نُـشرت هذه المقالة في مدونتي بتاريخ 22 - 6 - 2007
إضغط
هنا.
في الشورى الإسلامية
قضية الشورى الإسلامية، كفكرة مجردة وردت في القرآن الكريم، هي قضية تبدو أنها محسومة المفهوم في الفقه الإسلامي. وعندما أقول "الفقه الإسلامي" فأنا أقصد ما درج عليه فقهاء المسلمين منذ وفاة النبي (ص) وحتى أكثر بقليل من مئة سنة مضت.
الإشكالية أن الأمر الإلهي بـ "الشورى" قد ورد من دون تحديد آليات وحقوق وواجبات، وإنما هي تطبيقات أولية للنبي (ص) في بعض مسائل الحرب والسلام والمجتمع والإقتصاد، بل أحياناً تعدى ذلك إلى المفاهيم الدينية والتي يراد تقريرها (إنظر كمثال قصة تحريم مكة وشجرها في حجة الوداع وطلب العباس بن عبد المطلب، عم النبي (ص)، إستثناء الإذخر فأجابه النبي (ص) إلى ذلك).
فالشورى، كمفهوم، عند وفاة النبي (ص) لم يكن واضح المعالم حتماً. فلا مصطلح "أهل الحل والعقد" كان معروفـاً آنذاك، بل لم يستعمله النبي (ص) أصلاً، ولا عددهم، ولا كيفية تعيينهم، ولا صلاحياتهم، وليس هناك تحديد لما يدخل تحت نظرهم من قضايا من عدمه. بل إن آليات الإستخلاف نفسها، وهي الأهم والأكثر خطراً، كانت مفقودة تماماً، وكيفية العزل، هذا إن أمكن ذلك وإلا فإن عثمان بن عفان رفض خلع قميص ألبسه الله إياه في نظره، ومدى إلزام الخليفة (ولي الأمر) بمشورة أهل الشورى. وهذا غيض من فيض.
فالحقيقة هي أن الإسلام،
وأنا أعتقد جازماً أنها أحد أسباب عظمته ومرونته وديناميكيته ورؤيته الفذة للمستقبل، قد ترك النظام السياسي من دون شرح أو تفصيل أو حتى إلزام
لعلمه الجازم بأن الزمان والمكان متغيران، ولا يمكن للثابت والجامد أن يحكم المتغير والمتحرك. ولكن المشكلة دائماً في التعصب الأعمى الضيق الأفق.
عندما أتى الفقهاء الإسلاميون إلى نص "الشورى" في القرآن وأرادوا تأصيله
غاب عن بالهم تماماً أن غياب الآليات والتفصيل في النص القرآني والسنة النبوية هو لحكمة عظيمة ورؤية واقعية لحراك المجتمعات وإختلافاتها وديناميكياتها. ولكنهم أصروا في المقابل على تأطير هذا المفهوم وتقييده وإلزامه بما "حضر" عندهم من أحاديث وأخبار لمجتمع الصحابة. فظهرت عندهم مفاهيم "أهل الحل والعقد" وأن أقل عدد هو إثنان، ومنهم من قال أربعة على عدد الشهود في القرآن، ومنهم من زاد ومنهم من قلل، وظهرت آليات عقد البيعة وأن أقل عدد ليتم بيعة خليفة هو فرد واحد فقط لا غير(!!!!)
لماذا؟!!
لأن العباس قال لعلي بن أبي طالب: إبسط يدك أبايعك ليقولوا عم رسول الله قد بايع إبن عم رسول الله.
أو إن عدد أهل الشورى هو ستة، لماذا؟
لأنه قد تصادف أن عمر قبل موته قد سمى من يصلح لخلافته، وكانوا ستة!!!!
أو أن البيعة تتم لخليفة ما حتى وإن غاب عنها العدد الغفير من المسلمين، لماذا؟!!!
لأن أبو بكر في السقيفة قد بايعه من بايعه ورفض بيعته من رفضها وغاب عنها من غاب.
أو أن يجوز لخليفة ما أن يستخلف من بعده من دون مشورة من المسلمين، لماذا؟!!
لأن أبو بكر إستخلف عمر في كتاب من دون مشورة منهم !!!
والشيء المريب حقاً في كل هذا أنهم يسكتون عن عثمان بن عفان وسُنته حتى يكاد المرء أحياناً أن ينسى أنه خليفة راشد....عجبي.
وهكذا دواليك،
تم هدم وتدمير الحكمة الإلهية من ترك النصوص السياسية من دون تفصيل، ولم يكلف أحدهم نفسه أن يسأل لماذا لم يفصل القرآن أو النبي (ص) ذلك؟
بل لم يكلف أحدهم نفسه بأن يتسائل عن السبب الذي دعا هؤلاء الصحابة ليتصرفوا على هذا النحو. ولم يتسائل أحد عن الإحتمال أن يكون ما فعلوه من باب "دنيا" لا شأن له بالدين، أم نحن نرد على النبي (ص) قوله: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم"؟!!
من كل هذا الخليط المضطرب والمتناقض والذي عصفت بين جنبيه رياح الصراع بكل أشكاله في مجتمع الصحابة خرج علينا الفقهاء بتصورهم للشورى والصقوه بإسم "الإسلام". وأنا لا اتهم نواياهم، حاشا لله، ولكنهم إجتهدوا حيث لا محل للإجتهاد بإسم الإسلام.
يجب التعامل مع مفهوم "الشورى"، ضمن مفاهيم أخرى وردت في الشريعة، من خلال حقيقة تغير الزمان والمكان. بل في الحقيقة يجب أن يتم التعامل معها من خلال تعدد المكان في نفس الزمان.
يجب أن نبدأ بالقبول بفكرة أن الديموقراطية، كمفهوم وتجربة غريبة تماماً عن الذهنية الإسلامية، هي أحد أشكال الشورى الإسلامية وتطبيقاتها.
يجب أن نبدأ بالتفكر بأن الأنظمة الجمهورية والإنتخابات الرئاسية، والغريبة أيضاً عن الذهنية الإسلامية، ما هي في الحقيقة إلا وسيلة للخلافة العامة وأخذ البيعة من الشعب، لا أن نشترط ويا للعجب "صفقة اليد" في البيعة.
يجب أن نبدأ بالقبول بأن الخلافة الإسلامية ليست منصباً مدى الحياة لا يخلعه منها إلا سيوف المعارضين الغاضبين، ومن قال هذا في الشرع أصلاً حتى يدعيه البعض إدعاءاً، ولكنها وظيفة ذات مدة محددة يخلفه عليها الأصلح والأقدر بعد إنقضائها.
يجب أن نستعد للقبول بأن "أهل الحل والعقد" هم من يمثل الشعب وينتخبهم للـ "الحل والعقد" لا من يأتي بسبب تعيين الأمراء والسلاطين.
يجب أن نستعد للقبول بأن هذا النظام الذي إبتدعه الفقهاء إبتداعاً عندما قاسوا الإسلام كله، ويا للعجب، على مجموعة متصارعة من الصحابة وذات مصالح متشعبة ومتعددة من أول السقيفة ومروراً بقميص عثمان المنشور في دمشق ونهاية بإستخلاف يزيد بن معاوية، كانت لهم دنياهم ولنا نحن الآن دنيانا، بأن هذا النظام قد جر الكوارث العظام على هذه الأمة المنكوبة بتراثها الملفق تلفيقاً بالإسلام ولم ينزل الله به من سلطان.
يجب أن نستعد للإعتراف بأن النظام السياسي في الإسلام قد تركه الله جل شأنه ونبيه (ص) من دون شرح وتفصيل لسبب جوهري أصيل، ولا يحق لأي كان، حتى وإن كان فقيهاً، أن يجبرنا بأن نقر له بأن هذا هو مراد الرب تعالى ومقصد نبيه (ص) من شرحه وتفصيله له قياساً على ما فعله صحابي وإن كان جليلاً وذو قدر.
الدين قد كَـمُـلَ، وقد تمت النعمة ولله المنة علينا وعلى مجتمع الصحابة قبلنا، فإذا تركنا الرب جل وعلا مع مفهوم لم يُفصل لنا مضمونه
فهو جل شأنه لم يتركه نسياناً ولا سهواً تعالى علواً كبيراً، ولكنها لحكمة ولغرض إلهي مميز. فكذلك هي الشورى وآلياتها وأفرادها وصلاحياتها وحراكها وتفاعلاتها مع المجتمع، وكذلك هي الخلافة وآلياتها وأفرادها وصلاحياتها وحراكها وتفاعلاتها مع المجتمع.
كل ذلك تركه الرب جل وعلا لعلمه السابق بأن ما يصلح لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم أجمعين، وفي الجانب السياسي بالتحديد، أكرر حتى يسمع البعض جيداً ممن يقفز صارخاً بسهولة: "في جانبه السياسي بالتحديد"، لا يصلح لمن يأتي بعدهم.
فرناس