بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
قال تعالى " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ {الجمعة/2} "
صدق الله العلي العظيم
النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن مجرد نبي كسائر الأنبياء , ولم يكن مجرد قائد تاريخي قاد حركة رسالية في فترة زمنية معينة كسائر الرواد وأبطال التاريخ فقط , ولم يكن انسانا ثائرا رفض الأوضاع الفاسدة وطالب بالاصلاح فقط , ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان صاحب مشروع حضاري يتجاوز الزمان والمكان ويتجاوز الحدود النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم مشروعا حضاريا للبشرية , مشروعا حضاريا لا يعرف مكانا معينا ولا زمنا معينا ولا لغة معينة ولا حضارة معينة , مشروع حضاري يتخطى الازمنة والأمكنة واللغات و المجتمعات والحضارات بأسرها , مشروع حضاري يواكب الانسان في مسيرته الانسانية الى ان تقوم الساعة , ان الدين عند الله الاسلام ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه , هذا المشروع الحضاري المحمدي كيف نتعرف عليه ؟! كيف نعرف حقيقة هذا المشروع وواقعه ؟!
كل مشروع يعتمد على ثلاث عناصر :
1- محور المشروع
2- حركة التاريخ
3- المبادئ الانسانية للمشروع
*********
ان كل مشروع له محور معين وكل مشروع ينظر الى التاريخ كعنصر مساهم في ديمومة المشروع واستمراريته وكل مشروع يرتكز على مبادئ انسانية تصلح لتسويق المشروع فلا بد أن نقرا هذه العناصر الثلاثة الذي انبثقت من النبي صلى الله عليه وآله وسلّم .
العنصر الأول محور المشروع
الفلسفة الحديثة تقسم الرؤية الكونية الى قسمين الرؤية الكونية المرتكزة على محورية الانسان او الرؤية الكونية المرتكزة على محورية الطبيعية , فهناك نظرية تعتبر المحور في هذا الكون هو الانسان والأخرى تقول بان المحور في هذا الكون هي الطبيعة .
النظرية الأولى التي تقرر محورية الانسان هذه النظرية هي التي تتبناها الشريعة الاسلامية والرؤية المحمدية , الانسان هو المحور , محور الكون ومركز الحياة لأن الانسان يمتلك أبعادا أربعة يمتلك العقل والتاريخ والمنظومات القيمية والمعرفية والهدفيّة في الحياة , بالتالي هو قادر على ان يتجاوز الطبيعة وأن يؤسس تاريخا ينطلق من داخله , لا أنه تاريخ ينطلق من قوانين الطبيعة , فهذا الانسان قادر على ان يتعدى الطبيعة ليؤسس تاريخا وحضارة نابعة من داخله .
النظرية الثانيةهي النظرية الغربية السائدة التي تحاول العولمة ان تبشر لها وان تجعلها النظرية التي تسود سائر البقاع وسائر ارجاء الارض , فهي التي تركز على محورية الطبيعة , والطبيعة وجود بسيط حتمي لا يمتلك أبعاد لا عقل ولا تاريخ ولا مبادئ وقيم ولا هدفيّة فهذه الطبيعة الصامتة العمياء ليس لها عقل ولا تاريخ ولا مبادئ ولا هدفيّة في الوجود اذن الطبيعة وجود حتمي لا يعرف الا القوانين الحتميّة الصارمة التي تسيطر على جميع الكائنات فلا يمكن لكائن ان يتجاوز هذه القوانين القسرية والنتيجة اننا اذا قلنا بمحورية الطبيعة فالانسان في هذه الحياة صنفان انسان اقتصادي وانسان جنسي , فالانسان الاقتصادي هو الذي لا ينتمي الى حضارة معينة ولا الى منظومات قيمية معيّنة , هو الانسان الذي ينتمي الى السوق الحر والاقتصاد العام فقط فدوافعه دوافع اقتصادية لا يعرف سوى لغة التجارة والبيع والربح والاسثتمار فهو يعيش تحت الحتميّة الاقتصادية تماما كما ان النبتة الصغيرة تعيش تحت حتمية القوانين الطبيعية لا تستطيع التمرد عليها .
والانسان الآخر هو الانسان الجنسي وهو الذي يعيش تحت حتمية الغريزة , الغريزة التي تسيطر على مجتمعه فهناك دعوات اباحية ودعوات التمركز حول الانثى فدوافعه هي ارضاء شهواته واشباع غرائزه .
فمتى ما قلنا بأن الرؤية الكونية مرتكزة على الطبيعة اذن سوف يتولد لدينا هذان الصنفان من الانسان جنسي واقتصادي .
أما النظرية الاسلامية التي ترى ان الانسان ليس ظاهرة طبيعة فقط , بل الانسان ظاهرة تاريخية حركية تتمرد على القوانين وتخلق ما تشاء من التاريخ والحضارات والاعمال , وبالتالي لن ينحصر الانسان بالاقتصادي والجنسي بل سوف يتولد لدينا انسان آخر وهو الانسان التاريخي الذي يمتلك المبادئ والقيم ومتى ما كان لدى الانسان مبادئ وقيم فهو قادر على ان يتجاوز الطبيعة وقوانينها الحتميّة في سبيل مبادئه وقيمه وهو ما مثله النبي صلى الله عليه واله وسلم ( والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على ان أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله او أهلك دونه ) وكان يتقدم المعارك الدامية والتي صنعها بقدرته ويقول ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب ) .
العنصر الثاني : حركة التاريخ
كل مشروع لابد أن تكون له رؤية للتاريخ , فالتاريخ هو الذي يعول أصحاب المشروع عليه كمساهم لاستمرار المشروع , فالانسان اذا أراد أن يبقى مشروعه ويستمر بل ويتجدد لابد أن يركز على التاريخ لكي يحمله الى مختلف الأزمنة والمجتمعات .
ان هناك ثلاث نظريات في مسألة الرؤية للتاريخ , النظرية الأولى تقول بنهاية التاريخ والثانية تقول بصراع الحضارات والأخيرة تقول بحوار الحضارات ونشرع بشرحها بشكل مقتضب .
النظرية الأولى : نهاية التاريخ
نظرية الكاتب والمفكر الأمريكي الياباني الأصل فوكوياما التي تقول بنهاية التاريخ , فهو يقول انا لست أول من قال بنهاية التاريخ فهناك من سبقني بهذا القول كالفيلسوفين الألمانيين هيغل و كارس ماركس , فهيغل قال بأن التاريخ سينتهي الى الدولة اللبرالية وماركس يقول الى ان التاريخ سوف ينتهي الى الدولة الشيوعية .
ثم يقول فوكوياما أن الانسان مكون من عنصرين عنصر مادي وعنصر روحي , العنصر المادي هو الجسم وما يشتمل عليه من غرائز وحاجات والعنصر الروحي هو الاحساس بعزة النفس وكرامتها , ويقول متى ما وصل الانسان الى ذروة سعادته على المستويين المادي والروحي فهذه هي نهاية التاريخ ويقرر بأن السعادة الماديّة تكون متى ما وصل الانسان الى الانسان الآلي والسعادة الروحيّة متى ما عاش الانسان النظام الديموقراطي اللبرالي .
فنظريّة فوكوياما تقول بأن متى ما وصل الانسان الى الانسان الآلي وعاش في نظام ديموقراطي هنا تكون نهاية التاريخ .. !!
النظرية الثانية : صراع الحضارات
وهي نظريّة الباحث الأمريكي هنتجتون والتي تقول بأن المسألة ليست مسألة نهاية التاريخ بل مسألة صراع الحضارات وهي ترتكز على أمور ثلاث :
الأمر الأول
أن لكل حضارة رؤية نحو العلاقات الكونية والعلاقات الكونيّة على ثلاث , علاقة بالاله ( أيّ اله كان ) و علاقة بالطبيعة وعلاقة بالمجتمع , كل حضارة لها رؤية و فلسفة نحو هذه العلاقات الثلاث وتبعا لهذه الفلسفة تتحدد القيم والمبادئ .
الأمر الثاني
هي المادة الأساسية التي من خلالها نستطيع أن نستخرج رؤية فلسفية نحو علاقات الانسان الثلاث ويقول بأن المادة ( الخام ) تعتمد على اربعة عناصر ( اللغة _ التاريخ _ والتقاليد _ والدين ) هذه العناصر الاربعة اذا امتزجت واقترنت انتزع الانسان فلسفته نحو الكون .
فيقول الباحث هنتجتون بأن صراع الحضارات أصله هو هذه العناصر الأربع فيكون الصراع لغوي _ تاريخي _ تقاليدي _ ديني .
الأمر الثالث
معالم الحضارة الغربية اللبرالية وهي ثلاث :
المعلم الأول :
أن الانسان في هذا العصر يحكمه قانون ثلاثي ( سوق _ مصنع _ ملهى ) وسعادة الانسان في أن يمارس هذه الأبعاد الثلاثة بكفاءة .
المعلم الثاني :
التحرر من الأسرة فوظيفة الاسرة هي الحضانة الى فترة معيّنة فقط فوضعت الحضارة الغربية جمعيات خاصة تصوغ فكر ومبادئ الفرد منذ نعومة أظفاره الى أن يكبر دون وجود دور حقيقي للأسرة .
المعلم الثالث :
مبدأ الحريّة الغير مقيّدة , فحتى لو دعوت للاباحيّة والشذوذ وفتحت قنوات بهذا الصدد ؟!
" نقطة تنويرية "
ان أول معالم الحضارة الغربية هي السوق والمصنع والملهى , أما النظرية الاسلامية تقول في هذا المجال اذا أردت ان تكون انسانا فإنسانيتك بإرادتك لا بالسوق والمصنع والملهى .
وثاني معالم الحضارة الغربية هي الغاء دور الاسرة لكن الاسلام يقول " ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرّة أعين واجعلنا للمتقين اماما " و يقول " قوا انفسكم وأهليكم " وتجعل للأسرة دور بنّاء وهادف في بناء الفرد وتربيته .
وثالث معالم الحضارة الغربية تقول بالحرية الغير مقيّدة بمبدأ , لكن الاسلام يضع حريّة مسؤولة ومقيدّة بمبادئ وقيم يحافظ الانسان من خلالها على آدميته وكرامته ونبذ الاباحيّة والعلاقات الغير شرعيّة .
النظرية الثالثة : حوار الحضارات
هي التي يتبناها المشروع المحمدي " يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا " فالحضارة الاسلامية تمتلك رصيدا من المبادئ والقيم على مستوى العناصر الأربعة " التاريخ _ الدين _ المبادئ _ اللغة " فهي تدعو الحضارات للاستفادة من هذا الرصيد القيمي , كما أنها تستفيد من الحضارة الغربية من تقدمها التكنولوجي .
العنصر الثالث : المبادئ الانسانيّة
المبادئ الانسانية التي توفرت في شخصيّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تغني عن ما قالته منظمات حقوق الانسان ولا اليونسكو ولا قوانين الأمم المتحدة , بل ان قراءة شخصيّة النبي صلى الله عليه واله وسلم تعرف المبادئ الانسانيّة كلها ونذكر عدة مبادئ ينادي بها الغرب الآن وتوفرت في شخصيّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
المبدأ الأول : احترام الانسان
بما هو انسان مكرم لدى النبي صلى الله عليه واله وسلم فهو الذي رفع نداء (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً {الإسراء/70} " دون الالتفات الى أصله وفصله , دون الالتفات الى فكره ومنهجه , دون الالتفات الى بيئته ومجتمعه , فالانسان لدى الخاتم محترم كونه انسان فقد رفع النبي بلال الحبشي العبد الى قائد من قادة الاسلام , ورفع سلمان الى مرتبة ( سلمان منا أهل البيت ) , الخاتم أزال جميع ما يتفاضل به الناس من ماديات الى أمر معنوي وهو " ان أكرمكم عند الله أتقاكم " .
المبدأ الثاني : احترام الطفل
فالنبي صلى الله عليه واله وسلم كان اذا مر على الاطفال يبادرهم للسلام وكان يجلس مع الاطفال يشجعهم على دخول المسجد واقامة السلام وكان النبي يقول " لاعب ابنك سبعا وأدبه سبعا وصاحبه سبعا ثم " ويقول " من كان له صبي فليتصابى له " ويقول " الولد سيد سبع سنين " كان الرسول يهتم ويعنى بنفسية الطفل ويكفيك ما يفعله بحفيديه الامامين الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة .
المبدأ الثالث : احترام المرأة
ان المرأة لدى النبي صلى الله عليه واله وسلم رفع شعار تكريم المرأة وقال " احب من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة " ويكفيك قصصه مع زوجته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد ومارية القبطية وأم أيمن وسائر زوجاته من أمهات المؤمنين ويكفيك كيف تعامله مع ابنته فاطمة الزهراء عليها أفضل الصلاة والسلام التي ان حضرت قام من مقامه يقبل ما بين عينيها ويجلسها مكانه ويسمع ما تقول وكان يقول في حقها " خير نساء العالمين أربع آسية بنت مزاحم و مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد " فالرسول صلى الله عليه واله وسلم دعا لتعليم الرجل والمرأة على حد سواء .
المبدأ الرابع : حريّة الرأي والرأي الآخر
تأسيس مبدأ الشورى والعالم الآن يدعو للديموقراطيّة , ان النبي صلى الله عليه واله وسلم أسس مبدأ الشورى منذ ألف وأربع مائة سنة والعالم الآن يصحو على مبدأ أسموه بالديموقراطيّة , بل وأصبح أصحابها يفتخرون بها والنبي أسس قواعد هذا المبدأ " وأمرهم شورى بينهم " وقال " وشاورهم بالأمر فاذا عزمت فتوكل على الله " .
المبدأ الخامس : العقل الجمعي
أيّ اعتماد الأفكار والمشاريع والأعمال على العقول المختلفة والخبرات المتنوعة لا على العقل الفردي والأعمال الفردية " وتعاونوا على البر والتقوى "
المبدأ السادس : مبدأ التعاون
كان النبي صلى الله عليه واله وسلم يتعاون مع اصحابه في بناء مسجد قباء ومسجد المدينة المنورة , واذا جلس مع اصحابه جلست فردا منها لا يتميز عليهم , واذا سافر معهم يتعاون معهم في مهام السفر وأقل نظرة للسيرة تكفي واللبيب بالاشارة يفهم .
المبدأ السابع : التعالم الحربيّة
كان النبي اذا بعث سرية دعاهم الى جنبه , وقال : لا تغلو ولا تمثلوا ولا تقتلوا شيخا ولا امراة ولا طفلا ولا تقتطعوا شجرا ولا تحرقوا زرعا , فالنبي يحافظ على الانسان والبيئة فلا حاجة لنا باتفاقية جنيف ولا غيرها .
المبدأ الثامن : خلق التسامح
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم متسامح الى أبعد الحدود فهو من قال " ما أوذي نبي كما أوذيت " وقريش نالت نصيبا كبيرا من آذيته عليه السلام ولما ظفر بهم قال لهم " اذهبوا فانتم الطلقاء " ولما ذهب الى الطائف وآذوه حتى نزلت منه الدماء وبالنهاية دعا لهم .
نكتفي بهذا القدر .
هذا هو رسول الله سبحانه وتعالى وهذا هو مشروعه المحمدي بشكل مختصر جدا .
فتأمّل ..
من محاضرات العلامة السيد منير الخباز حفظه الله بصياغتي مع بعض التعديل .
اللهم صل على محمد وال محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
قال تعالى " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ {الجمعة/2} "
صدق الله العلي العظيم
النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن مجرد نبي كسائر الأنبياء , ولم يكن مجرد قائد تاريخي قاد حركة رسالية في فترة زمنية معينة كسائر الرواد وأبطال التاريخ فقط , ولم يكن انسانا ثائرا رفض الأوضاع الفاسدة وطالب بالاصلاح فقط , ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان صاحب مشروع حضاري يتجاوز الزمان والمكان ويتجاوز الحدود النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم مشروعا حضاريا للبشرية , مشروعا حضاريا لا يعرف مكانا معينا ولا زمنا معينا ولا لغة معينة ولا حضارة معينة , مشروع حضاري يتخطى الازمنة والأمكنة واللغات و المجتمعات والحضارات بأسرها , مشروع حضاري يواكب الانسان في مسيرته الانسانية الى ان تقوم الساعة , ان الدين عند الله الاسلام ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه , هذا المشروع الحضاري المحمدي كيف نتعرف عليه ؟! كيف نعرف حقيقة هذا المشروع وواقعه ؟!
كل مشروع يعتمد على ثلاث عناصر :
1- محور المشروع
2- حركة التاريخ
3- المبادئ الانسانية للمشروع
*********
ان كل مشروع له محور معين وكل مشروع ينظر الى التاريخ كعنصر مساهم في ديمومة المشروع واستمراريته وكل مشروع يرتكز على مبادئ انسانية تصلح لتسويق المشروع فلا بد أن نقرا هذه العناصر الثلاثة الذي انبثقت من النبي صلى الله عليه وآله وسلّم .
العنصر الأول محور المشروع
الفلسفة الحديثة تقسم الرؤية الكونية الى قسمين الرؤية الكونية المرتكزة على محورية الانسان او الرؤية الكونية المرتكزة على محورية الطبيعية , فهناك نظرية تعتبر المحور في هذا الكون هو الانسان والأخرى تقول بان المحور في هذا الكون هي الطبيعة .
النظرية الأولى التي تقرر محورية الانسان هذه النظرية هي التي تتبناها الشريعة الاسلامية والرؤية المحمدية , الانسان هو المحور , محور الكون ومركز الحياة لأن الانسان يمتلك أبعادا أربعة يمتلك العقل والتاريخ والمنظومات القيمية والمعرفية والهدفيّة في الحياة , بالتالي هو قادر على ان يتجاوز الطبيعة وأن يؤسس تاريخا ينطلق من داخله , لا أنه تاريخ ينطلق من قوانين الطبيعة , فهذا الانسان قادر على ان يتعدى الطبيعة ليؤسس تاريخا وحضارة نابعة من داخله .
النظرية الثانيةهي النظرية الغربية السائدة التي تحاول العولمة ان تبشر لها وان تجعلها النظرية التي تسود سائر البقاع وسائر ارجاء الارض , فهي التي تركز على محورية الطبيعة , والطبيعة وجود بسيط حتمي لا يمتلك أبعاد لا عقل ولا تاريخ ولا مبادئ وقيم ولا هدفيّة فهذه الطبيعة الصامتة العمياء ليس لها عقل ولا تاريخ ولا مبادئ ولا هدفيّة في الوجود اذن الطبيعة وجود حتمي لا يعرف الا القوانين الحتميّة الصارمة التي تسيطر على جميع الكائنات فلا يمكن لكائن ان يتجاوز هذه القوانين القسرية والنتيجة اننا اذا قلنا بمحورية الطبيعة فالانسان في هذه الحياة صنفان انسان اقتصادي وانسان جنسي , فالانسان الاقتصادي هو الذي لا ينتمي الى حضارة معينة ولا الى منظومات قيمية معيّنة , هو الانسان الذي ينتمي الى السوق الحر والاقتصاد العام فقط فدوافعه دوافع اقتصادية لا يعرف سوى لغة التجارة والبيع والربح والاسثتمار فهو يعيش تحت الحتميّة الاقتصادية تماما كما ان النبتة الصغيرة تعيش تحت حتمية القوانين الطبيعية لا تستطيع التمرد عليها .
والانسان الآخر هو الانسان الجنسي وهو الذي يعيش تحت حتمية الغريزة , الغريزة التي تسيطر على مجتمعه فهناك دعوات اباحية ودعوات التمركز حول الانثى فدوافعه هي ارضاء شهواته واشباع غرائزه .
فمتى ما قلنا بأن الرؤية الكونية مرتكزة على الطبيعة اذن سوف يتولد لدينا هذان الصنفان من الانسان جنسي واقتصادي .
أما النظرية الاسلامية التي ترى ان الانسان ليس ظاهرة طبيعة فقط , بل الانسان ظاهرة تاريخية حركية تتمرد على القوانين وتخلق ما تشاء من التاريخ والحضارات والاعمال , وبالتالي لن ينحصر الانسان بالاقتصادي والجنسي بل سوف يتولد لدينا انسان آخر وهو الانسان التاريخي الذي يمتلك المبادئ والقيم ومتى ما كان لدى الانسان مبادئ وقيم فهو قادر على ان يتجاوز الطبيعة وقوانينها الحتميّة في سبيل مبادئه وقيمه وهو ما مثله النبي صلى الله عليه واله وسلم ( والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على ان أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله او أهلك دونه ) وكان يتقدم المعارك الدامية والتي صنعها بقدرته ويقول ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب ) .
العنصر الثاني : حركة التاريخ
كل مشروع لابد أن تكون له رؤية للتاريخ , فالتاريخ هو الذي يعول أصحاب المشروع عليه كمساهم لاستمرار المشروع , فالانسان اذا أراد أن يبقى مشروعه ويستمر بل ويتجدد لابد أن يركز على التاريخ لكي يحمله الى مختلف الأزمنة والمجتمعات .
ان هناك ثلاث نظريات في مسألة الرؤية للتاريخ , النظرية الأولى تقول بنهاية التاريخ والثانية تقول بصراع الحضارات والأخيرة تقول بحوار الحضارات ونشرع بشرحها بشكل مقتضب .
النظرية الأولى : نهاية التاريخ
نظرية الكاتب والمفكر الأمريكي الياباني الأصل فوكوياما التي تقول بنهاية التاريخ , فهو يقول انا لست أول من قال بنهاية التاريخ فهناك من سبقني بهذا القول كالفيلسوفين الألمانيين هيغل و كارس ماركس , فهيغل قال بأن التاريخ سينتهي الى الدولة اللبرالية وماركس يقول الى ان التاريخ سوف ينتهي الى الدولة الشيوعية .
ثم يقول فوكوياما أن الانسان مكون من عنصرين عنصر مادي وعنصر روحي , العنصر المادي هو الجسم وما يشتمل عليه من غرائز وحاجات والعنصر الروحي هو الاحساس بعزة النفس وكرامتها , ويقول متى ما وصل الانسان الى ذروة سعادته على المستويين المادي والروحي فهذه هي نهاية التاريخ ويقرر بأن السعادة الماديّة تكون متى ما وصل الانسان الى الانسان الآلي والسعادة الروحيّة متى ما عاش الانسان النظام الديموقراطي اللبرالي .
فنظريّة فوكوياما تقول بأن متى ما وصل الانسان الى الانسان الآلي وعاش في نظام ديموقراطي هنا تكون نهاية التاريخ .. !!
النظرية الثانية : صراع الحضارات
وهي نظريّة الباحث الأمريكي هنتجتون والتي تقول بأن المسألة ليست مسألة نهاية التاريخ بل مسألة صراع الحضارات وهي ترتكز على أمور ثلاث :
الأمر الأول
أن لكل حضارة رؤية نحو العلاقات الكونية والعلاقات الكونيّة على ثلاث , علاقة بالاله ( أيّ اله كان ) و علاقة بالطبيعة وعلاقة بالمجتمع , كل حضارة لها رؤية و فلسفة نحو هذه العلاقات الثلاث وتبعا لهذه الفلسفة تتحدد القيم والمبادئ .
الأمر الثاني
هي المادة الأساسية التي من خلالها نستطيع أن نستخرج رؤية فلسفية نحو علاقات الانسان الثلاث ويقول بأن المادة ( الخام ) تعتمد على اربعة عناصر ( اللغة _ التاريخ _ والتقاليد _ والدين ) هذه العناصر الاربعة اذا امتزجت واقترنت انتزع الانسان فلسفته نحو الكون .
فيقول الباحث هنتجتون بأن صراع الحضارات أصله هو هذه العناصر الأربع فيكون الصراع لغوي _ تاريخي _ تقاليدي _ ديني .
الأمر الثالث
معالم الحضارة الغربية اللبرالية وهي ثلاث :
المعلم الأول :
أن الانسان في هذا العصر يحكمه قانون ثلاثي ( سوق _ مصنع _ ملهى ) وسعادة الانسان في أن يمارس هذه الأبعاد الثلاثة بكفاءة .
المعلم الثاني :
التحرر من الأسرة فوظيفة الاسرة هي الحضانة الى فترة معيّنة فقط فوضعت الحضارة الغربية جمعيات خاصة تصوغ فكر ومبادئ الفرد منذ نعومة أظفاره الى أن يكبر دون وجود دور حقيقي للأسرة .
المعلم الثالث :
مبدأ الحريّة الغير مقيّدة , فحتى لو دعوت للاباحيّة والشذوذ وفتحت قنوات بهذا الصدد ؟!
" نقطة تنويرية "
ان أول معالم الحضارة الغربية هي السوق والمصنع والملهى , أما النظرية الاسلامية تقول في هذا المجال اذا أردت ان تكون انسانا فإنسانيتك بإرادتك لا بالسوق والمصنع والملهى .
وثاني معالم الحضارة الغربية هي الغاء دور الاسرة لكن الاسلام يقول " ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرّة أعين واجعلنا للمتقين اماما " و يقول " قوا انفسكم وأهليكم " وتجعل للأسرة دور بنّاء وهادف في بناء الفرد وتربيته .
وثالث معالم الحضارة الغربية تقول بالحرية الغير مقيّدة بمبدأ , لكن الاسلام يضع حريّة مسؤولة ومقيدّة بمبادئ وقيم يحافظ الانسان من خلالها على آدميته وكرامته ونبذ الاباحيّة والعلاقات الغير شرعيّة .
النظرية الثالثة : حوار الحضارات
هي التي يتبناها المشروع المحمدي " يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا " فالحضارة الاسلامية تمتلك رصيدا من المبادئ والقيم على مستوى العناصر الأربعة " التاريخ _ الدين _ المبادئ _ اللغة " فهي تدعو الحضارات للاستفادة من هذا الرصيد القيمي , كما أنها تستفيد من الحضارة الغربية من تقدمها التكنولوجي .
العنصر الثالث : المبادئ الانسانيّة
المبادئ الانسانية التي توفرت في شخصيّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تغني عن ما قالته منظمات حقوق الانسان ولا اليونسكو ولا قوانين الأمم المتحدة , بل ان قراءة شخصيّة النبي صلى الله عليه واله وسلم تعرف المبادئ الانسانيّة كلها ونذكر عدة مبادئ ينادي بها الغرب الآن وتوفرت في شخصيّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
المبدأ الأول : احترام الانسان
بما هو انسان مكرم لدى النبي صلى الله عليه واله وسلم فهو الذي رفع نداء (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً {الإسراء/70} " دون الالتفات الى أصله وفصله , دون الالتفات الى فكره ومنهجه , دون الالتفات الى بيئته ومجتمعه , فالانسان لدى الخاتم محترم كونه انسان فقد رفع النبي بلال الحبشي العبد الى قائد من قادة الاسلام , ورفع سلمان الى مرتبة ( سلمان منا أهل البيت ) , الخاتم أزال جميع ما يتفاضل به الناس من ماديات الى أمر معنوي وهو " ان أكرمكم عند الله أتقاكم " .
المبدأ الثاني : احترام الطفل
فالنبي صلى الله عليه واله وسلم كان اذا مر على الاطفال يبادرهم للسلام وكان يجلس مع الاطفال يشجعهم على دخول المسجد واقامة السلام وكان النبي يقول " لاعب ابنك سبعا وأدبه سبعا وصاحبه سبعا ثم " ويقول " من كان له صبي فليتصابى له " ويقول " الولد سيد سبع سنين " كان الرسول يهتم ويعنى بنفسية الطفل ويكفيك ما يفعله بحفيديه الامامين الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة .
المبدأ الثالث : احترام المرأة
ان المرأة لدى النبي صلى الله عليه واله وسلم رفع شعار تكريم المرأة وقال " احب من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة " ويكفيك قصصه مع زوجته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد ومارية القبطية وأم أيمن وسائر زوجاته من أمهات المؤمنين ويكفيك كيف تعامله مع ابنته فاطمة الزهراء عليها أفضل الصلاة والسلام التي ان حضرت قام من مقامه يقبل ما بين عينيها ويجلسها مكانه ويسمع ما تقول وكان يقول في حقها " خير نساء العالمين أربع آسية بنت مزاحم و مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد " فالرسول صلى الله عليه واله وسلم دعا لتعليم الرجل والمرأة على حد سواء .
المبدأ الرابع : حريّة الرأي والرأي الآخر
تأسيس مبدأ الشورى والعالم الآن يدعو للديموقراطيّة , ان النبي صلى الله عليه واله وسلم أسس مبدأ الشورى منذ ألف وأربع مائة سنة والعالم الآن يصحو على مبدأ أسموه بالديموقراطيّة , بل وأصبح أصحابها يفتخرون بها والنبي أسس قواعد هذا المبدأ " وأمرهم شورى بينهم " وقال " وشاورهم بالأمر فاذا عزمت فتوكل على الله " .
المبدأ الخامس : العقل الجمعي
أيّ اعتماد الأفكار والمشاريع والأعمال على العقول المختلفة والخبرات المتنوعة لا على العقل الفردي والأعمال الفردية " وتعاونوا على البر والتقوى "
المبدأ السادس : مبدأ التعاون
كان النبي صلى الله عليه واله وسلم يتعاون مع اصحابه في بناء مسجد قباء ومسجد المدينة المنورة , واذا جلس مع اصحابه جلست فردا منها لا يتميز عليهم , واذا سافر معهم يتعاون معهم في مهام السفر وأقل نظرة للسيرة تكفي واللبيب بالاشارة يفهم .
المبدأ السابع : التعالم الحربيّة
كان النبي اذا بعث سرية دعاهم الى جنبه , وقال : لا تغلو ولا تمثلوا ولا تقتلوا شيخا ولا امراة ولا طفلا ولا تقتطعوا شجرا ولا تحرقوا زرعا , فالنبي يحافظ على الانسان والبيئة فلا حاجة لنا باتفاقية جنيف ولا غيرها .
المبدأ الثامن : خلق التسامح
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم متسامح الى أبعد الحدود فهو من قال " ما أوذي نبي كما أوذيت " وقريش نالت نصيبا كبيرا من آذيته عليه السلام ولما ظفر بهم قال لهم " اذهبوا فانتم الطلقاء " ولما ذهب الى الطائف وآذوه حتى نزلت منه الدماء وبالنهاية دعا لهم .
نكتفي بهذا القدر .
هذا هو رسول الله سبحانه وتعالى وهذا هو مشروعه المحمدي بشكل مختصر جدا .
فتأمّل ..
من محاضرات العلامة السيد منير الخباز حفظه الله بصياغتي مع بعض التعديل .