الكويت تجمعنا
عضو مخضرم
النهايات عبدالرحمن منيف
إنه القحط.. مرة أخرى!
وفي مواسم القحط تتغير الحياةوالأشياء, وحتى البشر يتغيرون, وطباعهم تتغير, تتولد في النفوس أحزان تبدو غامضةأول الأمر, لكن لحظات الغضب, التي كثيرًا ما تتكرر, تفجّرها بسرعة, تجعلها معادية, جموحًا, ويمكن أن تأخذ أشكالاً لا حصر لها. أما إذا مرَّت الغيوم عالية سريعة, فحينئذ ترتفع الوجوه إلى أعلى وقد امتلأت بنظرات الحقد والشتائم والتحدِّي!
وحين يجيء القحط لا يترك بيتًا دون أن يدخله, ولا يترك إنسانًا إلاَّ ويُخلّففي قلبه أو في جسده أثرًا. وإذا كان المسنّون قد تعودوا, منذ فترة طويلة, لفرط مامرَّ بهم من أيام قاسية, على سنوات المُحْل وعضّة الجوع, وكانت المخاوف تملأ قلوبهمحين يفكّرون فيها, فالكثيرون غيرهم لا يقدرون على مواجهتها بالتصميم نفسه, لأنالكميات القليلة من الحبوب التي توضع جانبًا, بإصرار قوي أول الأمر, لتكون زادًا فيأيام الجوع لا تلبث أن تتسرّب أو تختفي, كما يتسرّب ماء النبع أو كما يجفّ المجرى. وتبدأ بعد ذلك محاولات البحث المضني عن خبز اليوم, وخلال هذا البحث تتراكم الأحزانوالمخاوف لتصبح شبحًا مرعبًا تظهر آثاره في وجوه الصغار, وفي سهوم الرجال وشتائمهم, وفي الدموع الصغيرة التي تتساقط من عيون النسوة دون أسباب واضحة!
إنَّه القحطمرة أخرى. وها هو ذا يسوق أمامه أشياء لا حصر لها, ولا يعرف أحد كيف تتجمع هذهالأشياء وكيف تأتي. فالفلاحون الذين كانوا يحملون سلال البيض وينزلون بها إلى أطرافالمدينة, ويتجرأون بعض الأحيان ويصلون إلى وسط الأسواق المليئة بالبشر, والرعاةالذين كانوا يأخذون أجر سنة كاملة بضعة خراف, وكانوا يسوقونها في بداية فصل الربيع, ومعها الحملان الصغيرة, وكانوا يضعونها على صدورهم لأنها ولدت لتوّها, لكي يبيعوهافي المدينة, ثم أولئك الباعة الماكرون الذين يحملون على دوابهم العنب والتينوالتفاح, ويحملون موازينهم البدائية ومعها قطع الحجارة المصقولة التي تعوّدوااستعمالها أوزانًا, ويبالغون أول الأمر في الأسعار التي يطلبونها إن كل هؤلاء إذاجاءوا في مواسم القحط يجيئون بهيئات مختلفة شديدة الغرابة: كانت ملابسهم ممزقةوغريبة الألوان, وعيونهم مليئة بالحزن والخوف, أمَّا أصواتهم القوية الصاخبة فكانتتنزلق إلى الداخل, وبدلاً عنها تخرج من الصدور أصوات غير واضحة, حتى إنهم كانوايضطرون إلى إعادة ما يقولون بضع مرات, بناء على الأسئلة الفظة التي يوجّهها لهمأصحاب الدكاكين في المدينة, والذين لم يكونوا ينظرون إلى وجوه هؤلاء الناس قدر ماينظرون إلى الأيدي أو إلى تلك الصرر الصغيرة المربوطة بإحكام في أطراف الملابس التييضعونها على أجسادهم أو على رؤوسهم. كان هؤلاء إذا جاءوا في مثل هذه السنين لايبيعون البيض والفاكهة والزيتون والخراف, وإنما يحاولون شراء أقصى ما تسمح بهنقودهم القليلة من الدقيق والسكر. حتى الرعاة الذين كانوا شديدي النزق ويبالغون فيالمقابل الذي يطالبون به ثمنًا للخراف, وكانوا يفضّلون العودة مرة أخرى ومعهمدوابهم, دون شعور بالأسف لأنهم لم يبيعوا ولم يشتروا حتى هؤلاء يتحولون في مثل هذهالسنة إلى رجال متردّدين متوسّلين, لأنهم يريدون التخلص من الدواب الضعيفة المسنّة, إذ أصبحوا يخافون خوفًا حقيقيًّا أن تموت بين لحظة وأخرى من الجوع والعطش.
أماالباعة الذين تعوّدوا المجيء في كل المواسم, حاملين من كل موسم ثماره, وفي بعضالأحيان للتجول والفرجة, فلم يعُد أحد يراهم يحملون شيئًا في هذه المواسم, وكأنَّهممجموعة من القنافذ تكورت وهرّبت أشياءها إلى باطن الأرض!
لو اقتصر الأمر علىهذه المظاهر لما أثار استغرابًا, لأنَّ العلاقة بين المدينة وما يحيط بها هي منالقوة والاستمرار بحيث لا يمكن لأحد أن يميّز بسرعة التغير المفاجئ الذي أخذ يتكون, لكن مع تلك المظاهر كانت أشياء أخرى كثيرة تحصل. فالتجار الذين تعوّدوا على تقديمالقروض الصغيرة للفلاحين, واستيفائها أضعافًا مضاعفة في المواسم, اتخذوا موقفًا, بدا, أوّل الأمر, مليئًا بالشروط والتعنت, ثم ما لبثوا أن امتنعوا
تمامًا, وافتعلوا لذلك أسبابًا وخصومات. أما الذين استمروا في تقديم بعض المساعدات, فقدرفضوا أن يكون سدادها في المواسم القادمة, وأصرّوا على شروط جديدة. أصرُّوا على أنتسجّل أقسام كبيرة من الأراضي التي يمتلكها الفلاحون بأسمائهم وأسماء أبنائهم, وفيمحاولة لإثبات حسن النية قالوا الكلمات التي يقولها الدائنون دائمًا: (الدنيا حياةوموت, والإنسان لا يضمن نفسه في اليوم الذي يعيش فيه, فكيف يضمن حياة أولاده الصغاربعد موته?). كانوا لا يكتفون بذلك, كانوا يضيفون: (وكما قال الله عزَّ وجل في كتابهالكريم: إذا تداينتم بدَيْن إلى أجل مسمًّى فاكتبوه ولْيكتُبْ بينكم كاتبٌ بالعدل
والفلاحون الذين قابلوا إصرار هؤلاء الدائنين بإصرار أقوى, ورفضوا تسجيلالأراضي, أول الأمر, اضطر الكثير منهم إلى استخراج الحليّ الذهبية والفضيَّةالقديمة, والتي جمعت خلال فترات طويلة سابقة, وقدّموها عوضًا من الطحين والسكر وبعضأمتار من الخام. وفي وقت آخر وافق بعضهم على التنازل وقدّم الأراضي والبساتين التيطلبها الدائنون. ومع كل صفقة جديدة كانت أثمان الأرض في القرى تتراجع, وكان التجاريزدادون تصلبًا ولا يوافقون إلاَّ بشروطهم, وبعد أن تتم جميع الإجراءات!
ومعالقحط تأتي أشياء أخرى أيضًا: تأتي الأمراض الغامضة, وتعقبها الوفيات. كان الكباريموتون من الحزن, والصغار تنتفخ بطونهم وتصيبهم الصفراء ثم يتساقطون. وإذا كانالناس قد تعوّدوا على الموت, ولم يعد يخيفهم كما كان الأمر في أوقات أخرى, برغم أنهيتسبب كل الأوقات في تفجير آلاف الأحزان والأحقاد القديمة, فإنَّ حالة أقرب إلىالانتظار اليائس كانت تحوم فوق كل بيت وتسبح في دم كل مخلوق. حتى الدواب في حواكيرالبيوت, أو في أطراف البساتين, كانت تسيطر عليها حالة من العصبية واليأس.
وفيهذي السنين, ومع الجوع والموت, تأتي أفواج لا حصر لها من الطيور. ومثلما كانتالغيوم الخفيفة العالية تمرّ مسرعة, كذلك كانت الطيور. فقد كانت أفواجها تعبر في كلالأوقات, حتى في الليل العميق, عالية صائتة, وكأنَّها ذاهبة إلى الموت أو إلى مجهوللا تعرف متى أو أين سيكون.
كان الناس ينظرون إلى الطيور نظرة مليئة بالحزنوالأسى. تمنوا لو كانت قريبة, أو لو تتوقف قليلاً, لعلهم يظفرون بعددٍ منها يعوّضهمعن الجوع الذي يهدّهم, لكن الطيور تواصل طيرانها المتعب لعلّها تصل إلى مكان ما. والناس لا يتوقفون عن النظر والحسرة, ويتوقعون شيئًا ما, لكن هذا الشيء لا يحصلأبدًا, لأن أسراب الكركي والوز البري, وعشرات الأسراب من الطيور الأخرى واصلترحلتها المجهدة دون توقّف. أما أسراب القطا والكدري فقد بدأت تظهر بين فترة وأخرى. والفلاحون الذين تعلموا أن هذا النوع من الطيور لا يترك أماكنه الصحراوية, ويقتربمن المناطق المزروعة, إلاَّ إذا عضّه الجوع وأضناه العطش. ولم تعد واحات الصحراء أوالخوابي المتناثرة في أماكن عديدة تحوي قطرة ماء, فقد لاحظوا أن هذه الطيور بدأتتتخلى عن الحذر والخوف, أول الأمر, مدفوعة بغريزة البقاء, فتندفع إلى أي مكان لعلهاتلتقط بضع حبات أو قطرات من الماء.
إنَّها المأساة نفسها تتكرّر مرة أخرى أمامعيون الفلاحين, وهم قد تعوّدوا الصبر والانتظار, وتعوّدوا أكثر من ذلك أن يبدواالتشاؤم والتحفظ, وكانوا يردّدون إذا سئلوا عن المواسم والزراعة: (المواسم لا تعنيالأمطار التي تأتي فقط, وإنما أمور أخرى كثيرة). فإذا حصلت لجاجة في السؤال كانوايختصرون كل شيء بالكلمات التالية: (المواسم تعني ما يقسمه الله وما يتركه الطير), لأنهم في أعماقهم يخافون كل شيء, يخافون انحباس المطر في الشهور التي يجب أن يسقطفيها, أما إذا جاء مبكرًا ونما الزرع وارتفع شبرًا أو شبرين عن الأرض, فكانوايخافون أن يأتي مطر غزير بعد ذلك الانقطاع, وعندها تغرق الأرض وتنمو الأعشابالطفيلية ويفسد أو يقلّ الموسم. فإذا جاء المطر هيّنًا متفرقًا, وفي الأوقات التييجب أن يأتي فيها, فإنَّ الخوف يظل حتى الأيام الأخيرة من أيار, حين تشتد الحرارةفجأة وتحرق كل شيء, فتخيب الآمال وتتراجع الوعود التي أعطاها الرجال للنساء بأثوابجديدة, وللفتيان الذين تجاوزوا سن البلوغ وأصبحوا يطمحون إلى الزواج إن جاءتالمواسم الجديدة بالخير. إن هذه الوعود تتراجع يومًا بعد آخر لأن (الشوبة) جاءتوقضت على كل شيء!
إنَّ أحدًا لا يحب أن يتذكر أيام القحط. أما إذا جاءت قاسيةجارفة, وإذا تكرر مجيئها سنة بعد أخرى, فالكثيرون يفضّلون الموت أو القتل ثم الرحيلعلى هذا الانتظار القاسي, وآخرون يندفعون إلى حالة من القسوة والانتقام لا يتصورهاأحد فيهم, بل ويستغربها هؤلاء الناس أنفسهم في غير هذه الأوقات, وفي غير هذهالظروف. وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن ينتقم من الغيوم أو ممّن يرسلها, فلا بدَّأن تكون هناك ضحايا من نوع آخر. فالأزواج الذين أبدوا من السماحة الشيء الكثير, ولميتعودوا الشتيمة أو الضرب, كانوا مستعدين لأن يغيّروا هذه العادات بسهولة, ودونشعور بالذنب. كانوا لا يتردّدون في أن يضربوا ويصرخوا لأتفه الأسباب. والذين كانوايبدون المرح ويظهرون التفاؤل, يتحولون فجأة إلى رجال قساة بوجوههم وتصرفاتهم. وحتىأولئك الذين كانوا شديدي الإيمان ويَعدّون كل ما تأتي به السماء امتحانًا للإنسان, لا يلبثون أن يصبحوا ضحايا وأكثر الناس شتيمة وتجديفًا, حتى ليستغرب مَن عرفهم منقبل كيف كان هؤلاء الناس يخزنون في صدورهم هذا المقدار الهائل من الشتائم والأفكارالخاطئة المحرمة!
هكذا كان القسم الأكبر من الناس في تلك السنة القاسيةالطويلة. وإذا كان لكل قرية ولكل مدينة في هذا العالم ملامحها وطريقتها في الحياة, ولها أسماؤها ومقابرها, وإذا كان لكل قرية ومدينة مخاتيرها ومجانينها, ولها نهرهاأو نبع الماء الذي تستقي منه, وفيها مواسم الأعراس بعد الحصاد, فقد كان للطيبةأيضًا حياتها وطريقتها في المعاش, وكان لها مقبرتها وأعراسها, وكان في الطيبةمجانينها أيضًا. لكن هؤلاء المجانين لا يظهرون دائمًا ولا يتذكرهم الناس في كلالأوقات, وإن كان لهم حضورهم وجنونهم الخاص, بحيث كانوا كبارًا وأقوياء في أوقاتمعينة, وكانوا حمقى وشديدي الغرابة في أوقات أخرى.
وكان للطيبة دائمًا أعراسهاوأحزانها. كانت الأعراس, في أغلب الأحيان, بعد الحصاد, وكانت الأحزان حين ينقطعالمطر وتمحل الأرض. وإذا كانت الأعراس تعني بعض الناس, ولبعض الوقت, فإنَّ الأحزان, وفي سنوات المحل, تعني جميع الناس, وتمتد فترة طويلة.
الطيبة مثل أي مكان فيالدنيا, لها أشياؤها التي تفخر بها. قد لا تبدو هذه الأشياء خطيرة, أو ذات أهميةبالنسبة لأماكن أخرى, لكنها بالنسبة للطيبة جزء من الملامح التي تميزها عن غيرها منالضيع والقرى. وهذه الأشياء تكوَّنت بفعل الزمن, وبفعل الطبيعة القاسية, كما لميحصل في أماكن أخرى. فإذا كانت الأصوات العالية تميز سكان عدد كبير من القرى, حتىلتبدو أصوات الفلاحين عالية الجرْس صلبة المخارج, وبعض الأحيان سريعة, وتتخللهامجموعة من الحِكَم والأمثال, كما هي العادة لدى الكثير من الفلاحين في أنحاء عديدةمن العالم, نظرًا للعادة وللمسافات التي تفصل الناس بعضهم عن بعض في الحقول, أو حينيضطرون للمناداة على الحيوانات الضالة, أو على تلك التي تذهب بمزاجها الغريب إلىأماكن بعيدة أو مجهولة, أو ربما للبعد الذي يفصل البيوت بعضها عن بعض, وما يحيط بهامن الحواكير والبساتين الصغيرة التي تزرع فيها أنواع عديدة من الخضراوات - فإن هذهالأسباب, وغيرها كثير, خلقت طبيعة معينة, وجعلت الناس في الطيبة يتكلمون بطريقةخاصة, حتى ليظن مَن يسمع الحديث ولا يفهم طبيعة الناس أو علاقاتهم, أنَّهميتعاركون, أو أن الخلاف بينهم وصل إلى درجة من الحدة, لا بدَّ أن تعقبه أمور أخرى!
لو اقتصر الأمر في الطيبة على ذلك لما عني شيئًا, خاصة بالنسبة للفلاحين أوالذين يعرفون طبائعهم. لكن إذا ترافق مع ذلك النسق الخاص من الحديث الذي تعوّده أهلالطيبة, حيث يلجأون في أكثر الأحيان إلى الاستطراد والتذكر, ويسرفون في رواية القصصوالتاريخ, فإنه لولا هذه الصفة لما ظهرت تلك الطبيعة الخاصة, ولما ظهرت تلك الخشيةالتي تميّز البشر في ذلك المكان, وما يحيط به من قرًى وضياع, وقد تصل إلى المدينة, أو بعض أطرافها أيضًا!
كان أهل الطيبة يعرفون كيف يديرون الحديث بتلك الطريقةالعجيبة التي تجعل الأمور ذات أهمية شديدة. وهذه الميزة التي يتوارثها الأبناء عنالآباء, تجعلهم في نظر الكثيرين نوعًا خاصًّا من الناس, وتجعلهم أكثر من ذلك قادرينعلى التأثير في الآخرين, وربما إقناعهم. ولا يمكن تفسير هذا الأمر على أنه ضرب منالاحتيال أو التملُّق, كما لا يمكن أن
وفي مواسم القحط تتغير الحياةوالأشياء, وحتى البشر يتغيرون, وطباعهم تتغير, تتولد في النفوس أحزان تبدو غامضةأول الأمر, لكن لحظات الغضب, التي كثيرًا ما تتكرر, تفجّرها بسرعة, تجعلها معادية, جموحًا, ويمكن أن تأخذ أشكالاً لا حصر لها. أما إذا مرَّت الغيوم عالية سريعة, فحينئذ ترتفع الوجوه إلى أعلى وقد امتلأت بنظرات الحقد والشتائم والتحدِّي!
وحين يجيء القحط لا يترك بيتًا دون أن يدخله, ولا يترك إنسانًا إلاَّ ويُخلّففي قلبه أو في جسده أثرًا. وإذا كان المسنّون قد تعودوا, منذ فترة طويلة, لفرط مامرَّ بهم من أيام قاسية, على سنوات المُحْل وعضّة الجوع, وكانت المخاوف تملأ قلوبهمحين يفكّرون فيها, فالكثيرون غيرهم لا يقدرون على مواجهتها بالتصميم نفسه, لأنالكميات القليلة من الحبوب التي توضع جانبًا, بإصرار قوي أول الأمر, لتكون زادًا فيأيام الجوع لا تلبث أن تتسرّب أو تختفي, كما يتسرّب ماء النبع أو كما يجفّ المجرى. وتبدأ بعد ذلك محاولات البحث المضني عن خبز اليوم, وخلال هذا البحث تتراكم الأحزانوالمخاوف لتصبح شبحًا مرعبًا تظهر آثاره في وجوه الصغار, وفي سهوم الرجال وشتائمهم, وفي الدموع الصغيرة التي تتساقط من عيون النسوة دون أسباب واضحة!
إنَّه القحطمرة أخرى. وها هو ذا يسوق أمامه أشياء لا حصر لها, ولا يعرف أحد كيف تتجمع هذهالأشياء وكيف تأتي. فالفلاحون الذين كانوا يحملون سلال البيض وينزلون بها إلى أطرافالمدينة, ويتجرأون بعض الأحيان ويصلون إلى وسط الأسواق المليئة بالبشر, والرعاةالذين كانوا يأخذون أجر سنة كاملة بضعة خراف, وكانوا يسوقونها في بداية فصل الربيع, ومعها الحملان الصغيرة, وكانوا يضعونها على صدورهم لأنها ولدت لتوّها, لكي يبيعوهافي المدينة, ثم أولئك الباعة الماكرون الذين يحملون على دوابهم العنب والتينوالتفاح, ويحملون موازينهم البدائية ومعها قطع الحجارة المصقولة التي تعوّدوااستعمالها أوزانًا, ويبالغون أول الأمر في الأسعار التي يطلبونها إن كل هؤلاء إذاجاءوا في مواسم القحط يجيئون بهيئات مختلفة شديدة الغرابة: كانت ملابسهم ممزقةوغريبة الألوان, وعيونهم مليئة بالحزن والخوف, أمَّا أصواتهم القوية الصاخبة فكانتتنزلق إلى الداخل, وبدلاً عنها تخرج من الصدور أصوات غير واضحة, حتى إنهم كانوايضطرون إلى إعادة ما يقولون بضع مرات, بناء على الأسئلة الفظة التي يوجّهها لهمأصحاب الدكاكين في المدينة, والذين لم يكونوا ينظرون إلى وجوه هؤلاء الناس قدر ماينظرون إلى الأيدي أو إلى تلك الصرر الصغيرة المربوطة بإحكام في أطراف الملابس التييضعونها على أجسادهم أو على رؤوسهم. كان هؤلاء إذا جاءوا في مثل هذه السنين لايبيعون البيض والفاكهة والزيتون والخراف, وإنما يحاولون شراء أقصى ما تسمح بهنقودهم القليلة من الدقيق والسكر. حتى الرعاة الذين كانوا شديدي النزق ويبالغون فيالمقابل الذي يطالبون به ثمنًا للخراف, وكانوا يفضّلون العودة مرة أخرى ومعهمدوابهم, دون شعور بالأسف لأنهم لم يبيعوا ولم يشتروا حتى هؤلاء يتحولون في مثل هذهالسنة إلى رجال متردّدين متوسّلين, لأنهم يريدون التخلص من الدواب الضعيفة المسنّة, إذ أصبحوا يخافون خوفًا حقيقيًّا أن تموت بين لحظة وأخرى من الجوع والعطش.
أماالباعة الذين تعوّدوا المجيء في كل المواسم, حاملين من كل موسم ثماره, وفي بعضالأحيان للتجول والفرجة, فلم يعُد أحد يراهم يحملون شيئًا في هذه المواسم, وكأنَّهممجموعة من القنافذ تكورت وهرّبت أشياءها إلى باطن الأرض!
لو اقتصر الأمر علىهذه المظاهر لما أثار استغرابًا, لأنَّ العلاقة بين المدينة وما يحيط بها هي منالقوة والاستمرار بحيث لا يمكن لأحد أن يميّز بسرعة التغير المفاجئ الذي أخذ يتكون, لكن مع تلك المظاهر كانت أشياء أخرى كثيرة تحصل. فالتجار الذين تعوّدوا على تقديمالقروض الصغيرة للفلاحين, واستيفائها أضعافًا مضاعفة في المواسم, اتخذوا موقفًا, بدا, أوّل الأمر, مليئًا بالشروط والتعنت, ثم ما لبثوا أن امتنعوا
تمامًا, وافتعلوا لذلك أسبابًا وخصومات. أما الذين استمروا في تقديم بعض المساعدات, فقدرفضوا أن يكون سدادها في المواسم القادمة, وأصرّوا على شروط جديدة. أصرُّوا على أنتسجّل أقسام كبيرة من الأراضي التي يمتلكها الفلاحون بأسمائهم وأسماء أبنائهم, وفيمحاولة لإثبات حسن النية قالوا الكلمات التي يقولها الدائنون دائمًا: (الدنيا حياةوموت, والإنسان لا يضمن نفسه في اليوم الذي يعيش فيه, فكيف يضمن حياة أولاده الصغاربعد موته?). كانوا لا يكتفون بذلك, كانوا يضيفون: (وكما قال الله عزَّ وجل في كتابهالكريم: إذا تداينتم بدَيْن إلى أجل مسمًّى فاكتبوه ولْيكتُبْ بينكم كاتبٌ بالعدل
والفلاحون الذين قابلوا إصرار هؤلاء الدائنين بإصرار أقوى, ورفضوا تسجيلالأراضي, أول الأمر, اضطر الكثير منهم إلى استخراج الحليّ الذهبية والفضيَّةالقديمة, والتي جمعت خلال فترات طويلة سابقة, وقدّموها عوضًا من الطحين والسكر وبعضأمتار من الخام. وفي وقت آخر وافق بعضهم على التنازل وقدّم الأراضي والبساتين التيطلبها الدائنون. ومع كل صفقة جديدة كانت أثمان الأرض في القرى تتراجع, وكان التجاريزدادون تصلبًا ولا يوافقون إلاَّ بشروطهم, وبعد أن تتم جميع الإجراءات!
ومعالقحط تأتي أشياء أخرى أيضًا: تأتي الأمراض الغامضة, وتعقبها الوفيات. كان الكباريموتون من الحزن, والصغار تنتفخ بطونهم وتصيبهم الصفراء ثم يتساقطون. وإذا كانالناس قد تعوّدوا على الموت, ولم يعد يخيفهم كما كان الأمر في أوقات أخرى, برغم أنهيتسبب كل الأوقات في تفجير آلاف الأحزان والأحقاد القديمة, فإنَّ حالة أقرب إلىالانتظار اليائس كانت تحوم فوق كل بيت وتسبح في دم كل مخلوق. حتى الدواب في حواكيرالبيوت, أو في أطراف البساتين, كانت تسيطر عليها حالة من العصبية واليأس.
وفيهذي السنين, ومع الجوع والموت, تأتي أفواج لا حصر لها من الطيور. ومثلما كانتالغيوم الخفيفة العالية تمرّ مسرعة, كذلك كانت الطيور. فقد كانت أفواجها تعبر في كلالأوقات, حتى في الليل العميق, عالية صائتة, وكأنَّها ذاهبة إلى الموت أو إلى مجهوللا تعرف متى أو أين سيكون.
كان الناس ينظرون إلى الطيور نظرة مليئة بالحزنوالأسى. تمنوا لو كانت قريبة, أو لو تتوقف قليلاً, لعلهم يظفرون بعددٍ منها يعوّضهمعن الجوع الذي يهدّهم, لكن الطيور تواصل طيرانها المتعب لعلّها تصل إلى مكان ما. والناس لا يتوقفون عن النظر والحسرة, ويتوقعون شيئًا ما, لكن هذا الشيء لا يحصلأبدًا, لأن أسراب الكركي والوز البري, وعشرات الأسراب من الطيور الأخرى واصلترحلتها المجهدة دون توقّف. أما أسراب القطا والكدري فقد بدأت تظهر بين فترة وأخرى. والفلاحون الذين تعلموا أن هذا النوع من الطيور لا يترك أماكنه الصحراوية, ويقتربمن المناطق المزروعة, إلاَّ إذا عضّه الجوع وأضناه العطش. ولم تعد واحات الصحراء أوالخوابي المتناثرة في أماكن عديدة تحوي قطرة ماء, فقد لاحظوا أن هذه الطيور بدأتتتخلى عن الحذر والخوف, أول الأمر, مدفوعة بغريزة البقاء, فتندفع إلى أي مكان لعلهاتلتقط بضع حبات أو قطرات من الماء.
إنَّها المأساة نفسها تتكرّر مرة أخرى أمامعيون الفلاحين, وهم قد تعوّدوا الصبر والانتظار, وتعوّدوا أكثر من ذلك أن يبدواالتشاؤم والتحفظ, وكانوا يردّدون إذا سئلوا عن المواسم والزراعة: (المواسم لا تعنيالأمطار التي تأتي فقط, وإنما أمور أخرى كثيرة). فإذا حصلت لجاجة في السؤال كانوايختصرون كل شيء بالكلمات التالية: (المواسم تعني ما يقسمه الله وما يتركه الطير), لأنهم في أعماقهم يخافون كل شيء, يخافون انحباس المطر في الشهور التي يجب أن يسقطفيها, أما إذا جاء مبكرًا ونما الزرع وارتفع شبرًا أو شبرين عن الأرض, فكانوايخافون أن يأتي مطر غزير بعد ذلك الانقطاع, وعندها تغرق الأرض وتنمو الأعشابالطفيلية ويفسد أو يقلّ الموسم. فإذا جاء المطر هيّنًا متفرقًا, وفي الأوقات التييجب أن يأتي فيها, فإنَّ الخوف يظل حتى الأيام الأخيرة من أيار, حين تشتد الحرارةفجأة وتحرق كل شيء, فتخيب الآمال وتتراجع الوعود التي أعطاها الرجال للنساء بأثوابجديدة, وللفتيان الذين تجاوزوا سن البلوغ وأصبحوا يطمحون إلى الزواج إن جاءتالمواسم الجديدة بالخير. إن هذه الوعود تتراجع يومًا بعد آخر لأن (الشوبة) جاءتوقضت على كل شيء!
إنَّ أحدًا لا يحب أن يتذكر أيام القحط. أما إذا جاءت قاسيةجارفة, وإذا تكرر مجيئها سنة بعد أخرى, فالكثيرون يفضّلون الموت أو القتل ثم الرحيلعلى هذا الانتظار القاسي, وآخرون يندفعون إلى حالة من القسوة والانتقام لا يتصورهاأحد فيهم, بل ويستغربها هؤلاء الناس أنفسهم في غير هذه الأوقات, وفي غير هذهالظروف. وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن ينتقم من الغيوم أو ممّن يرسلها, فلا بدَّأن تكون هناك ضحايا من نوع آخر. فالأزواج الذين أبدوا من السماحة الشيء الكثير, ولميتعودوا الشتيمة أو الضرب, كانوا مستعدين لأن يغيّروا هذه العادات بسهولة, ودونشعور بالذنب. كانوا لا يتردّدون في أن يضربوا ويصرخوا لأتفه الأسباب. والذين كانوايبدون المرح ويظهرون التفاؤل, يتحولون فجأة إلى رجال قساة بوجوههم وتصرفاتهم. وحتىأولئك الذين كانوا شديدي الإيمان ويَعدّون كل ما تأتي به السماء امتحانًا للإنسان, لا يلبثون أن يصبحوا ضحايا وأكثر الناس شتيمة وتجديفًا, حتى ليستغرب مَن عرفهم منقبل كيف كان هؤلاء الناس يخزنون في صدورهم هذا المقدار الهائل من الشتائم والأفكارالخاطئة المحرمة!
هكذا كان القسم الأكبر من الناس في تلك السنة القاسيةالطويلة. وإذا كان لكل قرية ولكل مدينة في هذا العالم ملامحها وطريقتها في الحياة, ولها أسماؤها ومقابرها, وإذا كان لكل قرية ومدينة مخاتيرها ومجانينها, ولها نهرهاأو نبع الماء الذي تستقي منه, وفيها مواسم الأعراس بعد الحصاد, فقد كان للطيبةأيضًا حياتها وطريقتها في المعاش, وكان لها مقبرتها وأعراسها, وكان في الطيبةمجانينها أيضًا. لكن هؤلاء المجانين لا يظهرون دائمًا ولا يتذكرهم الناس في كلالأوقات, وإن كان لهم حضورهم وجنونهم الخاص, بحيث كانوا كبارًا وأقوياء في أوقاتمعينة, وكانوا حمقى وشديدي الغرابة في أوقات أخرى.
وكان للطيبة دائمًا أعراسهاوأحزانها. كانت الأعراس, في أغلب الأحيان, بعد الحصاد, وكانت الأحزان حين ينقطعالمطر وتمحل الأرض. وإذا كانت الأعراس تعني بعض الناس, ولبعض الوقت, فإنَّ الأحزان, وفي سنوات المحل, تعني جميع الناس, وتمتد فترة طويلة.
الطيبة مثل أي مكان فيالدنيا, لها أشياؤها التي تفخر بها. قد لا تبدو هذه الأشياء خطيرة, أو ذات أهميةبالنسبة لأماكن أخرى, لكنها بالنسبة للطيبة جزء من الملامح التي تميزها عن غيرها منالضيع والقرى. وهذه الأشياء تكوَّنت بفعل الزمن, وبفعل الطبيعة القاسية, كما لميحصل في أماكن أخرى. فإذا كانت الأصوات العالية تميز سكان عدد كبير من القرى, حتىلتبدو أصوات الفلاحين عالية الجرْس صلبة المخارج, وبعض الأحيان سريعة, وتتخللهامجموعة من الحِكَم والأمثال, كما هي العادة لدى الكثير من الفلاحين في أنحاء عديدةمن العالم, نظرًا للعادة وللمسافات التي تفصل الناس بعضهم عن بعض في الحقول, أو حينيضطرون للمناداة على الحيوانات الضالة, أو على تلك التي تذهب بمزاجها الغريب إلىأماكن بعيدة أو مجهولة, أو ربما للبعد الذي يفصل البيوت بعضها عن بعض, وما يحيط بهامن الحواكير والبساتين الصغيرة التي تزرع فيها أنواع عديدة من الخضراوات - فإن هذهالأسباب, وغيرها كثير, خلقت طبيعة معينة, وجعلت الناس في الطيبة يتكلمون بطريقةخاصة, حتى ليظن مَن يسمع الحديث ولا يفهم طبيعة الناس أو علاقاتهم, أنَّهميتعاركون, أو أن الخلاف بينهم وصل إلى درجة من الحدة, لا بدَّ أن تعقبه أمور أخرى!
لو اقتصر الأمر في الطيبة على ذلك لما عني شيئًا, خاصة بالنسبة للفلاحين أوالذين يعرفون طبائعهم. لكن إذا ترافق مع ذلك النسق الخاص من الحديث الذي تعوّده أهلالطيبة, حيث يلجأون في أكثر الأحيان إلى الاستطراد والتذكر, ويسرفون في رواية القصصوالتاريخ, فإنه لولا هذه الصفة لما ظهرت تلك الطبيعة الخاصة, ولما ظهرت تلك الخشيةالتي تميّز البشر في ذلك المكان, وما يحيط به من قرًى وضياع, وقد تصل إلى المدينة, أو بعض أطرافها أيضًا!
كان أهل الطيبة يعرفون كيف يديرون الحديث بتلك الطريقةالعجيبة التي تجعل الأمور ذات أهمية شديدة. وهذه الميزة التي يتوارثها الأبناء عنالآباء, تجعلهم في نظر الكثيرين نوعًا خاصًّا من الناس, وتجعلهم أكثر من ذلك قادرينعلى التأثير في الآخرين, وربما إقناعهم. ولا يمكن تفسير هذا الأمر على أنه ضرب منالاحتيال أو التملُّق, كما لا يمكن أن