الحديث التاسع : قصة ابن أبي سرح و هي مما اتفق عليه أهل العلم و استفاضت عندهم استفاضة تستغني عن رواية الآحاد كذلك و ذلك أثبت و أقوى مما رواه الواحد العدل فنذكرها مشروحة ليتبين وجه الدلالة منها :
عن مصعب بن سعد عن سعيد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على أصحابه فقال : [ أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله فقالوا : ما ندري يا رسول الله ما في نفسك ألا أومأت إلينا بعينك قال : إنه لا ينبغي لنبي له خائنة الأعين ] رواه أبو داود باسناد صحيح
و رواه النسائي كذلك أبسط من هذا عن سعد قال : لما كان يوم فتح مكة آمن رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس إلا أربعة نفر و قال : اقتلوهم و إن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة : عكرمة بن أبي جهل و عبد الله بن خطل و مقيس بن صبابة و عبد الله بن سعد بن أبي سرح
فأما عبد الله بن خطل فأدرك و هو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد ابن حريث و عمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا و كان أشب الرجلين فقتله و أما مقيس بن صبابة فأدركه الناس في السوق فقتلوه
و أما عكرمة فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة : أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا ههنا فقال عكرمة : و الله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص لا ينجني في البر غيره اللهم لك علي عهد إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده و لأجدنه عفوا كريما فجاء و أسلم
و أما عبد الله بن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان فلما دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه و سلم ثم ذكر الباقي كما رواه أبو داود
و عن عبد الله بن عباس قال : كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم فأذله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقتل يوم الفتح فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه أبو داود
و روى محمد بن سعد في الطبقات عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بقتل ابن أبي سرح يوم الفتح و فرتنى و ابن الزبعرى و ابن خطل فأتاه أبو برزة و هو متعلق بأستار الكعبة فبقر بطنه و كان رجل من الأنصار قد نذر إن رأى ابن أبي سرح أن يقتله فجاء عثمان ـ و كان أخاه من الرضاعة ـ فشفع له إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد أخذ الأنصاري بقائم السيف ينتظر النبي صلى الله عليه و سلم متى يومئ إليه أن يقتله فشفع له عثمان حتى تركه ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للأنصاري [ هلا وفيت بنذرك فقال يا رسول الله وضعت يدي على قائم السيف أنتظر متى توميء فأقتله فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ليس لنبي أن يومئ ]
و قال محمد بن إسحاق في رواية ابن بكير عنه : قال أبو عبيدة بن محمد ابن عمار بن ياسر و عبد الله بن أبي بكر بن حزم : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ حين دخل مكة و فرق جيوشه ـ أمرهم أن لا يقتلوا أحدا إلا من قاتلهم إلا نفرا قد سماهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : [ اقتلوهم و إن وجدتموهم تحت أستار الكعبة ] عبد الله ابن خطل و عبد الله بن أبي سرح [ ] و إنما أمر بابن أبي سرح لأنه كان قد أسلم فكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم الوحي فرجع مشركا و لحق بمكة فكان يقول : إني لأصرفه كيف شئت إنه ليأمرني أن أكتب له الشيء فأقول له : أو كذا أو كذا فيقول : نعم و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول [ عليم حليم ] فيقول له : أو أكتب [ عزيز حكيم ] فيقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كلاهما سواء ]
قال ابن إسحاق : حدثني شرحبيل بن سعد أن فيه نزلت : { و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله } [ الأنعام : 93 ] فلما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة فر إلى عثمان بن عفان ـ و كان أخاه من الرضاعة ـ فغيبه عنده حتى اطمأن أهل مكة فأتى به رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستأمن له فصمت رسول الله صلى الله عليه و سلم طويلا و هو واقف عليه ثم قال : [ نعم ] فانصرف به فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما صمت إلا رجاء أن يقوم إليه بعضكم فيقتله ] فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله ألا أو مأت إلي فاقتله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن النبي لا يقتل بالإشارة ]
و قال ابن إسحاق في رواية إبراهيم بن سعد عنه : حدثني بعض علمائنا أن ابن أبي سرح رجع إلى قريش فقال : و الله لو أشاء لقلت كما يقول محمد و جئت بمثل ما يأتي به إنه ليقول الشيء و أصرفه إلى الشيء فيقول : أصبت ففيه أنزل الله تعالى : { و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء } [ الأنعام : 93 ] فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتله
و قال ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح قال : كان رسول الله عهد إلى أمرائه من المسلمين ـ حين أمرهم أن يدخلوا مكة ـ ألا يقاتلوا إلا أحدا قاتلهم إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم و إن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم عبد الله ابن سعد بن أبي سرح و إنما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتله لأنه كان أسلم و كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم الوحي فارتد مشركا راجعا إلى قريش فقال : و الله إني لأصرفه حيث أريد إنه ليملي علي فأقول أو كذا أو كذا فيقول : نعم و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يملي عليه فيقول [ عزيز حكيم ] أو [ حكيم عليم ] فكان يكتبها على أحد الحرفين فيقول : [ كل صواب ]
و روينا في مغازي معمر عن الزهري في قصة الفتح قال : فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر أصحابه بالكف و قال : [ كفوا السلاح ] إلا خزاعة من بكر ساعة ثم أمرهم فكفوا فامن الناس كلهم إلا أربعة : ابن أبي سرح و ابن خطل و مقيس الكناني و امراة أخرى ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إني لم أحرم مكة و لكن الله حرمها و إنها لم تحل لأحد بعدي إلى يوم القيامة و إنما أحلها الله لي ساعة من نهار ] قال : ثم جاء عثمان بن عفان بابن أبي سرح فقال : بايعه يا رسول الله فأعرض عنه ثم جاءه من ناحية أخرى فقال : بايعه يا رسول الله فأعرض عنه ثم جاءه أيضا فقال : بايعه يا رسول الله فمد يده فبايعه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لقد أغرضت عنه و إني لأظن بعضكم سيقتله ] فقال رجل من الأنصار : فهلا أومضت إلي يا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ إن النبي لا يومض ] فكأنه رآه غدرا
و في مغازي موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال : و أمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحدا إلا من قاتلهم و أمرهم بقتل أربعة منهم عبد الله ابن سعد بن أبي سرح و الحويرث بن نقيد و ابن خطل و مقيس بن صبابة أحد بني ليث و أمر بقتل قينتين لابن خطل تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : و يقال أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم في قتل النفر و أن يقتل عبد الله بن أبي سرح و كان ارتد بعد الهجرة كافرا فاختبأ حتى اطمأن الناس ثم أقبل يريد أن يبايع رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعرض عنه ليقوم رجل من أصحابه فيقتله فلم يقم إليه أحد و لم يشعروا بالذي في نفس رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أحدهم : لو أشرت إلي يا رسول الله ضربت عنقه فقال : [ إن النبي لا يفعل ذلك ] و يقال : أجاره عثمان بن عفان ـ و كان أخاه من الرضاعة ـ و قتلت إحدى القينتين و كمنت الأخرى حتى استؤمن لها
و ذكر محمد بن عائذ في مغازيه هذه القصة مثل ذلك
و ذكر الواقدي عن أشياخه قالوا : و كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم فربما أملى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم [ سميع عليم ] فيكتب [ عليم حكيم ] فيقرأه رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقول : كذاك قال الله و يقرأه فافتتن و قال : ما يدري محمد ما يقوله إني لأكتب له ماشئت هذا الذي كتبت يوحى إلى كما يوحى إلى محمد و خرج هاربا من المدينة إلى مكة مرتدا فأهدر رسول الله صلى الله عليه و سلم دمه يوم الفتح فلما كان يومئذ جاء ابن أبي سرح إلى عثمان بن عفان ـ و كان أخاه من الرضاعة ـ فقال : يا أخي إني و الله أستجير بك فاحبسني هاهنا و اذهب إلى محمد فكلمه في فإن محمدا إن رأني ضرب الذي فيه عيناي إن جرمي أعظم الجرم و قد جئت تائبا فقال عثمان : بل اذهب معي قال عبد الله : و الله لئن رآني ليضربن عنقي و لا ينظرني فقد أهدر دمي و أصحابه يطلبونني في كل موضع فقال عثمان : انطلق معي فلا يقتلك إن شاء الله فلم يرع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا عثمان آخذا بيد عبد الله بن سعد بن أبي سرح و اقفين بين يديه فأقبل عثمان على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أمه كانت تحملني و تمشيه و ترضعني و تفطمه و كانت تلطفني و تتركه فهبه لي فأعرض رسول الله صلى الله عليه و سلم و جعل عثمان كلما أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم بوجهه استقبله فيعيد عليه هذا الكلام و إنما أعرض النبي صلى الله عليه و سلم إرادة أن يقوم رجل فيضرب عنقه لأنه لم يؤمنه فلما رأى أن لا يقوم أحد و عثمان قد أكب على رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبل رأسه و هو يقول : يا رسول الله بايعه فداك أبي و أمي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ نعم ثم التفت إلى أصحابه فقال : ما منعكم أن يقوم رجل منكم إلى هذا الكلب فيقتله ] أو قال الفاسق فقال عباد بن بشر : ألا أومأت إلي يا رسول الله فو الذي بعثك بالحق إني لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلى فأضرب عنقه و يقال : قال هذا أبو السير و يقال : عمر بن الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إني لا أقتل بالإشارة ]
و قائل يقول : إن النبي صلى الله عليه و سلم قال يومئذ : [ إن النبي لا تكون له خائنة الأعين ]
فبايعه رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل يفر من رسول الله صلى الله عليه و سلم كلما رآه فقال عثمان لرسول الله صلى الله عليه و سلم : بأبي و أمي لو ترى ابن أم عبد الله يفر منك كلما رآك فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : [ ألم أبايعه و أومنه ؟ ] قال : بلى أي رسول الله يتذكر عظيم جرمه في الإسلام فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ الإسلام يجب ما قبله ] فرجع عثمان إلى ابن أبي سرح فأخبره فكان يأتي فيسلم على النبي صلى الله عليه و سلم مع الناس .
==========
الحديث العاشر : حديث القينتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه و سلم و مولاة بني هاشم و ذلك مشهور مستفيض عند أهل السير و قد تقدم في حديث سعيد بن المسيب أنه صلى الله عليه و سلم [ أمر بقتل فرتنى ]
و قال موسى بن عقبة في مغازيه [ عن الزهري : و أمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكفوا أيديهم فلا يقاتلوا أحدا إلا من قاتلهم و أمر بقتل أربعة نفر قال : أمر بقتل قينتين لابن خطل تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : و قتلت إحدى القينتين و كمنت الأخرى حتى استؤمن لها ]
و كذلك ذكر محمد بن عائذ القرشي في مغازيه و قال ابن إسحاق في رواية ابن بكير عنه قال أبو عبيدة بن محمد بن عمار ابن ياسر و عبد الله بن أبي بكر بن حزم : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين دخل مكة و فرق جيوشه أمرهم أن لا يقتلوا أحدا إلا من قاتلهم إلا نفرا قد سماهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : [ اقتلوهم و إن وجدتموهم تحت أستار الكعبة : عبد الله بن الخطل ] ثم قال : و إنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان مسلما فبعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم مصدقا و بعث معه رجلا من الأنصار و كان معه مولى له يخدمه و كان مسلما فنزل منزلا و أمر المولى يذبح له تيسا و يصنع له طعاما فنام و استيقظ و لم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا و كانت له فينة صاحبتها قينة كانتا تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه و سلم فأمر بقتلهام معه قال : و مقيس بن صبابة الأنصاري الذي قتل أخاه و سارة مولاة لبي عبد المطلب و كانت ممن يؤذيه بمكة
و قال الأموي : حدثني أبي قال : و قال ابن إسحاق : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد إلى المسلمين في قتل نفر و نسوة و قال [ إن وجدتموهم تحت أستار الكعبة فاقتلوهم ] و سماهم بأسمائهم ستة : ابن أبي سرح و ابن خطل و الحويرث بن نفيذ و مقيس بن صبابة و رجل من بني تيم بن غالب
قال ابن إسحاق : و حدثني أبو عبيدة بن محمند بن عمار بن ياسر أنهم كانوا ستة فكتم اسم رجلين و أخبرني بأربعة قال : و النسوة قينتا ابن خطل و سارة مولاة لبني عبد المطلب ثم قال : و القينتان كانتا تغنيان بهجائه و سارة مولاة أبي لهب كانت تؤذيه بلسانها
و قال الواقدي عن أشياخه : و نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن القتال و أمر بقتل ستة نفر و أربع نسوة ثم عددهم و قال : ابن خطل و سارة مولاة عمرو بن هاشم و قينتين لابن خطل : فرتني و قريبة و يقال : فرتني و أرنب
ثم قال : و كان جرم ابن خطل أنه أسلم و هاجر إلى المدينة و بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم ساعيا و بعث معه رجلا من خزاعة و كان يصنع طعامه و يخدمه فنزل في جمع فأمره أن يصنع له طعاما و نام نصف النهار فاستيقظ و الخزاعي نائم و لم يصنع له فاغتاظ عليه فضربه فلم يقلع عنه حتى قتله فلما قتله قال : و الله ليقتلني محمد به إن جئته فارتد عن الإسلام و ساق ما أخذ من الصدقة و هرب إلى مكة فقال له أهل مكة : ما ردك إلينا ؟ قال : لم أجد ديمنا خيرا من دينكم فأقام على شركه فكانت له قينتان و كانتا فاسقتين و كان يقول الشعر يهجو رسول الله صلى الله عليه و سلم و يأمرهما تغنيان به فيدخل عليه و على قنيتيه المشركون فيشربون الخمر و تغني القينتان بذلك الهجاء و كانت سارة مولاة عمرو بن هاشم نواحة بمكة فيلقي عليها هجاء النبي صلى الله عليه و سلم فتغنى به و كانت قد قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم تطلب أن يصلها و شكت الحاجة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما كان لك في غنائك و نياحتك ما يكفيك ؟ ] فقالت : يا محمد إن قريشا منذ قتل من قتل منهم ببدر تركوا استماع الغناء فوصلها رسول الله صلى الله عليه و سلم و أقر لها بعيرا طعاما فرجعت إلى قريش و هي على دينها فأمر بها رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح أن تقتل فقتلت يومئذ و أما القينتان فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتلهما فقتلت إحداهما أرنب أو قريبة و أما فرتنى فاستؤمن لها حتى آمنت و عاشت حتى كسر ضلع من أضلاعها زمن عثمان رضي الله عنه فماتت فقضى فيه عثمان رضي الله عنه ثمانية آلاف درهم ديتها و ألفين تغليظا للحرم
و حدثت القينتين مما اتفق عليه علماء السير و استفاض نقله استفاضة يستغنى بها عن رواية الواحد و حديث مولاة بني هاشم ذكره عامة أهل المغازي و من له مزيد خبره و اطلاع و بعضهم لم يذكره
=========
لحديث الحادي عشر ما استدل به بعضهم من قصة ابن خطل و في الصحيحين من حديث الزهري [ عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل مكة عام الفتح و على رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال : ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال : [ اقتلوه ] و هذا مما استفاض نقله بين أهل العلم و اتفقوا عليه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أهدر دم ابن خطل يوم الفتح فيمن أهدره و أنه قتل ]
و قد تقدم عن ابن المسيب أن أبا برزة أتاه و هو متعلق بأستار الكعبة فبقر بطنه
و كذلك روى الواقدي عن أبي برزة قال : في نزلت هذه الآية { لا أقسم بهذا البلد و أنت حل بهذا البلد } [ البلد : 2 ] أخرجت عبد الله بن خطل و هو متعلق بأستار الكعبة فضربت عنقه بين الركن و المقام
و ذكر الواقدي أن ابن خطل أقبل من أعلى مكة مدججا في الحديد ثم خرج حتى انتهى إلى الخندمة فرأى خيل المسلمين و رأى القتال و دخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة حتى انتهى إلى الكعبة فنزل عن فرسه و طرح سلاحه فأتى البيت فدخل بين أستاره
و قد تقدم عن أهل المغازي أن جرمه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استعمله على الصدقة و أصحبه رجلا يخدمه فغضب على رفيقه لكونه لم يصنع له طعاما أمره بصنعته فقتله ثم خاف أن يقتل فارتد و استاق إبل الصدقة و أنه كان يقول الشعر يهجو به رسول الله صلى الله عليه و سلم و يأمر جاريته أن تغنيا به فهذا له ثلاث جرائم مبيحة للدم : قتل النفس و الردة و الهجاء
فمن احتج بقصته يقول : لم يقتل لقتل النفس لأن أكثر ما يجب على من قتل ثم ارتد أن يقتل قودا و المقتول من خزاعة له أولياء فكان حكمه لو قتل قودا أن يسلم إلى أولياء المقتول فإما أن يقتلوا أو يعفوا يأخذوا الدية و لم يقتل لمجرد الردة لأن المرتد يستتاب و إذا استنظر أنظر و هذا ابن خطل قد فر إلى البيت عائذا به طالبا للأمان به تاركا للقتال ملقيا للسلاح حتى نظر في أمره و قد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بعد علمه بذلك كله أن يقتل و ليس هذا سنة من يقتل من مجرد الردة فثبت أن هذا التغليظ في قتله إنما كان لأجل السب و الهجاء و إن الساب و إن ارتد فليس بمنزلة المرتد المحض يقتل قبل الاستتابة و لا يؤخر قتله و ذلك دليل على جواز قتله بعد التوبة .
============
فهذه الأحاديث كلها تدل على أن من كان يسب النبي صلى الله عليه و سلم و يؤذيه من الكفار فإنه كان يقصد قتله و يحض عليه لأجل ذلك و كذلك أصحابه بأمره يفعلون ذلك [ مع كفه عن غيره ممن هو على مثل حاله في أنه كافرا غير معاهد بل مع أمانه لأولئك أو إحسانه إليهم من غير عهد بينه و بينهم ثم من هؤلاء من قتل و منهم من جاء مسلما تائبا فعصم دمه لثلاثة أسباب :
أحدها : أنه جاء تائبا قبل القدرة عليه و المسلم الذي وجب عليه حد لو جاء تائبا قبل القدرة عليه لسقط عنه فالحربي أولى
الثاني : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان من خلفه أن يعفو عنهم
الثالث : أن الحربي إذا أسلم لم يؤخذ بشيء مما عمله في الجاهلية لا من حقوق الله و لا من حقوق العباد من غير خلاف نعلمه لقوله تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } [ الأنفال : 38 ] و لقوله صلى الله عليه و سلم : [ الإسلام يجب ما قبله ] رواه مسلم و لقوله صلى الله عليه و سلم : [ من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ] متفق عليه و لهذا أسلم خلق كثير و قد قتلوا رجالا يعرفون فلم يطلب أحد منهم بقود و لا دية و لا كفارة
أسلم وحشي قاتل حمزة و ابن العاص قاتل ابن قوقل و عقبة بن الحارث قاتل خبيب بن عدي و من لا يحصى ممن ثبت في الصحيح أنه أسلم و قد علم أنه قتل رجلا بعينه من المسلمين فلم يوجب النبي صلى الله عليه و سلم على أحد منهم قصاصا بل قال صلى الله عليه و سلم : [ يضحك الله تعالى إلى رجلين يقتل أحدهما صاحبه كلاهما يدخل الجنة يقتل هذا في سبيل الله فيدخل الجنة ثم يتوب الله على القاتل فيسلم و يقتل في سبيل الله و يدخل الجنة ] متفق عليه .
و هذا الذي ذكرناه من سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم في تحتم قتل من كان يسبه من المشركين مع العفو عمن هو مثله في الكفر كان مستقرا في نفوس أصحابه على عهده و بعد عهده يقصدون قتل الساب و يحرضون عليه و أن أمسكوا عن غيره و يجعلون ذلك هو الموجب لقتله و يبذلون في ذلك نفوسهم كما تقدم من حديث الذي قال : سبني و سب أمي و كف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم حمل عليه حتى قتل و حديث الذي قتل أباه لما سمعه يسب النبي صلى الله عليه و سلم و حديث الأنصاري الذي نذر ان يقتل العصماء فقتلها و حديث الذي نذر أن يقتل ابن أبي سرح و كف النبي صلى الله عليه و سلم عن مبايعته ليوفي بنذره .
انتهى النقل اختصاراً