بحوادث اليوم .

مع مرور الزمن تزداد سماكة كتاب الحياة الخاص بكلشخص بحيث لا تمكن قراءاته كله . عندئذ يأتي خيار : الرجال و النساء الكبار في السنيمكن أن يقرأوا الصفحات الأولى ليتعرفون على أنفسهم كشباب , أو يمكن أن يقرأواالنهاية ليتعرفوا على أنفسهم في سنوات لاحقة .

توقف البعض عن القراءة . تخلوا عن الماضي . قرروا أنه لا يهم إذا كانوا أغنياء أم فقراء في الماضي , متعلمينأم جهلة , متكبرين أم متواضعين , عاشقين أم فارغي القلوب – و لايهمهم أيضاً كيفتدخل الريح الخفيفة في شعرهم . ينطر بشر كهؤلاء إلى عينيك بشكل مباشر و يمسكون يدكبشدة . يسير بشر كهؤلاء بالخطوة الواسعة الرشيقة لشبابهم . تعلم بشر كهؤلاء كيفيعيشون في عالم بلا ذاكرة .







22 أيار 1905في الفجر , يطوف ضباب أصفر عبر المدينة يحمله نفس النهر . تنتظر الشمس وراءجسر " نيديك" و تلقي أسنتها الحمراء الطويلة على طول " شارع كرام" مضيئة الأجزاءالسفلية للشرفات وصولاً إلى الساعة العملاقة التي تقيس الزمن . تندفع أصوات الصباحعبر الشوارع كرائحة الخبز . تستيقظ طفلة و تبكي طالبة أمها . تصدر ظلة حانوت صريراًبهدوء عندما يصل البقال إلى حانوته في " السوق ". تجار آلة في النهر , تتحدثامرأتان بهمس تحت رواق مقنطر .

و حين تذوب المدينة في الضباب و الليل يرىالمرء مشهداً غريباً: هنا جسر قديم لم يكتمل بناؤه . هناك منزل أزيل من أسسه , هناشارع يتجه إلى الشرق دون سبب واضح , هناك يتوضع مصرف وسط سوق البقالة . يصور زجاجكاتدرائية القديس فنسنت السفلي الملون مواضع دينية و ينتقل الجزء الأعلى فجأة إلىصورة جبال الألب في الربيع . يسير رجل بخفة نحو " مجلس الشعب", يتوقف فجأة , يضغيديه على رأسه , يصيح مهتاجاً, يستدير و يسرع في الجهة المعاكسة .

هذا عالمخطط متبدلة , فرص مفاجئة , رؤى غير متوقعة . ذلك أن الزمن يتدفق في هذا العالم علىصورة متقطعة لا مستوية و بالتالي يتلقى البشر لمحات متقطعة عن المستقبل .

حين تتلقى أم رؤية مفاجئة عن مكان سكن ولدها تنقل منزلها لتصبح قربه . حينيرى بناء مكان التجارة المستقبلي يغير طريقه نحو ذلك الاتجاه . حين تلمح طفلة نفسهالوهلة كبائعة أزهار تقرر عدم الذهاب إلى الجامعة . حين يلتقي شاب رؤية عن المرأةالتي سيتزوجها , ينتظرها . حين يبصر محام نفسه في عباءة قاض في " زوريخ " يتخلى عنعمله في " بيرن " . ما معنى متابعة الحاضر بعد أن يرى المرء المستقبل؟إنهذا العالم هو عالم نجاح مضمون لأولئك الذين تلقوا رؤيتهم . إن بعض المشاريع التيبدأت لا تقود إلى مهنة . بعض الرحلات التي تمت لا تقود إلى مدينة القدر , بعض الذينتمت مصادقتهم لن يصيروا أصدقاء في المستقبل . لقد صنعت بعض العواطف .

أمابالنسبة للذين لم يتلقوا رؤيتهم فهذا عالم تشويق غير فعال . كيف يستطيع المرء أنيسجل في جامعة دون أن يعرف مهنته المستقبلية ؟ كيف يفتح المرء صيدلية في " السوق " حين سيكون محل مشابه أفضل في شارع " شبيتال" ؟ كيف تقدر امرأة أن تمارس
 
أعلى