كـبــســة !
- وهل تظن أن العمل من أجلكما ؟ , لقد شبعتما من هذه الحياة , بينما نحن محرومون في عز شبابنا , إن قسوتكما أشد من قسوة موظفي اللجنة التنفيذية على البدون, لم تشفع لي خدمتك العسكرية , ولم تشفع لي جنسية والدتي , والآن تقيداني عن التحرك مثلما يقيدنا المسؤولين عن العيش بسعادة , إنني أعمل من أجل حياتي وحياة أشقائي وأقراني .. فهي حياة واحدة ولن تتكرر , ولي فيها حقوق يجب أن تُسترد , اتركوني أعمل للمستقبل!
وجدته كسيرا ً بعد أن وجهت له الكلام أعلاه ,, ولكن ما عساي أن أفعل , كان لابد من مواجهته , خصوصا ً وأنه تمادى في متابعته ومراقبته لي .
كانت مناسبة هذا الحديث , عندما دخلت - ذات مساء كئيب - المنزل مُتعبا ً , وقد كانت ساعة يدي تشير إلى الـ 11,45 مساء ً , دخلت ُ الغرفة , فوجدته هو ووالدتي يفتشان في أوراقي وفي رف الكتب وتحت الوسادة , لم يشعرا بوجودي , فباب الغرفة كان مفتوحا ً , ودخولي كان هادئا ً جداً , ويبدو أنهما كانا يظنان أني سأرجع إلى البيت متأخرا ً .. كالعادة !
فقلت وأنا أكتم - غصبا ً - ابتسامة كانت سترتسم على وجهي لاكتشافهما متلبسَين :
- السلام عليكم ..
التفتت والدتي مفزوعة , بينما ظل "سبع البربمة - والدي" جامدا ً في مكانه والتفتَ التفاتة الواثق من نفسه , ورد التحية بكل ثبات :
- وعليكم السلام , أهلا ً بالمتمرد ..
- متمرد ؟!!
- نعم متمرد , فهلا ّ أخبرتنا ما قصة هذه الورقة ؟!
كانت ورقة سحبتها من الإنترنت تحتوي على أنشطة لأحد التجمعات الناشطة لفئة البدون .. فقلت له بثقة :
- اقرأها وستعرف قصتها ..
- لا لا الوقت متأخر وعيناي متعبتان , لا استطيع القراءة , اقرأها لي أنت ..
- ولكن كيف قلت أني متمرد وأنت َ لم تقرؤها ؟
- أنت متمرد منذ بدأت تعمل مع من تسميهم "ناشطين" , إضافة إلى أنني لمحت كلمة "بدون" في الورقة ..
فابتسمت وقرأتها له , وبعد أن اطمئن بعدم وجود أي تحريض للتخريب , قلت له بعد ذلك :
- والآن , هل أضعتما شيئا في مكتبتي أو تحت وسادتي ؟!
سكت لثوان ٍ , ثم قال :
- نريد أن نعرف إلى أين سيأخذكم نشاطكم هذا ؟
- إلى إثبات الإنتماء إلى هذه الارض ..
- ألم أثبته أنا في فترة الغزو .. بماذا كوفئت ؟ لا شيء ..
- ونحن جئنا لنكمل المسيرة .
فأدار وجهه ناحية والدتي , والتفت لي بسرعة وقال غاضبا ً :
- إنكم مجرد شباب طائش , لا تعرفون عواقب ما تفعلونه ..
- وما هي العواقب ؟ .. عفوا ً , بل ما هو خطؤنا ؟
- إنكم تواجهون حكومة ..
- لسنا نحاربها أو نريد إسقاطها , بل نطالبها بأن تعترف بنا كمواطنين ..
- إنكم تحلمون ..
- بالفعل , ونحن نسعى لجعل الحلم حقيقة ..
- مستحيل ..
- لماذا مستحيل ؟
- لقد طالب وناشد الكثيرون ممن هم أكبر منكم سنا ً ومنصبا ً وقربا ً للحكومة , ولم تحصل سوى حلول ترقيعية فاشلة .. هل أنت َ أفضل من هؤلاء ..
- نعم أفضل منهم ...
فرمقني باستهزاء وتسائل :
- أخبرنا بالله عليك , كيف يكون ذلك؟
- إنني صاحب هذه القضية , وأنا وغيري من أقراني مَن يُفترض أن نتحدث ونناشد ونطالب , والمناصرين دورهم هو مساندتنا والوقوف معنا .. فمن غير المعقول أن يُطالب المناصرين بحقوق أناس ٍ لا صوت َ لهم ..
- وألا يوجد غيركم من البدون ليخرجوا للمطالبة بالحقوق ؟
- مازلنا نعمل على توعية أقراننا بحقوقهم التي كفلتها لهم الدساتير , والمعاهدات الدولية ..
- أها , بما أنك تطرقت إلى المعاهدات الدولية , فلو كان هناك حل لرضخت الحكومة لتوصيات منظمات حقوق الإنسان ومنظمة اللاجئين التي سلطت الصحف الضوء على تقريرها الأخير 2008 .
- وهل عدم رضوخ الحكومة للمنظمات الدولية يجعلنا نستسلم ..؟
فوضع يده على جبهته - بحركة سريعة - وأنزلها وقال منزعجا ً :
- حقا ً لقد أتعبتني وأخرتني عن النوم .. اسمع , إذا كنت َ تطالب من أجلنا فشكرا ً لك , ولا نريد شيئا ً , ودع عنك هذه القضية المعقدة والخطيرة ..
- وهل تظن أن العمل من أجلكما ؟ , لقد شبعتما من هذه الحياة , بينما نحن محرومون في عز شبابنا , إن قسوتكما أشد من قسوة موظفي اللجنة التنفيذية على البدون, لم تشفع لي خدمتك العسكرية , ولم تشفع لي جنسية والدتي , والآن تقيداني عن التحرك مثلما يقيدنا المسؤولين عن العيش بسعادة , إنني أعمل من أجل حياتي وحياة أشقائي وأقراني .. فهي حياة واحدة ولن تتكرر , ولي فيها حقوق يجب أن تُسترد , اتركوني أعمل للمستقبل!
طأطأت والدتي - التي بقيت صامتة طوال فترة نقاشي مع والدي - رأسها وتمتمت :
- لا حول ولا قوة إلا بالله .
ورمقتني - وهي خارجة من الغرفة - بنظرة تدل على أنها غير راضية عن ما قلته ... بينما ظل والدي مبتسما ً بنصف ابتسامة مندهشا ً من كلامي , وأنا واقفٌ أمامه لا أعرف هل ما قلته صواب , أم كان تمردا ً كما يصفني ؟ فظللت أطرح التساؤلات على نفسي إلى أن تحرك من أمامي متجها ناحية باب الغرفة قاصدا ً الخروج , وقال - وهو يمشي - بنبرة هادئة :
- ولا يهمك , يبدو أننا متخلفين ولا نعرف شيئا ً مما تقوله ..
- ومَن قال هذا الكلام ؟
- لا بأس لا بأس ...... تصبح على خير !
وأغلق الباب خلفه بهدوء .
تجمدت في مكاني لدقيقة , غير مستوعب ما حصل , وضعت يدي في جيبي وأخرجت علبة السجائر واستللت منها سيجارة , أشعلتها وبدأت عملية الشهيق والزفير مع الدخان الذي شكّل سُحبا ً كثيفة في الغرفة ... انتقيت من المكتبة مجموعة قصصية "خمّارة القط الأسود" لنجيب محفوظ , وجلست على كرسييّ وشرعت بقراءة قصة : "
حلم"!
حنظلة .