لا يزال الوزير الأول للجزائر عبدالمالك سلال يحاول تهدئة الأوضاع في الجزائر عن طريق سلسلة زياراته المتعددة التي يقوم بها إلى الولايات (المحافظات)، ورفع الشعارات البراقة لطمأنة المواطنين بأن كل شيء يسير على ما يرام، وما على الجزائريين والجزائريات سوى الرقص فرحا والكف عن التذمر.
وفي لقاء الوزير الأول الجزائري بالمشاركين في الندوة الوطنية حول التطور الاقتصادي والاجتماعي التي انعقدت يوم الاربعاء الماضي من هذا الشهر أكد أمامهم في الكلمة التي ألقاها عليهم مبرزا: “نحن نملك القدرة على تحقيق نموَ قوي ومستديم، ولكن يتعين علينا التخلص من التشاؤم السائد بيننا”. وفي هذا السياق يرى سلال أن المطلوب فقط هو “أن يكون لنا طموح ونستشرف المستقبل وتثمين مزايانا وميادين أفضليتنا والقيام بالإصلاحات الضرورية”.
ويلاحظ أن سلال قد كرر عدة مرات الحديث عن قدرة الجزائر على التنافس في الميدانين الاقتصادي والصناعي، دون أن يقدم ولو مثالا وحدا يوضح من خلاله للمواطنين أين ومتى وكيف تحققت أو ستتحقق هذه القدرة التنافسية سواء على المستوى المغاربي أو العربي أو الأفريقي أو الدولي الشامل. والمدهش في تصريحات وكلمات الوزير الأول الجزائري التي تتكرر نمطيا أنها كلها مصاغة لتدل على المستقبل وليس على الحاضر من جهة، وأنها مجرد توقعات ليس لها أي أساس علمي يعطيها المصداقية من جهة أخرى. فالوزير الأول لا يقدم لنا الأرقام والإحصائيات والمخططات الملموسة وخارطة الطريق التي تقنع الرأي العام الوطني. والأدهى والأمر هو أن الوزير الأول ما فتئ يعلن على الملأ أن الجزائر تسير بخطى حثيثة في مجال التصنيع ولم يقدم أي بيان عن هذا التصنيع الذي يتحدث عنه علما أن الورشات في مجال الصناعات التقليدية أو صناعة المعلبات والزجاجات لا تعتبر فضاء لصناعة متطورة وقادرة على أن تفرض نفسها على الأسواق العالمية أو أن تحدث نقلة نوعية حقيقية للاقتصاد الجزائري الذي هو اقتصاد ريعي يعتمد بنسبة 90 بالمئة على عائدات النفط والغاز.
وفضلا عن ذلك فإن الذي تحقق حتى الآن في هذا المجال المدعو بالصناعي لا يزال بدائيا ولا يقدر أن ينافس أحدا ما على الإطلاق كما أنه لا يتخطى “حائط” تركيب قطع الغيار التي تستورد جاهزة من الدول المصنعة ويدفع ثمنها بالعملة الصعبة. أما إشارات المسؤولين الجزائريين، ومنهم الوزير الأول إلى بدء الجزائر في صناعة وإنتاج السيارات فهذا غير واقعي، ويدخل في إطار التفكير الرغبي، وهو أمر جدير بالتوضيح لأن الجزائر لا تملك تكنولوجيا صناعة السيارات المتطورة القادرة على المنافسة حتى في أدغال أفريقيا، بل إن الذي يحدث لا يتجاوز مجرد فتح المجال لشركات فرنسية وأجنبية أخرى لتستثمر لحسابها الخاص في الجزائر، بواسطة تصنيع السيارات، في حين تكتفي السلطات الجزائرية بتوفير اليد العاملة الرخيصة لهذه الشركات العابرة للقارات كهدية ثمينة لم تكن تحلم بها من قبل أبدا.
في هذا السياق ينبغي التذكير بمضمون ما قاله الراحل محمد الشريف مساعدية- الشخصية السياسية الجزائرية المعروفة والذي تقلد كثيرا من المناصب العليا في البلاد- لوفد لبناني رفيع المستوى عندما وصف ذلك الوفد الجزائر بالدولة الصناعية وهو: ” ليس في الجزائر صناعة، وإنما هناك ورشات للتكوين المهني فقط”. لاشك أن توصيف الراحل مساعدية صحيح وهو لا يزال قائما حتى يومنا هذا. ففي الجزائر لا توجد البيئة التي بموجبها تنطلق البلاد في حركة صناعية عصرية وحديثة وفي مقدمة ذلك انعدام البنية التحتية بكل أنواعها وفي مقدمتها المدارس، والمعاهد العليا والإطارات المكونة القادرة على ربح معركة جعل الجزائر دولة على طريق استيعاب وتمثل وإتقان تكنولوجيا الصناعة المتطورة.
وبالإضافة إلى ما تقدم فإن توطين الصناعة المتطورة مشروطة كما قال العلامة ابن خلدون في مقدمته بتوفر الرافعات الحضارية الأساسية “من العلم” الذي في ظله “تكمل بكمال العمران الحضاري”، وأن “رسوخ الصنائع في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها”. إن أعمدة هذه الشروط غير موجودة في المجتمع الجزائري جراء عدم تأسيسه منهجيا وتربويا على العلم، وعلى فكرة العمران الحضري، وعلى الوازع الحضاري في كل المجالات. ففي المجتمع الجزائري، الذي مرّت على استقلاله 52 سنة، لا تزال الأمية الحرفية طاغية، ناهيك عن أنماط “أميات” أخرى أشد خطورة منها الأمية الفكرية والأمية الجمالية والأمية التقنية والأمية الثقافية وغيرها.
إن التنمية المستدامة التي يتحدث عنها الوزير الأول الجزائري عبدالمالك سلال هي مجرد شعار فضفاض يريد أن يبيعه للناس دون مبرر يسنده، لأن حقيقة الاقتصاد الجزائري في ظل سياسات النظام الحاكم قائمة، أساسا، على ثقافة تمييع مشكلة البطالة وتحريف الحلول لها مرة، وتطبيعها مرات أخرى (أي تحويلها إلى أسلوب حياة طبيعي لدى المواطنين والمواطنات وخاصة لدى الشرائح الشابة التي تشكل نسبة 70 بالمئة من سكان الجزائر وقوتها العاملة المفترضة)، وإلى جانب هذا فإن التنمية في الجزائر قائمة جوهريا أيضا على الممارسات الاستهلاكية للمنتوج المادي والثقافي والفكري والفني المستورد من الدول الأجنبية في إطار التبعية للمراكز الرأسمالية الغربية خاصة، وليس على إبداع الإنتاج الوطني المتطور والمتناسب مع الاحتياجات الوطنية، والمؤسس على فلسفة فك الارتباط مع الأسلوب الرأسمالي الاستغلالي البشع في الميادين الحيوية، منها الثقافة والإعلام والفلاحة والتربية والتعليم والتكوين والزراعة والصناعات الثقيلة والخفيفة الخ. ثم هل يعقل أن تكون في الجزائر تنمية مستدامة ومتطورة في ظل تفاقم الأزمات الاجتماعية المعرقلة والمجهضة لها مثل أزمة السكن، وأزمة الوضع السياسي والأمني، وأزمة إبقاء المجتمع الجزائري أسيرا للثقافة التقليدية المتخلفة، فضلا عن أزمتين كبيرتين أخريين يتجاهلهما النظام الجزائري وهما أزمة التهجير المنهجي والهجرة المستمرة للكفاءات الجزائرية إلى الخارج بالآلاف في شتى المجالات العلمية والتقنية والإعلامية هروبا من الواقع المتردي ومن الممارسات التحقيرية التي عانوا منها ولايزال شبحها يطال الجميع.
أما الأزمة الثانية فنحصرها في سياسات الانغلاق التي ينتهجها النظام الجزائري على المستوى الإقليمي والدولي، علما أنَ تحقيق التنمية في عصرنا الحديث مشروطة بالانفتاح الواعي المستدام على التجارب الناجحة والتعلم منها وتوطينها، ولكن هذا التوجه غير متوفر في الحالة الجزائرية التي تتميز بالنكوص إلى الذات والتقوقع داخل قوقعتها على نحو نرجسي مرضي. يبدو واضحا أن التنمية الوحيدة والمسيطرة التي تشهدها الجزائر هي “تنمية التخلف”، وتكريس تجلياته في كل المفاصل الجوهرية للدولة والمجتمع.
الكاتب الجزائري أزراج عمر
التعليق: أمر يدعو للضحك ففي القرن الواحد والعشرين لا يزال الشعب الجزائري يعاني من التخلّف والفساد على جميع الأصعدة ويهاجر الكثير من شبابه إلى أوروبا طمعاً بالعيش الكريم الذي إفتقده في بلده نتيجة الممارسات التعسفية وإحتكار السلطة والبطالة وإنعدام الأمن وإنتشار الجريمة والبلطجة وسيطرة العصابات ومتنفذي النظام.