تشكيل القالب
تشكيل القالب
السلام عليكم...
إن أكبر مسئولية تقع على عاتق الآباء والأمهاات والمربين والحكومات والمجتمعات التي يعيش فيها الإنسان بصفة عامة , هي عملية تشكيل القالب العقلي الذي يبدأ لينا وهو صغير ثم ما يلبث أن يقسو ويشتد حتى يصير قالبا قويا لا يتغير اللهم إلا من بعض التعديل عليه , ولكن تشكيل هذا القالب مثل عملية تشكيل الزجاج وإنصاره في النار مع تدخل الإنسان فيه حتى يصير على النحو الذي يريد , فإذا تحول إلى الحالة المطلوبة لم يكن تغيره إلا بالحرق مرة ثانية وانصهاره بالنار أو التكسير...
وعقل الناس هو ذاك الوعاء الذي يضع فيه الإنسان كل ما عرفه من ثقافة ومعلومات , ويخلطها فيها خلطا جيدا ليستخرج نتيجة معينة , وهذا القلب هو الذي يحدد نوع المعلومات وشكلها وبيانها وطريقتها , ولهذا كانت عملية تشكيل القالب أخطر عملية يمر بها الإنسان وهو صغير , وليس له دخل في ذلك الا من بعض الصفات الوراثية التي أخذها عن آباءه وبعض الطباع التي وُلد بها...
ولنضرب على ذلك مثالا , فإن الطفل الذي يخطو خطواته الأولى في الحياة , يلتصق بوالديه كونه يخطو في المجهول , وكلما استطاع أن يعرف نفسه وقدراته وقوة جوارحه وعقله , واستخدام اللغة والمهارات وطور ذلك بحيث يستخدمها في حصوله على ما يرغب واجتنابه ما يكره , كان أسعد وارتقت حالته النفسية في سماء الرضا عن نفسه وعن والديه أو من يربيه على ذلك..
وكلما زادت معارفه زاد الإطمئنان لديه وقل الخوف , وهذا أمر مطرد في الناس جميعا , ولهذا يهتمون بالحصول على المعلومات عن الأمور المستقبلية رجاء أن يحصلوا استشرافا للمستقبل بحيث يرسمون طريقهم بنوع من الوضوح , ولكن لنمسك عنان هذا الكلام ولنرجع إلى هذا الطفل الصغير الذي ما يزال تتشكال آنية عقله ووعاء التفكير والشخصية لديه..
إذا اعتدى الوالد عليه بنوع من الجور أو الظلم , بحيث ضربه في غير موضع يجوز له ذلك , أو قطع الإتصال النفسي معه والصغير محتاج إليه , بدأ عقله في البحث عن فكرة أو سلوك يحقق له الأمان الذي فقده من سلوك الطرف الآخر , وإذا كان في شخصيته ما يساعد على ذلك من محبة الإنطواء مثلا كان ذلك أدعى في سرعة تركيب هذا السلوك , والأمر سريع للغاية...
فيبدأ الطفل في الإنطواء والإنزواء بعيدا رجاء أن يسلم من الألم النفسي الذي يحصل له بأفعال معينة , ويكبر على ذلك رويدا رويدا حتى تصير علامة عليه وإشارة على شخصيته , ثم بعد ذلك يبدأ هذا الوعاء - الذي تشكل بشكل معين فيه محبة الإنطواء والإنزواء - في طلب زيادة لأفعال وأقوال تزيد من ثبات هذا السلوك , فتراه يميل إلى موسيقى معينة ترفع من حالة الإنطواء , وهكذا في أغلب الموادة التي يدخلها إلى قلبه حتى يستمتع بهذا الإنطواء والبعد عن الناس , ويجد بعض السلام في هذا السلوك...
ثم بعد ذلك يبدأ العقل في صياغة فلسفة معينة لسبب هذا السلوك , ويبدأ العقل في التعلق بكل موقف من مواقف البشر الذي يؤكد ويعزز هذه الفلسفة لديه , فالبشر كلهم غدارين وكلهم كذابين وكلهم يعملون من أجل مصلحتهم الخ الخ , ومن هذه الأمور التي يقوي بها فلسفته ليجد لنفسه مبررا في الإختلاف عن الناس , والذي يسحبه سحبا ويسيطر عليه وعلى أفكاره , ثم ما يلبث أن تبدأ هذه الأفكار والسلوكيات والفلسفات أن تنمو حتى تجد أنها في حالة من الإصطدام العقدي مع أساسيات الفكر البشري السليم من سبب خلق الإنسان وحياته على الأرض وما غير ذلك...
لأن هذه المشاعر وهذا الناتج لابد وأن يعكس عليه حالة من عدم الرضا والضعف عن القيام والعمل , وفقدان الهمة في تصحيح أوضاع كثيرة , ثم النظر بنوع من الكآبة إلى المآل من تربية الأولاد أو الكدح في الأرض أو غير ذلك , فلا يجد لنفسه ثمرة من هذه الأفعال , وهنا يصطدم مع العقيدة التي تخاطبه بغير هذا المنطق...
وكلما كان وعاءه صلبا قويا كلما كان الصعوبة في علاجه كبيرة للغاية , وكلما كان صغير السن منفتحت وله قوة على إصلاح نفسه كلما كان الأمر أسهل قليلا وغن كان شاقا في كل حال..
فالشاهد أن تشكيل هذا القالب البشري من أخطر الأمور التي يجب على الإنسان أن يعتني بها وأن يهتم بها اهتماما بالغا في كل دقيقة من حياته , وان يحرص دائما على أن يجعل مرنا إلى أقصى درجة حتى يصححه كلما استطاع ذلك
يتبع إن شاء الله
..