ضرب الزوجات بين النص القرآني والعرف الاجتماعي
ضرب الزوجات بين النص القرآني والعرف الاجتماعي
يشيع في بعض المجتمعات ضرب الزوجات ، بينما تمنع منه مجتمعات
أخرى ، والمسألة مرتبطة بدرجة الثقافة والتحضر ، وبالمستوى
العقلي والأخلاقي الذي تصل إليه المجتمعات ، وتلعب هنا العادات
والتقاليد وأساليب التنشئة دورها الحاسم في تقبل أو رفض تلك
الممارسة.
وعلى سبيل المثال سنجد في المرويات الحديثية في تراثنا ما يشير
إلى أن المجتمع المدني لم يكن تضرب فيه النساء من قبل الأزواج ،
على عكس المجتمع المكي الذي كان يشيع فيه تأديب الرجل
لزوجته بالضرب ، ومع انتقال المهاجرين المكيين مع زوجاتهم إلى
المدينة ، واجه الرجال المكيون إشكالية مع زوجاتهم اللاتي بدأن
يكتسبن بعضاً من أخلاقيات نساء المدينة ، تلك الأخلاقيات التي
اعتبرها الرجال المكيون تمرداً عليهم (1) .
فالقضية إذن مرتبطة بالتقاليد والأعراف المجتمعية ، وبأساليب
التنشئة النفسية والأسرية في كل مجتمع.
ولما كانت المجتمعات العربية ـ عموماً ـ ترى أن من حق الرجل تأديب
زوجته بالضرب ، فقد انعكس ذلك على تأويل النص القرآني بما
يتوافق مع العرف الاجتماعي السائد ، وهنا مكمن الإشكالية التي
يعاني منها الخطاب الديني التقليدي تجاه المرأة.
والنص القرآني الذي يتكئ عليه من يمارسون الضرب بحق الزوجات
أو يرون جوازه هو النص الوارد في الآية 34 ـ 35)من سورة النساء ،
وسنحاول أن نقف بإيجازٍ مع مفهوم الضرب في النص القرآني بما
يبين الفارق بينه وبين الضرب في العرف الاجتماعي ... يقول تعالى :
« وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا »(2).
وإذا تأملنا في هذا النص القرآني سنجد الآتي :
أولاً : النص يتحدث عن الخوف من النشوز :« واللاتي تخافون
نشوزهن ...» ، أي عن ظواهر أو بوادر للتمرد من الزوجة على زوجها
(عدم طاعته في المعروف) ، قال الشيخ الشعراوي ـ رحمه الله ـ :
(( يعني أن النشوز أمر متخوف منه ، ومتوقع ولم يحدث بعد )) (3).
فإذا فرضنا أن المراد بالضرب معناه الظاهر الذي يفهمه البعض
فالسؤال هنا : الضرب على ماذا ؟ أعلى النشوز الذي لم يقع بعد؟!
ثانياً : تذكر الآية بعد الضرب الخوف من وقوع الشقاق بين الزوجين : «
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها » ،
ولا حظ أيها القارئ أن الشقاق هو المباعدة بين الزوجين وحصول
التنافر بينهما ، والآية تقول : ?وإن خفتم شقاق بينهما? فالشقاق لم
يقع بعد بين الزوجين، ومتى هذا؟ إنه بعد الوعظ والهجر والضرب.
ولو كان المقصود من الضرب ما يفهمه البعض من الركل واللطم
والرفس ، فهل يعقل أن يقول القرآن بعد ذلك : «وإن خفتم شقاق
بينهما»
وهل هناك شقاق أكبر مما يكون قد حصل ؟!
إننا إذا تأملنا في سياق النص القرآني الذي جاء فيه ذكر ضرب
الزوجات فسوف يتضح لنا أن الضرب في مفهوم القرآن يختلف عن
الضرب في مفهومه العرفي الاجتماعي السائد بين الناس ، فالضرب
في القرآن المراد به أن يتخذ الزوج موقفاً حازماً من زوجته التي ظهرت
منها بوادر النشوز ، وذلك بعد عدم جدوى وسائل اللين والرفق ممثلة
في الوعظ الحسن والهجر في فراش الزوجية شيئاً.
ومما يعزز هذا الفهم السنة النبوية ، وهي الشارحة والمفسرة
للقرآن ، وقد جاءت بالنهي عن ضرب الزوجات ، يقول أحد الباحثين بعد
أن استقصى ما ورد في السنة حول هذه المسألة : ((وقد تواطأت
السنة الفعلية والقولية على عدم ضرب النساء البتة ))
ونقف هنا مع إمام كبير، وفقيه جليل من فقهاء التابعين وهو عطاء
بن أبي رباح ( ت 115هـ) الذي يقول عنه ابن عباس : يا أهل مكة
تجتمعمون علي وعندكم عطاء ؟! ويقول عنه أبو حنيفة : ما رأيت
أفضل منه.
فما رأي هذا الإمام في مسألة ضرب الزوجات ؟!
يقول عطاء ـ رحمه الله ـ : (( لا يضربها وإن أمرها ونهاها فلم تطعه
، ولكن يغضب عليها )) (5).وقول عطاء : (( لا يضربها )) ما المراد به ؟
هل يقصد به النهي عن الضرب الوارد في القرآن ؟! قطعاً : لا ؛ لأن
إماماً في فقه وتقوى عطاء لن يعارض القرآن هذه المعارضة الواضحة
والمكشوفة وإنما الضرب الذي عناه عطاء هو الضرب العرفي
بمفهومه السائد عند الناس.
ولكن ماذا يصنع الزوج في حال نشوز الزوجة ( إذا أمرها ونهاها في
المعروف فلم تطعه )؟ هنا يقول عطاء (يغضب عليها )) . وهو بذلك
يفسر معنى الضرب في المفهوم القرآني ، والذي قلنا أنه لا يعني
أكثر من اتخاذ موقف حازم من الزوج تجاه زوجته ، أو بتعبير الإمام
عطاء : (( يغضب عليها )).
لكن يبقى هنا سؤال : وهو لماذا استخدم القرآن لفظ (( الضرب)) ))
في تعبيره عن الحزم مع الزوجة الناشز ؟!
هنا لابد من تفهم الأسلوب القرآني ، فالقرآن يستخدم الألفاظ القوية
في معناها لإعطاء إيحاء قوة المعنى الموجود في اللفظ ، دون أن
يقصد بالضرورة المعنى الحرفي له ، وقد استخدم القرآن كلمات أقوى
من كلمة ( الضرب ) مثل كلمة (القتل) كما في قوله تعالى : ? قتل
الإنسان ما أكفره ? (6). والمقصود بالقتل هنا : اللعن ، وليس القتل
بمعناه الحرفي الذي هو إزهاق النفس ، والقرآن عدل هنا عن لفظ
( اللعن ) إلى لفظ ( القتل ) توظيفاً منه للمعنى القوي الموجود في
لفظ (القتل) ليدلل بذلك على الأثر الخطير للعنة الإلهية حينما تنزل بالإنسان.
وكذلك لفظ (العذاب) في قوله تعالى : (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ )(7).
فهل كان سليمان ـ عليه السلام ـ يعذب الجن بأنواع من العذاب
الجسدي أو النفسي كما هو المتبادر من لفظ ( العذاب ) ؟! والجواب
قطعاً : لا ، وإنما المقصود بالعذاب هنا تعب الخدمة كما بينه علماء
التفسير. والقرآن عدل عن لفظ ( التعب ) إلى لفظ ( العذاب ) ليبين أن
الجن كانوا في تعب شديد.. وكذلك لفظ ( الضرب ) في سياق الآيات
34 ـ 35 من سورة النساء ، لا يراد به المعنى الحرفي الظاهر ، ولكن
لما كان أعلى درجات الحزم في التأديب هو الضرب ، استخدم القرآن
هذا اللفظ للدلالة على قوة الموقف الحازم الذي ينبغي أن يتخذه
الزوج مع زوجته الناشز ، بعد أن لم تجد وسائل الرفق واللين شيئاً.
شروط للضرب أم خروج باللفظ عن ظاهره ؟!
حينما تحدث أكثر الفقهاء والمفسرين عن ضرب الزوجات حاموا حول
هذا المعنى الذي ذكرناه ، وإن لم يصرحوا به تماماً ، ربما تهيباً من
المساس بظاهر اللفظ القرآني ، وهو تهيب في غير محله.
وقد وضعوا شروطاًَ للضرب الوارد في النص القرآني ، بحيث أخرجته
تلك الشروط عن الضرب بمفهومه العرفي السائد إلى نوع من الحزم
في الموقف لا أكثر . فماذا قال الفقهاء عن شروط الضرب ؟
قالوا إنه يشترط في ضرب الزوج لزوجته : أن لا يكون بأداة ضرب
حقيقية كالعصا والسوط ، وإنما كما قال ابن عباس : يضربها بالسواك
ونحوه
وأن يجتنب الوجه ، وأن لا يترك في الجسد أثراً كالاحمرار أو الاسوداد
أو الاخضرار . وكما نقل ابن كثير في تفسيره عن الفقهاء : (( ضرباً لا
يؤثر فيها شيئاً )) !
ونحن وإن كنا نعتقد أن الضرب بمعناه العرفي السائد ، ليس مقصوداً
باللفظ القرآني : (واضربوهن ) ، وبالتالي فلسنا مع وضع شروط له
، لكن لا يخفى أن تطبيق هذه الشروط إنما يعني إخراج الضرب من
نطاق العرف الاجتماعي ، إلى مفهوم النص القرآني ، أو على الأقل
هي تقربه كثيراً من المفهوم القرآني ؛ لأن الضرب بهذه الشروط التي
يضعها الفقهاء هو أقرب ما يكون إلى التعبير عن الغضب وعدم الرضا
، وفيه يرسل الزوج إشارات إلى الزوجة لإفهامها أنه سيكون حازماً
معها ، والزوجة العاقلة تستقبل تلك الإشارات ، وتشعر بالجدية في
موقف الزوج ، وبالتالي تتراجع عن عنادها ونشوزها ، حرصاً على بقاء
المودة بينهما . وأما إذا أصرت الزوجة على التمادي ، ولم تأبه إلى
التحول الجديد في موقف زوجها ، فهنا يكون الخوف من وقوع
الشقاق بينهما ، وبالتالي تعطى الفرصة للأهل للتدخل للإصلاح بين
الزوجين: «وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من
أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما».