من أعذب القصص التي احب قراءتها..
هذه القصة الغريبة في وقعها وجمال سردها..
............
( كن رفيق القلب ولا تكن رقيقا )
"يعتري المرء في كل مرة يقضيها أمور لم يحسب لها حسابا , وليس له يد فيها .."
يقولون إن زيد بن مرة الكناني كان لا يفيق من الخمرة , وكان كلما شرب جعل يتناول عوده ويغني أغنية عهدها له الناس , فكلما سمعوه بها علموا انه رجل ثمل ...
سقيتُ الوردَ من ريقي رحيقاً **** فباتَ دواؤُها يُشفي فريقا
إذا نطقتْ بعطرٍ صارَ يحكي **** وكلّ تنفسٍ أضحىَ شهيقا
تعطرتُ السماءَ بفضلِ ريقي **** فكانَ العطرُ للدنيا شروقا
ومرّ شاعر بجانب بيته وقد سمعه يتغنى بتلك الأبيات , فعقد العزم على سؤاله عنها , فمكث حتى أشرقت الشمس , فلما خرج زيد بن مرة , سلم عليه وقال : يسرني أن أكون رفيقا لك في دربك فإن رأيت أن أكون صاحبا فافعل , فقال له زيد على الرحب والسعة , فلما مضى نصف الطريق سأله فقال له : لقد سمعت أبياتا تغنيت بها البارحة فكم يسرني أن أعرف قصتها ... فقال له : لقد آليت على نفسي أن أجعل قصتها كنزا لي دون غيري , ولكنك إذ كنت رفيق درب فلستُ أجد قرى خيرا من إيرادها لك فاسمع رعاك الله :
كنت في سالف عمري أعتمل تجارة الخيل , وكنت أشتري خير الجياد , وأجيد انتقاءها , وحسن وصفها , وأعرف أصالته من صوت صهيلها , وصفاء صهوتها , ونعومة ملمسها , حتى لقد كنت مضرب المثل في ذلك , وكل من أراد شراء خيل أتى إلي يشتري أو يستشيرني وكنت لا أرد مبتاعا ولا مستشيرا ..
ولقد كانت تجارتي تلك رابحة ولي في كل يوم حادثة , وبيعة أو شرية ... فكثر مالي وارتفع متاعي , وعظم بنياني .. فجعلت أكرم الأضياف , وأحتفي بالشعراء والأدباء .. ولم يكن لي من وطرإلا أن أكون خليفة أو أميرا ..
وفي مرة جاءت إلي فتاة على برذون أحمر , فوقفت بباب دكاني , وكنت عرضت عشرة خيول أمام محلي ... فلما ربطت برذونها ذلك جعل يهيج ويهتز , ويصرخ حتى لقد كاد ان يقطع رسنه , وعلمت ان في الأمر سرا .. فقلت لها حلي وثاقه ,فما حلت وثاقه إلا وانطلق حتى وقف بجانب فرس من خيولي وجعل يتمسح بها , وينخر بجوارها , ويجمع أنفها في معطف كتفها , فعلمت أنها راقت له , وأنه برذون لا يساوي حفنة دراهم وفرسي تلك تعد من أخيار الجياد , فأمرت خدامي بأن يأخذوه ويعيدوه إلى رباطه فما استطاعوا له قهرا , فدفعهم جميعا ثم نزا على فرسي وجعل يرهزها , حتى سقط , فعلمت أنها أصابت منه نطفة , فحز في نفسي أن تكون حملت منه ... فسببت تلك المرأة وبرذونها ثم أمرتها أن تذهب به ولا تعد إلي , ثم إني أرسلت إلى طبيب فأخبرته فأسقى فرسي مرا وحنظلا , فجعلت لا تسيغه , ثم إن قواها تهاوت حتى كادت ان تموت فأمرته بالكف , وسلمت امري إلى الله فلما استتمت وحان وقت الوضع , أخبرت غلماني إذا بزغ رأسه فانحروه قبل أن تراه أمه لكي يخرج ميتا فتعلم أنه خرج ميتا ...
لما بدأ تفتق حراها , وجعلت تئن من الألم , وتجهز غلماني بخناجرهم , كنت أنظر عن كثب , فلما بدأ ظهوره فإذا رأسه ضخم أوشكت أمه على الهلاك لخروج رأسه فقط , فتقافز غلماني لكي يقتلوه فقلت لهم كفوا عن ذلك , فشمرت عن ساعدي , ثم بدأت أشده بيدي حتى خرج رأسه كاملا , وقد كان والله حصانا لم أر مثله قط , فلما استتم باقي جسمه سقط واقفا , وكأني أنظر إلى فرس امرئ القيس وهو يصفه , فلم يكن لونه لون الخيول , وكان جسمه عظيما مهيبا .. لما فرغت أمه من وضعه سقطت مغشيا عليها , فأمرت الطبيب فجعل يبخر في انفها ويرشها بالماء حتى أفاقت ... وأما ولدها فكان قائما رافعا رأسه ينظر إلى سقف الغرفة فأخذته ومسحت ما عليه من سلا وأردان , ثم جعل يتحسس ضرع أمه فما ألتقطه إلا وجعل يرضعها رضاعة الخبير المجرب ...
تماثلت أمه للشفاء وعادت فتية قويه , وكان ولدها يكبر سريعا حتى سرجته قبل ان يسرج مثله , وامتطيت صهوته قبل أمثاله , فوجدته كالريح إن عدا , وكالسفينة في عرض البحر إن مشى ... فلما اشتد عوده وكبر , جعلته هو دابتي ومركوبي , فكنت أعرف به , فقد كان في الخيول كحصانين طولا وعرضا ...
لم أغتبط بشيء قط غبطتي به ..
وفي أحد أيام جمادى خرجت إلى ضاحية قريبة , فما أنا إلا بامرأة تتعلق بسبالي , وتمسك بغمد سيفي , ثم جعلت ترفع صوتها بالدعاء علي وعلى فرسي , ولم أكن قط ظلمت أحدا أو سلبت مال أحد , فعجبت منها , فقلت لها لعلك يا أخت الكرام وهمت , فقالت ألست زيد بن مرة صاحب الجياد قلت بلى , قالت قاتلك فقد قتلت برذوني وكان هو ما أملك , فلم أطق صبرا , فأمرتها أن تسير معي إلى دكاني كي تقص علي قصتها .....
لما بلغنا دكاني قالت : أتيتك في حاجة وكان معي برذون فنزا على فرسك ثم ما لبث أن مات بعدها , وإني لأحيا بعده في حال بئيسة ... أطرق زيد بن مرة ومعه عود يخط به الأرض , ثم رفع رأسه إليها فقال : أترين هذا الحصان الشاهق ؟ هو والله ولد برذونك ولو كنت أعلمأ ن نتاجه هذا لأبقيته وعالجته , وما ساءني قط إلا فراقك ومعك برذونك , ولقد جهدت في البحث عنك فلم أجدك ... فأما الآن فدونك أمرك فافعلي ما تشائين , فإن أردت مالا فذلك ما نحب .. قالت أما إني ليس بي حاجة إلى المال , ولكني جئتك وقتها كي أعرضه عليك وأسألك من أي الدواب هو فلقد رأيت فيه عجبا ... قال زيد وما رأيت ؟ قالت : إذا ركبته سبق السوابق والمصلين , وإذا حملت عليه فإنه يهزأ بالناقة والبعير , وهو لي أطوع من بناني , وأخضع لي من سبابتي... وسطا اللصوص علي في ليلة شاتية فاقتادوه معهم , فلم أبرح الغد إلا وهو واقف أمام بيتي , وكنت آمره بالقول فيمتثل , وهذا سوطي لم يقع قط على شيئ من جلده ... أما إن فقدي له مصيبة ورزية . فماذا أنت صانع كي تعوضني ما فعلت ؟
قال لها: على أني لم أكن سببا , ولقد كنت حينها أحسب أني مظلوم , وأنا اليوم صرت ظالما فمريني بالذي تريدين , قالت : اما المال فلا حاجة لي به , ولكني أريد حصانك هذا ... قال : تلك عشرة ربطة في رصيف محلي خذي منها ما تشائين , ودعي هذا لي , قالت: والله لا أجد منه إلا برذوني يمشي على الأرض إلا أن منخريه , وطول رقبته من خصائص الخيل , قال لها زيد : لقد والله تعلقت به , ولولا أن نفسي تشتاقه وتهواه لأعطيتك إياه , فأبت المراة وقالت إما هو وإلا فلا , قال لها زيد , أتعلمين من أبوه ؟ إن أباه هو برذونك فقد حملت منه فرسي , ولو كنت أعلم لأطلقته في كل خيلي كي ينجبن منه هذا النتاج العجب ... وإن كان ما تريدن مالا بد منه فخذيه واعلمي ان لي نفسا ترق كالنسيم ... قامت المرأة فاقتادته ومضت به ...
ثم بقيت بعده لا آلو على شيء , ولكن مرآه لا يغادر مخيلتي فجعلت أتسلى عنه ولكن لا جدوى فساءت حالي , وتشبعت خيلي بمرض عجز عنه طبيبي فصارت تهلك الواحدة تلو الأخرى فقل متاعي وتردت صحتي , ثم إني عمدت إلى أصحاب فقالوا ألك فيما يزيل عنك كدرك وهمك قلت إي والله , فقالوا لنا غانية نجتمع بها تسقينا وتغنينا , فإن كنت ترغب في ذلك فاتبعنا الليلة , فتبعتهم فلما دخلنا عليها وجدناها قد أخذت من كل حسن بطرف , فما استقر بنا المقام إلا ومدامة صفراء تشعشع بالثلج تدار , فلما تناولت قدحا وشربت نسيت همي وحزني , وبقيت أتقلب في أفياء السرور والسعادة , ثم قامت تغني بصوت يجهز على الحي , ويحي الموات بتلك الأبيات التي سمعت ... فتتيمتها ولكنها كانت تعلم أني قليل مال ومتاع , فتمنعت علي , فأصبحت لا أتخلف عن مجلسها في كل ليلة كي أنظر إليها فقد بلغت مني مبلغا .. وفي ليلة شاتية , كانت المصابيح مضاءة , وكان أحدها في كوته فتزحزح قليلا فسقط ثم ما لبث أن شب حريق نجوت بنفسي , وخرجت ... ورأيتهم كلهم خارجا إلا صاحبتنا تلك ... فعلمت انها في الدار فدخت والنار تصرخ في الأسقف والجدران , فوجدتها ملقاة كأنها فحمة لم يبق منها إلا شيء من لسانها , وكانت تحركه بتلك الأبيات فلما رأتني بسمت لي وقالت :
إنَ القلوبَ رقيقةً تغتالُها **** كلّ الهمومَ تذيبها فتُحرقوا
فإذا أردتَ بأنْ تعيشَ مُنعماً **** فاجعلْ فؤادكَ قاسياً يترفقوا
ثم مال رأسها وعلمت أنها فارقت الحياة .. فرجعت وآليت ألا أصحب أحدا , ثم إني تعتريني في كل ليلة غفلة فلا أفيق إلا وقالوا ها أنت تشرب وتغني ...
قال له ذلك الشاعر : يازيد كن رفيق القلب ولا تكن رقيقا ...
انتهى..