قد رد الدكتور حاكم على ابن فوزان بكتاب عظيم بعنوان ( أهل السنة والجماعة إشكالية الشعار وجدلية المضمون )) بعشر حلقات
مما جاء فيها :
هذا وبعد أن صدر كتابي (الفرقان) في الرد على شبه حمد إبراهيم عثمان ودعوته إلى تولي الطاغوت والتحاكم إليه وحبه والقتال في سبيله بدعوى (طاعة ولي الأمر) دون أن يحقق القول في معنى قوله تعالى في أصل دعوة التوحيد {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وقوله تعالى في بيان أن من الطاغوت طاغوت الحكم وهو كل من يتحاكم إليه الناس ويحكم بينهم بغير حكم الله كما قال تعالى {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به} وقوله تعالى في بيان حال الذين كفروا {والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت}؟!
فعطل حمد إبراهيم عثمان دلالة كل هذه الآيات ولم يعد لها مدلول يمكن تنزيلها عليه في أرض الواقع إذ صار كل ذي سلطان في كل بلد إسلامي عند حمد عثمان ولي أمر تجب طاعته والرضا بحكمه ومحبته والدفاع عنه وكل من ناوأه فهو خارجي حروري!
وهو يعلم أن أكثر هذه البلدان يحكمها الطغاة اللادينيون والدهريون والماديون وأحسنهم حالا المنافقون والإباحيون الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ممن يحاربون الله ورسوله وأولياءه وممن يصدق فيهم قوله تعالى {اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا}؟!
ثم لم يجعل حمد عثمان هذه القاديانية الجديدة رأيا واجتهادا حتى روجها باسم السنة وسلف الأمة ثم لما وجد أن باطله لا يروج إلا على من لم يعرف حقيقة الإسلام والإيمان ووجد أن (الفرقان) أتى على شبهه من القواعد وكشف زيفه ودجله لجأ بعد صدور الفرقان بأسبوعين إلى حيلة العاجز فذهب يعرض كتابه على من يقرظه له ويسعفه بتسويقه ظنا منه والظنون كواذب أن تقريظ هذا الشيخ أو ذاك يرفع خسيسا أو يضع نفيسا ونسي أنه لا يعرف الحق بالرجال بل يعرف الرجال بالحق ولو كان حمد عثمان على ثقة من دينه ومما كتب لما اضطر في الطبعة الثالثة من كتابه المشبوه وبعد صدور (الفرقان) إلى اللجوء لبعض الشيوخ لتقريظ كتابه فكان من شؤمه وشؤم كتابه على ذلك الشيخ أن استصدر منه والرجل في آخر عمره قولا لم يقله قبله أحد من أئمة الإسلام قط لا من أهل السنة ولا طوائف أهل القبلة!
فكان أشأم عليه من البسوس على بكر بن وائل!
وقد أراد حمد عثمان بهذه الحيلة أن يجعل المواجهة بيني وبين ذلك الشيخ وطائفته بعد أن كانت بينه وبيني!
ولم أتفاجأ أنا بما جاء في ذلك التقريظ ولا بما يصدر عن بعض مشايخ هذه الطائفة في مثل هذه النوازل فهذا كله أحد تجليات التحولات العقائدية التي طرأت على أتباع هذه المدرسة ولا يحتاج الباحث إلى كبير جهد لمعرفة مدى اتساع الهوة بين أطروحات هذه المدرسة قبل قرن وأطروحاتها اليوم وما عليه إلا أن يقرأ الدرر السنية والرسائل النجدية ورسائل أئمة الدعوة ليكتشف أن هذه المدرسة المعاصرة تخلت عن كثير من أصولها العقائدية تحت ضغط الواقع السياسي حتى اقتحم بعض دعاتها وشيوخها باب ردة جامحة لم يجرؤ عليها أحد من أهل القبلة!
كما لم أتفاجأ حينما خرج أحدهم قبل سبع سنوات وجيوش الاحتلال الصليبي تدك مدن العراق وتحتل أرضه ليقول في الفضائيات بأن بريمر حاكم العراق العسكري الأمريكي ولي أمر تجب طاعته دون أن يصدر عن شيوخ هذه المدرسة أي رد على هذه الفتوى فكان ذلك الشيخ أشجعهم وأصدقهم وأجرأهم في التعبير عن رأيه ورأيهم الذي يستبطنه كثير منهم اليوم في تقرير هذه العقيدة الجديدة!
فلم يكن الشيعة ومراجعهم وحدهم هم من يضفون الشرعية على الاحتلال الأجنبي للعراق باسم مذهب (أهل البيت) بل خرج من شيوخ هذه المدرسة من يضفي الشرعية عليه باسم مذهب (أهل السنة وسلف الأمة)!
وإذا هاتان الطائفتان تتباريان وتتجاريان في الأهواء السياسية كما يتجارى الكلب في صاحبه وتكشفان عن أزمة عقائدية وفكرية عميقة يعيشها العالم الإسلامي تفسر لنا سبب تخلفه وسقوطه تحت أبشع صور الطغيان السياسي من جهة والاحتلال الأجنبي من جهة أخرى ولتعيد هذه الحوادث المضحكات والفواجع المبكيات لنا قصة نابليون كما ذكرها مؤرخ مصر الجبرتي حين دخل الجيش الفرنسي مصر فقيل لنابليون بأنك لا تحتاج ليخضع لطاعتك الشعب المصري إلا الإعلان عن كونك مسلما ففعل ما أشاروا عليه وصار نابليون ولي أمر المسلمين! ليصدق قول أبي الطيب:
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!
وقد ذكرت في كتابي (الحرية وأزمة الهوية في الخليج والجزيرة العربية .. عبيد بلا أغلال) من الحوادث التاريخية المتواترة ما يؤكد مدى قدرة الاحتلال على توظيف كلا الطائفتين في مشاريعه الاستعمارية من خلال وكلائه وموظفيه الذين يستغلون رجال الدين في استصدار الفتاوى لما يحقق غرض العدو المحتل لبلدان المسلمين!!
وقد صارت هذه الشعارات الشريفة كشعار (مذهب آل البيت) و(مذهب أهل السنة وسلف الأمة) تستغل اليوم أسوأ استغلال وأبشعه وأشنعه وأفظعه وأخنعه لترسيخ هذا الواقع الاستعماري الذي تورطت فيه كثير من الحكومات فتورط معها سدنتها ودهاقنتها وأحبارها ورهبانها فاضطروا إلى تسويق الكفر البواح والفجور والزور وما يبرأ منه آل البيت وسلف الأمة وأئمة السنة!
أقول ومع أن تقريظ ذلك الدكتور لكتاب حمد عثمان لم يتجاوز بضعة أسطر فقد تضمن من الشبه المصادمة لنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة ما لا يخفى على من له أدنى اطلاع على أقوال ومذاهب الأئمة وسلف الأمة!
فقد جاء في التقريظ المذكور( فقد قرأت كتاب الشيخ حمد العثمان ردا على الدكتور حاكم العبيسان في أفكاره المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة في حثه على الثورة على الحكام بحجة ما عندهم من المخالفات التي لا تصل إلى حد الكفر وأيضا حتى لو وصلت حد الكفر وليس عند المسلمين قوة يستطيعون بها إزالتهم دون مفاسد وسفك دماء وحدوث فساد أكبر كما رسم لنا النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المنهج الذي سار عليه علماء المسلمين في علاج هذه القضية عملا بسنة نبيهم وتجنبا لمنهج الخوارج والمعتزلة وجدت هذا الرد حسنا متمشيا على الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة وأئمتها..)!!!
فقد تضمن هذا التقريظ ما يلي :
أولا : تحريم الدعوة إلى الخروج على الحكومات الظالمة بدعوى أن ذلك مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة وأنه مذهب المعتزلة والخوارج!
ثانيا : أنه حتى لو كفرت هذه الحكومات وخرجت من الملة فإن الدعوة إلى الخروج والثورة عليها لا تجوز في حال عجز المسلمين وحدوث المفاسد وأن ذلك هو منهج النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة وأهل السنة خلافا لمنهج المعتزلة والخوارج!
ثالثا : أن ما كتبه حمد عثمان في كتابه من دعوة إلى الشرك والوثنية وتحكيم الطاغوت والرضا بحكمه وموالاته ونصرته كل ذلك وجده الشيخ متمشيا مع الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة! كما في قول حمد عثمان في ص 237 (العبيسان جاء بما يضاد الدين ودعوة المرسلين فكتابه كله يدعو إلى نزع يد الطاعة..)!
فصارت طاعة الطواغيت الملحدين الذين يحكمون بغير شرع الله هي (الدين ودعوة المرسلين) عند حمد عثمان وشيخه الذي قرظ كتابه!
ومع أن هذه القضية كلها ـ أي الخروج على السلطة الجائرة ـ هي قضية فرعية جزئية في كتابي الحرية وكتابي التحرير حيث أن القضية الرئيسة التي يتجنب المخالفون تحديد الموقف منها بوضوح هي قضية (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) ووجوب معرفة سننهم في باب الخلافة وسياسة الأمة ووجوب دعوة الشعوب والحكومات إلى إحيائها وبعثها من جديد وإقامة حكومات راشدة في كل بلد للتمهيد لعودتها خلافة راشدة كما بشر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم (ثم تعود خلافة على منهاج النبوة) والمخاطب بذلك هي الأمة وهي التي يجب عليها القيام بما تستطيعه في إصلاح في هذا الباب كما في الصحيح (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) فلا تتعطل أحكام هذا الباب بدعوى تفرق الأمة وسقوط خلافتها وتشرذمها ولا بدعوى تسلط الطغاة عليها ولا بدعوى انتظار المهدي ـ الذي انتظره الشيعة ألف عام فلما طال عليهم الأمد تركوه وغيروا واقعهم بأيديهم وبقي بعض أهل السنة ينتظرونه ـ بل الواجب النصيحة وبذل الوسع والجهاد في ذلك حسب الوسع والطاقة ولو بالكلمة والبيان كما في الصحيح (الدين النصيحة .. ولأئمة المسلمين وعامتهم) وتحذير الأمة من اتباع سنن الجبابرة والأكاسرة والقياصرة والمحدثات التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (لتتبعن سنن من كان قبلكم .. فارس والروم)!
وقد بينت في كتبي ما استطعت أصول الخطاب السياسي القرآني والنبوي والراشدي وبينت المحدثات التي تخالف تلك الأصول والهدايات فأعرض المخالفون عن ذلك كله وجعلوا العقدة بالمنشار فأصموا وعموا واستغشوا ثيابهم وأصروا على ما هم عليه من تعظيم شأن الطواغيت وتمجيدهم وتبرير ظلمهم وعسفهم وخيانتهم لله ورسوله وللأمة بالوقوف مع عدوها المحتل وجعلوا قضية (ولي الأمر) أم القضايا وشعار أهل السنة ـ زعموا ـ ثم تمادوا في طغيانهم وغوايتهم حتى زعموا أن كل هذه الطاغوتية التي تمارسها كثير من الدول والحكومات التي لا تمت أصلا إلى الإسلام بصلة هي من السنة النبوية وما كان عليه الخلفاء الراشدون بما في ذلك الاستبداد والظلم والعسف والموالاة للعدو الأجنبي والدخول تحت حمايته وحتى خرج بعضهم فوصف طاغوته بأنه كالخلفاء الراشدين!
فكما صارت قضية النص (والإمام الغائب) فتنة الشيعة منذ كانوا إلى اليوم فقد صارت قضية (ولي الأمر والإمام القائم) فتنة كثير من أدعياء السنة إلى اليوم!
هذا مع أنني أدعو إلى الإصلاح السلمي وأرى بأن بإمكان الأمة إصلاح الواقع ولو قامت بالواجب الشرعي لما كان هذا حالها ولتغير واقعها كما قال تعالى {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} وكما قال صلى الله عليه وسلممن رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه)([1]).
وجاء عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قالإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه عمهم الله بعقابه).([2])
وجاء في الحديث أيضا أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).([3])
وقال أيضا سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه؛ فقتله).([4])
وقالإذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم:يا ظالم! فقد تودع منها).([5])
وقاللتأخذن على يد الظالم، ولتأطِرنّه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم).([6])
وإنما عرضت لقضية الخروج على أئمة الجور لتعلقها بموضوع الإمامة وحق الأمة في اختيار السلطة بالشورى وما جرى من خلاف بين سلف الأمة في هذه القضية ولست بصدد الدعوة إلى الثورة كما يتصور الواهمون وإن كنت أرى مشروعية ذلك إذا اضطرت الأمة إليه فهذا حقها الذي جعله الشارع لها!
وهذا جوابي مختصرا على ما جاء في تقريظ ذلك الشيخ وفي كتبي بيان كاف وجواب شاف لمن أراد الحق بعيدا عن تقليد الرجال:
فأولا : دعوى أن الخروج على أئمة الجور هو مذهب الخوارج والمعتزلة دعوى باطلة وبطلانها أشهر من أن تذكر له الأدلة فالخلاف بين سلف الأمة والأئمة المشهورين من أهل السنة مشهور معلوم لا يخفى على العامة فضلا عن أهل العلم!
قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في (جواب أهل السنة ص 70) مقررا أن الخروج على أئمة الجور قضية خلافية بين سلف الأمة وأهل السنة أنفسهم حيث يقول (اختلف أهل السنة والجماعة في هذه المسألة وكذلك أهل البيت فذهبت طائفة من أهل السنة من الصحابة فمن بعدهم وهو قول أحمد وجماعة من أهل الحديث إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان إن قدر على ذلك وإلا فبالقلب ولا يكون باليد وسل السيوف على الأئمة وإن كانوا أئمة جور.
وذهبت طائفة من الصحابة ومن بعدهم من التابعين ثم الأئمة بعدهم ـ أي أبو حنيفة ومالك والشافعي ـ إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يقدر على إزالة المنكر إلا بذلك وهو قول علي رضي الله عنه وكل من معه من الصحابة وهو قول أم المؤمنين ومن معها من الصحابة ـ كطلحة والزبير ـ وهو قول عبد الله بن الزبير والحسين بن علي وهو قول كل من قام على الفاسق الحجاج كابن أبي ليلى وسعيد بن جبير والحسن البصري والشعبي ومن بعدهم...الخ) انتهى كلام الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.
ولا يخفى في هذا النص ميل الشيخ عبد الله إلى ترجيح هذا القول الثاني لدفع التهمة عن دعوة الشيخ محمد بأنها تسلك مسلك الخوارج فبين أن الخروج بالسيف لتغيير المنكر بما في ذلك الخروج على السلطان الجائر هو مذهب طائفة من سلف الأمة وأئمة أهل السنة ولا يوصف من أخذ به بأنه خارجي!
بل لقد كانت مقاومة الإمام الجائر من أشهر القضايا في تلك العصور، حتى ادعى ابن حزم أنه مذهب أئمة المذاهب المشهورة في القرن الثاني حيث قالاتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد وذهبت طوائف من أهل السنة وجميع المعتزلة وجميع الخوارج والزيدية إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، إذا لم يكن دفع المنكر إلا بذلك).
وبعد أن نسب القول بوجوب استخدام القوة لإزالة المنكر، إذا لم يزل إلا بذلك، إلى من خالفوا علي بن أبي طالب من الصحابة، ومن خرج على يزيد بن معاوية كالحسين وابن الزبير وأبناء المهاجرين والأنصار في المدينة، ومن خرج على الحجاج كأنس بن مالك، قال ابن حزم (ثم من بعد هؤلاء من تابعي التابعين كعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وعبد الله بن عمر بن عبد الله، ومحمد بن عجلان، ومن خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن، وهاشم بن بشر، ومطر الوراق، ومن خرج مع إبراهيم بن عبد الله، وهو الذي تدل عليه أقوال الفقهاء كأبي حنيفة، والحسن بن حي، وشريك بن عبد الله، ومالك، والشافعي، وداود وأصحابهم، فإن كل من ذكرنا من قديم وحديث، إما ناطق بذلك في فتواه، وإما فاعل لذلك بسل سيفه في إنكار ما رأوه منكرا).([7])
فتأمل قول ابن حزم وهو من أعلم الناس بالخلاف والإجماع كيف ذكر بأن الخروج على الإمام الجائر هو مذهب عامة الأئمة وسلف الأمة ـ مع ملاحظة أن هذا كله في الخروج على الإمام المسلم الجائر في ظل الخلافة والنظام السياسي الإسلامي حيث ظهور شوكة أهل الإسلام وإقامة شرائع الأحكام ـ فهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وداود الظاهري!
وهؤلاء هم من أئمة أهل السنة في عصرهم وليسوا من المعتزلة ولا الخوارج!
أي أن أربعة من أئمة المذاهب الفقهية السنية الخمسة المشهورة يقولون بهذا القول!
وقد قال ابن حجر مفرقا بين خروج الخوارج، وخروج البغاة، وخروج أهل الحق:
(وقسم خرجوا غضبا للدين من أجل جور الولاة، وترك عملهم بالسنة النبوية فهؤلاء أهل حق، ومنهم الحسين بن على، وأهل المدينة في الحرة، والقراء الذين خرجوا على الحجاج، وقسم خرجوا لطلب الملك فقط وهم البغاة)!
ونص أيضًا أن الخروج على الظلمة كان مذهبا للسلف فقال في ترجمة الحسن بن حي وأنه كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور هذا مذهب للسلف قديم).([8])
وهذا الخلاف في هذه القضية مذكور حتى في كتب المذاهب الفقهية:
فعند الأحناف قال أبو بكر الجصاصوكان مذهبه [يعني أبا حنيفة] رحمه الله مشهورًا في قتال الظلمة وأئمة الجور وقضيته في أمر زيد بن علي مشهورة، وفي حمله المال إليه، وفتياه الناس سرًّا في وجوب نصرته والقتال معه، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن)([9]).
وهذا هو مذهب شيخه حماد بن أبي سليمان([10])، إمام أهل الكوفة في عصره.
وهو مذهب مالك، قال ابن العربي: (قال علماؤنا:وفي رواية سحنون، إنما يقاتل مع الإمام العدل، سواء كان الأول أو الخارج عليه، فإن لم يكن عدلين فأمسك عنهما إلا أن تراد بنفسك أو مالك أو ظلم المسلمين، فادفع ذلك، هؤلاء لا بيعة لهم إذا كان بويع لهم على الخوف).([11])
وفي مذهب الشافعي قال الزبيدي: إن الخروج على الإمام الجائر هو مذهب الشافعي القديم.([12])
وفي مذهب أحمد رواية مرجوحة بجواز الخروج على الإمام الجائر، بناءً على ما روي عنه من عدم انعقاد الإمامة بالاستيلاء وإليه ذهب ابن رزين وقدمه في الرعاية من كتب الحنابلة، وقد قال بجواز الخروج من أئمة المذهب ابن عقيل وابن الجوزي.([13])
فهذا القول وهو جواز الخروج على أئمة الجور ـ أي في ظل الخلافة والنظام السياسي الإسلامي وهو ما لا وجود له اليوم في عامة أقطار المسلمين ـ رواية أيضا في مذهب أحمد وهو أشهر من قال بالمنع من الخروج وإنما رجح ابن عقيل وابن الجوزي وابن رزين وكلهم من أئمة المذهب الحنبلي هذه الرواية بالجواز لأنهم حملوا قوله بالمنع من الخروج على خلفاء بني العباس من المعتزلة بعد فتنة المأمون لعدم تحقق المناط عنده لا لأنه يرى المنع مطلقا إذ ثبت عنه كما في العلل 3/168 عن أبي بكر بن عياش (كان العلماء يقولون إنه لم تخرج خارجة خير من أصحاب الجماجم والحرة)!
وهم القراء الذين خرجوا على الحجاج وأهل المدينة الذين خرجوا على يزيد! وثبت عنه أنه كان يذم يزيد ويقول (هو الذي فعل في المدينة ما فعل)!
ففهم ابن عقيل وابن الجوزي وابن رزين أن هذا هو مذهب أحمد وإنما منع من الخروج على المأمون حين جاءه فقهاء بغداد في الفتنة لأنه خشي الاصطلام وعودة الفتن في بغداد من جديد خاصة والعهد قريب بفتنة القتال بين الأمين والمأمون وما جرى بينهما في بغداد من سفك للدماء وحروب وحصار فكان رفضه للخروج في هذه الحادثة بعينها لا لأنه يمنع منه مطلقا!
والمقصود بأن دعوى تحريم الخروج مطلقا على الإمام الجائر ودعوى أن مذهب الخروج هو مذهب المعتزلة والخوارج وأنه مخالف لمنهج أئمة أهل السنة وسلف الأمة كل ذلك دعاوى عريضة باطلة وظنون عارية عن الصحة عاطلة فهذه أقوال أئمة النقل وهذه كتب الفقهاء تنص على مذاهب أئمة أهل السنة والجماعة في هذه القضية فهو مذهب أبي حنيفة ومالك وداود الظاهري وهو قول للشافعي ورواية عن أحمد!
فليس أمام حمد عثمان وشيخه الذي قرظ كتابه سوى أمرين إما إثبات بطلان هذه النقول عن هؤلاء الأئمة أو نفي أن يكونوا من أئمة أهل السنة أو الرجوع إلى قولنا والاعتراف بأن القضية على الأقل خلافية اجتهادية بين أئمة أهل السنة والجماعة أنفسهم!
والتحقيق هو ما قاله الشيخ المحدث الأثري عبد الرحمن المعلمي في التنكيل ص 288 (كان أبو حنيفة يستحب أو يوجب الخروج وكان أبو إسحاق الفزاري ينكر ذلك وكان أهل العلم مختلفين في ذلك والنصوص التي يحتج بها المانعون من الخروج والمجيزون له معروفة والمحققون يجمعون بين ذلك بأنه إذا غلب على الظن أن ما ينشأ عن الخروج من المفاسد أخف مما يغلب على الظن أنه يندفع به جاز الخروج وإلا فلا وهذا مما يختلف فيه نظر المجتهدان).
ثانيا : أما دعوى الشيخ المذكور بأنه لا يجوز الخروج حتى لو كفر الحاكم إذا عجزت الأمة عن تغييره فهذه دعوى لم يسبق إليها هذا الشيخ وإنما اضطر إليها تحت ضغط الواقع السياسي إذ يدرك أن أمر هذه الحكومات تجاوز حدود الظلم والجور إلى كفر بواح صراح معلوم من دين الإسلام بالضرورة القطعية ابتداء من تعطيل الشريعة كلية والتحاكم إلى الياسق الصليبي (القوانين الوضعية) واستباحة كل الموبقات من الربا والزنا والخمر وانتهاء بالدخول تحت حماية العدو الكافر والقتال معه ضد المسلمين ودعمه بالأموال وقد أفتى عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ من علماء الدعوة النجدية كما في الدرر السنية 8/11 عن مثل هذه الأحوال وقد سئل عن دخول أهل الخليج في القرن الماضي تحت حماية بريطانيا فقال: (وانتقل الحال حتى دخلوا في طاعتهم واطمأنوا إليهم وطلبوا صلاح دنياهم بذهاب دينهم وهذا لا شك من أعظم أنواع الردة)!
وقال أيضا هو والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف وسليمان بن سحمان كما في الدرر السنية 10/435 في بيان حكم الدخول تحت الحماية الأجنبية:
(أما الدخول تحت حماية الكفار فهي ردة عن الإسلام)!
وقال الشيخ المحدث السلفي القاضي أحمد شاكر في رسالته (كلمة حق ص 126) عن حكم التعاون مع بريطانيا وفرنسا في حربها على المسلمين (أما التعاون بأي نوع من أنواع التعاون قل أو كثر فهو الردة الجامحة والكفر الصراح لا يقبل فيه اعتذار ولا ينفع معه تأول سواء كان من أفراد أو جماعات أو حكومات أو زعماء كلهم في الكفر والردة سواء إلا من جهل وأخطأ ثم استدرك فتاب)!
وقال أيضا في شأن القوانين الوضعية في عمدة التفاسير 2/174 (إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس فهي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداراة ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام كائنا من كان في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها)!
وقال في حاشيته على تفسير ابن جرير 2/348 (القضاء في الأعراض والأموال والدماء بقانون مخالف لشريعة الإسلام وإصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه)!
وهذا ما ذكره الشيخ محمد بن إبراهيم في رسالته في حكم القوانين الوضعية وهو ما ذكره الشيخ الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان فقد قال في بيان أن التحاكم لغير شرع الله من الإشراك به 7/48 (فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته فقال في حكمه {ولا يشرك في حكمه أحد} وقال في عبادته {ولا يشرك بعبادة ربه أحد}..).
وقال في سورة الكهف 3/259 عند قوله {ولا يشرك في حكمه أحدا} (ويفهم من هذه الآيات أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله وهذا الإشراك في الطاعة واتباع التشريع المخالف لما شرعه هو المراد بعبادة الشيطان..)!
ثم قال بعد أن استدل بقوله تعالى {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به} (وبهذه النصوص السماوية يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم)!
يتبع ,,,