الكويت دولة دينية أم مدنيّة ؟
جدل واسع بين أنصار الدستور وأنصار الشريعة الاسلاميّة حول هل أن الكويت دولة دينية ؟ أم دولة مدنيّة ؟ وكل يدعي وصلا بليلى والنتيجة تعدد ايدولوجيات أدت بالضرورة الى تمزّق اجتماعي كون تعدد الثقافات داخل المجتمع شئ صحّي لكن لو قامت هذه الثقافات على الغاء الثقافات الأخرى أدت الى عدم استقرار اجتماعي وبالتالي عدم استقرار نفسي كما يقرر علماء الاجتماع .
عدم الاستقرار النفسي الذي يعاني منه المجتمع سوف يؤدي الى اختلال مبدأ الثقة بين أفراده , وان لم تكن هناك ثقة فبالضرورة سوء الظن سوف يكون مقدما على حسنه , وبالتالي نحن نعيش دوّامة بل فوضى عارمة وهذه الفوضى انتفع منها العديد , فأبناء البلد الواحد بتعدد معتقداتهم وانتماءاتهم الفكرية والسياسية والعقدية قد نالوا نصيبا من نتائج عدم الاستقرار النفسي لدى أفراد المجتمع وكل أصبح يحقق أهدافه الشخصيّة على حساب مصالح المجتمع العامة .
ان عامل ( عدم الاستقرار النفسي ) يجعل أبناء المجتمع في مهب الريح ( يميلون مع كل ريح ) , هذا بالضبط ما نعاني منه كأبناء مجتمع كويتي فحاجة الانسان الى الاستقرار النفسي استغلّت وجيّرت بأبشع الصور وأصبح الناس عبارة عن أدوات لتحقق الغاية , كما لا نغفل ما لعامل عدم الاستقرار من مثالب وأهمها بل أخطرها تزعزع المنظومة العقائديّة لدى الانسان , هذا التزعزع يعود بالانسان لتبنى منظومة عقائديّة متغيّرة ( ماديّة ) تخضع لقوانين المادة من تغير وتبدل ونسبيّة ولا يخضع لقوانين عقليّة ثابتة راسخة حقّه .
فالانسان بما أنه غير مستقر نفسيّا وعامل الانتماء لديه يشكل هاجسا , فهو يريد أن يطفئ نار عدم الاستقرار في نفسه بانتمائه لمنظومة عقائديّة ثابتة , لكن عدم الاستقرار النفسي بسبب تعدد المنظومات العقدية يشكل لديه صراعا نفسيا شديدا , وعندما يرى الانسان تعدد الثقافات العقائدّية وكلّ يدعي الحق لنفسه فقط , ينفر الى تبني ثقافات متلّونة أو بالأحرى ( سياسية ) تستخدم المبادئ الثابتة لغايات رخيصة ! , أو يشتد الصراع النفسي الى تبني منظومة فكريّة متغيّرة ( ماديّة ) فجرفه التيار ويصبح متلونا بشكل أو بآخر .
المهم أن الانسان ينتهج منظومات فكريّة متغيّرة بسبب عدم استقراره النفسي سواء عن طريق منظومة فكريّة عقائديّة ثابتة تستغل بشكل خاطئ أو عن طريق منظومة فكريّة ماديّة تخضع للقوانين المادية المتغيّرة أساسا , وأعتقد أن هذا أهم جزء في تحليل نفسيّة المواطن الكويتي الذي يريد أن يبرز انتمائه بشكل واضح ويجيب عن السؤال المطروح ( هل الكويت دولة دينيّة أم مدنيّة ؟ ) .
ان من ينظر الى المجتمع الكويتي قديما يرى أن مكونات المجتمع متآلفة ومتحابة, وبعد الاتفاق على عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم تبنّت الدولة مجتمع ( مدني - اسلامي ) فالدستور الكويتي خلط بين مفاهيم وضعيّة وأخرى اسلاميّة , وأساس التعاقد كان ( عقد اجتماعي ) وليس ( عقيدة اجتماعيّة ) , وبمفهوم آخر تم التوافق على دولة على أساس ( عقدي ) وليس ( عقائدي ) هذا مع حفظ العقيدة الاسلاميّة باطارها العام باحدى مواد الدستور ومع النص على أن دولة الكويت ( عربية - مسلمة ) وتحتكم الى الشريعة الاسلاميّة بشكل رئيسي , وليس بشكلها الرئيسي .
هذا الأمر أوقع الفرقة بين أبناء المجتمع ( المدني - الاسلامي ) , فكلّ يجرّ النار الى قرصه , وكان المفترق الأساسي لمن يقول بأن دولة الكويت دولة مدنيّة هي لاحتكامها للدستور , احتكامها للدستور في حد ذاته دون القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يكشف عن أنها دولة مدنيّة ليست ( اسلاميّة ) فضلا عن أن العقد الذي تم ابرامه بين الحاكم والمحكوم كان ( عقدا اجتماعيا ) وعلى اساس عقدي وليس عقائدي .
وعلى النقيض يرى أصحاب الدولة ( الدينية ) أنه لا اشكال بأن تكون دولة الكويت دينيّة لو وضعنا القوانين الالهيّة بصيغة توافقيّة ( دستورية ) يتفق عليها الجميع , والمادة الثانية من الدستور خير دليل على ذلك , فقد أشارت الى أن دين الدولة الاسلام وانه مصدر رئيسي للتشريع , وأيّ مادة أخرى لاتوافق السنن الالهيّة تعدّل بما يتناسب ومفهوم ( الدولة الدينية ) .
هذه النزاعات تؤثّر عليها عوامل عدّة منها مكونات المجتمع الكويتي , والواقع يقول أن مكونات المجتمع الكويتي غير متوافقة لا على دولة ( مدنيّة أو دينيّة ) فهناك انقسام حاصل بين فئات المجتمع , وتعود المسألة الى أن أدعياء المدنيّة يرون أن حقوق المواطن وواجباته تحدد ضمن نطاق الدستور , وأدعياء الدولة الدينية يرون حقوق وواجبات الموطن تحدد ضمن نطاق الشريعة ثم تصاغ دستوريا بشكل لا يتعارض مع الشريعة .
واقع الحال يقول بأن هناك اختلافا شديدا , وهذا ما أدى الى تخندق كل فئة من فئات المجتمع في معسكر فضلا عن وجود معسكرات أخرى تؤرّق هذا المجتمع البسيط , المهم أن البراليين كما يحلو للبعض أن يسميهم يرون أن سيطرة الدين على شؤون الحياة سوف يولّد حالة من النزاع الدائم بين أفراد المجتمع , فأدعياء الدولة الدينية يقولون أن الدين يجب أن يحكم , ثم يفسرون الدين بما يتناسب ورغباتهم وميولهم ومصالهحهم الخاصة , وهذا أمر مرفوض كونه سوف يتم تغليب المصلحة الخاصة على العامة .
والاسلاميين يرون أن الحياة المدنيّة اللبراليّة بهذا الادعاء تعتبر عدوّا للدين , ودعوة للالغاء الدين من الحياة السياسيّة , وبالتالي سوف يتم نشر ثقافة التفسخ والتبرج والعريّ بالشوارع بذريعة الحريّة , وسوف يتم النخر بثقافة المجتمع بانتشار الالحاد بذريعة حرية الاعتقاد , وغيرها من المفاهيم العلمانية التي لها وبال كبير على المجتمع الكويتي .
وهناك انقسام داخلي بين اللبراليين والاسلاميين , فاللبراليين ينقسمون الى أدعياء الحاد وعلمانيّة فكريّة وآخرين يرون علمانيّة سياسية وهي فصل الدين عن السياسة , وبعبارة أسهل منهم من يرى العلمانيّة الفكريّة التي تقف موقف النسبية من كل شئ حتى الدين , ويقولون أنه ربما دينك صحيح وربما دينك خاطئ ويطبقون ذلك حتى على الدين الاسلامي , وهناك علمانيون يرون أن الاسلام صحيح لكّننا لا نستطيع أن نطبّقه على واقعنا . ( العلمانية والدين - تعريف العلمانية )
أما الاسلاميين فهم منقسمين الى شيعة وسنة , فالسنة يقولون الشريعة مستمدة من القران والسنة والتي يمثلها الصحابة والاجماع والقياس , أما الشيعة يرون أن الشريعة مستمدة من القرآن والسنة والتي يمثلها أهل البيت والاجماع والعقل .
فهذا الانقسام الداخلي بين المعسكرين ( ان صّح التعبير ) جعل اللبراليين أدعياء فصل الدين عن الدولة يضعون يدهم بيد الشيعة , لأنه الخطر مشترك عليهم وهو الغاؤهم ان رجحت الكفة نحو الاسلاميين السنة , وهذا ما جعل الاسلاميين السنة يشنون حربا شعواء على اللبراليين أجمعين دون التفريق بين أدعياء فصل الدين عن الدولة أو أصحاب العلمانية الفكرية التي تقول بنسبيّة الحقيقة والشيعة في بعض الاحيان , ولا نتعجب من الاتفاق بين الشيعة والسنة على أمور يتفق عليها الاثنان فهم يتفقون بالمفاهيم والمبادئ العامة لكن يختلفون بالمصاديق , فهم يؤمنون بالسنّة كفمهوم عام وجب الاحتكام اليه لكنهم يختلفون بتشخيص من ينقل لنا السنة هل هم الصحابة أو أهل البيت .
المهم أن جعل الكويت دولة ( دينيّة ) بعد هذا الانقسام المرير بين مكونات المجتمع الكويتي , سوف يؤدي بالضرورة الى الغاء الآخر ( حسب التجربة العمليّة الحاليّة ) لهذا أني أتبنى أن تبقى الكويت دولة مدنيّة حتى تنضج الأمة بشكل يضمن عدم الغاء الآخر ويضمن كذلك تطبيق المفاهيم الاسلاميّة بشكل صحيح .
ولأننا قلنا أن تعدد الثقافات والمنظومات العقائديّة سوف تؤدي الى عدم استقرار نفسي وهذا أدى بانحراف المواطن الكويتي وتبنيّه ثقافة دينية سياسية مستغلّة للمبادئ في تحقيق غايات تعاكس المبادئ الموضوعة , أو تبنيه ثقافة ماديّة متغيّرة دائما وليس لديها مبادئ ثابتة أساسا فــ مبدؤها الثابت أنه ( لا مبدأ ثابت ) !, وهنا لن نصل الى حل يرضي جميع الاطراف سوى الاقرار بقولنا أن الكويت دولة مدنيّة والدستور الوضعي خير من الصراعات العقائديّة الشديدة .
نهاية .. إنّ المجتمع الكويتي به ثقافات متعددة ومنظومات فكريّة مختلفة يشتد بينها الصراع في مواطن كثيرة , وان أردنا أن نختصر المقال نقول أن فئة من فئات المجتمع الكويتي تعد نفسها أغلبيّة وبما أننا أغلبيّة فيجب أن نحكم ( السنّة ), وفئة أخرى تقول نحن من المؤسسين الرئيسسن لهذا المجتمع ( الشيعة ) فيحق لنا أن نحظى بكامل حقوقنا وليس كما تنوّه الفئة الأولى بأنها سوف تطبٌق مبادؤها علينا وتلغينا من الوجود , مع هذا الصراع يظهر صراع آخر وهو الدعوة الى دولة مدنيّة تلغي هذا التناحر بين الفئتين السابقتين ( اللبراليّة ) , هذه الدعوة تقابل بدعوى أن اللبرالية دعوة لتطبيق العلمانيّة الغربيّة وتطبيقها على مجتمع اسلامي في غالبيّته سوف ينشر لدينا ثقافات الالحاد والعري والفسق والفجور ( التيار الاسلامي ) , وتجدر الاشارة الى أن جميع القضايا التي كانت عليها خلافات نستطيع أن نكشف عنها بهذا الشرح البسيط , فقضيّة المناهج الدراسية ماهي الا لتثبيت دعوة الأغلبيّة لفرض مبادؤها على الأقليّة , وقضيّة العريفي - الفالي - أبوزيد - ياسر الحبيب - المزدوجين ... وغيرها من القضايا التي تكون نتاج لصراع قائم بين منظومات فكريّة عقائديّة مختلفة , أو منظومات فكريّة متغيّرة .
فتأمّل ..