"بسم الله وكفى ، والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى ، وعلى آله وصحبه وبعد"
::التمهيد::
الخوارج من أوائل الفرق الإسلامية بروزا في الساحة ، إذ تعود أصولها إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فكما ثبت في الصحيحين في قصة ذي الخويصرة التميمي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم :
يامحمد إعدل فإنك لم تعدل ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ووبخه قائلا : (( ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ، فلما ولَّى الرجل ، قال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ قال : لا ، لعله أن يكون يصلي ، فقال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أومر أن أنقِّب عن قلوب الناس ، ولا أشق بطونهم . ثم نظر إليه وهو مُقَفٍّ فقال : إنه يخرج من ضئضئ هذا ( عقبه ) قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود )) .
ولعل من الواضح أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بقوله يخرج من ضئضئ ذي الخويصرة الأتباع ممن هم على شاكلته في الفكر والعمل .
::بداية الظهور الفعلي للخوارج::
كان أول ظهور لها تحديدا في معركة صفين التي جرت أحداثها بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن سفيان رضي الله عنهما ، وذلك حين رفع أهل الشام "جيش معاوية" المصاحف داعين أهل العراق "جيش علي" إلى الاحتكام إليها ، فاغتر الخوارج بتلك الدعوة ، في حين رآها علي رضي الله عنه حيلة من أهل الشام لدفع هزيمة بدت علاماتها .
فتوجه إليهم رضي الله عنه بأن يواصلوا القتال ، إلا أنهم أبوا إلا قبول تلك الدعوة ، وحَمْل علي رضي الله عنه على قبولها ، وتهددوه قائلين : " أجب إلى كتاب الله عز وجل إذ دعيت إليه ، وإلا دفعناك برمتك إلى القوم" .
فنهاهم رضي الله عنه فأبوا ، فقبل رضي الله عنه بالتحكيم إستجابة لهم وصيانة لجماعة المسلمين من التفرق والتشرذم .
ثم انتدب رضي الله عنه إبن عباس للمفاوضة عنه ، فرغب الخوارج عنه وقالوا هو منك وسيحابيك ، ولكن أرسل أبا موسى فإنه قد اعتزل القتال ونصح لنا ، فوافق علي رضي الله عنه على كره منه .
وعندما اجتمع الحكمان أبوموسى الأشعري وعمرو بن العاص ، إتفقا على تأجيل التحكيم إلى رمضان ، فرجع علي بمن معه من صفين إلى الكوفة ، إلا أن الخوارج انقلبوا على موقفهم ، وأعلنوا البراءة من التحكيم ، ورأوا فيه ضلالا وكفرا ، وهم الذين تهددوا عليا رضي الله عنه بقبوله والرضا به .
ففارقوا الجماعة رأيا وفارقوها جسدا ، إذ انحاز اثنا عشر ألفا منهم إلى حروراء ، فأرسل إليهم عليٌ رضي الله عنه عبدَالله بن عباس رضي الله عنهما ، وقال له :
لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتى آتيك ، فاستعجلوا محاورته فحاورهم رضي الله عنه ، فلجوا في خصامه . فلما جاء علي أجابهم على ما نقموا عليه من أمر الحكمين ، وكان مما إعترضوا عليه قولهم: خَبِّرْنا : أتَراهُ عَدْلاً تَحكيمَ الرجالِ في الدماء ؟ فقال لهم علي رضي الله عنه :
إنا لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن ، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق إنما يتكلم به الرجال . قالوا : فخَبِّرْنا عن الأجل لم جعلته بينكم ؟ قال : ليعلم الجاهل ويتثبت العالم ، ولعل الله يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة ، أدخلوا مِصركم رحمكم الله . فدخلوا من عند آخرهم .
ولما دخلوا الكوفة أظهروا المعارضة مرة أخرى لقضية التحكيم ، وعندما إعتزم علي أن يبعث أبا موسى للحكومة ، أتاه زرعة بن البرح الطائي وحرقوص بن زهير السعدي من الخوارج وقالا له :
تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك وأخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم ، وقال علي : قد كتبنا بيننا وبينهم كتابا وعاهدناهم ، فقال حرقوص : ذلك ذنب تنبغي التوبة منه ، فقال علي :
ليس بذنب ولكنه عجز من الرأي، فقال زرعة : لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقاتلنك أطلب وجه الله ، فقال علي : بؤسا لك كأني بك قتيلا تسفى عليك الرياح ، قال : وددت لو كان ذلك .
وخرجا من عنده يناديان لا حكم إلا الله ، وخطب علي يوما فتنادوا من جوانب المسجد بهذه الكلمة ، فقال علي : الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل ، وخطب ثانيا فقالوا كذلك ، فقال : أما إن لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا ، لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه ، ولا الفيء ما دمتم معنا ، ولا نقاتلكم حتى تبدؤنا ، وننتظر فيكم أمر الله .
::عقائد وأفكار الخوارج::
لم يكن للخوارج عند بدء ظهورهم منظومة أفكار تشكل مذهبهم الذي فارقوا به أهل السنة ، فقد كانت مفارقتهم للمسلمين متعلقة باعتراضهم على مسألة التحكيم ، إلا أن مذهب الخوارج إتسع في بِدَعِه ومخالفاته ، نظرا لما إستتبع إعتراضهم الأول من التزامات ، ولما إستجد عليهم من محدثات ، فمن آرائهم :
1 - الخروج على الحكام إذا خالفوا منهجهم وفهمهم للدين .
2 - تكفير أصحاب الكبائر .
3 - التبروء من الخليفتين الراشدين عثمان وعلي رضي الله عنهما .
4 - تجويز الإمامة العظمى في غير القرشي ، فكل من ينصبونه ويقيم العدل فهو الإمام ، سواء أكان عبدا أم حرا ، عجميا أم عربيا . وذهبت طائفة منهم وهم النجدات إلى عدم حاجة الناس إلى إمام ، وإنما على الناس أن يتناصفوا فيما بينهم ، فإن رأوا أن لابد من إمام جاز لهم أن يقيموا لهم إماما ً.
5 - إسقاط حد الرجم عن الزاني ، وإسقاط حد القذف عمن قذف المحصنين من الرجال دون من قذف المحصنات من النساء .
6 - إنكار بعضهم سورة يوسف ، وهو من أقبح أقوالهم وأشنعها ، وهذا القول ينسب إلى العجاردة منهم ، حيث قالوا لا يجوز أن تكون قصة العشق من القرآن !!
7 - القول بوجوب قضاء الصلاة على الحائض، فخالفوا النص والإجماع .
::من صفات الخوارج في الحديث النبوي::
لم يرد في فرقة من الفرق الإسلامية من البيان النبوي ما ورد في الخوارج ، فقد تواترت الأحاديث في التحذير منهم وبيان صفاتهم ، ومن صفاتهم التي ورد بها الحديث :
1 - قلة فهم القرآن ووعيه ، فعن أبي سعيد الخدريرضي الله عنه عن النبي صلى الله أنه قال في وصفهم : (( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّميَّة )) متفق عليه .
2 - زهد وعبادة وخبث إعتقاد كما سبق في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
3 - سلم على أهل الكُفْر حرب على أهل الإسلام : فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله أنه قال في وصفهم (( يقتلون أهل الإسلام ويَدَعُون أهل الأوثان )) .
4 - صغار الأسنان سفهاء الأحلام : فعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في وصف الخوارج : (( حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام )) متفق عليه .
ومن أوصافهم التحليق ، كما ثبت في صحيح البخاري مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في وصفهم : (( سيماهم التحليق )) والمراد به : حلق رؤسهم على صفة خاصة ، أو حلقها بالكلية ، حيث لم يكن ذلك من عادة المسلمين ولا من هديهم في غير النسك .
وخاتمة الأوصاف النبوية للخوارج أنهم (( شر الخلق والخلقية )) كما ثبت ذلك في صحيح مسلم ، وأن قتلاهم (( شر قتلى تحت أديم السماء )) كما عند الطبراني مرفوعا ، وأنهم (( كلاب النار )) كما في مسند أحمد ، وأنهم : (( يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية )) كما ثبت ذلك في الصحيحين .
::كيفية التعامل مع الخوارج::
لقد وضع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه منهجا قويما في التعامل مع هذه الطائفة ، تمثل هذا المنهج في قوله رضي الله عنه للخوارج : " إلا إن لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا : لن نمنعكم مساجد الله ، ولا نمنعكم فيئا ما كانت أيديكم مع أيدينا ، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا " رواه البيهقي وابن أبي شيبة .
وهذه المعاملة في حال التزموا جماعة المسلمين ولم تمتد أيديهم إليها بالبغي والعدوان ، أما إذا إمتدت أيديهم إلى حرمات المسلمين فيجب دفعهم وكف أذاهم عن المسلمين .
وهذا ما فعله أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حين قتل الخوارج عبدالله بن خباب بن الأرت وبقروا بطن جاريته ، فطالبهم رضي الله عنه بقتلته فأبوا ، وقالوا كلنا قتله وكلنا مستحل دمائكم ودمائهم ، فسل عليهم رضي الله عنه سيف الحق حتى أبادهم في معركة النهروان .
ومن منهجه رضي الله عنه في التعامل مع الخوارج حال بقائهم في جماعة المسلمين محاورتهم لإزالة اللبس عنهم ، فقد أرسل إليهم عبدالله بن عباس فحاورهم ، وحاورهم هو بنفسه فرجع منهم جم غفير .
فهذه لمحة موجزة عن هذه الفرقة ، التي ضلت بأفكارها فكفّرت المسلمين وفي مقدمتهم سادات من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم كعلي وعثمان رضي الله عنهما ، وضلت في سلوكها فغدت وبالا على المسلمين فاستحلت دماءهم وأعراضهم وأموالهم ، في حين سلم منها الكفار فكانوا منها في عافية .
وفي البحث القادم إنشاءالله سنتعرف على فرق الخوارج ومسمياتها ، فإلى ذلك الحين دمتم بود إخواني وأخواتي الزملاء الأفاضل .
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين .