الكويت تجمعنا
عضو مخضرم
المذكرة التفسيرية لدستور دولة الكويت
أولاً: التصوير العام لنظام الحكم
امتثالا لقوله تعالي ' وشاورهم في الأمر ' واستشراقاً لمكانة من كرمهم في كتابه العزيز بقوله ' وأمرهم شورى بينهم ' وتأسياً بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في المشورة والعدل ، ومتابعة لركب تراثنا الإسلامي في بناء المجتمع وإرساء قواعد الحكم ، وبرغبة واعية في الإستجابة لسنة التطور والإفادة من مستحدثات الفكر الإنساني وعظات التجارب الدستورية في الدول الأخرى . . . يهدي ذلك كله ، ويوحي هذه المعاني جميعا ، وضع دستور دولة الكويت .
ولقد تلاقت هذه الأضواء وتلك المعاني المتكاملة عند أصل جوهري في بناء العهد الجديد ، قام بمثابة العمود الفقري لهذا الدستور ، وهو الحفاظ على وحدة الوطن واستقراره . فلقد امتاز الناس في هذا البلد عبر القرون ، بروح الأسرة تربط بينهم كافة ، حكاماً ومحكومين . ولم ينل من هذه الحقيقة ذات الأصالة العربية ، ما خلفته القرون المتعاقبة في معظم الدول الأخرى من أوضاع مبتدعة ومراسم شكلية باعدت بين حاكم ومحكوم. ومن هنا جاء الحرص في الدستور الكويتي على أن يظل رئيس الدولة أباً لأبناء هذا الوطن جميعا ، فنص ابتداء على أن عرش الإمارة وراثي في أسرة المغفور له مبارك الصباح (مادة 4) ، ثم نأى بالأمير عن أي مساءلة سياسية وجعل ذاته مصونة لا تمس (مادة 54) كما أبعد عنه مسببات التبعة وذلك بالنص على أن رئيس الدولة يتولى سلطاته الدستورية بواسطة وزرائه (مادة 55) وهم المسؤولون عن الحكم أمامه (مادة 58) وأمام مجلس الأمة (المادتان 101 و102) .
وتنبثق عن هذا الأصل الجوهري في الحكم الدستوري أمور فرعية متعددة أهما مايلي :-
1- يلزم إصدار القانون المبين لأحكام وراثة العرش في أقرب فرصة لأنه ذو صفة دستورية ، فيعتبر بمجرد صدوره جزءا متمما للدستور فلا يعد إلا بالطريقة المقررة لتعديل هذا الدستور . وقد التزمت المادة الرابعة هذا النهج ، حتى لا تنوء الوثيقة الدستورية الأصلية بتفاصيل أحكام هذه الوراثة ، وحتى تتاح دراسة هذه الأحكام التفصيلية الدقيقة في سعة من الوقت وروية من التفكير . لذلك نصت المادة المذكورة على أن يصدر القانون المنوه عنه خلال سنة من تاريخ العمل بالدستور ، واكتفت ببيان أسلوب الوراثة وأهم شروط ولي العهد .
2- يقتضي مبدأ ممارسة الأمير لسلطاته الدستورية بواسطة وزرائه ، حلول المراسيم الأميرية محل الأوامر الأميرية ، ولكن ترد على هذا المبدأ استثناءات ثلاثة ، أولها اختيار ولي العهد بناء على مبايعة مجلس الأمة (مادة4) ، وثانيها لا يمارس بطبيعته إلا بأمر أميري وهو تعيين رئيس الوزراء وإعفاؤه من منصبه (مادة 56) . وثالثها وثيق الصلة بالأمير وهو اختيار نائب عنه يمارس مؤقتا ، في حالة تغيبه خارج الإمارة وتعذر نيابة ولي العهد عنه ، كل أو بعض صلاحياته الدستورية (مادة 61) ، وفيما عدا هذه الأمور الثلاثة يكون المرسوم هو الأداة الستورية لممارسة السلطات الأميرية المقررة بالدستور ، وقد حرصت بعض نصوص الدستور (كالمواد 66 و 68 و 69) على ذكر كلمة (بمرسوم) وذلك توكيدا للحكم المنوه عنه وبرغم كفاية نص المادة 55 في الدلالة عليه ، ومن ثم لا يفيد عدم ذكر هذه الكلمة في سائر النصوص أي شك في سريان حكم المادة 55 عليها كاملا غير منقوص .
3- اقتضى الحرص على وحدة الوطن واستقرار الحكم أن يتلمس الدستور في النظام الديمقراطي الذي تبناه طريقا وسطا بين النظامين البرلماني والرئاسى مع انعطاف أكبر نحو أولهما لما هو مقرر أصلا من أن النظام الرئاسي إنما يكون في الجمهوريات ، وإن مناط قيامه كون رئيس الدولة منتخبا من الشعب لبضع سنوات ومسئولا أمامه بل وأمام ممثليه على نحو خاص . كما أريد بهذا الإنعطاف ألا يفقد الحكم طابعه الشعبي في الرقابة البرلمانية أو يجافي تراثنا التقليدي في الشورى وفي التعقيب السريع على أسلوب الحكم وتصرفات الحاكمين . وليس يخفى أن الرأي إن تراخي والمشورة إن تأخرت ، فقدا في الغالب أثرهما ، وفات دورهما في توجيه الحكم والإدارة على السواء .
على أن هذه الفضائل البرلمانية لم تنسِ الدستور عيوب النظام البرلماني التي كشفت عنها التجارب الدستورية ، ولم تحجب عن نظرة ميزة الاستقرار التي يعتز بها النظام الرئاسي . ولعل بيت الداء في علة النظام البرلماني في العالم يكمن في المسئولية الوزارية التضامنية أمام البرلمان ، فهذه المسئولية هي التي يخشى أن تجعل من الحكم هدفا لمعركة لا هوادة فيها بين الأحزاب ، بل وتجعل من هذا الهدف سببا رئيسيا للإنتماء إلى هذا الحزب أو ذاك ، وليس أخطر على سلامة الحكم الديمقراطي أن يكون هذا الإنحراف أساسا لبناء الأحزاب السياسية في الدولة بدلا من البرامج والمبادىء ، وأن يكون الحكم غاية لا مجرد وسيلة لتحقيق حكم أسلم وحياة أفضل ، وإذا آل أمر الحكم الديمقراطي إلى مثل ذلك ، ضيعت الحقوق والحريات باسم حمايتها ، وحرف العمل السياسي عن موضعه ليصبح تجارة باسم الوطنية ، ومن ثم ينفرط عقد التضامن الوزاري على صخرة المصالح الشخصية الخفية ، كما تتشقق الكتلة الشعبية داخل البرلمان وخارجه مما يفقد المجالس النيابية قوتها والشعب وحدته ، لذلك كله كان لا مفر من الاتعاظ بتجارب الدول الأخرى في هذا المضمار ، والخروج بالقدر الضروري عن منطق النظام البرلماني البحت برغم أن نظام الإمارة وراثي .
وفي تحديد معالم ذلك النهج الوسط بين النظامين البرلماني والرئاسى ، وتخير موضع دستور دولة الكويت بينهما ، تتلاقى مشقة الاستخلاص النظري بمشقة وزن المقتضيات المحلية والواقع العملي ، وأولاهما معضلة فقهية ، وثانيهما مشكلة سياسية ، وخير النظم الدستورية هو ذلك الذي يوفق بين هذين الأمرين ، ويحل في آن واحد كلتا المعضلتين .
وقد عمل الدستور على تحقيق هذا التوفيق بين النظام البرلماني والنظام الرئاسي بالأسلوب المزدوج التالي :
أ- جعل الدستور حجر الزاوية في كفاية الاستقرار في الحكم متمثلا في الأمور الآتية:
1- كون نظام الإمارة وراثيا ( كما سبق البيان ) .
2- عدم النص على إسقاط الوزارة بكاملها بقرار عدم ثقة يصدره مجلس الأمة ، والإستعاضة عن ذلك الأصل البرلماني بنوع من التحكيم يحسمه الأمير بما يراه محققا للمصلحة العامة ، وذلك إذا ما رأى مجلس الأمة عدم إمكان التعاون مع رئيس مجلس الوزراء (مادة 102) وبشرط ألا يصدر قرار بذلك بناء على استجواب وبعد الإنتهاء من مناقشته (والإستجواب لا تجوز مناقشته أصلا إلا بعد ثمانية أيام على الأقل من تقديمه ما لم يوافق من وجه إليه الإستجواب على الإستعجال) ويجب أيضا أن يكون قرار المجلس بعدم التعاون صادرا بموافقة أغلبية الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس (فيما عدا الوزراء - مادة 101) فإن أمكن إجتياز هذه العقبات جميعا وصدر قرار المجلس بعدم التعاون مع رئيس مجلس الوزراء لم يترتب على ذلك تنحيه (والوزراء بالتالي) عن الوزارة كما هو مقرر بالنسبة للوزير ، وإنما يكون الأمير حكما في الأمر ، إن شاء أخذ برأي المجلس وأعفى الوزارة ، وإن شاء احتفظ بالوزارة وحل المجلس . وفي هذه الحالة إذا استمر رئيس الوزارة المذكورة في الحكم وقرر المجلس الجديد - بذات الأغلبية المموه عنها - عدم التعاون معه اعتبر معتزلا منصبه من تاريخ قررا المجلس الجديد في هذا الشأن ، وتشكل وزارة جديدة .
ولا يخفى ما في هذه الضمانات من كفالة لاستقرار الوزارة في مجموعها ، بل لعلها ، من الناحية العملية لا ممدوحة من أن تؤدي إلى ندرة استعمال هذا الحق البرلماني . كما أن رئيس مجلس الوزراء الذي يصل برمي مجلس الأمة به ومعارضته لسياسته حد تعريض المجلس نفسه للحل ، وتعريض أعضائه أنفسهم لخوض معركة انتخابية مريرة ، ليس من الصالح العام تحصينه أكثر من ذلك أو كفالة بقائه في الحكم إلى أبعد من هذا المدى .
وفي مقابل الضمانات المقررة لرئيس مجلس الوزراء على النحو السابق وجب النص على ألا يتولى مع الرئاسة أي وزارة ، وهو أمر له أهميته من ناحية سير العمل الحكومة ، وبمراعاة ضخامة أعباء رآسة الوزارة في التوجيه العام للحكم ، والتنسيق بين الوزارات واتجاهاتها ، وتحقيق رقابة ذاتية يمارسها رئيس مجلس الوزراء على الوزارات المختلفة ، مما يضاعف أسباب الحرص على الصالح العام والتزام هذه الوزارات للحدود الدستورية والقانونية المقررة .
3- وضع قيود أيضا على المسئولية السياسية الفردية للوزراء ، بحيث لا يجوز طرح الثقة بالوزير إلا بناء على رغبته هو أو بطلب موقع من عشرة من أعضاء المجلس على الأقل (أي خَمس الأعضاء ) وذلك إثر مناقشة استجواب على النحو المبين آنفا في شأن رئيس مجلس الوزراء ، مع التزام المواعيد السابق بيانها لمناقشة الاستجواب ، ثم لإصدار قرار من المجلس في شأنه ، وباشتراط موافقة أغلبية الأعضاء السابق بيانها كذلك ، فإن صدر القرار على الرغم من كل هذه العقبات اعتبر الوزير معتزلا منصبه من تاريخ قرار عدم الثقة ، وقدّم استقالته وجوبا إلى رئيس الدولة إستيفاء للشكل القانوني (مادة 101) ولذلك لا يبقى الوزير في منصبه ولو ارتأى رئيس الدولة حل مجلس الأمة والرجوع إلى رأي الشعب. ومن المأمول باطمئنان أن يحول جو التعاون المنشود والذي حرص الدستور على تهيئة أسبابه ، دون اللجوء إلى هذا الإجراء الإستثنائي البحت ، فالصالح العام هو رائد الوزير في الحكم ، وهو كذلك رائد المجلس في الرقابة ، فوحدة هذا الهدف كفيلة بضمان وحدة الاتجاه وتلاقي المجلس والحكومة ، في تقدير صالح المجموع ، على كلمة سواء .
4- اقتضت ظروف الملاءمة ومراعاة واقع الكويت كذلك ألا يؤخذ على نحو مطلق بالقاعدة البرلمانية التي توجب أن يختار الوزراء من بين أعضاء البرلمان ، ومن ثم تمنعه تعيين وزراء من خارج البرلمان ، وهي قاعدة ترد عليها استثناءات متفاوتة في بعض الدساتير البرلمانية. لهذا لم يشترط الدستور أن يكون الوزراء أو ' نصفهم على الأقل ' من أعضاء مجلس الأمة ، تاركا الأمر لتقدير رئيس الدولة في ظل التقاليد البرلمانية التي توجب أن يكون الوزراء قدر المستطاع من أعضاء مجلس الأمة . وفي ذلك أيضا مراعاة لتلك الحقيقة الحتمية وهي قلة عدد أعضاء مجلس الأمة (وهم خمسون عضوا) تبعا لعدد السكان ، مما قد يتعذر معه وجود العدد الكافي من بين هؤلاء الأعضاء لسد حاجة البلاد من الوزراء اللازمين لحمل أعباء الدولة في هذه المرحلة التاريخية من حياتها ، مع ضرورة احتفاظ المجلس كذلك بعدد كاف من الأعضاء القادرين على أداء رسالة هذا المجلس ولجانه المتعددة . لذلك كله قررت الفقرة الثانية من المادة 56 من الدستور أن ' يكون تعيين الوزراء من أعضاء مجلس الأمة ومن غيرهم ' وبذلك يكون التعيين وجوبيا من الفئتين في ضوء الأصل البرلماني المذكور والتقاليد البرلمانية المنوه عنها، ومقتضى ذلك - كما سبق - التوسع قدر المستطاع في جعل التعيين من داخل مجلس الأمة .
وإيراد هذا الحكم الخاص بتعيين وزراء من غير أعضاء مجلس الأمة ، مع تعمد ترك ما تتضمنه الدساتير الملكية عادة من نص على أن ' لا يلي الوزارة أحد أعضاء البيت المالك ' أو ' أحد من الأسرة المالكة ' يؤدى إلى جواز تعيين الأسرة الحاكمة وزراء من خارج مجلس الأمة . وهذا هو الطريق الوحيد لمشاركتهم في الحكم نظرا لما هو معروف من عدم جواز ترشيح أنفسهم في الانتخابات حرصا على حرية هذه الانتخابات من جهة، ونأيا بالأسرة الحاكمة عن التجريح السياسي الذي قلما تتجرد منه المعارك الإنتخابية من جهة ثانية.
ويشفع لهذا الاستثناء في أسلوب الحكم البرلماني بالنسبة إلى الكويت بصفة خاصة كون الأسرة الحاكمة من صميم الشعب تحس بإحساسه ولا تعيش في معزل عنه . كما يشفع له أيضا كون عدد سكان دولة الكويت قد استلزم الأخذ بنظام المجلس الواحد . فلم يعد هناك مجلس ثان (مجلس شيوخ أو مجلس أعيان) يمكن لأعضاء البيت الحاكم الإسهام عن طريق التعيين فيه في شئون الدولة العامة .
5- ابتدع الدستور فكرة لا تخفى أهميتها برغم عدم مجاراتها لكمال شعبية المجالس النيابية ، فقد نصت المادة 80 على أن ' يعتبر الوزراء غير المنتخبين بمجلس الأمة أعضاء في هذا المجلس بحكم وظائفهم ' ، وهو أمر كان لا مندوحة معه من ضابطين ، أولهما وضع حد أعلى لعدد الوزراء ، سواء كانوا وزراء عاديين أو وزراء دولة ، وهو ما قررته العبارة الأخيرة من المادة 56 بقولها ' لا يزيد عدد الوزراء جميعا على ثلث عدد أعضاء مجلس الأمة ' وبهذا التحديد لا يكون هناك خوف من إغراق مجلس الأمة (وعدد أعضائه أصلا خمسون عضوا) بأعضاء غير محددي العدد من الوزراء المعينتين من خارج المجلس بما يخشى معه المساس بشعبية المجلس النيابي أو بأهمية قرارته. أما الضابط الثاني فمبتكر كذلك وهو اشتراط ألا يشترك الوزراء في التصويت على الثقة بأحدهم (المادة 101) أو على موضوع عدم التعاون مع رئيس مجلس الوزراء (المادة 102) ويشمل هذا الحظر الوزراء جميعا ولو كان من أعضاء مجلس الأمة المنتخبين . وحكمة هذا النص كذلك ما هو مقرر صراحة أو بحكم الواقع من تضامن الوزراء وتساندهم في مثل هذه المناسبة ، فمنعهم من الاشتراك في التصويت في هذين الأمرين يدع مجال البت فيه كاملا لأعضاء مجلس الأمة غير الوزراء .
6- لم يقيد الدستور استعمال الحكومة لحق الحل بأي قيد زمني كما فعلت بعض الدساتير البرلمانية ، اكتفاء بالقيد التقليدي الهام الذي بمقتضاه إذا حل المجلس لا يجوز حله لذات الأسباب مرة أخرى ، مع وجوب إجراء الانتخابات للمجلس الجديد في ميعاد لا يجاوز شهرين من تاريخ الحل وإلا استرد المجلس المنحل كامل سلطته الدستورية لحين اجتماع المجلس الجديد واجتمع فورا كأن الحل لم يكن (مادة 107) .
7- في نصوص متفقة من الدستور ترك مجال واسع لتصرف رئيس الدولة أو السلطة التنفيذية دون رجوع سابق إلى مجلس الأمة أو دون الرجوع إليه كلية ، ومثال ذلك إختيار نائب الأمر (مادة 61) وإعلان الحرب الدفاعية (مادة 68) وإعلان الحكم العرفي (مادة 69) وإبرام المعاهدات فيما لم يستثن منها بالذات (مادة 70) والإستعاضة بثقة رئيس الدولة في تشكيل الوزارة عن حصولها على ثقة مجلس الأمة عقب كل تجديد لانتخابات هذا المجلس (مادة 98) .
8- يسند هذه الضمانات والنصوص جميعا نص المادة 174 المقرر لضوابط تعديل الدستور ، فقد اشترطت هذه المادة لإدخال أي تعديل على أحكام الدستور موافقة الأمير على مبدأ التعديل أولا ، ثم على موضوعه ، وجعلت حق رئيس الدولة في هذا الخصوص ' حق تصديق ' بالمعنى الكامل لا مجرد حق اعتراض توقيفي كما هو الشأن في التشريعات العادية وفقا للمادة 52 من الدستور ، ولذلك نصت الفقرة الثانية من المادة 174 في صراحة على استثناء حكمها من حكم المادة 52 المذكورة . بل وأضافت الفقرة الثالثة من المادة 174 أنه ' إذا رفض اقتراح التنقيح من حيث المبدأ أو من حيث موضوع التنقيح فلا يجز عرضه من جديد قبل مضي سنة على هذا الرفض ' والرفض هنا شامل لحالتي حصوله من جانب الأمير أو من جانب مجلس الأمة . وبهذا الوضع لا يكون تعديل ما للدستور إلا برضاء الجهتين اللتين تعاونتا من قبل في وضعه ، الأمير والأمة ، وعبرت عن هذا التراضي ديباجة الدستور عندما نصت على صدور الإرادة الأميرية بالتصديق عليه وإصداره ' بناء لما قرره المجلس التأسيسي ' .
ب- قدر الدستور من الناحية الثانية - ضرورة الحذر من المبالغة في ضمانات السلطة التنفيذية:
وذلك مخافة أن تطغى هذه الضمانات على شعبية الحكم ، أو تضيع في التطبيق جوهر المسئولية الوزارية التي هي جماع الكلمة في النظام البرلماني . ومما يبعث على الاطمئنان في هذا الشأن ويدفع تلك المظنة إلى حد كبير ، ما أثبتته التجارب الدستورية العالمية من أن مجرد التلويح بالمسئولية فعّال عادة في درء الأخطاء قبل وقوعها أو منع التمادي فيها أو الإصرار عليها ، ولذلك تولدت فكرة المسئولية السياسية تاريخيا عن التلويح أو التهديد بتحريك المسئولية الجنائية للوزراء ، وقد كانت هذه المسئولية الجنائية هي الوحيدة المقررة قديما ، كما أن تجريح الوزير ، أو رئيس مجلس الوزراء بمناسبة بحث موضوع عدم الثقة أو عدم التعاون ، كفيل بإحراجه والدفع به إلى الاستقالة ، إذا ما استند هذا التجريح إلى حقائق دامغة وأسباب قوية تتردد أصداؤها في الرأي العام ، كما أن هذه الأصداء ستكون تحت نظر رئيس الدولة باعتباره الحكم النهائي في كل ما يثار حول الوزير أو رئيس مجلس الوزراء ، ولو لم تتحقق في مجلس الأمة الأغلبية الكبيرة اللازمة لإصدار قرار' بعدم الثقة ' أو ' بعدم التعاون ' كما أن شعور الرجل السياسي الحديث بالمسئولية الشعبية والبرلمانية ، وحسه المرهف من الناحية الأدبية لكل نقد أو تجريح ، قد حملا الوزيرالبرلماني على التعجيل بالتخلي عن منصبه إذا ما لاح له أنه فاقد ثقة الأمة أو ممثليها ، وقد بلغت هذه الحساسية أحيانا حد الإسراف مما اضطر بعض الدساتير الحديثة للحد منها حرصا على القدر اللازم من الاستقرار الوزاري .
ومن وراء التنظيم الدستوري لمسئولية الوزراء السياسية ، توجد كذلك وبصفة خاصة رقابة الرأي العام التي لا شك في أن الحكم الديمقراطي يأخذ بيدها ويوفر مقوماتها وضماناتها ، ويجعل منها مع الزمن العمود الفقري في شعبية الحكم . وهذه المقومات والضمانات في مجموعها هي التي تفي ، على المواطنين بحبوحة من الحرية السياسية ، فتكفل لهم - إلى جانب حق الانتخاب السياسي - مختلف مقومات الحرية الشخصية (في المواد 30 ، 31 ، 32 ، 33 ، 34 من الدستور) وحرية العقيدة (المادة 35) وحرية الرأي (المادة 36) وحرية الصحافة والطباعة والنشر (مادة 37) ، وحرية المراسلة (المادة 39) وحرية تكوين الجمعيات والنقابات (المادة 43) وحرية الاجتماع الخاص وعقد الاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات (المادة 44) وحق تقديم العرائض إلى السلطات العامة (المادة 45) وفي جو مليء بهذه الحريات ينمو حتما الوعي السياسي ويقوى الرأي العام ، ويغير هذه الضمانات والحريات السياسية ، تنطوي النفوس على تذمر لا وسيلة دستورية لمعالجته ، وتكتم الصدور آلاما لا متنفس لها بالطرق السلمية ، فتكون القلاقل ، ويكون الاضطراب في حياة الدولة ، وهو ما اشتهر به النظام الرياسى في بعض دول أمريكا اللاتينية ، وما حرص الدستور على تجنبه وتجنب الكويت أسبابه .
ويتجاوب مع هذه المعاني كذلك ما يخفى من ضرورة مرور الحياة الدستورية الجديدة ، ذات الطابع البرلماني الواضح بل الغالب ، بفترة تمرين على الوضع الجديد، يتبين خلالها ما قد يكون في هذا الوضع من توسعة أو تضييق ، وهي أن تضمنت بعض التضييق إن ذلك منطق سنة التطور ، وفيه مراعاة لحداثة العهد بهذه المشاركة الشعبية في الحكم وتمهيد لإعادة النظر في الدستور بعد السنوات الخمس الأولى من تطبيقه بنص الفقرة الأخيرة من المادة 174 وبالضوابط المنصوص عليها في تلك المادة ، كما يدخل في الاعتبار من هذه الناحية ما عرفت به حكومة الكويت من حرص على مصالح المواطنين ، وتجاوب مع اتجاهات الرأي العام وأحاسيسه .
ومن ناحية أخرى لا تزال الشعبية موفورة في أحكام الدستور بالقدر الكافي ، فلمجلس الأمة ابتداء حق إبداء ما يراه من ملاحظات على برنامج كل وزارة جديدة (مادة 98) ، وله في مواجهة رئيس مجلس الوزراء والوزراء حق السؤال (مادة 99) ، وحق الاستجواب (مادة 100) وحق سحب الثقة من الوزراء فرادي (مادة 101) ، وحق الإحتكام إلى رئيس الدولة في كيان الوزارة بأسرها باعتبارها مسئولة بالتضامن أمام الأمير ، والتزام رأي المجلس الجديد في شأن رئيس مجلس الوزراء إذا جدد تعيينه فظل رئيسا للوزارة بعد الانتخابات وانعقاد المجلس الجديد (مادة 102) كل ذلك بالإضافة إلى ما يرجى مع الزمن مع تناقص عدد الوزراء الذين يعينون من غير أعضاء مجلس الأمة ، ومن التجاوب واقعيا - كما سبق - مع اتجاهات المجلس المذكور وعدم الرغبة في مخالفة نظره ولو كانت لهذه المخالفة وسيلة شكلية في الدستور .
وفي النهاية فالمسألة قبل كل شىء ملاءمة سياسية ، تعبّر عن واقع الدولة وتتخير أقدر الأصول النظرية على التزام الحد الضروري من مقتضيات هذا الواقع .
ثانياً: التفسير الخاص لبعض النصوص:
في إطار التصوير العام السابق بيانه لأركان الحكم الدستوري لدولة الكويت ، ووفقا لما صاحب بعض النصوص من آراء أو مناقشات في خلال تحضيرها ، تلاحظ الأمور الآتية في تفسير تلك النصوص:
المادة 1 :
نصت هذه المادة على عدم جواز النول عن سيادة الكويت، ويقصد بهذه العبارة تسجيل حرص الكويت على سيادته كأصل ، ولكن هذا الأصل لا يتعارض مع ما هو متعارف عليه بين الدول من تبادل التجاوز عن بعض مظاهر ممارسة السيادة كالإعفاءات القضائية مثلا لرجال السلك السياسي أو لبعض القوات العسكرية التابعة لدولة أجنبية أو لهيئة دولية . أما التنازل عن ذات سيادة الدولة كليا أو جزئيا فلا يجوز وفقا لهذا النص الدستوري ، وأي خروج عليه يعتبر خروجا على الدستور أو تعديلا له يستلزم اتباع الاجراءات الدستورية المقررة في الدستور فيما يتعلق بتنقيحه .
وقد استعمل في الفقرة الثانية من هذه المادة اصطلاح ' وشعب الكويت ' بقصد تسجيل أن للكويت كيانها السياسي المتميز منذ قرون مما يجعل من الكويتيين شعبا بالمعنى الدستوري ، ولكنه جزء من الأمة العربية ، فوجب ألا تدخل عليه أداة التعريف حتى لا يكون في هذا المزيد من التخصيص مما يجافي وحدة هذه الأمة الشاملة ، ولذلك كان الاصطلاح المذكور أفضل من اصطلاح ' الشعب الكويتي ' وأكثر تجاوبا مع القومية العربية .
المادة 2 :
لم تقف هذه المادة عند حد النص على أن ' دين الدولة الإسلام ' بل نصت كذلك على أن الشريعة الإسلامية - بمعنى الفقه الإسلامي - مصدر رئيسي للتشريع ، وفي وضع النص بهذه الصيغة توجيه للمشرع وجهة إسلامية أساسية دون منعه من استحداث أحكام من مصادر أخرى في أمور لم يضع الفقه الاسلامي حكما لها ، أو يكون من المستحسن تطوير الأحكام في شأنها تماشيا مع ضرورات التطور الطبيعي على مر الزمن ، بل إن في النص ما يسمح مثلا بالأخذ بالقوانين الجزائية الحديثة مع وجود الحدود في الشريعة الإسلامية ، وكل ذلك ما كان ليستقيم لو قيل ' والشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع ' إذ مقتضى هذا النص عدم جواز الأخذ عن مصدر آخر في أي أمر واجهته الشريعة بحكم مما قد يوقع المشرع في حرج بالغ إذا ما حملته الضرورات العملية على التمهل في التزام رأي الفقه الشرعي في بعض الأمور وبخاصة في مثل نظم الشركات ، والتأمين ، والبنوك ، والقروض ، والحدود ، وما إليها .
كما يلاحظ بهذا الخصوص من النص الوارد بالدستور - وقد قرر أن ' الشريعة الاسلامية مصدر رئيسي للتشريع ' إنما يحمل المشرع أمانة الأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية ما وسعه ذلك ، ويدعوه إلى هذا النهج دعوة صريحة واضحة ، ومن ثم لا يمنع النص المذكور من الأخذ ، عاجلا أو آجلا ، بالأحكام الشرعية كاملة وفي كل الأمور إذا رأى المشرع ذلك .
المادة 5 :
اللفظ الوارد في هذه المادة عن ' الأوسمة ' يقصد به المعنى الواسع الذي يشمل كل ما يجري مجرى الأوسمة كالأنواط والنياشين والقلادات وما إليها . وهذا هو مدلول لفظ أوسمة الوارد كذلك في المادتين 76 و 122 من الدستور .
المادة 6 :
(ومثلها المواد 51 ، 56 ، 57 ، 79 وغيرها) استعمل هنا لفظ ' الأمة ' ترديدا لعبارة المبدأ الديمقراطي القائل : ' الأمة مصدر السلطات ' ودون مجافاة لكون الأمة - كما سبق في المادة الأولى من الدستور - أمة واحدة هي الأمة العربية ، ومن ثم يكون المقصود بلفظ ' أمة ' عند تخصيصها بدولة الكويت - كما هو الشأن في المادة 6 ومثيلاتها - أبناء الأم العربية في إطار دولة الكويت ، أي ' الأمة العربية في الكويت '.
المادة 9 :
إيراد عبارة ' في ظلها ' بهذه المادة ليس من مقتضاه عدم رعاية الأطفال الطبيعيين (أي غير الشرعيين) ، وهم ضحية جريمة غيرهم - ولعلهم أولى برعاية الدولة نظرا لتخلي والديهم عنهم - وإنما جاء ذكر هذه العبارة مجاراة للأصل في الطفولة وهو شرعيتها ، وإيحاء بما يؤثره المجتمع ويحرص عليه الدين من أن تكون الطفولة في ظل روابط الأسرة الشرعية .
المادة 16 :
تنص هذه المادة على أن ' الملكية ورأس المال والعمل مقومات أساسية لكيان الدولة الاجتماعية وللثروة الوطنية ، وهي جميعا حقوق فردية ذات وظيفة اجتماعية ينظمها القانون ' .
ويلاحظ أن هذا النص إنما يحدد مكان المجتمع الكويتي من التيارات الاجتماعية والاقتصادية التي تتنازع العالم في العصر الحاضر ، فقد حسم النص الأمر حيث جعل المقومات الأساسية للمجتمع المذكور ثلاثة ، يكمل كل منهما الآخر ويضبطه ، الأول هو ' الملكية ' أي حق الفرد في أن يتملك ، وهذه رخصة قانونية قد لا تتبلور فعلا في تملك واقعي لكل الناس ، أو قد تتبلور عملا في أي شىء مما يقبل التملك قل قدره أم كبر ، وأيا كان نوعه أو مصدره ويكتمل هذا الركن الأول ركن ثان هو ' رأس المال ' ويقصد به حق ثم يجوز أن يتجمع الملك في صورة ' رأس مال ' وهو ما تتميز به الديمقراطيات الغربية عن الديمقراطيات الشعبية المعروفة في دول الكتلة الشرقية ، وبذلك يكون هذا اللفظ مكملا للركن الأول ومانعا من انحراف المجتمع الكويتي نحو الاشتراكية المتطرفة ، على أن لفظ ' رأس المال ' لا يعني تلك الصورة المعيبة من رأس المال المتطرف أو المستغل ، فليست هذه إلا انحرافا برأس المال عن رسالته الاجتماعية ، وهو إنحراف حرصت المادة على شجبه بأن جعلت ' العمل ركنا ثالثا في المجتمع ( يحد من غلواء رأس المال وتسلطه ) وجعلت لكل من هذه الأركان الثلاثة - برغم كونها حقوقا فردية - وظيفة اجتماعية ينظمها القانون ، ومعنى ذلك رعاية الدولة لرأس المال في إطار صالح المجتمع ، ودون إسراف أو تسلط أو استغلال تأباه العدالة الاجتماعية .
ومما تجب ملاحظته كذلك بصدد هذه المادة ، أن النص فيها على أن لهذه الحقوق ' وظيفة اجتماعية ' لم يقصد به بالذات تحديد الملكية ، بل قصد به تنظيم وظيفتها بما فيه صالح الجماعة إلى جانب حق المالك ، ومظاهر التنظيم الاجتماعي للملكية عديدة تهدف إلى منع الأضرار بمصلحة المجموع أو إساءة استعمال الحق ، ومن أمثلة ذلك فرض تكاليف أو ارتفاقات على رأس المال لصالح الدولة أو المجموع ، وكذلك نزع الملكية للمنفعة العامة وفقا للضوابط المبينة بالمادة 18 من الدستور ( أي في الأحوال التي يبينها القانون ، وبالكيفية المنصوص عليها فيه ، وبشرط التعويض عنها تعويضا عادلا ) ، ولهذا عندما أرادت بعض الدساتير إباحة تحديد الملكية الفردية بالذات أوردت مادة خاصة بذلك . وهذا فضلا عن أن موضوع تحديد الملكي الفردية إنما يثار خاصة بصدد ملكية الأراضي الزراعية في البلاد التي تعتبر هذه الأراضي أساس الاقتصاد الوطني ، وليس هذا هو الحال في دولة الكويت .