منهاج السنة النبوية
عضو فعال
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعل في هذه الأمة من الصديقين والشهداء والصالحين ما نفتخر به على سائر الأنام.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
((يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) [النساء:1].
((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:102].
عباد الله: إن أول خلفاء الإسلام هو الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو أحد عظماء الإسلام، وهو صديق هذه الأمة.
لقبه بالصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ففي حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان، فارتَجَّ بهم، فقال: اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، وقد أجمعت الأمة على تسميته بالصديق؛ لأنه بادر إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال أبو مِـحْجَن الثقفي:
ولقب بالصاحب، لقبه به الله عز وجل في القرآن الكريم: ((إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا))[التوبة:40].
ولقبه الله بالأتقى فقال تعالى: ((وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)) [الليل:17-18]، والأتقى هو أبو بكر رضي الله عنه كما ذكر المفسرون، ولُقِّب بالأواه، فعن إبراهيم النخعي قال: كان أبو بكر يسمى بالأواه لرأفته ورحمته، وكان له من الأولاد سته، ثلاث إناث وثلاثة ذكور.
كان أبو بكر في الجاهلية من وُجَهَاءِ قريش وأشرافهم، وأحد رؤسائهم، واشتهر عنه العلم بالأنساب والتجارة، وكانَ موضِع الأُلفَةِ بين قومه، ومَيل القلوب إليه، ولم يشرب خمراً في الجاهلية قط.
أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وحمل الدعوة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتعلم منه أن الإسلام دين العمل والدعوة والجهاد، وأن المؤمن لا يكون مؤمناً حتى يهبَ نفسه وما يملك لله رب العالمين.
وكان من ثمار دعوته رضي الله عنه دخولُ صفوة من خيرة الخلق في الإسلام بسببه، وهم: الزبير بن العوام، وعثمانُ بن عفَّان، وطلحةُ بن عبيد الله، وسعدُ بن أبي وقاص، وعثمانُ بن مظْعون، وأبو عبيدةَ بن الجرَّاح، وعبد الرحمن بن عَوف، وأبو سلمةَ الأسدي، والأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنهم.
ومع اهتمامه رضي الله عنه بدعوة الناس فقد اهتم بأهل بيته أيضاً، وقد كانت دعوته بالأخلاق والصفات الحميدة التي لابد منها فيمن يريد أن يدعو إلى الله.
عباد الله! إن شخصية الصديق رضي الله عنه تعتبر شخصية قيادية، وقد اتصف رضي الله عنه بصفات القائد الرباني، وكان له رصيد من الفضائل.
منها: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مال أبي بكر)، وسئل صلى الله عليه وآله وسلم: (أي الرجال أحب إليك؟ فقال: أبو بكر).
إن أبا بكر رضي الله عنه هو المساهم الفعلي والمشارك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جميع الوقائع والأحداث التي تعرض لها منذ البداية إلى النهاية، كيف لا وهو صاحبه وقرينه، ففي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله عز وجل صاحبكم خليلاً)، وهو في صحيح البخاري أيضاً من حديث ابن الزبير وابن عباس.
قال الزمخشريُّ في الخصائص: «إن أبا بكر كان مضافاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأبد؛ فإنه صحبه صغيراً، وأنفق ماله من أجل الإسلام كبيراً، وحمله إلى المدينة على راحلته وزاده، ولم يزل ينفق عليه ماله في حياته، وزوجه ابنته عائشة رضي الله عنها، وكانت البكر من نسائه، ولم يزل ملازماً له سفراً وحضراً، فلما توفي رضي الله عنه دفن بجواره»، قال الشاعر:
عباد الله! إن لأبي بكر الصديق مواقفَ تاريخية لا تنسى، فعلى سبيل المثال لا الحصر:
هجرته رضي الله عنه إلى الله، فقد هاجر مع رفيقه ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة، وقصة الغار معروفة، ومواقف أبي بكر مشهودة، كل ذلك في سبيل المحافظة على حياة رفيقه وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، قال أبو بكر كما في الصحيحين: قلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن في الغار: (لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأَبصَرنا، فيجيبه النبي بثقة واطمئنان: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)، فنزل في حق أبي بكر قوله تعالى: ((ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا))[التوبة:40]، وقد ذكر المفسرون أن المراد بالصاحب هنا هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
فهو أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن مواقفه رضي الله عنه: إنفاق ماله في سبيل الله، وقد كان رأس مال أبي بكر عند إسلامه يبلغ أربعين ألف درهم، وهذا مال كبير بالنسبة لغيره من الأغنياء، فأنفقه كله في إرساء دعائم هذا الدين، ومن ذلك شراء كثير من العبيد والموالي الذين أسلموا وكانوا مستضعفين معذبين وإعتاقهم في سبيل الله، ومنهم بلال بن رباح الحبشي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد شهد رسول الله بهذا الإنفاق، ففي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أمنَّ الناس عليَّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذتُ أبا بكر خليلاً، ولكن أخوةُ الإسلام).
أيها الناس! إن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن مجردَ صاحب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تكن علاقته به كعلاقته ببقية أصحابه، بل لقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينتصر لأبي بكر، ونهى الناس عن معارضته، حتى إنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لمن خالف أبا بكر رضي الله عنه يوماً: (إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدقتَ، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فما أوذي بعدها)، كما في صحيح البخاري، وفي هذا دلالة على مكانة الصديق الرفيعة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم عند أصحابه.
أيها المسلمون! إننا نتحدث في هذه الخطبة عن سيرة أبي بكر سيرة مجملة، وإن كان كل حدث من سيرته يحتاج إلى وقفات للتأمل، وأخذ العبرة والموعظة منه، ففي عبادته وزهده وورعه وتقواه وإيمانه الشيء الكثير الذي لا يتسع مقام مثل هذا لذكرها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي جعل الإمام العادل قوامَ كلِّ مائل، وقَصدَ كل جائر، وصلاحَ كلِّ فاسد، وقوةَ كل ضعيف، ونِصفةَ كلِّ مظلوم، ومَفْزعَ كلِّ ملْهوف، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين.
عباد الله! لعلَّ الحسنَ البصريَّ رحمه الله قال الكلمات السابقة لما سمع من أخبار الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ونحن نقول: لقد كانت هذه الصفات منطبقة على الخلفاء الأربعة، فهم النبراسُ لمن أراد الخلافة الصحيحة، وكان على رأس هؤلاء خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكرنا في الخطبة الأولى بعض مواقفه في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيا ترى ما هي مواقف هذا الصديق بعد وفاة صاحبه؟
والجواب ليس باليسير؛ فإن لأبي بكر الصديق مواقفَ جليلة ومشرِّفة، تدل على رسوخ يقينه وقوة إيمانه.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهِش فَخُولط، ومنهم من قعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعُتقِل لسانُهُ فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية، كيف وهي قاصمة الظهر، ومصيبة العمر! فأما علي فاستخفى في بيت فاطمة، وأما عثمان فسكت، وأما عمر فانذهل من شدة الفزع حتى قال: (ما مات رسول الله، وإنما واعده ربه كما واعد موسى).
فسمع أبو بكر الصديق الخبر فأقبل ودخل المسجد، فلم يكلم الناس، فدخل بيت عائشة فوجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مغشّى بثوب حبرة، وكشف عن وجهه ثم أكب عليه فبكى وقبله ثم قال: بأبي أنت وأمي، ثم خرج أبو بكر إلى الناس وقال كلمته الشهيرة، التي تدل على الإيمان الذي لا يتصدع، ووقف وقفته الإيمانية الراسخة، قام رضي الله عنه وأرضاه خطيباً بعد أن حمد الله وأثنى عليه، فقال:
(أما بعد: فإنه من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) [آل عمران]، فنشج الناس يبكون) رواه البخاري.
وبهذه الكلمات القلائل، واستشهاد الصديق بالقرآن الكريم، خرج الناس من ذهولهم وحيرتهم، ورجعوا إلى فهمهم الصحيح رجوعاً جميلاً.. هذا هو أول مواقفه رضي الله عنه التي تدل على قوة قلبه ورسوخ يقينه.
وتأتي هذه المواقف لتوضح متابعته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد موته، فها هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجهز جيشاً، ثم يتوفاه الله عز وجل والجيش على بعد ثلاثة أميال من المدينة تقريباً، فاقترح بعض الصحابة أن يبقى الجيش في المدينة، واستأذن أسامة بأن يرجع بالجيش إلى المدينة خوفاً على أصل الإسلام من غدر المرتدين، ولكن انظر واسمع إلى جواب أبي بكر رضي الله عنه لموقف الصحابة من هذا الجيش، بعد أن أعطى فرصة لكل من يريد أن يأتي برأيه، وبعد أن استوضح منهم ما يريدون، أمر أن يفض الاجتماع، ثم دعاهم إلى اجتماع عام في المسجد، ثم وقف خطيباً في الصحابة قائلاً: (والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تخطَّفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
أخي المسلم! انظر إلى هذا الحب والإيمان والصدق الذي لدى الصديق حتى في أحلك الظروف.
رضي الله عنك يا أبا بكر.. إنها المتابعة المطلقة لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالث هذه المواقف علَّ بها يعتبر أقوام من المسلمين في تضييعهم الصلاة والزكاة، وعلّهم يتوبون إلى الله عز وجل، وهو ما صارت إليه أحوال بعض المسلمين بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ارتدت أكثر قبائل العرب، واشرأبَّتْ أعناق أهل النفاق، ولا يشك أحد أن أقوى وأخطر الأزمات في تلك الأيام هي ردة العرب، فلولا عناية الله لهذه الدولة الناشئة، ثم حكمة أبي بكر الصديق، والعزيمة الكبرى التي بلغت قمتها حين أعلن أنه سيقود الجيش بنفسه لمواجهة فلول الردة، وأعداء الإسلام الجدد الذين كانوا يتربصون بالمدينة، وقال قولته المشهورة: (والله لو منعوني عِقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه)، وقال: (والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة)، لولا ذلك لكان من الأمور ما لا يحمد عقباه، ولكن الحمد لله الذي أحبط كيدهم على يد هذا الخليفة رضي الله عنه وأرضاه.
فأرسل الجيوش المنظمة للقضاء عليهم، ولْنُورِد هنا إحدى رسائله التي كتبها إلى أحد عماله، وهو المهاجرُ بن أبي أميَّةَ، والتي تدل على منتهى الحزم والصرامة التي كان عليها أبو بكر رضي الله عنه، وقد جاء فيها: (فإذا جاءك كتابي هذا فسر إليهن بخيلك ورجلك حتى تقطع أيديهن، فإن دفعك عنهن دافع فاعذر إليه باتخاذ الحجة عليه، وأعلمه عظيم ما دخل فيها من الإثم والعدوان، فإن رجع فاقبل منه، وإن أبى فنابذه على سواء، إن الله لا يهدي كيد الخائنين).
تأمل يا عبد الله! صدق عزيمة أبي بكر رضي الله عنه في الذود عن الإسلام، وأنه لن يسامح من يفرط في حقوق هذا الدين سواء كان له أو عليه.
والمواقف كثيرة كما أسلفت، ونكتفي بهذه النماذج، ثم نعود فنقول: إن أبا بكر لم يكن مجرد صاحب، بل كان أعظم صاحب، ولم يكن مجرد خليفة؛ بل كان أعظم الخلفاء، إنه الحارس الأمين لهذا الدين يوم أن ارتد من ارتد، وتخاذل من تخاذل، من أجل ذلك أثنى عليه الصحابة الأبرار وأهل البيت الأطهار.
ومن ذلك ما جاء عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عمر رضي الله عنه صعد المنبر ثم قال: (ألا إن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر)، وقال علي رضي الله عنه: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر)، وهو متواتر عنه، فقد خطب به علي رضي الله عنه على منبر الكوفة.
عباد الله! ونختم هذه الخطبة بمقال للإمام علي رضي الله عنه حين وفاة الصديق رضي الله عنهما، فعن أسيد بن صفوان رضي الله عنه قال: (لما قبض أبو بكر ارتجَّت المدينة بالبكاء كيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء علي رضي الله عنه باكياً مسرعاً مسترجعاً وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة، حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر مسجى، فقال: رحمك الله يا أبا بكر! كنت إلفَ رسول الله وأنسَه وثقتَه، وموضع سره ومشاورته، كنتَ أولَ القوم إسلاماً، وأخلصَهم إيماناً، وأشدَّهم يقيناً، وأخوفَهم لله، وأعظمَهم عناءً في دين الله، وأحسنَهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوالف، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله هدياً وسمتاً ورحمةً وفضلاً وخلقاً، وأشرفهم منزلة، وأكرمهم عليه، وأوثقهم عنده، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله والمسلمين خيراً، كنت عنده بمنزلة السمع والبصر، صدَّقته حين كذَّبه الناس، فسماك الله في التنزيل صديقاً، فقال: ((وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ)) [الزمر:33]، وواسيته حين بخلوا، وقمت عند المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدائد أحسن صحبة، وخَلفته في دين الله وأمته أحسن الخلافة حين ارتد الناس... ثم قال بعدها وهي خطبة طويلة: رضينا بقضاء الله وسلمنا له أمره، فوالله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله بمثلك أبداً، كنت للدين حرزاً، فألحقك الله بنبيه، وجمع بينك وبينه، ولا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك، فإنا لله وإنا إليه راجعون).
توفي رضي الله عنه يوم الإثنين ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء لثمان ليال بقين من جمادى الآخرة، سنة ثلاثَ عشرةَ للهجرة النبوية، وكان عمره ثلاثةً وستين عاماً، مثل عُمْرِ صاحبه صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير كما أمركم الله في كتابه، اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وارض اللهم عن جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم إنا نحب نبيك محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر رضي الله عنه وجميع صحابته العظام، وأهل بيته الكرام، فاللهم اجمعنا معهم في دار كرامتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم نور على أهل القبور من المسلمين قبورهم، واغفر لهم، ويسر للأحياء أمورهم.
عباد الله! اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
منقول : http://alburhan.com/articles.aspx?id=1964&selected_id=-1965&page_size=5&links=False
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعل في هذه الأمة من الصديقين والشهداء والصالحين ما نفتخر به على سائر الأنام.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
((يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) [النساء:1].
((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:102].
عباد الله: إن أول خلفاء الإسلام هو الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو أحد عظماء الإسلام، وهو صديق هذه الأمة.
لقبه بالصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ففي حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان، فارتَجَّ بهم، فقال: اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، وقد أجمعت الأمة على تسميته بالصديق؛ لأنه بادر إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال أبو مِـحْجَن الثقفي:
سَبقتَ إلى الإسْلامِ واللهُ شاهدٌ وكنتَ جليسـاً في العريشِ لأَحمدِ
ولقب بالصاحب، لقبه به الله عز وجل في القرآن الكريم: ((إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا))[التوبة:40].
ولقبه الله بالأتقى فقال تعالى: ((وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)) [الليل:17-18]، والأتقى هو أبو بكر رضي الله عنه كما ذكر المفسرون، ولُقِّب بالأواه، فعن إبراهيم النخعي قال: كان أبو بكر يسمى بالأواه لرأفته ورحمته، وكان له من الأولاد سته، ثلاث إناث وثلاثة ذكور.
سـُـمِّيتَ صِدِّيقاً وكلُّ مُهاجرٍسواكَ تسمَّى بِاسمهِ غيرَ منكِرِ
كان أبو بكر في الجاهلية من وُجَهَاءِ قريش وأشرافهم، وأحد رؤسائهم، واشتهر عنه العلم بالأنساب والتجارة، وكانَ موضِع الأُلفَةِ بين قومه، ومَيل القلوب إليه، ولم يشرب خمراً في الجاهلية قط.
أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وحمل الدعوة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتعلم منه أن الإسلام دين العمل والدعوة والجهاد، وأن المؤمن لا يكون مؤمناً حتى يهبَ نفسه وما يملك لله رب العالمين.
وكان من ثمار دعوته رضي الله عنه دخولُ صفوة من خيرة الخلق في الإسلام بسببه، وهم: الزبير بن العوام، وعثمانُ بن عفَّان، وطلحةُ بن عبيد الله، وسعدُ بن أبي وقاص، وعثمانُ بن مظْعون، وأبو عبيدةَ بن الجرَّاح، وعبد الرحمن بن عَوف، وأبو سلمةَ الأسدي، والأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنهم.
ومع اهتمامه رضي الله عنه بدعوة الناس فقد اهتم بأهل بيته أيضاً، وقد كانت دعوته بالأخلاق والصفات الحميدة التي لابد منها فيمن يريد أن يدعو إلى الله.
عباد الله! إن شخصية الصديق رضي الله عنه تعتبر شخصية قيادية، وقد اتصف رضي الله عنه بصفات القائد الرباني، وكان له رصيد من الفضائل.
منها: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مال أبي بكر)، وسئل صلى الله عليه وآله وسلم: (أي الرجال أحب إليك؟ فقال: أبو بكر).
إن أبا بكر رضي الله عنه هو المساهم الفعلي والمشارك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جميع الوقائع والأحداث التي تعرض لها منذ البداية إلى النهاية، كيف لا وهو صاحبه وقرينه، ففي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله عز وجل صاحبكم خليلاً)، وهو في صحيح البخاري أيضاً من حديث ابن الزبير وابن عباس.
قال الزمخشريُّ في الخصائص: «إن أبا بكر كان مضافاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأبد؛ فإنه صحبه صغيراً، وأنفق ماله من أجل الإسلام كبيراً، وحمله إلى المدينة على راحلته وزاده، ولم يزل ينفق عليه ماله في حياته، وزوجه ابنته عائشة رضي الله عنها، وكانت البكر من نسائه، ولم يزل ملازماً له سفراً وحضراً، فلما توفي رضي الله عنه دفن بجواره»، قال الشاعر:
عَنِ المرءِ لا تَسألْ وسَلْ عنْ قرينِهِفكلُّ قَرينٍ بالمقارنِ يُنسبُ
عباد الله! إن لأبي بكر الصديق مواقفَ تاريخية لا تنسى، فعلى سبيل المثال لا الحصر:
هجرته رضي الله عنه إلى الله، فقد هاجر مع رفيقه ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة، وقصة الغار معروفة، ومواقف أبي بكر مشهودة، كل ذلك في سبيل المحافظة على حياة رفيقه وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، قال أبو بكر كما في الصحيحين: قلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن في الغار: (لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأَبصَرنا، فيجيبه النبي بثقة واطمئنان: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)، فنزل في حق أبي بكر قوله تعالى: ((ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا))[التوبة:40]، وقد ذكر المفسرون أن المراد بالصاحب هنا هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
فهو أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن مواقفه رضي الله عنه: إنفاق ماله في سبيل الله، وقد كان رأس مال أبي بكر عند إسلامه يبلغ أربعين ألف درهم، وهذا مال كبير بالنسبة لغيره من الأغنياء، فأنفقه كله في إرساء دعائم هذا الدين، ومن ذلك شراء كثير من العبيد والموالي الذين أسلموا وكانوا مستضعفين معذبين وإعتاقهم في سبيل الله، ومنهم بلال بن رباح الحبشي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد شهد رسول الله بهذا الإنفاق، ففي الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أمنَّ الناس عليَّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذتُ أبا بكر خليلاً، ولكن أخوةُ الإسلام).
أيها الناس! إن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن مجردَ صاحب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تكن علاقته به كعلاقته ببقية أصحابه، بل لقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينتصر لأبي بكر، ونهى الناس عن معارضته، حتى إنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لمن خالف أبا بكر رضي الله عنه يوماً: (إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدقتَ، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فما أوذي بعدها)، كما في صحيح البخاري، وفي هذا دلالة على مكانة الصديق الرفيعة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم عند أصحابه.
أيها المسلمون! إننا نتحدث في هذه الخطبة عن سيرة أبي بكر سيرة مجملة، وإن كان كل حدث من سيرته يحتاج إلى وقفات للتأمل، وأخذ العبرة والموعظة منه، ففي عبادته وزهده وورعه وتقواه وإيمانه الشيء الكثير الذي لا يتسع مقام مثل هذا لذكرها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي جعل الإمام العادل قوامَ كلِّ مائل، وقَصدَ كل جائر، وصلاحَ كلِّ فاسد، وقوةَ كل ضعيف، ونِصفةَ كلِّ مظلوم، ومَفْزعَ كلِّ ملْهوف، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين.
عباد الله! لعلَّ الحسنَ البصريَّ رحمه الله قال الكلمات السابقة لما سمع من أخبار الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ونحن نقول: لقد كانت هذه الصفات منطبقة على الخلفاء الأربعة، فهم النبراسُ لمن أراد الخلافة الصحيحة، وكان على رأس هؤلاء خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكرنا في الخطبة الأولى بعض مواقفه في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيا ترى ما هي مواقف هذا الصديق بعد وفاة صاحبه؟
والجواب ليس باليسير؛ فإن لأبي بكر الصديق مواقفَ جليلة ومشرِّفة، تدل على رسوخ يقينه وقوة إيمانه.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهِش فَخُولط، ومنهم من قعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعُتقِل لسانُهُ فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية، كيف وهي قاصمة الظهر، ومصيبة العمر! فأما علي فاستخفى في بيت فاطمة، وأما عثمان فسكت، وأما عمر فانذهل من شدة الفزع حتى قال: (ما مات رسول الله، وإنما واعده ربه كما واعد موسى).
فسمع أبو بكر الصديق الخبر فأقبل ودخل المسجد، فلم يكلم الناس، فدخل بيت عائشة فوجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مغشّى بثوب حبرة، وكشف عن وجهه ثم أكب عليه فبكى وقبله ثم قال: بأبي أنت وأمي، ثم خرج أبو بكر إلى الناس وقال كلمته الشهيرة، التي تدل على الإيمان الذي لا يتصدع، ووقف وقفته الإيمانية الراسخة، قام رضي الله عنه وأرضاه خطيباً بعد أن حمد الله وأثنى عليه، فقال:
(أما بعد: فإنه من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) [آل عمران]، فنشج الناس يبكون) رواه البخاري.
وبهذه الكلمات القلائل، واستشهاد الصديق بالقرآن الكريم، خرج الناس من ذهولهم وحيرتهم، ورجعوا إلى فهمهم الصحيح رجوعاً جميلاً.. هذا هو أول مواقفه رضي الله عنه التي تدل على قوة قلبه ورسوخ يقينه.
وتأتي هذه المواقف لتوضح متابعته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد موته، فها هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجهز جيشاً، ثم يتوفاه الله عز وجل والجيش على بعد ثلاثة أميال من المدينة تقريباً، فاقترح بعض الصحابة أن يبقى الجيش في المدينة، واستأذن أسامة بأن يرجع بالجيش إلى المدينة خوفاً على أصل الإسلام من غدر المرتدين، ولكن انظر واسمع إلى جواب أبي بكر رضي الله عنه لموقف الصحابة من هذا الجيش، بعد أن أعطى فرصة لكل من يريد أن يأتي برأيه، وبعد أن استوضح منهم ما يريدون، أمر أن يفض الاجتماع، ثم دعاهم إلى اجتماع عام في المسجد، ثم وقف خطيباً في الصحابة قائلاً: (والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تخطَّفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
أخي المسلم! انظر إلى هذا الحب والإيمان والصدق الذي لدى الصديق حتى في أحلك الظروف.
رضي الله عنك يا أبا بكر.. إنها المتابعة المطلقة لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالث هذه المواقف علَّ بها يعتبر أقوام من المسلمين في تضييعهم الصلاة والزكاة، وعلّهم يتوبون إلى الله عز وجل، وهو ما صارت إليه أحوال بعض المسلمين بعد موته صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ارتدت أكثر قبائل العرب، واشرأبَّتْ أعناق أهل النفاق، ولا يشك أحد أن أقوى وأخطر الأزمات في تلك الأيام هي ردة العرب، فلولا عناية الله لهذه الدولة الناشئة، ثم حكمة أبي بكر الصديق، والعزيمة الكبرى التي بلغت قمتها حين أعلن أنه سيقود الجيش بنفسه لمواجهة فلول الردة، وأعداء الإسلام الجدد الذين كانوا يتربصون بالمدينة، وقال قولته المشهورة: (والله لو منعوني عِقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه)، وقال: (والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة)، لولا ذلك لكان من الأمور ما لا يحمد عقباه، ولكن الحمد لله الذي أحبط كيدهم على يد هذا الخليفة رضي الله عنه وأرضاه.
فأرسل الجيوش المنظمة للقضاء عليهم، ولْنُورِد هنا إحدى رسائله التي كتبها إلى أحد عماله، وهو المهاجرُ بن أبي أميَّةَ، والتي تدل على منتهى الحزم والصرامة التي كان عليها أبو بكر رضي الله عنه، وقد جاء فيها: (فإذا جاءك كتابي هذا فسر إليهن بخيلك ورجلك حتى تقطع أيديهن، فإن دفعك عنهن دافع فاعذر إليه باتخاذ الحجة عليه، وأعلمه عظيم ما دخل فيها من الإثم والعدوان، فإن رجع فاقبل منه، وإن أبى فنابذه على سواء، إن الله لا يهدي كيد الخائنين).
تأمل يا عبد الله! صدق عزيمة أبي بكر رضي الله عنه في الذود عن الإسلام، وأنه لن يسامح من يفرط في حقوق هذا الدين سواء كان له أو عليه.
والمواقف كثيرة كما أسلفت، ونكتفي بهذه النماذج، ثم نعود فنقول: إن أبا بكر لم يكن مجرد صاحب، بل كان أعظم صاحب، ولم يكن مجرد خليفة؛ بل كان أعظم الخلفاء، إنه الحارس الأمين لهذا الدين يوم أن ارتد من ارتد، وتخاذل من تخاذل، من أجل ذلك أثنى عليه الصحابة الأبرار وأهل البيت الأطهار.
ومن ذلك ما جاء عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عمر رضي الله عنه صعد المنبر ثم قال: (ألا إن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر)، وقال علي رضي الله عنه: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر)، وهو متواتر عنه، فقد خطب به علي رضي الله عنه على منبر الكوفة.
عباد الله! ونختم هذه الخطبة بمقال للإمام علي رضي الله عنه حين وفاة الصديق رضي الله عنهما، فعن أسيد بن صفوان رضي الله عنه قال: (لما قبض أبو بكر ارتجَّت المدينة بالبكاء كيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء علي رضي الله عنه باكياً مسرعاً مسترجعاً وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة، حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر مسجى، فقال: رحمك الله يا أبا بكر! كنت إلفَ رسول الله وأنسَه وثقتَه، وموضع سره ومشاورته، كنتَ أولَ القوم إسلاماً، وأخلصَهم إيماناً، وأشدَّهم يقيناً، وأخوفَهم لله، وأعظمَهم عناءً في دين الله، وأحسنَهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوالف، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله هدياً وسمتاً ورحمةً وفضلاً وخلقاً، وأشرفهم منزلة، وأكرمهم عليه، وأوثقهم عنده، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله والمسلمين خيراً، كنت عنده بمنزلة السمع والبصر، صدَّقته حين كذَّبه الناس، فسماك الله في التنزيل صديقاً، فقال: ((وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ)) [الزمر:33]، وواسيته حين بخلوا، وقمت عند المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدائد أحسن صحبة، وخَلفته في دين الله وأمته أحسن الخلافة حين ارتد الناس... ثم قال بعدها وهي خطبة طويلة: رضينا بقضاء الله وسلمنا له أمره، فوالله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله بمثلك أبداً، كنت للدين حرزاً، فألحقك الله بنبيه، وجمع بينك وبينه، ولا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك، فإنا لله وإنا إليه راجعون).
توفي رضي الله عنه يوم الإثنين ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء لثمان ليال بقين من جمادى الآخرة، سنة ثلاثَ عشرةَ للهجرة النبوية، وكان عمره ثلاثةً وستين عاماً، مثل عُمْرِ صاحبه صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير كما أمركم الله في كتابه، اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وارض اللهم عن جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم إنا نحب نبيك محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر رضي الله عنه وجميع صحابته العظام، وأهل بيته الكرام، فاللهم اجمعنا معهم في دار كرامتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم نور على أهل القبور من المسلمين قبورهم، واغفر لهم، ويسر للأحياء أمورهم.
عباد الله! اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
منقول : http://alburhan.com/articles.aspx?id=1964&selected_id=-1965&page_size=5&links=False