الزميل بو سليمان
تحية لك
في الواقع مداخلتك هذه مهمة. وجه أهميتها أنها تتفق مع طرحي العام في المقالة وعلى الردود التي وضعتها على البعض هنا. بل في الحقيقة لقد أنبهتني إلى حجة جديدة تساند محور الطرح العام والذي أبديته أنا.
لننظر معاً:
وكمال الدين وتمام النعمة أمر لا شك فيه ، لكن يعرض للمسلمين في كل عصر أمور مستجدة لا بد أن يعمل أهل ذلك العصر لإيجاد الأحكام الشرعية المتعلقة بها . وفي هذا المقام يسعفنا حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ، إذ أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن يقضي بينهم ويكون نائبا عن رسول الله فيهم . فسأله قبل أن يمضي : بماذا تحكم إذا عرض عليك أمر ؟ قال بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال فإن لم تجد سنة رسول الله ؟ قال : أجتهد رأيي ولا أقصّر . أو كما قال .
ماذا قلت أنا بخلاف ذلك؟؟!!!
لقد قلت أن التشريع الذي إكتمل بنزول الآية من سورة المائدة والتي إمتنَّ الرب تعالى على الناس بكمال الدين وتمام النعمة قد غاب عنه التشريع الذي ينظم الحياة السياسية بمعناها المعاصر. غاب عنه الإستخلاف وآلياته ومؤسساته وتنظيماته وإلى آخر ما جاء في الردود والتعقيبات.
فإذا غابت هذه النصوص ماذا بقي علينا أن نعمل وعلى حسب منطوق هذا الحديث؟
أن نجتهد رأينا ولا نألوا.
اليس كذلك؟؟!!
الآن، الصحابة بعد وفاة النبي قد إجتهدوا رأيهم كلٌ على حسب طاقته في تلك المسائل الدنيوية والتي غاب عنها النص.
فبأي حق نُلصق إجتهادهم هذا بالشريعة الإسلامية ونُلزم الناس بعد 1400 سنة بتلك الآراء على أنها رأي إسلامي تشريعي أصيل؟؟!!
تلك هي العلمانية، مارسها الصحابة بحذافيرها، ولم يحتجّ أحدهم على الآخر بالدين والقرآن والحديث في تلك الأمور، بل مارسوها على حسب المصلحة. بل الحقيقة لقد ذهبوا أبعد من ذلك:
بات واضحاً، ومن خلال النقل أعلاه، أن "النص" لم يكن مؤثراً في عملية ممارسة السياسة. والدليل، لقد باع الناسُ في زمن النبي (ص) أمهات الأولاد وبموافقة النبي (ص)، وموافقته (ص) دليل على تشريع، ولكن عمر رأى في زمنه هو أن المصلحة بخلاف ذلك، فتم المنع.
ماذا نسمي هذا الآن؟؟
ولو فعل هذا الفعل نفسه الآن أي أحد، ولم يكن عمر قد فعله قبل ذلك، هل لكم أن تتصورا ماذا سوف يحدث لهذا الشخص؟؟
وأيضاً، كان على عهد النبي (ص) من طلق ثلاثاً بفم واحد كانت تُعتبر طلقة واحدة، وإقرار النبي (ص) يُعتبر تشريع، ولكن عمر رأى أن السياسة في زمنه لا يستقيم معها هذا الفعل، فجعلها طلقات ثلاث زجراً للمتهاونين بالطلاق.
ماذا نُسمي هذا الآن؟؟
ولو فعل هذا الفعل نفسه الآن أي أحد، ولم يكن عمر قد فعله قبل ذلك، هل لكم أن تتصورا ماذا سوف يحدث لهذا الشخص؟؟
ولكم أن تنظروا للإقتباس أعلاه لمزيد من الأمثلة للخلافاء الراشدين.
لقد مارس الصحابة العلمانية. هكذا قال لنا التاريخ.
وقال لنا النص بكمال الدين وتمام النعمة بأن العلمانية مفهوم إسلامي أصيل.
أما قولك:
* هدف الكاتب المحترم هو التوصل إلى أن الدين لا يمانع في فصله عن السياسة . (يرجى تصحيحي في هذا الاستنتاج) ، لكنه لم يوضح لنا كيف يعيش الإنسان المؤمن في راحة ضمير وهو يخالف بعض أحكام القرآن أو السنة المحكمة إذا رأت العلمانية أن أحكام البشر هي أصلح منها ؟
نعم بالضبط.
الدين لا يمانع فصله عن السياسة وشؤون الدولة، لإنعدام النص المنظم أصلاً من الله جل وعلى والنبي (ص). بل في الحقيقة وكما شرحت أنا مراراً أن الصحابة قد فهموا تماماً هذه الجزئية وتعاملوا مع شؤون الدولة والرعية على أساس علماني. إنظر فقط إلى مداخلاتي السابقة لتحصل على الدليل.
أما قضية أحكام القرآن، وهي هنا بمعنى الحدود والقضاء والربا. صدقني إذا قلت لك أنا أتفهم وجهة نظرك تلك، وأعرف تماماً شعورك. ولكن مسألة الحدود والقضاء هي خارج إطار هذا الموضوع.
وحتى أكون صريحاً معك لقد طُرح هذا السؤال بشكل مباشر منذ أشهر على دعوة للعشاء في أحد المطاعم من قِبل أحد أصدقائي.
كان فحوى المسألة أن النظام الديموقراطي يتيح التشريع من خلال البرلمان المنتخب، وهذا التشريع قد يكون منافياً لبعض أحكام الشريعة والواردة في القرآن نفسه ولا مجال لتأويلها أو ردها. هل يكون هذا التصرف عاملاً لعدم إستقرار داخل المجتمع من قِبل الجماعات الدينية؟؟
أنتَ ترى أن السؤال منطقي وواقعي وإجابته حتماً لا يكفيها عشاءٌ واحد.
ولكن أيضاً هي الحقيقة أن الحركات الإسلامية، إذا إستثنينا المتطرفة منها والتي ترى الديموقراطية على أنها "طاغوت"، هي جزء من العملية الديموقراطية نفسها وتمارس نفس أساليبها السيئة والجيدة. وهذا في حد ذاته إعتراف ضمني بمدى مشروعية هذا الحراك الديموقراطي. إذن الحل يكمن في تساؤلك أعلاه في الإنخراط في هذا الحراك الديموقراطي في محاولة لتغيير القوانين والحدود لصالح النص القرآني. وعلى مخالفيكم أيضاً أن ينخرطوا في نفس هذا الحراك. والغلبة تكون في النهاية للعملية الديموقراطية. أليس هذا ما حصل في قانون الزكاة؟؟
أما الضمير وراحته، فبإعتقادي بأن مجرد ممارسة هذا الحراك لصالح الفكرة التي تؤمن بها سوف يقودك حتماً لراحة الضمير. هذا واضح على ما أعتقد.
تحياتي
فرناس